📢 تابعوا بثوث الدكتور على TikTok، أو اشتركوا في قنوات Telegram وWhatsApp لتصلكم إشعارات البث مباشرة.
Telegram WhatsApp YouTube TikTok اسأل الدكتور

لماذا هاجر الرسول من مكة إلى المدينة؟

 
ملخص المقالة:
تقدم هذه المقالة رؤية مغايرة وغير تقليدية لسبب هجرة النبي محمد من مكة إلى المدينة، رافضة التفسير الشائع القائم على الاضطهاد والبحث عن قاعدة جديدة للدعوة. يطرح الكاتب فرضية مفادها أن الهجرة كانت قرارًا شخصيًا من النبي، اتخذه كإجراء استباقي لمنع نزول العذاب الإلهي على أهل مكة، والذي كان وشيكًا حسب السنن الكونية للرسل السابقين. وبهذا، لم تكن الهجرة هربًا من الأذى، بل كانت تضحية ورحمة من النبي بقومه، وتجسيدًا لكونه "رحمة للعالمين"، مما أدى إلى الحفاظ على أمته لتكون "خير أمة أخرجت للناس".

فهرس المقالة

مقدمة: إعادة النظر في السردية الشائعة لهجرة الرسول

لماذا هاجر الرسول من مكة إلى المدينة؟

سنحاول في هذه المقالة تقديم رأينا المفترى الذي نظن أنه غير مسبوق في سبب هجرة النبي إلى المدينة بعد فترة من دعوته التي بدأت في مكة، رافضين جملة وتفصيلا الفكر الشعبي الدارج عن قصة الهجرة، خاصة ما يتعلق بدافعها. فلقد وصلتنا آراء أهل الدراية كما سطّرها لنا أهل الرواية في مؤلفاتهم أن هجرة النبي من مكة إلى يثرب على وجه التحديد كانت مدفوعة بعاملين متلازميين، وهما:

  1. رفض أهل مكة دعوة النبي الكريم، وإلحاق الأذى به والتضييق عليه، ومن ثم إخراجه منها
  2. رغبة النبي في إيصال رسالته في موطن آخر يجد فيه القبول والتصديق

وسنحاول في الصفحات التالية تبيان أن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، مسطرين – بالمقابل - الافتراءات التالية التي نظن أنها من عند أنفسنا:

افتراء (1): نحن نظن أن محمدا لم يخرج من مكة بسبب تضييق أهل مكة الخناق عليه وعلى أصحابه

افتراء (2): نحن نرفض أن يكون أهل مكة بمجموعهم هم من أخرجوا النبي منها

افتراء (3): نحن نعتقد أن الذين أخرجوا محمدا من مكة هم فقط الذين كفروا من أهل مكة.

افتراء (4): نحن نظن أن محمد لم يتوجه إلى المدينة لأنها ستكون المكان الذي سيلاقي فيها القبول والتصديق

الدليل القرآني: من الذي أخرج النبي حقًا؟

السؤال: ما الذي أخرج محمدا من مكة إذن؟ ربما يريد صاحبنا أن يسأل.

رأينا المفترى: نحن لا نجد في كتاب الله ما يثبت أن أهل مكة بمجملهم قد أخرجوا محمدا من مكة (كما روج لذلك الفكر الشعبي الدارج وشاهدنا في فيلم الرسالة الشهير). ولكن الذي نجده في كتاب الله في هذا الخصوص هو قوله تعالى:

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿٣٠﴾
سورة الأنفال

فنحن نفهم من هذا السياق القرآني أن جلّ ما حصل من أهل مكة هو المكر بمحمد في واحدة من خيارات ثلاثة، هي: ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه. والمتدبر للنص القرآني ربما يجد بأن القوم لم يحسموا أمرهم في أي من هذه الخيارات الثلاثة سيكون قرارهم النهائي.

