قصة يونس - الجزء السابع والثلاثون




قصة يونس – الجزء السابع والثلاثون

وصلنا في نهاية الجزء السابق من هذه المقالة إلى جلب الآية الكريمة التالية إلى النقاش عن شخصية فرعون:

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

وزعمنا الظن بأن عملية نسخ الآيات تتم على نحو تحويل الآيات المرئية (كالعصا) إلى آيات متلوة (كآية الكرسي). فالنسخ هو – برأينا- عملية اختزال للآية المرئية المادية في آية متلوة (لغة). فتحولت من شكل إلى آخر. وبناء عليه فقد قدمنا من عند أنفسنا افتراءات خطيرة (ربما غير مسبوقة)، نذكر منها:

1. هناك ترابط بين آيات الكتاب المتلوة وآيات الله المرئية

2. يمكن نسخ الآيات المرئية بآيات متلوة

3. التقابل بين الآيات المتلوة والآيات المرئية هو تقابل تطابقي (1=1)

4. عدد الآيات (سواء كانت متلوة أو مرئية) ثابت لا يتغير حتى لو نسخت أو أُنسيت، لأن الإتيان بخير منها أو مثلها هو سنّة الله الكونية

5. الله وحده هو القادر على نسخ تلك الآيات بالصورة التي يريدها، فذلك لا يعجز من هو على كل شيء قدير

6. الخ.

وحاولنا التفريق بين النسخ والاستنساخ. فالنسخ خاص بالآيات:

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

فالنسخ – برأينا- هو أخذ صورة طبق الأصل للآية ولكن بعد تحويلها من شكل إلى آخر. كنسخ الآية المرئية (مثل عصا موسى) بآية متلوة (مثل آية الكرسي).

بينما الاستنساخ فهو خاص بأعمال العباد:

هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

فالاستنساخ هو أخذ الصورة طبق الأصل للعمل دون تحويله، فأنت سترى ما كنت تعمل في الحياة الدنيا:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

وسترى بأم عينك كل صغيرة وكبيرة عملتها في الحياة الدنيا:

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

وقد كان هذا النقاش منصبا على محاولتنا فهم شخصية فرعون، الذي ظننا أن الآيات الكريمة التالية تتحدث عنه على وجه التخصيص:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)

وكانت أول محطات النقاش حينها هي البحث في كيفية أن يكون فرعون وَحِيدًا. فزعمنا القول بأن فرعون هو إنسان (مثلي ومثلك)، لكنه يمتاز (عني وعنك) بأنه يمتلك من الصفات الإنسانية أفضلها. لذا كان الافتراء حينئذ على النحو التالي: لم يكن هناك في الوجود شخص أكثر كمالا في بنيته الإنسانية من فرعون نفسه (للتفصيل انظر الجزء السابق من هذه المقالة).

وسنتابع النقاش هنا عن شخصية فرعون بالتعرض لبقية مفردات الآيات الكريمة هذه، مبتدئين النقاش بمفردة ذَرْنِي في قوله تعالى:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)

لنطرح هنا على الفور التساؤل التالي: ما المراد بالقول الإلهي ذَرْنِي؟

جواب مفترى: لو تدبرنا هذه المفردة في سياقات قرآنية أخرى، لوجدناها قد جاءت على لسان فرعون نفسه في خطابه لملئه عن موسى:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)

فهنا يخاطب فرعون من حوله بالصيغة نفسها، أي بأن يذروه يقتل موسى (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى). وهنا نطرح التساؤل السابق نفسه، ولكن حول مراد فرعون هذه المرة: لماذا يطلب فرعون ممن حوله أن يذروه يقتل موسى؟ فهل كان أحد ممن هم حول فرعون يمنعه عن قتل موسى؟ ألم يكن فرعون يملك كامل الحرية في أن يتصرف كما يريد؟ أليس هو ربهم الأعلى؟ فهل يحتاج من كان ربا (أو إلها) أن يطلب الإذن ممن هم دونه ليفعل ما يريد؟ أليست من مواصفات الإله (أو من ظن بأنه إله) أن لا يسأل عما يفعل:

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)

وإذا كان فرعون يحتاج أن يسأل من حوله (إن ظننا أنه إله كاذب)، فهل الإله الحق يحتاج أن يأخذ الإذن من أحد عندما قال:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)

رأينا المفترى: بعيدا عن الفكر الشعبي الدارج الذي صوّر لنا أن مفردة ذَرْنِي ربما تتطلب أخذ الأذن من الآخرين، فإننا نرى أن المفردة تحمل معان جمّة لابد من تجليتها أولا قبل الخروج باستنباطات مفتراة من عند أنفسنا عن كيفية حصول الأمر على أرض الواقع.

السؤال: كيف يمكن إذن أن نفهم معنى القول الإلهي (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)؟ وكيف نفهم مراد فرعون عندما قال (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى

رأينا المفترى: نحن نفتري القول بأن مفردة ذَرْنِي لا تعني بأي حال من الأحوال طلب الإذن من الآخرين، وذلك لأن من كان إلها لا يحتاج أن يستأذن من هم من دونه، فهو لا يسأل عما يفعل.

السؤال: ماذا تعني مفردة ذَرْنِي إذن؟ يسأل صاحبنا

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن (ربما مخطئين) بأن المفردة تحمل في ثناياها وجود المانع أن يقوم الآخرون بتنفيذ الأمر الذي ارتبطت به المفردة، وذلك لأن القادر على تنفيذه هو من استخدم المفردة نفسها. فالله هو وحده القادر على التعامل مع من خلقه وحيدا (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)، وبالمنطق نفسه فإن فرعون هو وحده القادر على قتل موسى (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى).

السؤال: وكيف ذلك؟

رأينا: لما قال فرعون لمن حوله (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى)، فهو يعلم يقينا بأن الآخرين لا يستطيعون القيام بذلك الفعل، أي قتل موسى؛ فهم لا يستطيعون مواجهة موسى والتصدي له، ثم قتله، وذلك لأن موسى يملك من أسباب القوة ما تمنعهم عن فعل ذلك. وبكلمات أكثر دقة، نحن نقول بأن من كان حول فرعون لا يملكون القدرة المادية اللازمة التي تمكنهم من قتل موسى على وجه التخصيص، فهم قد يستطيعون إلحاق الأذى بمن هم حول موسى (كبني إسرائيل) بدليل ما قاله بنو إسرائيل لموسى:

قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (12
9)

فقد أُلحق الأذى ببني إسرائيل من قبل أن يأتيهم موسى ومن بعد ما جاءهم، وكان ذلك على يد آل فرعون وقومه وملئه. لكن المشكلة الآن تكمن في إلحاق الأذى بموسى نفسه. فهل يستطيع آل فرعون أن يلحقوا الأذى بموسى كما فعلوا ببني إسرائيل من قبل أن يأتيهم موسى ومن بعد ما جاءهم؟ نحن نسأل.

جواب مفترى من عند أنفسنا: كلا وألف كلا. فبالرغم أن آل فرعون كانوا يستطيعون إلحاق الأذى ببني إسرائيل، إلا أنهم كانوا عاجزين عن فعل مثل ذلك بموسى.

السؤال: لماذا؟

رأينا المفترى: لأن موسى كان يملك من أسباب القوة ما تمنعهم عنه.

السؤال: وما الذي كان يملكه موسى فلا يقع عليه أذى مباشر من آل فرعون؟

جواب مفترى خطير جدا جدا: إنها العصا.

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: لما كان موسى يحمل بيمنه تلك العصا، فإن من الاستحالة بمكان أن يستطيع آل فرعون إلحاق الأذى بالرجل. وليس أدل على ذلك من طلب فرعون نفسه من موسى أن يجعل بينه وبينهم موعدا في مكان سوى:

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (58)

تساؤلات مشروعة: إذا كان موسى قد وصل إلى القصر الفرعوني، وإذا كانت المواجهة المباشرة بين الطرفين قد حصلت أكثر من مرة، فلِم لم يعمد فرعون إلى الطلب من جنوده أن يلقوا القبض على موسى؟ ولِم لم يعمد فرعون إلى سجن موسى؟ فما الذي كان يمنعه من ذلك؟

رأينا المفترى: لمّا كان موسى يحمل العصا بيمنه، كان الوصول إليه شخصيا أمرا أقرب إلى المستحيل. فعصا موسى كفيله بأن تمنع عنه أذى القوم.