مكر الذين كفروا وليس إجماع أهل مكة

ولو دققنا في هذا السياق القرآني لوجدنا أن المكر بمحمد قد صدر من قبل الذين كفروا فقط (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا). فلم يكن أهل مكة بمجموعهم قد مكروا بمحمد، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى في سياق قرآني آخر:

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٤٠﴾
سورة التوبة

فهذه الآية الكريمة (كما نفهمها) ربما تصدق الرواية التاريخية بأن من حاول اللحاق بمحمد إلى الغار (حيث كان يتواجد مع صاحبه) هم فعلا الذين مكروا بمحمد، وهم فعلا الذين أخرجوا محمد، ولا دخل لأهل مكة بمجموعهم بما فعلت هذه الفئة من أهل مكة.

وهنا لا نتردد أن نبدأ النقاش في هذه القضية بالافتراء الخطير التالي الذي نظن أنه فعلا غير مسبوق: لم يعمد أهل مكة بمجموعهم على إخراج محمد من مكة إطلاقا؟ وما الذي كان يمكن أن يختلف لو أن أهل مكة جميعهم قد اتخذوا قرارا بإخراج محمد من مكة؟ فما الفرق بين أن يخرج أهل القرية بمجموعهم الرسول الذي بعث فيهم أو أن يخرجه فئة منهم فقط؟

السؤال: أين الدليل على أن أهل المدينة قد يجمعوا أمرهم جميعا على إخراج رسولهم من المدينة؟

جواب مفترى: نحن نظن أننا نجد الدليل على ذلك في قصة لوط مع قريته:

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴿٥٦﴾
سورة النمل

لاحظ – عزيزي القارئ- كيف أن القول قد صدر من القوم بمجموعهم (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ)، وكان قرارهم على نحو أن يخرجوا آل لوط من قريتهم (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ).

السؤال مرة أخرى: لماذا لم يكن أهل مكة هم من أخرجوا محمدا منها؟

رأينا المفترى: نحن نظن لو أنهم فعلوا ذلك، فأخرجوا محمدا فعلا من مكة، لكانت العاقبة لا محالة وخيمة، مصداقا لقوله تعالى:

وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿٧٦﴾
سورة الإسراء

فهذه الآية الكريمة تدلنا – بما لا يدع عندنا مجالا للشك- بأن أهل مكة لم يخرجوا محمدا منها، لأن إخراجهم محمدا منها يعني أنهم لن يلبثوا خلافه إلا قليلا. فلو تدبرنا الآية الكريمة في سياقها الأوسع، لوجدنا أنها تسطّر سنة من سنن الله التي لا تبدّل في رسله. واقرأ عزيزي القارئ – إن شئت- الآية مرة أخرى في سياقها الأوسع:

وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿٧٦﴾ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴿٧٧﴾
سورة الإسراء

السنة الإلهية في إخراج الرسل وعاقبته

فلو أن قوم الرسول (أي رسول) عمدوا إلى استفزاز رسولهم ليخرجوه من الأرض، لنزل بهم العقب الإلهي المباشر، فما لبثوا خلاف رسولهم إلى قليلا. لذا، نحن نتجرأ على الظن بأن أهل مكة لم يستفزوا محمدا ليخرجوه من الأرض، لأنهم لو فعلا فعلوا ذلك، لما لبثوا خلافه إلا قليلا. ولربما وقع فيهم من العذاب ما يشبه ما وقع في الأقوام السابقة كقوم لوط مثلا:

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴿٥٦﴾ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿٥٧﴾ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴿٥٨﴾
سورة النمل

نتيجة مفتراة مهمة جدا: ما دام أن العقاب الإلهي لم ينزل بأهل مكة بعد خروج النبي منها، لذا يستحيل (نحن نفتري القول) أن يكونوا هم من أخرجوه منها. انتهى.

السؤال: إذا لم يكن أهل مكة هم من أخرجوا محمدا منها (كما تزعم)، فمن الذي أخرجه منها؟ وما الذي دفعه للهجرة منها إلى مكان آخر في الأرض؟

جواب مفترى: لقد خرج محمد من مكة بمحض إرادته (بعد أن وجد أن فئة محددة من أهل مكة تدبر لتمكر به).

سؤال: وهل كان اختيار محمد هذا بالخروج من مكة بقرار إلهي؟ فهل كان الله هو من طلب من محمد الخروج من مكة والتوجه إلى يثرب؟

جواب مفترى خطير جدا جدا: كلا وألف كلا. لم يكن خروج محمد من مكة بتوجيه إلهي. فالله (نحن نظن) لم يطلب من محمد أن يخرج من مكة، ولم يطلب منه التوجه إلى أي مكان آخر.

الفرضية البديلة: هجرة بإرادة شخصية وليست بأمر إلهي

الدليل

نحن نظن أننا نستطيع تقديم أكثر من دليل لإثبات زعمنا بأن خروج محمد من مكة لم يكن بتوجيه (أو بطلب إلهي)، وأن القرار بالخروج من مكة والتوجه إلى المدينة كان قرار محمد نفسه.

السؤال: أين الدليل على ما تزعم؟ يسأل صاحبنا مستعجلا الإجابة؟

مهمة الرسول المحددة: أم القرى ومن حولها

أولا، نحن نظن أن التوجيه الإلهي كان لمحمد بأن ينذر أم القرى ومن حولها:

وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٩٢﴾
سورة الأنعام
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴿٧﴾
سورة الشورى

فلقد جاء محمد بدعوته تلك إلى قوم ما أتاهم من نذير من قبله:

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴿٣﴾
سورة السجدة
تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴿٥﴾ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴿٦﴾ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٧﴾
سورة يس

السؤال: ما الداع أن يغيّر محمد مكان دعوته؟ وما الداع أن ينتقل بدعوته إلى قوم آخرين؟ من يدري؟ فهل فعلها رسول قبله؟!!

ثانيا، كان محمد هو التصديق العملي لدعوة إبراهيم ليكون رسولا من رب العالمين في هذه البلده، وحصل ذلك عندما كان إبراهيم يرفع القواعد من البيت مع ولده إسماعيل:

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٢٧﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿١٢٨﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴿١٢٩﴾
سورة البقرة

لتكون النتيجة المفتراة من عند أنفسنا على النحو التالي: لقد كان محمد رسولا إلى أم القرى ومن حولها، كما كان رسولا إلى هؤلاء القوم الذين لم يأتيهم نذير من قبل، وهم من جاءهم كرسول لهم منهم (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ). فحمد هو رسول مبعوث في هؤلاء القوم على وجه التحديد.

والحالة هذه، نحن لا نجد سببا في أن يطلب الله من رسوله ترك هذه البلدة والتوجه إلى غيرها مادام أنه قد أرسله إلى هؤلاء القوم فعلا كرسول لهم من أنفسهم:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿٢﴾
سورة الجمعة

فقوم محمد الذي بُعث فيهم هم أميون، ورسولهم محمد هو الرسول النبي أمي:

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿١٥٧﴾
سورة الأعراف
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿١٥٨﴾
سورة الأعراف

فنحن نفهم أن قوم محمد أميّون وأن محمد نفسه أمّي وذلك نسبة إلى أم القرى (مكة):

وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٩٢﴾
سورة الأنعام
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴿٧﴾
سورة الشورى

سؤال: مادام أن محمدا هو الرسول النبي الأمي (نسبة إلى أم القرى) وما دام أن قومه هم الأميّون (أهل أم القرى)، فلم يتركها مهاجرا إلى مكان آخر وإلى قوم آخرين؟ فهل فعل ذلك رسول قبله؟ من يدري؟!!