السؤال: لماذا قال فرعون لمن حوله (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى)؟ فما مراد القول عند فرعون؟ وكيف فهم من هم حوله حينئذ مراده من هذا القول؟

رأينا المفترى: لمّا كان فرعون يعلم يقينا بأن موسى يملك من أسباب القوة (العصا) ما تمنع آل فرعون جميعا من الوصول إليه، كانت دعوة فرعون لمن هم حوله على نحو أن لا يحاولوا العبث مع موسى، وذلك لأن موسى "أكثر قوة" منهم جميعا مهما حاولوا العبث معه. ولكنه لفت انتباههم في الوقت ذاته إلى أمر غاية في الأهمية، وهو – برأينا- على النحو التالي: أنه هو وحده (أي فرعون نفسه) القادر على التصدي لموسى شخصيا، فلا أحد يستطيع أن يقتل موسى إلا هو. لذا فهو يوجههم إلى أن يتابعوا إلحاق الأذى ببني إسرائيل، ولكن دون حصول مواجهة مباشرة مع موسى نفسه. لذا فقد قسم فرعون ساحة صراعه مع موسى ومن معه إلى فريقين: فريق (يتألف من آل فرعون وعلى رأسهم أبناء فرعون نفسه كما سنرى لاحقا بحول الله وتوفيقه) يوجّه قوته وبطشه تجاه بني إسرائيل، وفريق آخر (يتألف من فرعون شخصيا) لمواجهة موسى على وجه التخصيص. وهذا يعني بمفرداتنا الدارجة أن قوة كل طرف محددة بقوة الطرف الآخر، وهي برأينا هرمية تصاعدية على النحو التالي:


4. فرعون


3. موسى


2. آل فرعون


1. بني إسرائيل


ففي حين أن بني إسرائيل يقبعون في أدنى درجات الهرم (من حيث القوة)، لأنهم هم المستضعفون في الأرض:

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)

كان فرعون وملئه وقومه فوقهم قاهرون:

وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)

ولكن جاء موسى وحده يحمل من أسباب القوة ما تمنع آل فرعون عنه على وجه التخصيص، فهو إذن يحتل مرتبة أعلى من آل فرعون على سلم القوة الآن. ولم يكن بمقدور آل فرعون أن يواجهوا موسى بشخصه مادام يحمل بيمينه تلك العصا (وهي الآية الكبرى)، فكان على فرعون أن يتعامل معه شخصيا، ومن هنا جاء – برأينا- أن يذروه وموسى:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)

ولو دققنا في السياق القرآني نفسه لوجدنا أن فرعون يظن أن باستطاعته مواجهة موسى ورب موسى معا (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ).

نتيجة مفتراة: نحن نطلب من القارئ الكريم أن يتفكر بمفردة ذَرُونِي على نحو جديد. فبدل أن يظن بأن معناها هو أن "يتركوا فرعون على موسى" - كما نقول في العامية الأردنية- نرى أنه ربما من الأفضل أن تُفهم على نحو أن "يتركوا موسى لفرعون".

ولو حاولنا تطبيق المنطق نفسه في حالة قوله تعالى:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)

لربما وصلنا إلى الافتراء الخطير جدا جدا التالي: يبين الله لنا بأن هذا الذي خلقه وحيدا (وهو – برأينا- فرعون) لا يمكن لبشر أن يواجهه فيتغلب عليه، فحتى موسى نفسه لا يستطيع مواجهة فرعون مواجهة شخصية، بدليل أن موسى قد فرّ أمام فرعون في المواجهة الأخيرة حتى وصل البحر. ولما وصلا إلى البحر، جاء قول من كان مع موسى حينئذ على النحو التالي:

فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)

فهم إذا مدركون أن موسى نفسه لا يستطيع أن يحميهم من بطش فرعون إن هو وصل إليهم، وهذا ما لم ينكره موسى نفسه، فهو من ظن حينئذ أن الله وحده هو من سيهديه إلى كيفية الخلاص من فرعون حينها، فجاء الرد الإلهي المباشر على النحو التالي:

فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)

لذا (نحن نتجرأ على الاستنباط) بأن القادر على مواجهة فرعون هو الله فقط. لذا جاءت صيغة الخطاب في هذه الآيات الخاصة بفرعون بضمير المفرد العائد على الله نفسه:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)

فالمتدبر لهذه الآيات الكريمة يجد أن الله هو نفسه من تصدى لهذا الرجل الذي خلقه وحيدا، ليصبح سلّم القوة الآن على النحو التالي:


5. الله


4. فرعون


3. موسى


2. آل فرعون


1. بني إسرائيل


فالله هو الذي اختص فرعون بنعمة المال الممدود والبنين الشهود، والله هو من مهد له تمهيدا، لكن كانت ردة فعل الرجل على نحو أن يطمع بالمزيد، فكان لآيات الله عنيدا، فتكفل الله بنفسه التعامل معه، فأرهقه صعودا.

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

السؤال: لماذا تكفل الله بإرهاق فرعون صعودا؟

رأينا المفترى: نحن نجد في كتاب الله أن سنته الكونية هي على النحو التالي:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)

فالله هو من يسبغ نعمته على عباده جميعا. وهنا تحصل المفارقة من عند العباد أنفسهم فينقسموا إلى قسمين: قسم يكون شاكرا لأنعم ربه، وقسم يكفر بأنعم ربه. فمن شكر الله على نعمته التي أنعمها عليه، فإن النتيجة (لا محالة) ستكون الزيادة في النعمة (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ). وهذا ما بدر من إبراهيم مثلا:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121)

فكانت نتيجة شكر إبراهيم لأنعم ربه، ما جاء في الآية الكريمة التالية:

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54)

ولكن - بالمقابل – كانت ردة فرعون الكفر بأنعم ربه، فاستحق بذلك أن يقع عليه عذاب الله الشديد (وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ). وكان هذا العذاب على نحو أن يرهقه الله صعودا:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

تساؤلات:

- كيف تحصل لفرعون هذا المال الممدود؟

- كيف تحصل له البنين الشهود؟

- كيف مهد الله له تمهيدا؟

- كيف طمع بالزيادة؟

- كيف كان لآيات ربه عنيدا؟

- كيف أرهقه الله صعودا؟

باب المال الممدود: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12)

قال تعالى:

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)

لو تدبرنا هذه الآية الكريمة، لوجدنا أن الله يبين لنا بأن زينة الحياة الدنيا تتحقق بوجود المال والبنين معا. فوجود المال وحده لا يكفل للإنسان الحياة الكريمة التي يمكن أن تكون مرضية. وبالمقابل فإن وجود البنين فقط لا يكفل للإنسان الحياة المرضية. فحتى يتمتع الإنسان بالحياة الكريمة، فلابد من توافر المال والبنين معا. فالإنسان الذي لديه وفرة من المال وينقصه البنون، يجد أن حياته ناقصة، غير مرضية. فـ لمن - يا ترى- يجمع هذا المال؟! ولم - يا ترى- سيتركه من بعده؟ وبالمنطق نفسه، فإن الإنسان الذي تحصل له البنون ولم يتحصل له المال، فإنه سيكون مشغول البال، غير راض عن حياته، كما سيكون قلقا على ذريته من بعده:

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا (9)

فحتى تتحقق الحياة الكريمة، وحتى يكون الإنسان في غاية الرضا عن حياته، وحتى لا ينتابه القلق على ذريته من بعده، فلابد أن يتوافر العنصران اللذان هما زينة الحياة الدنيا جنبا إلى جنب، وهما المال والبنون:

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)

ولا شك عندنا أن المال يختلف عن الرزق، ففي حين أن الرزق هو ما يتعلق بالطعام:

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

(انظر سلسلة مقالات كيف تم خلق عيسى بن مريم؟)

فإن المال خاص بالنقد (كالذهب والفضة):

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

فبوجود الوفرة من المال (كالذهب والفضة) تتشكل الكنوز. وليس أدل على توافر الكنوز في زمن فرعون من وفرة كنوز قارون:

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

ولم تكن هذه الكنوز محصورة على قارون فقط (وإن كان هو أكثرهم حصولا عليها)، فقد كان آل فرعون جميعا أصحاب كنوز، قال تعالى:

فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)

لتكون النتيجة التي نريد أن نصل إليها أن فرعون كان من أصحاب الكنوز. ولكن المفارقة العجيبة في هذا السياق تكمن – برأينا- في أن فرعون كان ذا مال ممدود:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

ليكون السؤال: كيف كان مال فرعون ممدودا؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن المد هو ما يقابل السكون، فالله قد وصف الظل بالمد والسكون:

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)