العقاب الإلهي كنتيجة حتمية للخروج بأمر رباني

ثالثا، نحن ننفي أن يكون خروج محمد من مكة قد جاء بطلب إلهي لأنه (نحن نفتري الظن) لو جاء خروج محمد من مكة بطلب من ربه، لكانت النتيجة كارثية بكل ما في الكلمة من معنى. فلو تدبرنا سنة الله في من سبق محمد من الرسول، لما وجدنا أن الله قد طلب من رسول له أن يخرج من البلد الذي أرسله الله فيها إلا وكان العقاب الإلهي لا محالة نازل بهذه القرية. فعندما طلب الله من هود الخروج من عاد، كانت النتيجة عقابا إلهيا عظيما:

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴿٦٥﴾ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿٦٦﴾ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٦٧﴾ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴿٦٨﴾ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٦٩﴾ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٧٠﴾ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴿٧١﴾ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴿٧٢﴾
سورة الأعراف

وعندما طلب الله من صالح أن يخرج من تلك القرية، كانت النتيجة أن يتمتع هؤلاء القوم في دارهم ثلاثة أيام فقط:

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٧٣﴾ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿٧٤﴾ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿٧٥﴾ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴿٧٦﴾ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿٧٧﴾ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿٧٨﴾ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴿٧٩﴾
سورة الأعراف
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴿٦٥﴾ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴿٦٦﴾ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿٦٧﴾
سورة هود

وعندما طلب الله من شعيب الخروج من مدين، كانت النتيجة كارثية:

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدِ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٨٥﴾ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴿٨٦﴾ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿٨٧﴾ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴿٨٨﴾ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدِ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴿٨٩﴾ وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴿٩٠﴾ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿٩١﴾ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ ﴿٩٢﴾ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴿٩٣﴾
سورة الأعراف

وعندما طلب الله من لوط أن يسري بأهله بقطع من الليل، جعل الله عالي تلك القرية سافلها وأمطرهم حجارة من سجيل منضود:

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ﴿٨٠﴾ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿٨١﴾ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴿٨٢﴾ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿٨٣﴾ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴿٨٤﴾
سورة الأعراف
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ﴿٨٢﴾
سورة هود

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: ما كان الله ليطلب من رسول له أن يخرج من القرية التي أرسله فيها إلا لإنزال العقاب بالقوم بعد أن كذّبوا رسالة ربهم. لذا، نحن نتجرأ على الظن بأنه لو جاء خروج محمد من مكة بطلب من ربه لتبع ذلك على الفور عذاب إلهي شديد يحيق بالذين كفروا.

إذن، دعنا نلّخص النقاش السابق على النحو التالي:

  • لم يكن أهل مكة بمجموعهم هم من استفزوا محمدا ليخرجوه من الأرض، لأنهم لو فعلوا ذلك لما لبثوا خلافه إلا قليلا، أي لأنزل الله بهم العذاب المباشر
  • لم يكن خروج محمد من مكة بطلب من ربه، لأنه لو حصل ذلك لنزل بهم العقاب المباشر على الفور

السؤال: لماذا خرج محمد من مكة إذن؟ يسأل صاحبنا مرة أخرى.

جواب مفترى من عند أنفسنا: لقد كان خروج محمد من مكة بقرار شخصي منه، وكان الدافع له هو حتى لا يحق القول على أهل مكة، لنصل بذلك إلى النتيجة المفتراة الخطيرة جدا جدا التالي: كان محمد (الرسول النبي الأمي) هو من صدّ الخطر الإلهي عن هذه البلدة (أم القرى) وعن أهلها (الأميين).

السؤال: ما معنى ذلك؟ ما الذي تريد أن تقوله؟

الدافع الحقيقي: درء العذاب الإلهي عن مكة

رأينا المفترى: دعنا ندقق النظر في الآية الكريمة التالية:

مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴿١٥﴾
سورة الإسراء

فهذه الآية الكريمة تسطر (نحن نرى) السنة الكونية بأن عذاب الله لا ينزل في أمة إلا بعد أن يبعث فيهم رسولا. فبعث الرسول في أمة هو الدليل الحاسم على أن عذاب الله لا محالة نازل. لذا، نحن ندعو الناس (علماءهم وعامتهم) إلى إعادة التفكر في نظرتهم إلى قضية بعث الرسول في أمة من الأمم. فغالبا ما ظن الناس بأن بعث الرسول في أمة هو أمر يدعو إلى الفرح والابتهاج، ويكأن لسان حالهم يقول أن القوم الذين بعث فيهم رسولا هم من أصحاب الحظ العظيم. ويكأن الكثير منهم يغبطون تلك الأمم على "نعمة" بعث الرسول فيهم وفي الوقت ذاته يتحسرون على أنفسهم لما لم يبعث الله فيهم رسولا. وهذا – برأينا – هو الخطأ بعينه، فلا يجب (نحن نظن) أن يفهم الناس مسألة بعث الرسول في أمة من الأمم على تلك الشاكلة. فعلى العكس تماما، نحن نظن أن بعث الرسول في أمة هو أمر لا يجب أن يدعو إلى الابتهاج والسرور، بل هو النذير المبين، لأن العاقبة لا محالة ستكون وخيمة على القوم الذي بعث الله فيهم الرسول. فلو تدبرنا سير الرسول جميعا، ابتداء من عند نوح لوجدنا أن العذاب قد نزل بكل الأقوام التي بعث الله فيهم رسولا:

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ﴿٥٩﴾
سورة الكهف

بعثة الرسل نذير للعذاب

لذا، لو ظهر أحد من الناس على مر الأزمان يدّعي بأنه رسول من رب العالمين، فكيف يمكن لنا أن نصدّق أنه فعلا رسول من رب العالمين؟ فما هو الدليل الحاسم على أنه فعلا رسول للناس من ربهم؟

رأينا المفترى: نحن نظن أنه لكي يكون من يدعي الرسالة فعلا رسولا من رب العالمين، فلابد أن تنتهي رسالته بإيقاع العذاب على القوم، فالرسول الحقيقي هو من ينذر قومه بلزوم وقوع العذاب عليهم إن هم كذبوا دعوته، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى في الآيات الكريمة التالية على لسان كثير من رسله:

قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٧٠﴾
سورة الأعراف
فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿٧٧﴾
سورة الأعراف
قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٣٢﴾ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴿٣٣﴾
سورة هود
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٢٢﴾ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴿٢٣﴾
سورة الأحقاف

نتيجة مفتراة: من كان رسولا من رب العالمين فهو من وعد القوم بوقوع العذاب عليهم إن هم رغبوا عن التصديق بدعوته. فعذاب الله لا محالة نازل بالقوم الذين بعث الله فيهم رسولا مادام أنهم قد كذبوا رسوله. انتهى.

فالدجالون الذين ظهروا على مر الأزمنة يدعون أنهم رسول من ربهم إلى الناس قد كانوا فعلا كاذبين لأن نهاية رسالتهم لم تنتهي بإيقاع العذاب على الأقوام الذين ظهروا فيهم.

السؤال: ما الذي يكف العذاب الإلهي عن أن ينزل بأي أمة؟

جواب مفترى: نحن نظن أن هناك عاملان اثنان فقط هما كفيلان بأن لا يقع العذاب الإلهي على أي أمة، وهما ما جاء في الآية الكريمة التالية:

وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿٣٣﴾
سورة الأنفال

موانع نزول العذاب: وجود الرسول والاستغفار

فما يمنع نزول العذاب الإلهي هما:

  1. أن يكون الرسول فيهم، فمادام الرسول متواجدا بين ظهراني القوم فلن ينزل بهم عذاب من الله. لذا كانت السنة الإلهي على الدوام على نحو أن يطلب الله من رسوله الخروج من القرية التي حق عليها القول ليدمرها تدمير، كما حصل مع نوح و هود وصالح وشعيب ولوط. وقد تعرضنا في مقالات سابقة لنا للسبب الذي نظن أن من أجله لم يلحق هارون بموسى وظل متواجدا بين ظهرانيهم حتى بعد ظلالة السامري للقوم. فلو خرج هارون والمؤمنون معه من بين القوم لنزل (نحن نفتري القول العذاب بطائفة كبيرة من بني إسرائيل حينئذ. لذا ظل هارون متواجدا فيهم ليرقب قول أخيه موسى فيهم:
    قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴿٩٤﴾
    سورة طه
  2. أن يكون القوم مستغفرون، فمادام هناك في الأمة من يقوم بفعل الاستغفار، فهذا كفيل بأن يمنع العذاب الإلهي أن ينزل بالأمة كلها. فالاستغفار هو الكفيل بأن يمنع نزول العذاب في أمة لا يكون الرسول متواجدا فيها فعليا، قال تعالى:
    كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴿١٧﴾ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿١٨﴾
    سورة الذاريات

    والاستغفار لا يمنع نزول العذاب الإلهي الجماعي، ولكنه أيضا مدعاة لجلب الخيرات كما جاء على لسان هود:

    وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ﴿٥٢﴾
    سورة هود

    وكما جاء على لسان نوح من قبل:

    فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴿١٠﴾ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ﴿١١﴾ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴿١٢﴾
    سورة نوح

    (دعاء: اللهم أسألك وحدك أن أكون من اللذين بالأسحار هم يستغفرون – آمين)

وهذا برأينا يفسر السبب في عدم نزول العذاب الإلهي الجماعي الشامل في بني إسرائيل على وجه التحديد. فلقد ظلت طائفة من بني إسرائيل من المؤمنين تحت جميع الظروف والأحوال، فكان خطابهم لموسى على النحو التالي:

قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ cَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴿١٢٩﴾
سورة الأعراف

وظلت طائفة منهم مؤمنة بربها، صابرة على الأذى حتى بعد أن رفع المسيح عيسى ابن مريم إلى ربه. فبنو إسرائيل هم أصحاب الإرث النبوي لإبراهيم الذي كان بذاته أمة:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٢٠﴾
سورة النحل

(وسنتحدث عن هذه الجزئية لاحقا بحول الله وتوفيقه، فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، إنه هو الواسع العليم – آمين).

نتيجة مفتراة: باستثاء بني إسرائيل، نزل العقاب الإلهي الجماعي بكل القرى التي بعث الله فيهم رسولا. انتهى.