فما دام أن الله قد جعل الظل ممدودا، ولم يجعله ساكنا، فإننا نستطيع أن نستنبط أن الظل الممدود هو الذي ينقص ويتزايد، فيبدأ الظل مثلا قصيرا، ثم ما يلبث أن يأخذ بالتزايد شيئا فشيئا، والعكس صحيح، في حركة منتظمة لأن الشمس هي الدليل عليه. فحركة الشمس هي التي تزيد الظل أو تنقصه. ففي الصباح الباكر يكون الظل طويلا، ثم ما أن تبدأ الشمس بالارتفاع في كبد السماء حتى يتقلص الظل إلى أدنى درجاته وقت الظهيرة (أو القيلولة)، ثم ما أن تبدأ الشمس بالميل عن وسط السماء حتى يعود الظل بالارتفاع شيئا فشيئا، حتى يصل أقصى ذروته مرة أخرى قبل مغيب الشمس. فحركة المد للظل هي حركة على النحو التالي:

الصباح
الظهيرة
المساء
ظل طويل
ظل قصير
ظل طويل

إن ما نود إثارته هو أن هناك مال ممدود وهناك الكنوز. ونحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الفرق بين المال الممدود من جهة والكنوز من جهة أخرى هو توفر مبدأ الزيادة والنقص فيه. فالكنز مهما بلغ حجمه يبقى ثابتا. فأنت عندما تكنز الذهب والفضة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)

تحرص على ثباته لا بل وزيادته؛ فلقد كان لقارون من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة:

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

ولا أخال أن كنوز قارون كانت تنقص بل كانت دائمة الزيادة. لكن – بالمقابل- كان لفرعون مال ممدود، وذلك لأن فرعون كان دائم الإنفاق من ماله، بدليل قوله:

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6)

التي جاءت في سياق الحديث عن فرعون نفسه في الآيات الكريمة التالية التي تعرضنا لها سابقا:

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)

ولو تدبرنا مفردة المد أكثر، لوجدنا أن الله قد مد الأرض:

وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)

فما معنى أن تكون الأرض قد مدّت؟

رأينا: بعيدا أن موروثاتنا في كتب التفاسير العظيمة، فإننا نرى أن مد الأرض يشبه مد البحر. فالأرض ليست مسطحة بشكل كامل، ففيها ارتفاعات وانخفاضات ما يشبه مد البحر، فهي تتموج كتموج ماء البحر، فأحيانا تكون هناك الأمواج العالية جدا (كالجبال العالية):

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42)

ثم ما تلبث هذه الأمواج أن تبدأ بالانحدار شيئا فشيئا حتى تسوّى مع سطح الأرض، ثم تعاود الارتفاع من جديد، وهكذا. فتشكل ما نسميه بمدّ البحر. وهو عبارة عن قدوم موجه عالية ما تلبث أن تتكسر على الشاطئ، ولكنها تخرج من عند حافة الشاطئ باتجاه اليابسة في شكل موجه عالية، فتشكل ما يشبه الشكل التالي:










وبمثل هذا الفهم يمكن أن نفهم الآيات الكريمة التالية:

وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19)

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)


ولا يقتصر مبدأ المدّ على الأرض، بل يتعداه إلى المال والبنين، فالله هو من أمدّنا بأموال وبنين:

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)

وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)


وبهذا يبقى المال والبنون في حركة مدّ، أي زيادة ونقصان. وينطبق هذا – برأينا- أيضا على عذاب الله:

كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)

ونحن نفهم أن الزيادة والنقصان هي من أساسيات المد، بدليل المداد، الذي ما أن ينفذ حتى يعود إلى الزيادة من جديد:

قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)

ومن هذا المنطلق، نحن نرى فكرة المدائن، فالمدائن ليست ثابتة في العدد والحجم، بل تزيد وتنقص عن بعضها البعض:

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفهم أن المد يحمل معنى الزيادة والنقصان، الارتفاع والانخفاض، وهكذا.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: كان فرعون صاحب مال ممدود، وذلك لأنه كان دائم الإنفاق من ماله، فهو من أهلك مالا لبدا. لذا نحن نفتري القول بأن حركة المال عند فرعون كانت تشبه حركة الظل، فالله هو من جعل لفرعون مالا ممدودا:

وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12)

والله نفسه هو من جعل الظل ممدود:

وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30)

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)


والله هو نفسه من جعل عملية تقلص الظل هي عملية قبض:

ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)

والله هو من جعل عدم إنفاق المال (مقابل عملية حجزه) هي عمليات قبض وبسط:

مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

نتيجة مفتراة مهمة جدا: لمّا كان فرعون قد أهلك مالا لبدا، فقد كان (نحن نتخيل) دائم الإنفاق منه، فكانت يده مبسوطة على كل من هم حوله. فكان فرعون – برأينا- رجلا كريما جدا، لأن يده هي العليا على كل من هم حوله، ونحن نجد الدليل على ذلك في قوله تعالى مخاطبا فرعون على وجه التخصيص في يوم الحساب:

ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)

تخيلات مفتراة: نحن نظن أن صناعة المال في زمن فرعون كانت رائجة جدا، فتحصل لهم من المال الكثير، فكان قارون هو صاحب الكنوز، لذا كان قارون يحرص على زيادة كنوزه، فما كان ينفق منها الكثير، لكن فرعون – بالمقابل – كان صاحب مال كثير، ولم يكن يعمد إلى أن يكنز ذلك المال، بل كان يبسط يده بالإنفاق حتى أهلك منه الكثير. وكانت أموال فرعون تشبه في حركتها حركة الظل، فكلاهما ممدود. ونحن نتخيل ذلك على النحو التالي: يصبح عند فرعون في الصباح الباكر مالا كثيرا، فيكون ماله في أعلى مستوياته (كما هو الظل في الصباح الباكر لحظة شروق الشمس)، فيبدأ بالإنفاق منه حتى يصل إلى أدنى مستوياته في وقت الظهيرة، ثم ما يلبث أن يبدأ ماله بالزيادة بعد ذلك حتى يصبح في أعلى درجات الوفرة مرة أخرى مع مغيب شمس ذلك اليوم، وهكذا تكرر القصة نفسها في كل يوم.

السؤال: كيف كان فرعون يفعل ذلك؟

رأينا: إنها حرفة صناعة المال. فلقد كان فرعون بارعا في صناعة المال لأنه كان يملك العلم الذي يمكّنه من ذلك. فبالعلم الحقيقي يمكن أن تصنع الكثير من المال.

السؤال: كيف يمكن فهم ذلك عمليا؟

جواب مفترى: سنحاول تسطير رؤيتنا الخاصة لطريقة حصول فرعون على المال الممدود، وسنحاول تقديم افتراءات من عند أنفسنا (ربما غير مسبوقة) هي أقرب إلى الخيال منها إلى التصديق، لذا نحن نطالب القارئ الكريم أن لا يأخذ ما سنفتريه من قول على محمل الجد إلا أن وجد أن الدليل يثبته، ونحن لا نتردد بأن ندعو الله وحده بأن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه فيها لا ينبغي لغيرنا إنه هو الواسع العليم، وندعوه أن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو السميع البصير – آمين.

أما بعد،

السؤال: كيف كان يحصل فرعون على المال الممدود؟

رأينا المفترى: من المال اللبدا. قال تعالى:

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)

لقد تعرضنا لهذه الآيات الكريمة في الأجزاء السابقة من هذه المقالة، وزعمنا الظن بأنها تخص شخص فرعون. فهو الشخص الوحيد الذي حسب أن لن يقدر عليه أحد (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ)، وليس أدل على ذلك من قوله:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)

فهو الذي دعا من حوله بأن يتركوا موسى له وحده (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى)، وزاد نبرة التحدي عندما طلب أن يدعو موسى ربه معه (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، ففرعون إذن لا يخشى مواجهة موسى وربه معا (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ). وبهذا يكون فرعون هو من حسب أن لن يقدر عليه أحد (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ). وهو نفسه من قال بأنه قد أهلك مالا لبدا:

أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6)

السؤال: ما معنى أن فرعون (هو كما ظننا) قد أهلك مالا لبدا؟

رأينا المفترى: لو تدبرنا السياق القرآني نفسه، لوجدنا أن الرجل قد حسب أن لم يره أحد:

أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)

السؤال: كيف حسب فرعون أن لم يره أحد؟ ومتى حصل ذلك؟ وأين حصل ذلك؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن فرعون كان يتواجد في مكان محدد، وفي هذا المكان على وجه التحديد كان ظنه بأن أحدا لن يراه فيه. فالمكان (نحن نتخيل) محصن جدا لدرجة أن فرعون كن يظن أنه في منأى أن يراه أحد، حتى الله نفسه، قال تعالى:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)

السؤال: أين هو ذلك المكان؟

رأينا: نحن نظن أن فرعون كان يتواجد في أماكن كثيرة، منها – على سبيل المثال- تلك التي حصلت المواجهة بينه من جهة وموسى وهارون من جهة أخرى، كما يصور ذلك الموقف التالي:

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52)

أو في المكان الذي يصوره الموقف التالي:

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)

ولا شك عندنا أن فرعون كان في هذه المواقف مشاهدا من قبل الآخرين كموسى وفرعون. ولم يكن فرعون متخفيا دائما عن قومه وملئه، بدليل الحوارات الكثيرة التي حصلت بين الطرفين:

وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)

لذا، كان فرعون (نحن نفتري القول) مشاهدا من قبل الآخرين في هذه المواقف، ولكن – بالمقابل- كان هناك مكانا واحدا حكرا على فرعون نفسه، لدرجة أنه ظن أن أحدا لن يراه:

أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)

السؤال: أين هو ذلك المكان الذي كان فرعون عصيّا على المشاهدة من قبل الآخرين؟

رأينا المفترى: لو تدبرنا السياق القرآني نفسه، لربما صحّ لنا أن نستنبط بأنه المكان الذي يرافقه إهلاك المال اللبدا. وانظر (إن شئت) عزيزي القارئ في سياق الآية الأوسع:

أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد كان لفرعون مالا لبدا، وكان هذا المال وفيرا بكميات هائلة في مكان محدد يستحيل أن يتواجد فيه شخص آخر غير فرعون نفسه، وفي هذا المكان بالذات كان فرعون يحسب أن لم يره أحد.

السؤال: لماذا؟

جواب مفترى: لأن هذا المال هو مال لُّبَدًا.

السؤال: ما معنى ذلك؟

رأينا المفترى: للإجابة على هذا التساؤل، نجد لزاما التعرض لمفردة لُّبَدًا نفسها، لنطرح السؤال المعتاد هو: ما معنى لُّبَدًا (ومشتقاتها) كما يبينها النص القرآني؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: لو تفقدنا هذه المفردة في جميع سياقاتها القرآنية، لوجدنا أنها قد جاءت مرة واحدة في السياق القرآني التالي:

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

السؤال: ما معنى ذلك؟ وما علاقة هذا بذاك؟

رأينا: بداية، لو تفقدنا المفردة في هذا النص القرآني، لوجدنا أنها قد جاءت مكسورة اللام على نحو (لِبَدًا)، بينما جاءت في سياق الحديث عن المال مضمومة اللام على نحو (لُّبَدًا). فالمفردة قد جاءت إذن بشكلين اثنين وهما (لِبَدًا و لُّبَدًا)، أليس كذلك؟

السؤال: ما الفرق بين الشكلين (لِبَدًا و لُّبَدًا

رأينا المفترى: لما كان المال هو مال لُّبَدًا، لذا يستحيل أن يكون المال هو الفاعل، فهناك من قام (إن صح قولنا) بلبد المال، فيكون المال بذلك قد لُبد (بضم اللام). أما في حالة فعل اللبد عند دعوة عبد الله، فهناك من قام بالفعل، أي هناك من كانوا قادرين على القيام بفعل اللبد، فهم أنفسهم من كانوا لِبَدًا (بكسر اللام).

السؤال: من هم اللذين كادوا يكونون عليه لِبَدًا في حالة دعوة عبد الله؟

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

إن هذا السؤال يدعونا إلى جلب السياق القرآني كله الذي جاءت فيه هذه الآية الكريمة لنفهم من هم اللذين كادوا يكونون عليه لِبَدًا عندما قام عبد الله بالدعوة:

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

يجد المتدبّر للآية الكريمة في سياقها الأوسع أنها تتحدث عن الجن، وأن هؤلاء الجن هم من استمع إلى القرآن الذي ظنوا أنه عجبا:

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)

وأن هؤلاء الجن هم من كانوا يقعدون مقاعد للسمع، وأنهم ما عادوا يستطيعون ذلك بعد نزول هذا القرآن:

وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9)

وهم درجات في الصلاح:

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)

فكان منهم المسلمون، وكان منهم القاسطون:

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)

والآن، ما الذي يمكن أن نستنبطه من الآية الكريمة التي نحن بصدد محاولة فهمهما:

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

رأينا المفترى: نحن نفتري القول من عند أنفسنا أن هذه الآية الكريمة تبين لنا ما حصل على أرض الواقع عندما قام عبد الله (وهو محمد) بفعل الدعوة (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) مع حضور هذا النفر من الجن الذين سمعوا القرآن، فهؤلاء الجن (أو مجموعة منهم) هم من كادوا يكونون عليه لِبَدًا. فالذي قام بفعل اللبد هنا هم مجموعة من الجن الذين استمعوا لهذا القرآن العجب.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (1): كانت مجموعة من الجن هي من قامت بفعل اللبد، فهم اللذين كادوا يكونون على عبد الله (محمد) وهو المكلف بالدعوة لِبَدًا (بكسر اللام). فكانوا هم لِبَدًا (أي الفاعل)، وبهذا تكون صيغة لِبَدًا (بكسر اللام) صيغة من صيغ أسم الفاعل كما يرغب أهل اللغة أن يسمونهما). فالجن هم فاعل فعل اللبد.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (2): كان المال الموجود عند فرعون في ذلك المكان الذي ظن فرعون أن أحدا لن يراه فيه هو مال لُّبَدًا (بضم اللام)، لأن المال كان ملبودا (أي اسم مفعول، ربما كما يرغب أهل اللغة أن يسمونه). فالمال هو إذن اسم مفعول لفعل اللبد.

السؤال: ما علاقة هذا بذاك؟ أو بكلمات أخرى ما العلاقة التي يمكن أن نستنبطها بين الموقفين، مال فرعون من جهة:

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6)

ودعوة عبد الله من جهة أخرى:

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

رأينا المفترى والخطير جدا جدا: نحن نظن أن فعل (لبدا) مشتقاته لا تقوم به إلا الجن. انتهى.

نتيجة مفتراة (1): الجن هم القادرون على القيام بفعل اللبد، فهم من يستطيعون أن يكونون لِبَدًا (بكسر اللام)

نتيجة مفتراة (2): إذا استطاعت الجن أن تلبد على شيء، فإن ذلك الشيء الملبود، سيكون لُّبَدًا (بضم اللام)

السؤال: ما معنى اللبد أصلا؟ وكيف يمكن أن يحدث؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن بأنه إذا ما قام الجن بفعل اللبد، فإنهم بذلك يشكلون ما يشبه الحاجز بين الشيء الملبود (أي الـ لُّبَدًا) والآخرين، فلا يستطيع الملبود الوصول إلى الآخرين ولا يستطيع الآخرون الوصول إليه.

السؤال: وكيف ذلك؟

رأينا المفترى: دعنا نتدبر الآية الكريمة التي تتحدث عن ما حاول الجن فعله عندما سمعوا عبد الله يقوم بالدعوة:

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

فنحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأنه عندما سمع الجن هذا القرآن العجب الذي يدعو إلى الرشد، حاولت مجموعة منهم (وهم القاسطون) أن يشكلوا ما يشبه الحاجز الذي يمنع وصول دعوة هذا العبد إلى من هم حوله. ولو استطاعوا فعل ذلك، ولو نجحوا في ذلك، لتعذر على الآخرين الوصول إلى هذا العبد، وإلى دعوته، ولربما تمكنوا من حجزه وحجز دعوته من النفاذ إلى الآخرين.

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

فهؤلاء القاسطون من الجن، هم الذين لم يرغبوا في الإيمان لأنفسهم، فكانوا لجهنم حطبا (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)، ولم يريدوا الآخرين أن يؤمنوا بدعوة هذا العبد الذي قام يدعو. فهم الذين ما استقاموا على الطريقة (اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا)، وهم المعرضون عن ذكر الله، وهم الذين يسلكهم الله عذابا صعدا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا). فجل مهمتهم أن لا تنشأ المساجد التي تكون الدعوة فيها خالصة لله وحده (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا).

راقب عزيزي القارئ – إن شئت- كيفية عذاب هؤلاء النفر من الجن بطريقة العذاب الصعد:

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

مقابل طريقة عذاب فرعون نفسه كما صورها النص القرآني:

كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

فكلاهما يقع عليه العذاب نفسه هو العذاب الصعد، أو العذاب بطريقة الصعود.

ويحدث ذلك بطريقة الإرهاق (سَأُرْهِقُهُ)، لأن هذا أيضا خاص بالجن:

وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)

لنخلص إلى نتيجة مهمة جدا سنرى تبعاتها لاحقا (بحول الله وتوفيق منه) تتمثل في استعاذة فرعون بالجن. ففرعون كان يستخدم الجن كوقاية له من حصول المكروه به، وليس أدل على ذلك – برأينا- مما كان يفعله زعيم الجن حينئذ (وهو هامان) لفرعون:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)


نتيجة مفتراة: لقد كان هامان (الشيطان الكبر) يشتغل تحت إمرة فرعون نفسه. فلقد كان تابعا لفرعون.

السؤال: كيف يمكن تطبيق هذا الفهم في حالة المال الذي أهلكه فرعون؟

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن المال الذي كان بحوزة فرعون كان موجودا في مكان محدد، وكان هذا المكان محجوزا عن الآخرين، وكان الذي يقوم ببناء هذا الحاجز الذي يمنع الآخرين من الوصول إليه هم الجن، فكان ذلك المال لُّبَدًا. وكان فرعون هو الشخص الوحيد القادر على النفاذ من ذلك الحاجز والوصول إلى ذلك المال. فكان الجن يشكلون ما يشبه الحاجز الذي يمنع الآخرين من الوصول إلى فرعون بعد أن يكون قد تخطى هو بنفسه حاجز الجن. وهناك ظن فرعون أن أحدا لن يراه. انتهى.

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)

السؤال: لماذا كان فرعون هو الشخص الوحيد القادر على الوصول إلى ذلك المال؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن فرعون كان قادرا على الوصول إلى ذلك المكان لأنه هو – برأينا- الشخص الوحيد الذي آتاه الله آياته كلها، فانسلخ منها. وما أن انسلخ فرعون من آيات الله حتى كان الشيطان بنفسه تابعا لفرعون:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)

فكان فرعون قادرا على تسخير الشيطان لخدمته، فكان الشيطان تابعا لفرعون بدل أن يكون فرعون تابعا للشيطان.

السؤال: لماذا فعل فرعون ذلك؟

جواب: لأن فرعون آثر الخلود إلى الأرض بدلا من أن يرتفع إلى الأعلى، واقرأ – إن شئت- الآية السابقة نفسها في سياقها الأوسع:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)

نتيجة مفتراة خطيرة جدا: توافر في أرض مصر من المال الكثير جدا جدا، وكان هذا المال على شكل كنوز عظيمة:

فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)

وتحصل لقارون على وجه التحديد أكثرها:

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

ولكن كان فرعون يملك ما هو أكثر من الكنوز وهو المال الممدود:

وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12)

فكان ذلك المال لا ينضب لوفرته، فأخذ فرعون ينفق من ذلك المال في كل يوم، حتى تحصل لقومه منه الكنوز الكثيرة، ولا شك عندنا أن الكنوز هي عبارة عن ذهب وفضة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)

فكان فرعون دائم الإنفاق منها، فكان رجلا كريما جدا، ولكن لم يكن إنفاقه ذلك المال في سبيل الله، وإنما من أجل خلوده إلى الأرض، فكانت نتيجته على النحو التالي:

ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)

السؤال: لماذا تلبد الشياطين على المال (الذهب والفضة)؟

الفكر السائد: تصورات مفتراة جديدة

غالبا ما تناقل الفكر الشعبي الدارج فكرة وجود الكنوز من الذهب والفضة المخبأة في باطن الأرض، وفي الوقت ذاته فهم يتناقلون فكرة أن تلك الكنوز منظورة من قبل الجن، فلا يستطيع الناس الوصول إليها بسبب الجن التي ترصد تلك الكنوز. ونحن إذ نؤيد مثل هذا التصور الشعبي، إلا أننا نخالفهم في السبب الذي من أجله تقوم الجن بحراسة أو بحماية هذا المال، في محاولة منهم لمنع الناس من الوصول إليه. فالفكر الشعبي (والفكر العلمي الديني) لم يحاول البحث في أسباب قيام الجن بمثل هذا الفعل، وهو حراسة هذا المال، أو بكلمات أكثر دقة "لبد هذا المال". ففي حين أن الغالبية تؤمن بوجود الجن كحرس على هذا المال، إلا أنهم لا يجيبون على التساؤل المثير التالي وهو: لماذا تقوم الجن بذلك؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن الجن تقوم بذلك في محاولة منهم لمنع الناس من الوصول إلى تلك الكنوز من الذهب والفضة.

السؤال: ما الفائدة التي يرجوها الجن أنفسهم من لبدهم لهذه الكنوز فلا تصل إليه أيدي الناس؟

جواب مفترى خطير جدا جدا: ربما الأجدر بنا أن نحاول الإجابة على هذا التساؤل بعد طرح التساؤل المثير التالي: لم لا يقوم الجن أنفسهم بالاستفادة من تلك الكنوز؟ ولم لا يستخدمونها بأنفسهم؟

جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن أن الجن لا يستفيدون أنفسهم من تلك الكنوز وإلا لكان الأولى بهم أن يستخدمونها بأنفسهم.

السؤال: وكيف يمكن للجن أن يستخدموا تلك الكنوز؟

جواب مفترى: نحن نظن أن المنطق يفرض علينا واحدا من سيناريوهين اثنين، وهما (1) أن يستفيد الجن بأنفسهم من تلك الكنوز (أي لفائدة تعود عليهم أنفسهم)، أو (2) أن يستخدموها للصد عن سبيل الله، فيوصلونها إلى الذين يدعون مع الله أحدا.

السؤال: هل فعلا يستفيد الجن أنفسهم من تلك الكنوز؟

جواب مفترى: كلا وألف كلا. فلا فائدة مرجوة للجن من استخدام تلك الكنوز بأنفسهم.

سؤال: وهل يقدم الجن تلك الكنوز لمن يصد عن سبيل الله ويدعو مع الله أحدا؟

جواب: كلا وألف كلا. فالجن لا يقدمون الكنوز من الذهب والفضة للناس سواء كانوا مؤمنين بربهم أو كافرين بأنعمه.

السؤال: إذا كانت الجن لا تستفيد من تلك الكنوز بأنفسهم، وإذا كانوا لا يقومون بإيصاله إلى الذين يدعون مع الله أحدا (كما تزعم)، فلم إذن يقومون بلبد (أي حراسة) ذلك المال عن الناس أجمعين؟ يسأل صاحبنا مستغربا.

جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن أن الجن تقوم بلبد المال (الذهب والفضة على وجه التحديد) فلا يصل إلى أيد الناس، لأن في وصول ذلك المال إلى أيد الناس تتحقق غايتان اثنتان، هما عكس إرادة الجن كلهم أجمعين.

السؤال: وما هما تلك الغايتان؟

جواب مفترى (1): نحن نظن أن بوصول الذهب والفضة إلى أيدي الناس تتحقق منفعة عظيمة للناس

جواب مفترى (2): نحن نظن أن بوصول الذهب والفضة إلى أيدي الناس تتحقق مضرة كبيرة جدا للجن

نتيجة مفتراة مهمة جدا جدا: نحن نظن أن الحصول على الذهب والفضة يجلب منفعة عظيمة للناس كما يجلب في الوقت ذاته مضرة كبيرة للجن.

السؤال: ما هي المنفعة التي يمكن أن تتحقق للناس من الحصول على الذهب والفضة؟ وما هي المضرة الكبرى التي ستحصل للشياطين عندما تصل أيدي الناس للذهب والفضة؟

باب كنوز الذهب والفضة

لعل السؤال الأكبر وربما الأخطر الذي نحاول الوصول إليه بعد هذا النقاش المطول عن مال فرعون الممدود هو: ما سر الذهب والفضة؟ ولماذا يكون الذهب على وجه التخصيص هو المعدن الأنفس في الوجود؟ وما سر تصارع الحضارات للحصول عليه؟ وما السر الذي يجعل الناس جميعا راغبين فيه؟

الفكر الشعبي الدارج: لعل أكثر الإجابات على هذا السؤال تداولا حتى الساعة هو أن قيمة هذا المعدن تكمن في قلة وفرته، أي لندرته. فلقد درج العامة من الناس على الظن ( ربما بسبب أفهام أهل الدراية من قبلنا) بأن هذا المعدن النفيس قليل الوجود في الطبيعة، ومن هنا جاءت (برأيهم) أهمية هذا المعدن، أليس كذلك؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نرفض مثل هذا التبرير جملة وتفصيلا لسبب بسيط وهو أن هناك معادن أخرى في الطبيعة أكثر ندرة من الذهب. فالذهب متواجد في الطبيعة بكميات هائلة؛ فالأفراد يملكون منه الكثير، والحكومات تخزّن الآلاف الأطنان منه. ولو أن الندرة هي المحك الرئيسي في ذلك لقلت أهميته ولخفت شهوة الناس في الحصول عليه. فلم لا يتسابق الناس للحصول على البلاتينيوم أو على الزئبق مثلا؟ أليست هذه المعادن أقل وفرة من الذهب في الطبيعة؟

لو تدبرت فعل الناس في أصقاع الأرض لوجدت أن الذهب مصاحبا على الدوام لحفلات الفرح، كالأعراس. فمهر العروس غالبا ما يتم تحديده بالذهب. فلم - يا ترى – نجد مثل هذه السلوكيات عند المجتمعات البشرية (وخاصة المجتمعات التي هي أقرب إلى البدائية منها إلى ما يسمى بالمجتمعات المتحضرة)؟

السؤال: لماذا إذن يتسابق الناس في الحصول على الذهب على وجه التخصيص؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن في الحصول على الذهب منفعة عظيمة جدا للناس.

السؤال: وما هي تلك المنفعة المرجوة من الذهب للناس؟ يسأل صاحبنا مستعجلا الإجابة.

جواب مفترى: نحن نظن أن الفائدة المرجوة من الذهب هي عكس المضرة التي تتحقق للجن عند حصول الناس عليه.

السؤال: وما هي المضرة التي تحصل للجن عندما يحصل الناس على الذهب؟

جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نظن أن منفعة الإنس من الذهب هي نفسها مضرة الجن منه.

السؤال: وكيف ذلك؟

رأينا المفترى الخطير جدا جدا: نحن نظن أن في استخدام الذهب حماية للإنس من الجن. انتهى.

السؤال: وكيف ذلك؟ لم أفهم شيئا. يقول صاحبنا مستغربا.

رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بأن الجن تقوم بلبد الكنوز (الذهب والفضة) حتى لا يصل إلى أيد الناس لأن في وصوله إلى أيديهم حماية لهم من خطر الجن.

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن الناس الذين يلبسون الذهب والفضة، إنما يتخذون لأنفسهم من تلك المعادن النفيسة دروعا واقية لهم من خطر الجن. فخطر الجن على الإنس يخف (وربما ينعدم) عندما يحصن الناس أنفسهم بهذا المعدن النفيس.

السؤال: وأين الدليل على ذلك؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن الدليل يمكن أن يجلب من حب النساء لهذا المعدن النفيس، والسر الذي يحدثه هذا المعدن في نفس المرأة التي تتزين به. وهو ما سنتحدث عنه بتفصيل أكبر لاحقا بحول الله وتوفيقه. لكن السؤال الذي نود إثارته الآن لمتابعة النقاش في النقطة ذاتها هو : لماذا يحاول الجن أن يحجزوا الذهب، فيحولوا دون وصول الناس إلى هذا المعدن؟

رأينا المفترى: لأن في استخدام الذهب يفقد الجن كثيرا من فاعليتهم في التأثير على الناس.

السؤال: وكيف ذلك؟

جواب مفترى: نحن نظن أن أول الأسباب في ذلك يعود إلى اللون. فالذهب بلونه الأصفر اللامع يصد الشياطين، فلا يقتربون من الذهب. فالجن (نحن نخرص) تهاب اللون الأصفر، ولا ترتاح لوجوده. فهو مؤذ لهم.

السؤال: وكيف ذلك؟

رأينا: نحن نظن أن الشياطين من الجن هم من المكذبين، الذين يكذبون بيوم الدين، فهم الذين ظنوا كما ظن كثير من الإنس أن الله لن يبعث أحدا، وهم الذين يريدون الدعوة إلى ألهة أخرى مع الله:

وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9)

لذا، فإن جزاءهم هو العذاب الذي سيقع بهم لا محالة. ولما كانت الشياطين مخلوقة من نار:

وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)

كان لابد من وجود آلية العذاب التي تناسبهم، فكانت آلية تعذيبهم في الحياة الدنيا تتمثل في الشهاب الرصدا الذي سيكون جاهزا لكل من يقعد منهم مقاعد للسمع:

وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9)

ولا شك أن آلية تعذيبهم في جهنم هي على نحو ما تصوره الآيات الكريمة التالية:

وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28) انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)

ولو دققنا في طبيعة تلك الشهب، وحاولنا التفكر في طبيعة تلك الشرر التي تُرمى بها الشياطين في جهنم، لوجدنا بأنها صفراء اللون:

إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)

السؤال: ما علاقة هذا بالذهب الذي تهابه الجن؟

رأينا: لما كان الذهب هو معدن أصفر اللون، يخرج منه بريق (أشعة)، تخطف الأبصار، يحصل الظن عند هؤلاء الجن بأن هذا الذهب هو مصدر عذابهم (أي الشهب و الشرر)، لذا فهم يهابونه، ويحاولون أن يتجنبوه. لا بل ويبذلون قصارى جهدهم أن لا تصل أيدي الناس إليه. لذا فهم اللذين يلبدون ذلك المال.

السؤال: إذا كان الجن يلبدون الكنوز من الذهب والفضة، فيشكلون ما يشه الحاجز الذي يمنع الناس من الوصول إليهما، فلم لا يؤذيهم ذلك المعدن ماداموا يحرسونه؟ يسأل صاحبنا مستغربا.

تخيلات مفتراة: نحن نتخيل أن الجن لا تقترب من تلك الكنوز، بل تقوم فقط بحراسة المكان الذي يتوافر به تلك المعادن النفيسة، لكنهم لا يقتربون منها بأنفسهم، ولتبسيط الفكرة، فإن مهمتهم تشبه مهمة حارس البنك. فحارس البنك يقبع خارج مبنى البنك، وتكون مهمته أن يمنع الناس من الاقتراب إلى المال الموجود داخل البنك، لكنه لا يستطيع هو بنفسه (حتى وإن كان هو الحارس للمال) أن يصل إلى المال. فمهمته تبقى في مراقبة المكان الذي يتوافر به المال دون القدرة على الوصول بنفسه إليه. وهذا (نحن نتخيل) ما تقوم به الجن: إنها مهمة الحراسة فقط.

السؤال: كيف استطاع فرعون أن يخترق حاجز الجن للوصول إلى المال الممدود؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: لو حاولنا إمعان التفكر في شخص فرعون الذي نجد النقوش والجداريات تصوره كثيرا، لوجدناه مغرما بالذهب، فلباس فرعون وقناعه، وغطاء رأسه وحتى نعل رجليه مصنوعة جميعها من الذهب الخالص. انظر الشكل التوضيحي التالي:




المصدر Source

ليكون السؤال الآن: ما سر غرام فرعون بالذهب؟ ولماذا كان فرعون يغطي جسمه (تقريبا كاملا) بالذهب؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن (ربما مخطئين) بأن فرعون كان على دراية تامة بمفعول الذهب السحري، والتأثير الحقيقي الذي يحدثه الذهب في الشياطين. فحتى يق فرعون نفسه من خطر هذه الكائنات اللامرئية:

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)

كان لزاما عليه أن يحصّن نفسه منها بالدرع الواقعي المصنوع من الذهب الخالص.

السؤال: وأين الدليل على أن فرعون كان يحمي نفسه بالذهب؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نجد الدليل على هذا الظن في الآية الكريمة التالية (كما فهمناها):

فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)

ففرعون يتحدى خصمه بأنه لم يلق عليه أسورة من ذهب، وذلك لأنه هو نفسه قد ألقي عليه أسورة من ذهب. فما هي الأسورة التي ألقيت على فرعون؟ نحن نسأل.

رأينا المفترى: نحن نجد لزاما أن نعاود البحث في معنى مفردة الأسورة من ذهب التي ألقيت على فرعون. فلا شك عندنا أن أسورة فرعون كانت من الذهب الخالص (أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ)، لكن هذا لا يمنع أن نتساءل عن الأسورة نفسها: فما هي الأسورة التي ألقيت على فرعون أصلا؟

رأينا المفترى: نحن نرفض جملة وتفصيلا الفهم الشعبي الذي صوّر لنا الأسورة على نحو تلك الحليّ التي تلف المعصم من اليد كما في الشكل التالي





Source:

وذلك لسبب بسيط وهو أن هذا النوع من الحلي لا تلبس بطريقة الإلقاء، بينما جاء بصريح اللفظ القرآني بأن أسورة فرعون تلبس بطريقة الإلقاء (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ)، أليس كذلك؟

السؤال: كيف يمكن أن يتم إلقاء الأسورة من ذهب على شخص كفرعون مثلا؟

رأينا: نحن لا نستطيع أن نتخيل شخصا يلبس الأسورة من ذهب (بمعناها الشعبي الدارج) بطريقة أن تلقى عليه إلقاء، لأن الإلقاء يتم من فوق إلى تحت كما فعل موسى بعصاه:

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107)

أو كما فعل السحرة عندما ألقوا حبالهم وعصيهم:

قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)

أو كما ألقي السحرة أنفسهم ساجدين:

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)

السؤال: كيف يمكن لنا أن نتخيل إذن طريقة إلقاء الأسورة من ذهب على فرعون؟

رأينا المفترى: نحن نظن أننا نستطيع تخيل ذلك ببساطة إن نحن غيّرنا مفهومنا الشعبي لمفردة الأسورة، فبدل أن نفكر بأنها ما يلف المعصم من اليد، فلا مانع – برأينا- أن نرى أن الأسورة على أنها ما يلف الجسد كله، أي هي أشبه ما تكون بالعباءة التي تلبسها المرأة، أو تلك التي يلبسها المسنون في بلادنا، كهذه التي يظهر فيها تمثال فرعون في الشكل التالي:



الدليل

بداية، نحن نظن أن مفردة الأسورة تدل على ما يلبسه شخص واحد كفرعون مثلا. لذا فهي كلمة بصيغة المفرد (كما يحب أهل اللغة أن يسمونها). لذا، فالمفردة تجمع – برأينا- على نحو أسارو، وهي ما نجده في السياقات القرآنية الخاصة بما يلبسه من كان ذو حظ عظيم من أهل الجنة:

أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)

عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)


إن أول ما يتبادر للذهن هو الربط بين وجود الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ولبس الأساور من ذهب. ففرعون كان يلبس الأسورة من ذهب لأن جناته كانت تجري من تحتها الأنهار:

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)

الدليل

سنحاول أن نجلب مجموعة من المشاهدات التي نظن بأنها تدعم افتراءنا (ربما غير المسبوق) بأن للذهب فاعليه كبيرة في صد خطر الشياطين.

أولا، ربما لم يحاول الكثيرون البحث في الأسباب التي تجعل النساء على وجه التحديد أكثر رغبة من الرجال في التحلي بالذهب والفضة. فنحن نعلم جميعا مقدار الحب في أنفس النساء للذهب. ولعل من الصعب على الرجل أن يفهم السر الذي ينطوي عليه حب النساء (على العموم) لهذا المعدن النفيس. فمهما كانت المشكلة بين الرجل وزوجته، فإن قطعة صغيرة من الذهب (كهدية بعد خصام) كفيلة بأن تنهي الخلاف، وتعيد المياه إلى مجاريها الطبيعية. لكن الغريب في الأمر أن الرجال يعرفون مثل هذه السلوكيات ولكنهم ربما لا يفقهون علّتها. وكثيرا ما يصعب على المرأة التي لا تخفي حبها العظيم للذهب أن تبرر للرجل سبب حبها لهذا المعدن النفيس. فالمرأة لا تستطيع أن تعبر بالكلمات عن ما يعتريها من شعور عند لبسها لقطعة من الذهب، والرجال لا يستطيعون أن يتفهموا مثل هذا الشعور الغريب بالنسبة لهم عند النساء.

السؤال: لماذا يدخل الذهب البهجة والسرور إلى نفس المرأة؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن هذا المعدن هو معدن نفيس. انتهى.

السؤال: لم هذا المعدن هو معدن نفيس؟ وما معنى أنه نفيس؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن هذا المعدن يهدئ من غضب المرأة ويرفع من طاقتها الإيجابية ويحد من طاقتها السلبية. فهو معدن له تأثير في نفس المرأة. انتهى.

السؤال: لماذا؟

رأينا المفترى الخطير جدا جدا: لأن هذا المعدن هو كابح لجماح الجن. فالمرأة التي تتحلى بالذهب إنما تلبس درعا يقيها من ثورة الوسواس الخناس.

السؤال: وأين هو إذن ذلك الوسواس الخناس؟

جواب مفترى: إنه في صدور الناس:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)

تخيلات غريبة جدا جدا: لما كان الناس (أي من بلغ النكاح من الرجال) لا يلبسون الذهب، فهم إذن أكثر عرضة لخطر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدورهم. ولما كانت النساء على عادة لبس الذهب فهن إذن أكثر حماية لأنفسهم من خطر ذلك الوسواس الخناس. فالناس (أي من بلغ سن النكاح من الرجال) هم "ألعوبة" (أي أراكوز بالمفردات المصرية) في أيدي الوسواس الخناس، وذلك لأن هذا الوسواس الخناس يستطيع النفاذ إلى صدور الرجال التي لا تزينها قطع الذهب، على عكس النساء اللاتي يكسو صورهن قطع الذهب المتنوعة. فوجود قطعة من الذهب على صدر المرأة كفيل بأن يبعد عنها ذلك الوسواس الخناس فلا ينفذ إلى صدرها. انتهى.

السؤال: هل الذهب ممنوع لبسه من قبل الرجال؟ وهل الذهب فعلا حلال لنساء المؤمنين حرام على رجالهم كما جاءنا في الأثر؟

رأينا المفترى: بداية، لابد لكل قارئ لهذه الصدور أن يدرك الغاية من نقاشنا هنا، فنحن لا نقدم للناس فتاوى دينية، ونحن لا نحرم ولا نحلل، ولكننا نناقش، فجميع افتراءاتنا (السابقة واللاحقة منها) تقع تحت مظلة النقاش العلمي البحت الذي يهدف فقط إلى الوصول إلى الحقائق العلمية، لا غير. لذا فقولنا لا يعدو أن يكون أكثر من رأي فكري قابل للخطأ والصواب. لذا نجد لزاما التنبيه إلى عدم جر كلامنا هذا تحت باب الفتاوى الدينية، فنحن لسنا أهلا لذلك، ونحن بالتأكيد لسنا مصدرا للفتاوى الدينية، ولكننا مصدر للتخريصات الفكرية لمن أراد أن يذهب معنا في هذه رحلة غريبة ربما لا ندري إلى أين ستنتهي بنا محطاتها.

أما بعد،

السؤال: هل فعلا لا يحق للرجال لبس الذهب على وجه التحديد؟

رأينا: لما كنا مشغولين في البحث في كتاب الله فقط، فإننا لم نجد فيه بعد الدليل القاطع على حرمة الذهب على الذكور من المؤمنين. فبإتباع القاعدة الفقهية التي تنص على أن الأصل في الأشياء هو الإباحة، ولا يجوز التحريم إلا بنص، فنحن نطالب أهل الدراية أن يقدموا لنا النص الذي يحرم الذهب على ذكور المؤمنين. وفي الوقت ذاته نحن نجد أن الأمر من الجدية بمكان أن يرد تحريمه بنص صريح في كتاب الله كتحريم الخمر أو لحم الخنزير أو نكاح الأم والأخت ونحو ذلك. فمن غير المستساغ عندنا أن يأتي تحريم الخمر أو الميتة أو الدم أو لحم الخنزير بنص واضح صريح، ولا يرد مثل ذلك بخصوص تحريم الذهب على الذكور من المؤمنين. وإذا كان التحريم قد ورد بنص حديث مرفوع إلى النبي الكريم، فهذا إذن من شأن المشتغلين بعلم الحديث وهو ما لا نجيده إطلاقا.

السؤال: من أين جاءت قصة تحريم الذهب على ذكور الأمة إذن (إن صح ما تقول)؟ يسأل صاحبنا مستغربا.

جواب خطير جدا جدا لا تصدقوه: نحن نظن أن الذين تصدوا (من أهل الدين) لتبيان ما في الكتاب للناس لم يكونوا جميعا – برأينا- من الذين أخلصوا الدعوة لله. فلم يكن هدف هؤلاء (أو ربما فئة منهم) تبيان الحقيقة التي يتم من خلاها نور الله على الجميع، بل نحن نتجرأ على القول بأن هدف بعضهم كان إطفاء نور الله بأفواههم، فثلة منهم هم من جعلوا الكتاب قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا منها، كما فعل معلموهم من علماء أهل الكتاب:

وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

السؤال: ما الذي فعله هؤلاء؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن بعض أهل الدين الذي تصدوا لتبيان آيات الكتاب للناس كانوا على دراية بأهمية الذهب، وربما يعون ما يمكن أن يتحصل للمؤمنين من خير لو أنهم فقهوا سر هذا المعدن النفيس، لذا كان هدفهم هو أن لا يقع هذا المعدن النفيس في أيدي المؤمنين ليستفيدوا منه، فما كان منهم إلا أن يخترعوا عقيدة هي – برأينا- من عند أنفسهم- تحرم على المؤمنين الذهب، وبالتالي تحجزهم عن الاستفادة منه كما يجب. فخرجوا لنا بفقه هو أقرب إلى فعل الشياطين منه إلى الحق المبين، فأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا:

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)

فهؤلاء – برأينا- هم شياطين الإنس الذين أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. فهم الذين يفترون على الله الكذب، فيحلّون بعض ما حرم، ويحرمون بعض ما أحل الله، حتى التبست الصورة على الناس، فما عادوا يميزون فعلا بين ما هو حلال عن ما هو حرام، وهم بالتأكيد (نحن نفتري القول) لا يعون فقه هذا ولا فقه ذاك. فلو سألت أحدهم عن المقصد من تحليل الذهب على نساء المؤمنين وتحريمها على ذكورهم (كما افتروا ذلك من عند أنفسهم)، لما وجدت أن لديهم أجوبة تقنعهم أنفسهم بما يقولون. ومن أراد أن يجادل فليرجع إلى بطون تلك الكتب لينهل من غزير العلم فيها. أما نحن فما وجدنا ضالتنا عندهم، لذا وجدنا أن البحث بعيدا عنهم هي الطريقة الأمثل للوصول إلى غايتنا المنشودة بعد أن ندعو الله وحده أن يؤتينا رشدنا وأن يهدينا إلى نوره، فنقتبس منه، فنكن في أنصاره، ليجعل كلمةَ الذين كفروا السفلى، وكلمتُه هي العليا، فيخرجنا بها من الظلمات إلى النور بإذنه، إنه هو العلي العظيم – آمين.

باب حب النساء للذهب: (الوسواس الخناس)

لعلى لا أحتاج إلى كثير عناء في تسويق حب النساء على وجه التخصيص للذهب. فغرام المرأة بالذهب لا يمكن إنكاره في كل المجتمعات وعلى مر العصور. ولعل الفكر الشعبي (المتخم بالفكر الديني المحرّف) لا يفسر لنا – كما أسلفنا- سر تعلق النساء على وجه التحديد بهذا المعدن النفيس. فالمرأة لا تستطيع أن تتلفظ بكلمات معبرة تماما عن ما يجول في نفسها عند لبسها للذهب، ولا يستطيع الرجال بالمقابل تفهم سر حب النساء لهذا المعدن وتعلقهن به. ليكون السؤال المحوري هو: ما الذي يحصل عندما تلبس المرأة الذهب؟ أو بكلمات أكثر دقة نحن نسأل: ما الذي يتغير في طبيعة المرأة عندما تلبس قطعة من هذا المعدن الثمين (أو بكلمات أكثر دقة هذا المعدن النفيس)؟

رأينا: لا شك عندنا أن التغير الذي يحصل عند المرأة عندما تلبس قطعة من الذهب هو حدوث تغير في نفسيتها. فتأثير الذهب مباشر على النفس، ولكن كيف يكون ذلك؟

أولا، نحن نعلم أن الإناث (ككينونات) قد خلقن من أنفس أزواجهن:

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

فجل المرأة (ككيان مادي) مكوّن من عنصر واحد هو النفس، لذا فإن تأثير هذا المعدن على المرأة هو أكبر من تأثيره على زوج المرأة، لأن زوج المرأة مكون من عنصرين، وهما (1) الشخص و (2) نفسه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)

لهذا يجب أن نميز بين الذكر والأنثى كما افترينا في أجزاء سابقة من مقالاتنا المتعددة، ففي حين أن الأنثى هي درجة واحدة، فإن للذكر عليهن درجة:

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228)

ولهذا جاء تقسيم الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين:

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا (11)

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)


ولهذا جاءت شهادة الرجل لتقابل شهادتين من النساء:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

ولهذا كان الرجل صاحب قرار في طلقتين اثنتين قبل أن تكون المرأة هي صاحبة القرار في النكاح من بعد ذلك:

الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

نتيجة مفتراة: لما كانت المرأة كلها نفس، كانت آلية وقايتها من الشيطان سهلة، فالمرأة التي تزين صدرها بقطعة من الذهب، إنما هي تكبح بذلك الشيطان، فلا يقترب منها، وبالتالي فهي تكبح جماحه وتأثيره عليها. وليس أدل على ذلك من الفارق في الرغبة الجنسية عند الذكر مقابل الرغبة الجنسية عند الأنثى. فالشيطان لا يستطيع أن يوقع المرأة في شراكه من هذا الباب. وما رغبة المرأة في الجنس إلا تلبية لحاجة شريكها (وسنتحدث عن هذا الموضوع بالتفصيل بحول الله وتوفيقه عندما يصل بنا الحديث إلى موضوع الشجرة التي أكل منها أدم وزوجه. فالله أسأل أن يعلمني من لدنه علما لا ينبغي لغيري، إنه هو الواسع العليم.

إن ما يهمنا قوله هنا هو أنه مهما حصل من خلاف بين الرجل وزوجته، فإن الرجل الحصيف (من مثلي) يستطيع أن يهدئ من نفسية زوجته بتقديم هدية بسيطة لها تتمثل بقطعة من الذهب كلما كان على ذلك مقتدرا، وإن تعذر له ذلك، فيستطيع أن يقدم لها هدية حتى من الذهب المغشوش، لكن النتيجة ستكون مرضية في معظم الحالات.

السؤال: لماذا؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن هدية من الذهب تستطيع أن تهدئ من نفسية المرأة لأن ذلك سيكون خط الدفاع الأقوى لها ضد فعل الشيطان. فما أن تمسك المرأة قطعة الذهب حتى تهدأ نفسيتها، وتتغير طباعها فورا من الثوران والغضب إلى الهدوء والسكينة. فالشيطان الذي أشعل فتيل الأزمة بين المرء وزوجه سيولي مدبرا بمجرد حضور الذهب:

وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102)

فالشياطين (نحن نفتري القول) هم الذين تعلموا ما يفرقون به بين المرء وزوجه (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، وهم الذين تعلموا ما يضرهم ولا ينفعهم (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ)، فهم إذن الذين تعلموا – برأينا- سر الذهب الذي يضرهم ولا ينفعهم، وهم (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) الذين شروا أنفسهم بالذهب حتى لا يكن وبالا عليهم (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ)، فعمدوا إلى لبد الذهب، فقيدوا أنفسهم عنده (أي رصدوه) حتى لا يقع في أيدي الناس فيكون عليهم وبالا وعذابا.

لكن الصورة تبدو على عكس ذلك عند الرجال. فالخلاف الذي نشب بين المر وزوجه، والذي كاد أن يؤدي بهم إلى الفرقة، وكان سببه الشياطين، يسكت تماما عند المرأة بمجرد حصولها على قطعة من الذهب. ولكن هذا الخلاف لا يسكت تماما عند الرجل، فنفسية الرجل تبقى غير راضية حتى وإن توقف الخلاف، وذلك لأن الرجل لم يلبس الذهب، فما تخلص من تلك الشياطين التي ركبته، ولا تنفك توسوس له.

السؤال: أين تقبع تلك الشياطين عند الرجال؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن الشياطين عند الرجال تقبع في صدورهم، فالشياطين (نحن نتخيل) جاثمة على صدور الناس (أي الرجال البالغين المكلفين)، بدليل قوله تعالى:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)

فهناك إذن الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس (أي من بلغ سن النكاح من الرجال)، وهذا الوسواس الخناس الذي يولي هاربا عن صدر المرأة الذي تزين بالذهب ظل جاثما في صدر الناس الذين ما استفادوا من هذا المعدن النفيس، ولا يمكن أن ينفك تأثيره إلا بآيات الله المتلوة. فهذه الآيات الكريمة السابقة هي برأينا آيات منسوخة بالتلاوة، لها من الفاعلية في صدور الناس ما للذهب من فاعليه في صدور النساء. انتهى.

نتيجة مفتراة (1): يتم طرد الوسواس الخناس عن الأنثى بقطعة من الذهب

نتيجة مفتراة (2): تتم هزيمة الوسواس الخناس من صدور الناس (الذكور) بهذه الآيات المتلوة.

ثانيا، هل الذهب محرم على الذكور من المؤمنين؟

ولو تدبرنا حال الناس (أي الرجال) الذين يكنزون الذهب، لوجدنا أن نفسيتهم ترتاح بمجرد الحصول عليه، وكلما تحصل له من كنوز الذهب أكثر كلما هدأت نفسيتهم أكثر.

سنتحدث في الأجزاء القادمة عن سر تلك البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين. اللهم أدعوك وحدك أن تعلمني علما لا ينبغي لغيري إنك أنت العليم الحكيم – آمين.



المدّكرون: رشيد سليم الجراح & المهندس يزن علي سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان

بقلم د. رشيد الجراح

10 أيار 2016