السؤال: ما علاقة هذا بموضوع هجرة الرسول من مكة؟

```

رأينا: لما كان محمد يعي تماما سنن الله الكونية، تصرف بكل حكمة، جعلته فعلا رسولا يستحق بجدارة أن يكون رحمة للعالمين:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴿١٠٧﴾
سورة الأنبياء

فإلى الذين لا يعرفون محمدا أصلا، وإلى الذين صوروا محمد "ساعي بريد" لا تتعدى مهمته نقل خبر من طرف إلى طرف، تعالوا معنا لنظهر لكم شيئا جديدا يخص شخص هذا النبي الكريم.

أما بعد،

يعلم محمد تمام العلم أن العذاب الإلهي لا محالة سينزل بالأمة التي تستفز رسولها ليخرجوه من الأرض، كما يعلم تماما بأن العذاب لا محالة نازل بهم أيضا متى خرج الرسول من بين ظهرانيهم بطلب مباشر من ربه، كما يعلم أيضا بأن الطلب الإلهي من الرسول بالخروج من بين قومه الذي بعث فيهم لا يمكن أن يحدث ما دام أن هؤلاء القوم يستغفرون. لكن – بالمقابل - إذا وصل الأمر إلى حد أن لا يكون في القوم بعد من هو من المستغفرين، وأنه لن يكون بين القوم بعد من سيؤمن بدعوة الرسول، فإن الطلب الإلهي لا محالة قادم إلى الرسول بأن يخرج من القرية لينزل الله بها العقاب الأليم. فعندما وصلت دعوة نوح إلى طريق مسدود، جاء الوحي لإلهي لنوح على النحو التالي:

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴿٣٦﴾
سورة هود

لذا، جاء الطلب الإلهي التالي أن يبدأ نوح بتجهيز الفلك، لأن العذاب لا محالة واقع بالقوم:

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ﴿٣٧﴾
سورة هود

وهكذا كانت قصة عذاب قوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط. ولو دققنا في السياقات القرآنية أكثر، لوجدنا أنه ما أن يصل القوم إلى هذا الحد من التعنت في قبول دعوة الرسول، حتى يأتي الوحي الإلهي بأن الطريق قد أصبح مسدودا تماما، وأن العذاب لا محالة واقع بالقوم، فتكون تكون ردة فعل الرسول (أي رسول) على صغتين اثنتين:

  1. الدعاء على قومه بالهلاك، كما فعل نوح:
    وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴿٢٦﴾
    سورة نوح

    وكما جاء على لسان موسى:

    وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴿٨٨﴾
    سورة يونس
  2. التولى عن القوم وعدم الأسى عليهم، كما جاء على لسان شعيب مثلا:
    فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴿٩٣﴾
    سورة الأعراف

    أو كما جاء على لسان صالح من قبل:

    فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴿٧٩﴾
    سورة الأعراف

السؤال: ما الذي فعله محمد (رسول الرحمة للعالمين)؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: لو تفقدنا سيرة الرسل جميعا قبل محمد لما وجدنا أن أحدا منهم قد هاجر من البلدة التي أرسله الله فيها. فيبقى الرسول في تلك البلدة بين ظهراني قومه حتى يصل أمر الدعوة إلى الله إلى الحد الذي لا رجعة فيه، فيأتي الوحي الإلهي للرسول بالخروج من القرية مادام أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، فيعمد الرسول إلى دعاء ربه بهلاكهم، فلا يبقى منهم أحدا، أو يتولى عنهم غير آسف عليهم مادام أنهم قد كفروا بربهم. وهذا ما لم يفعله محمد إطلاقا. فكيف تصرف محمد؟

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا نظن أنها غير مسبوقة: يمكث محمد في قومه فترة طويلة من الزمن يدعوهم إلى كلمة التوحيد، والإيمان بربهم الذي خلقهم، فيؤمن له نفر قليل من أهل تلك القرية، بينما يجد محمد أن الغالبية الساحقة من أهل تلك القرية غير راغبين في دعوته، فيبذل قصارى جهده ليثنيهم عن ظلالتهم بالحكمة والموعظة الحسنة:

ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿١٢٥﴾
سورة النحل

ولكن ذلك لم يجدي معهم نفعا، فينزل الله قرآنا يتلى على نبيه:

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿٥٦﴾
سورة القصص

ويصر محمد على العمل على هدايتهم بكل الوسائل والطرق الممكنة، حتى ينزل الله قوله:

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴿٦﴾
سورة الكهف
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٣﴾
سورة الشعراء

ويستمر محمد في جهادهم بالكلمة الطيبة، مستميتا بدعوته لهم، لأنه يعلم يقينا أن العاقبة – لا شك- ستكون كارثية إن هم فعلا رفضوا الدعوة وأصروا على الكفر. فينزل الله تعالى قوله على رسوله الكريم بأن لا يذهب نفسه عليهم حسرات:

أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿٨﴾
سورة فاطر

وهنا (نحن نتخيل) يجد محمد أن دعوة قومه كادت أن تصل إلى خط النهاية، كما حصل مع جميع من سبقه من رسل ربه (نوح وهود وصالح وشعيب ولوط). فما الذي سيفعله؟ فهل يمكث فيهم حتى يأتيه الوحي الإلهي بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن كما حصل مع من سبقه من الرسل؟

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴿٣٦﴾
سورة هود

وهل يدعو عليهم بالهلاك؟

وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴿٢٦﴾
سورة نوح

أم هل سيتولى عنهم غير أسف ولا آس عليهم بما كان يصنعون بعد أن نصح لهم، فما أحبوا الناصحين:

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴿٩٣﴾
سورة الأعراف
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴿٧٩﴾
سورة الأعراف

جواب مفترى من عند أنفسنا: هذا ما لم يفعله الرسول المرسل رحمة للعالمين. فكيف سيتصرف محمد الآن وهو يعلم يقينا أن الخطر الداهم لا محالة نازل بهذه القرية وأهلها؟

خاتمة: محمد ﷺ رحمة للعالمين وخُلق عظيم

رأينا: في خضم تلاطم هذه الأحداث المتسارعة، يجد محمد أن ساعة الصفر قد اقتربت، وأن النهاية لا محالة وشيكة جدا، وأن الوحي الإلهي لا محالة قادم إليه ليطلب منه الخروج (بمن آمن له) من هذه القرية، لينزل بها رسل ربه العذاب الأليم، في خضم مجريات هذه الأحداث اختار محمد نبي الرحمة (نحن نتخيل ونفتري) أن يهرب من القرية بأكملها، فلا يدع الرحلة تصل إلى خط النهاية سريعا، ولا يدع الخاتمة لتكون كارثية بعد وقت قصير. وهنا اختار محمد بنفسه أن يخرج من مكة كلها قبل أن يستفزه قومه ليخرجوه منها وقبل أن يأتيه الوحي الإلهي بالخروج منها. فكان ذلك تدبير محمد بنفسه للوقوف سدا منيعا لإيقاف العذاب الإلهي الذي كاد أن ينزل بمكة وبأهلها لو أن محمدا لم يخرج منه قبل فوات الأوان، وهنا (نحن نتخيل) نزل قول الحق ليمتدح محمد بكلمات ما حظي بهن رسول من قبله، فقال تعالى:

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿٤﴾
سورة القلم

نعم، لقد تعجب الخالق بنفسه من خلق محمد. فبالرغم من كل ما فعل القوم به من الأذى المادي والمعنوي، وبالرغم من صدهم لكلمة التوحيد إلا أن هذا لم يكن ليجعل محمدا فضا غليظ القلب:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيطَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴿١٥٩﴾
سورة آل عمران

فقد بدأ محمد دعوة قومه إلى كلمة التوحيد بقلب ليس فظا ولا غليظا، ولم تكن ردة فعلهم العكسية لتثنيه عن طلب (لا بل وجلب) الخير لهم على الدوام، ولم يكن صدهم لدعوته ولا إلحاقهم الأذى به شخصيا ليغير من طبيعة قلب محمد. فما طلب أن يقع بهم العذاب ولا تولى عنهم غير آسف عليهم، ولكنه دبر الأمر بحكمة بالغة حتى استطاع أن يمنع نزول العذاب الأليهم بهم، فكانت هجرته إلى يثرب. ولو بدر من أهل يثرب ما بدر من أهل مكة، لما تردد محمد (نحن لا زلنا نتخيل ونفتري) بالهجرة مرة أخرى إلى قرية جديدة، فما كان محمد ليصل بدعوته إلى ما وصلت إليه دعوة الرسل السابقين. ولو أن محمدا فعل ذلك، لانتهت قصته كما انتهت قصص الأمم السابقة، ولما ظل ذكرها بين الأمم إلى يوم الدين. فأين أمة نوح؟ وأين أمة هود؟ وأين أمة صالح؟ وأين أمة شعيب؟ وأين أمة لوط؟

لكن بالمقابل، قال تعالى:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿١١٠﴾
سورة آل عمران

هذا جانب من شخصية محمد (كما نعرفه) لمن لا يعرف محمدا، فهل أنتم موقنون؟


المدكرون: رشيد سليم الجراح
بقلم: د. رشيد الجراح
26 تموز 2016

1 تعليقات

  1. السلام عليكم طرح جيد و جد مقنع و جزاكم الله خير الجزاء لاجتهادكم، بقي لي أن أطرح إشكال واحد لو تجيبوني عليه مشكورين ألا و هو خروج يونس عليه السلام من بين ظهر قومه بدون أمر من الله فكان أن عاقبه الله بالتهام الحوت له....

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم