📢 تابعوا بثوث الدكتور على TikTok، أو اشتركوا في قنوات Telegram وWhatsApp لتصلكم إشعارات البث مباشرة.
Telegram WhatsApp YouTube TikTok

قصة يونس 25

 


ملخص المقالة:
يستكمل هذا الجزء من سلسلة "قصة يونس" تحليل سورة التين، ويربط مواقعها الجغرافية بالرسالات الكبرى. يركز المقال على "أرض الزيتون" كمهد لحضارات بلاد الرافدين (آشور وبابل) والمكان الذي بدأ فيه إبراهيم رحلته الفلكية والتوحيدية. يقدم الكاتب طرحًا مفصلاً يفرق فيه لغويًا وقرآنيًا بين "الأب" و"الوالد" لحل التناقض الظاهري في تبرؤ إبراهيم من أبيه آزر واستغفاره لوالديه. كما يفترض أن قوم إبراهيم كانوا على عقيدة شركية ثلاثية (كوكب، قمر، شمس)، وهو ما يفسر بحث إبراهيم ورفضه لهذه الآلهة.

فهرس المقالة

مقدمة: استكمال سورة التين والرسالات

تعرضنا في الجزء السابق من هذه المقالة لبدايات سورة التين:

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿١﴾ وَطُورِ سِينِينَ ﴿٢﴾ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿٣﴾
(سورة التين)

وخلصنا إلى افتراء الظن بأن هذه مناطق جغرافية خاصة بالأمم الرئيسية التي أرسل إليها أولي العزم من الرسل، فبقيت رسالاتهم خالدة على مر الزمان، وكان لكل أمة منهم شرعة ومنهاجا. فافترينا الظن بأن شرعة ومنهاج أمة محمد قد اتخذت منسكها في الواد غير ذي الزرع عند بيت الله الحرام، الموجود في هذا البلد الأمين:

وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿٣﴾
(سورة التين)

وكانت شرعة ومنهاج رسالة موسى وعيسى قد اتخذت منسكها عند طور سنين:

وَطُورِ سِينِينَ ﴿٢﴾
(سورة التين)

وخلصنا في مقالات سابقة لنا أن محمدا لم يرضى أن يكون متبعا لشرعة ومنهاج الأمم التي سبقته، فبقي يقلب وجهه في السماء حتى حصل على الاستقلالية التامة:

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٤٤﴾
(سورة البقرة)

فما رضي محمد أن يتبع قبلتهم لأنهم بكل تأكيد لا يرضون أن يتبعوا قبلته:

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿١٤٥﴾
(سورة البقرة)
نتيجة مفتراة:

ولى محمد (ومن تبع شرعته ومنهاجه) وجهه شطر المسجد الحرام الموجود في هَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ

نتيجة مفتراة:

ولى موسى وعيسى (ومن اتبع شرعتهم من أهل الكتاب) وجههما شطر طُورِ سِينِينَ

واتخذت الأمة التي أرسل فيهم إبراهيم شرعتهم ومنهاجهم في بلاد الزيتون:

... وَالزَّيْتُونِ ﴿١﴾
(سورة التين)

وكانت الرسالة الأولى (رسالة نوح) قد انبعثت في أرض التين:

وَالتِّينِ ... ﴿١﴾
(سورة التين)

(للتفصيل انظر الجزء السابق)

وقد توقفنا في الطرح السابق عند محطة الزيتون التي (ظننا) أن إبراهيم قد خلا فيها نذيرا:

... وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴿٢٤﴾
(سورة فاطر)

فقدمنا افتراءات هي – لا شك- من عند أنفسنا ظننا أنها غير مسبوقة، نعيد أهمها هنا من أجل متابعة النقاش قدما في هذا الجزء الجديد من المقالة

الافتراءات السابقة

  • كان إبراهيم قد بُعث نذيرا في أرض الزيتون
  • تقع أرض الزيتون هذه (نحن نتخيل) في وسط الكرة الأرضية، فهي بلاد لا شرقية ولا غربية
  • ينطلق خط الصفر (الذي يفصل الشرق عن الغرب) من القطب الشمالي ويمتد إلى القطب الجنوبي فيمر في هذه المنطقة، فهو برأينا الخط الحقيقي الذي يفصل الشرق عن الغرب، فيكون بديلا حقيقيا لخط غرينتش الذي كان صنيعة الحضارة البريطانية.
  • تقع هذه المنطقة على الحدود الجغرافية الممتدة بين إيران والعراق وتركيا الحالية
  • يمكن حصرها بما يسمى اليوم بمنطقة كردستان
  • يمر خط الصفر في هذه المنطقة فتصبح كل الأرض إلى يمين الناظر على الشاشة هي أرض شرقية وتكون كل الأرض الواقعة على يسار الناظر إلى الشاشة هي أرض غربية.
  • على ذلك الخط (خط الصفر) تقع تلك الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية
  • تمتاز هذه المنطقة بأنها الأمثل (برأينا) لمراقبة السماء من الأرض
  • اهتدى إبراهيم إلى ذلك الصراط المستقيم
  • استطاع إبراهيم من هناك مراقبة السماء
  • استطاع إبراهيم أن يراقب ذلك الكوكب عندما كان يبحث عن ربه
  • استطاع إبراهيم من هناك أن يرى الشمس بازغة
  • استطاع إبراهيم من هناك أن يرى القمر بازغا
  • أدرك إبراهيم أن تلك الكينونات لا محالة آفلة، لذا لا تصلح أن تكون ربا له
  • أدرك إبراهيم أن ربه الحقيقي الذي يبحث عنه لا يأفل
  • وجه إبراهيم من هناك وجه للذي فطر السموات والأرض حنيفا
  • هدى الله إبراهيم إلى صراط مستقيم
  • رأى إبراهيم من هناك ملكوت السموات والأرض، فكان من الموقنين:
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴿٧٥﴾
(سورة الأنعام)
  • الخ
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا:

نحن نظن أن هذه واحدة من آيات الله في الأرض، وهي لا شك آية فقط لمن كان من الموقنين:

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴿٢٠﴾
(سورة الذاريات)

فهذا موسى يوجه الخطاب لفرعون بهذه الصيغة، بعد أن استفسر فرعون عن رب موسى:

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٢٤﴾
(سورة الشعراء)

وجاءت هذه الصيغة في سياق الحديث عن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم:

وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴿٣﴾ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴿٤﴾ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴿٥﴾ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿٦﴾ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴿٧﴾
(سورة الدخان)

وسنرى (إن أذن الله لنا بشيء من علمه فيها) تبعات هذا الظن لاحقا عندما نحاول ربط هجرة إبراهيم إلى ربه غربا باتجاه الأرض التي باركنا فيها للعالمين مع طلب فرعون من هامان أن يبني له صراحا يمكنه من الاطلاع شرقا باتجاه الأرض التي باركنا فيها للعالمين إلى إله موسى كما في الشكل التوضيحي المبسط التالي:

كردستان                             الأرض المقدسة                             مصر
إبراهيم               ←               ربه (إله موسى)                         فرعون

(دعاء: اللهم أسألك وحدك أن أكون من عبادك الموقنين، الذين يرون آياتك فيعرفونها، إنك أنت السميع العليم – آمين)

أرض الزيتون وحضارات بلاد الرافدين

تبعات هذا الطرح

لمّا كنا نظن أن هذه البقعة الجغرافية هي المكان الأمثل على الأرض لمراقبة الأجرام السماوية، كان لابد من الاستفادة من الميزات الفريدة لهذا المكان في تشييد الحضارة. ولو رجعنا إلى السجلات التاريخية التي تتحدث عن نشوء الحضارات القديمة وازدهارها في تلك المنطقة، ربما لن يعيينا البحث أن نجد أن أعرق الحضارات القديمة قد شيّدت في تلك المنطقة الجغرافية على وجه التحديد، فكانت حضارة آشور وبابل من المحطات الحضارية التي لا يستطيع السجل البشري أن يتجاوزها. ولو تدبرنا التفكر في تلك الحضارات، لوجدنا أن لها ميزات خاصة تجعل لها طابعا فريدا لا تدانيه فيه حضارات أخرى على الأرض. فكانت حضارة آشور الأولى وكانت حضارة بابل الأولى، فبقيت آثارهم خالدة دليلا على رقي حضاراتهم.

أولاً، حضارة آشور: مرتكزات فكرية مهمة

  • كانت حضارة آشور هي من أول الحضارات التي شيدت في تلك المنطقة. وهذه لمحة بسيطة عن تلك الحضارة كما وجدناها في موسوعة الويكبيديا:
آشور (Assyria, Ashur)، أول دولة قامت في مدينة آشور في شمال بلاد ما بين النهرين، وتوسعت في الألف الثانية ق.م. وامتدت شمالا لمدن نينوي، نمرود وخورسباد. ولقد حكم الملك شمشي مدينة آشور عام 1813 ق.م. واستولي حمورابي ملك بابل على آشور عام 1760 ق.م. إلا أن الملك الآشوري شلمنصر استولي على بابل وهزم الميتانيين عام 1273 ق.م. ثم استولت آشور ثانية على بابل عام 1240 ق.م. وفي عام 1000 ق.م. استولي الآراميون على آشور، لكن الآشوريين استولوا على فينيقيا عام 774 ق.م. وصور عام 734 ق.م. والسامرة عام 721 ق.م. وأسر سارجون الثاني اليهود في أورشليم عام 701 ق.م. وفي عام 686 ق.م. دمر الآشوريون مدينة بابل وثار البابليون على حكم الآشوريين وهزموهم بمساعدة ميديا عام 612 ق.م. شن الآشوريون حملاتهم على باقي مناطق سوريا وتركيا وإيران.


وصف الصورة (برومبت لتوليد الصورة)

A detailed historical map of the ancient Neo-Assyrian Empire at its greatest extent, circa 670 BCE. The map should show major cities like Nineveh, Ashur, and Nimrud. The territory should cover Mesopotamia, the Levant, and parts of Egypt, Anatolia, and Iran. Use vintage colors and textures. The style should be clear and academic.

الإمبراطورية الآشورية في أقصى اتساع لها

وكانت مملكة آشور دولة عسكرية تقوم على العبيد، وكان لها إنجازات معمارية وصنع التماثيل ولاسيما تماثيل الثيران المجنحة التي كانت تقام أمام القصر الملكي، وزينت الجدران بنقوش المعارك ورحلات الصيد. وما بين سنتي 883 ق.م. و612 ق.م. أقامت إمبراطورية من النيل للقوقاز، ومن ملوكها العظام: آشوربانيبال، تغلات فلاصر الثالث، سرجون الثاني، سنحاريب، آشورناصربال، واسرحادون (والد آشور بانيبال) الذي كان مهووسا بحب إذلال الملوك حيث كان يجبر الملوك التابعين له على المجيء إلى عاصمته والعمل في ظروف قاسية لبناء قصوره في نينوى، وآخر ملوك آشور المدعو آشور أوباليط الذي اقام مقر قيادة مؤقت في حران (الجزيرة الفراتية) بعد سقوط نينوى بيد البابليين بقيادة نابو بولاصر الكلداني محاولا تأخير المذبحة الشاملة للشعب الآشوري. وكانت كتابة الآشوريين الكتابة المسمارية التي كانت تكتب علي ألواح الطين، وأشهر مخطوطاتها ملحمة جلجماش التي ورد بها الطوفان لأول مرة. وكانت علومهم مرتبطة بالزراعة ونظام العد الحسابي السومري الذي عرف بنظام الستينات وكان يعرفون أن الدائرة 60 درجة، كما عرفوا الكسور والمربع والمكعب والجذر التربيعي، وتقدموا في الفلك وحسبوا محيط خمسة كواكب، وكان لهم تقويمهم القمري وقسموا السنة لشهور والشهور لأيام، وكان اليوم عندهم 12 ساعة والساعة 30 دقيقة. وكانت مكتبة الملك آشور بانيبال من أشهر المكتبات في العالم القديم حيث جمع كل الألواح بها من شتى مكتبات بلاده

ويمكن أن نضيف الاقتباس التالي أيضا:

* وقد اكتشفت في كثير من المدن الآشورية تماثيل هائلة الحجم مصنوعة من الحجر، وكانت توضع على جانبي أبواب الهياكل والقصور. وكان الآشوريون يسمون هذه التماثيل "شيدو" . وكانت تمثل حيوانات لها رؤوس بشرية وأجنحة وأما أجسامها فكانت أجسام أسود أو ثيران. ويرى بعض العلماء شبهًا كبيرًا بين هذه التماثيل "شيدو" وبين وصف حزقيال للكروبيم (حز 1: 5- 14). وكان الآشوريون يعبدون آلهة كثيرة. أما إلههم الرئيسي فكان آشور وهو اله الحرب وكانوا يمثلونه في شكل رامٍ للسهام داخل دائرة تمثل قرص الشمس ولها أجنحة. وكانت أشتارا الآلهة العظيمة للحرب والخصب وكانت الآلهة الأخرى تمثل قوى الطبيعة. وكان "أنو" يمثل قوة السماء و("بل" يمثل الأرض و"ايا" تمثل المياه و"سين" يمثل القمر و"شماش" تمثل الشمس و"رمان" تمثل العاصفة، والخمسة الكواكب السيارة التي كانت معروفة حينئذٍ. وكان معظم هذه الآلهة يعبد في بابل فيما عدا الاله "آشور"
  • في تلك الحضارة حصلت ملحة قلقامش حيث جاء فيها ذكر الطوفان الكبير. وهذه مقتطفات من الويكيبديا عن هذه الملحمة التاريخية:
بداية الملحمة
تبدأ الملحمة بالحديث عن جلجامش ملك أورك - الوركاء الذي كانت والدته إله خالدا ووالده بشرا فانيا ولهذا قيل بان ثلثيه إله والثلث الباقي بشر. وبسبب الجزء الفاني منه يبدأ بإدراك حقيقة أنه لن يكون خالدا. تجعل الملحمة جلجامش ملكا غير محبوب من قبل سكان أورك؛ حيث تنسب له ممارسات سيئة منها ممارسة تسخير الناس في بناء سور ضخم حول أورك العظيمة. ابتهل سكان أورك للآلهة بأن تجد لهم مخرجا من ظلم جلجامش فاستجابت الآلهة وقامت إحدى الإلهات، واسمها أرورو، بخلق رجل وحي كان الشعر الكثيف يغطي جسده ويعيش في البرية يأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات؛ أي أنه كان على النقيض تماما من شخصية جلجامش. ويرى بعض المحللين أن هناك رموزا إلى الصراع بين المدنية وحياة المدن الذي بدأ السومريون بالتعود عليه تدريجيا بعد أن غادروا حياة البساطة والزراعة المتمثلة في شخصية أنكيدو. كان أنكيدو يخلص الحيوانات من مصيدة الصيادين الذين كانوا يقتاتون على الصيد، فقام الصيادون برفع شكواهم إلى الملك جلجامش؛ فأمر إحدى خادمات المعبد بالذهاب ومحاولة إغراء أنكيدو ليمارس الجنس معها؛ وبهذا تبتعد الحيوانات عن مصاحبة أنكيدو ويصبح أنكيدو مروضا ومدنيا. حالف النجاح خطة الملك جلجامش، وبدأت خادمة المعبد -وكان اسمها شمخات، وتعمل خادمة في معبد الآلهة عشتار - بتعليم أنكيدو الحياة المدنية؛ ككيفية الأكل واللبس وشرب النبيذ، ثم تبدأ بإخبار أنكيدو عن قوة جلجامش وكيف أنه يدخل بالعروسات قبل أن يدخل بهن أزواجهن. ولما عرف أنكيدو بهذا قرر أن يتحدى جلجامش في مصارعة ليجبره على ترك تلك العادة. يتصارع الاثنان بشراسة؛ فهما متقاربان في القوة، ولكن الغلبة في النهاية كانت لجلجامش، حيث اعترف أنكيدو بقوة جلجامش، وبعد هذه الحادثة يصبح الإثنان صديقين حميمين. يحاول جلجامش دائما القيام بأعمال عظيمة ليبقى اسمه خالدا؛ فيقرر في يوم من الأيام الذهاب إلى غابة من أشجار الأرز؛ فيقطع جميع أشجارها، وليحقق هذا عليه القضاء على حارس الغابة، وهو مخلوق ضخم وقبيح اسمه خومبابا. ومن الجدير بالذكر أن غابة الأرز كان المكان الذي تعيش فيه الآلهة ويعتقد أن المكان المقصود هو غابات أرز لبنان.

الصراع في غابة الأرز
يبدأ جلجامش وأنكيدو رحلتهما نحو غابات أشجار الأرز بعد حصولهما على مباركة شمش إله الشمس الذي كان أيضا إله الحكمة عند البابليين والسومريين وهو نفس الإله الذي نشاهده في مسلة حمورابي المشهورة وهو يناول الشرائع إلى الملك حمورابي وأثناء الرحلة يرى جلجامش سلسلة من الكوابيس والأحلام لكن أنكيدو الذي كان في قرارة نفسه متخوفا من فكرة قتل حارس الغابة يطمأن جلجامش بصورة مستمرة على أن أحلامه تحمل معاني النصر والغلبة. عند وصولهما الغابة يبدآن بقطع أشجارها فيقترب منهما حارس الغابة خومبابا ويبدأ قتال عنيف ولكن الغلبة تكون لجلجامش وأنكيدو حيث يقع خومبابا على الأرض ويبدأ بالتوسل منهما كي لا يقتلاه ولكن توسله لم يكن مجديا حيث أجهز الاثنان على خومبابا وأردياه قتيلا. أثار قتل حارس الغابة غضب إلهة الماء أنليل حيث كانت أنليل هي الإلهة التي أناطت مسؤولية حراسة الغابة بخومبابا. بعد مصرع حارس الغابة الذي كان يعتبر وحشا مخيفا يبدأ اسم جلجامش بالانتشار ويطبق شهرته الآفاق فتحاول الإلهة عشتار التقرب منه بغرض الزواج من جلجامش ولكن جلجامش يرفض العرض فتشعر عشتار بالإهانة وتغضب غضبا شديدا فتطلب من والدها آنو، إله السماء، أن ينتقم لكبريائها فيقوم آنو بإرسال ثور مقدس من السماء لكن أنكيدو يتمكن من الإمساك بقرن الثور ويقوم جلجامش بالإجهاز عليه وقتله. بعد مقتل الثور المقدس يعقد الآلهة اجتماعا للنظر في كيفية معاقبة جلجامش وأنكيدو لقتلهما مخلوقا مقدسا فيقرر الآلهة على قتل أنكيدو لأنه كان من البشر أما جلجامش فكان يسري في عروقه دم الآلهة من جانب والدته التي كانت إلهة فيبدأ المرض المنزل من الآلهة بإصابة أنكيدو الصديق الحميم لجلجامش فيموت بعد فترة.

رحلة جلجامش في بحثه عن الخلود
بعد موت أنكيدو يصاب جلجامش بحزن شديد على صديقه الحميم حيث لا يريد أن يصدق حقيقة موته فيرفض أن يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع إلى أن بدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدو فيقوم جلجامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شاردا في البرية خارج أورك وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات. بالإضافة إلى حزن جلجامش على موت صديقه الحميم أنكيدو كان جلجامش في قرارة نفسه خائفا من حقيقة أنه لابد من أن يموت يوما لأنه بشر والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة. بدأ جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية. لكي يجد جلجامش سر الخلود عليه أن يجد الإنسان الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود وكان اسمه أوتنابشتم والذي يعتبره البعض مشابها جدا أن لم يكن مطابقا لشخصية نوح في الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام. وأثناء بحث جلجامش عن أوتنابشتم يلتقي بإحدى الإلهات واسمها سيدوري التي كانت آلهة النبيذ وتقوم سيدوري بتقديم مجموعة من النصائح إلى جلجامش والتي تتلخص بأن يستمتع جلجامش بما تبقى له من الحياة بدل أن يقضيها في البحث عن الخلود وأن عليه أن يشبع بطنه بأحسن المأكولات ويلبس أحسن الثياب ويحاول أن يكون سعيدا بما يملك لكن جلجامش كان مصرا على سعيه في الوصول إلى أوتنابشتم لمعرفة سر الخلود فتقوم سيدوري بإرسال جلجامش إلى الطَوَّافٌ أورشنبي، ليساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى أوتنابشتم الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود. عندما يجد جلجامش أوتنابشتم يبدأ الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمر الآلهة وقصة الطوفان هنا شبيهة جدا بقصة طوفان نوح، وقد نجى من الطوفان أوتنابشتم وزوجته فقط وقررت الآلهة منحهم الخلود. بعد أن لاحظ أوتنابشتم إصرار جلجامش في سعيه نحو الخلود قام بعرض فرصة على جلجامش ليصبح خالدا، إذا تمكن جلجامش من البقاء متيقظا دون أن يغلبه النوم لمدة 6 أيام و7 ليالي فإنه سيصل إلى الحياة الأبدية ولكن جلجامش يفشل في هذا الاختبار إلا أنه ظل يلح على أوتنابشتم وزوجته في إيجاد طريقة أخرى له كي يحصل على الخلود. تشعر زوجة أوتنابشتم بالشفقة على جلجامش فتدله على عشب سحري تحت البحر بإمكانه إرجاع الشباب إلى جلجامش بعد أن فشل مسعاه في الخلود، يغوص جلجامش في أعماق البحر في أرض الخلود دلمون (البحرين حاليا) ويتمكن من اقتلاع العشب السحري.

عودة جلجامش إلى أورك
بعد حصول جلجامش على العشب السحري الذي يعيد نضارة الشباب يقرر أن يأخذه إلى أورك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناوله ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته فرجع جلجامش إلى أورك خالي اليدين وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك فيفكر في قرارة نفسه أن عملا ضخما كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه. في النهاية تتحدث الملحمة عن موت جلجامش وحزن أورك على وفاته

ثانياً، حضارة بابل الأولى: مرتكزات فكرية مهمة

  • نشأت حضارة بابل الأولى على أعقاب الحضارة الآشورية الأولى، ولو تفقدنا السجلات التاريخية لوجدنا بداية أن مفردة "بابل" بحد ذاتها تعني بوابة الإله
  • اتسمت هذه الحضارة ببناء ما يسمى الحدائق المعلقة، وبرعوا في بناء ما يسمى بالزقورات، التي وجدنا تعريفها في موسوعة الوكيبيديا على النحو التالي:
اهتم ملوك الدولة البابلية الاوائل ببناء الزقورات المنصة الهائلة الارتفاع لتكون وسيلة لاتصال بين السماء والارض، صممت لتسهيل هبوط الالهة إلى الارض لتقصير المسافة بين السماء والارض. الزقورات بناء عالي مدرج يتألف من عدد من الطوابق يترواح عددها 7 أكبر الطوابق في الاسفل واصغر الطوابق في الاعلى التي يتوجها معبد صغير. قاعدة الزقورات مربعة او متسطيلة الشكل يتراوح ارتفاعها بين 30 إلى 50 مترا. الصعود للزقورة بثلاث سلالم..احدها محوري يتعامد مع أحد الاضلاع ويصل إلى الطابق العلوي.اما الاخران فجانبيان يلتقيان بالسلم المحوري في الطبقة الاولى. تقدم ابنية الزقورات الهائلة الحجم اوضح دليل على المستوى الفني العالي الذي بلغه فن العمارة القديم في بلاد الرافدين. في مجال استخدام الحساب والهندسة جعلت قواعد الزقورات ذات الاضلاع الطويلة بشكل متساوي منتظم دون اي فرق بين طول ضلع واخر. بعد الطبقة الاولى يصغر حجم الطبقات تتدريجيا بنسب منتظمة تشير إلى تناسق كبير. تتميز سلالمها الثلاث خاصة سلمها المحوري الذي يوصل إلى قمة الزقورة بأستقامة تامة. كان المعمار تواقا بأسلوب هندسي بارع. اهتم ملوك الدولة البابلية الاؤلى أيضا ببناء المعابد قرب الزقورات فتكون معبدا ارضيا تابعا لالزقورات او في امكنة بعيدة عن الزقورات فتكون معبدا مستقلا يكرس لعبادة اله او ملك من الملوك. تتميز معابد هذا العصر بأشكال منتظمة واضحة التفاصيل تكون اما مربعة او مستطيلة يحيط بكل منها سور ضخم تتجه اضلاعه نحو الجهات الاربع مزين من الخارج بعدد من الطلعات والدخلات. يتألف الجزء الداخلي للمعبد من ساحة مكشوفة صغيرة يحيط بها من ثلاث جوانب صف او صفان من الغرف المسقفة التي استخدمت لسكن الكهنة وخزن نذور المعبد وهداياه. هناك غرفة تضم تمثال الالهه ولذلك فأن معابد هذه الفترة كانوا يضعون تمثال الاله في مدخل المعبد مباشرة من أشهر هذه المعابد (معبد الاله انكي) في مدينة اور.
  • كانت إنجازات الحضارة مميزة في الفلك والرياضيات والطب والموسيقى
  • الخ.

السؤال المحوري: ما علاقة هذا بقصتنا عن إبراهيم؟

رأينا:

لو تفقدنا هذه المنطلقات الفكرية عن تلك الحضارات التي نشأت في أرض الزيتون (كما نزعم)، لوجدنا على الفور أن تلك الحضارات قد برعت في علم الفلك وحساب التوقيت. ليكون السؤال المحوري هو: ما سر اهتمام تلك الحضارات بالفلك والزمن؟

لو رجعنا بالسجلات التاريخية إلى ما قبل ذلك، لوجدنا أن الحضارات الآشورية والبابلية هي وريثة الثقافة الأكادية والسومرية اللتان انطلقتا أساسا من تلك المنطقة الجغرافية. ومما يعرف عن الحضارة الأقدم (السومرية) أن الآلهة الأولى هم ثلاثة جاءوا من السماء إلى الأرض، فترسمهم اللوحات الجدارية مع مركبات مجنّحة، كما كانوا يعتقدون أن هذه الآلهة الثلاث تجتمع في إله واحد، كان يسكن أحد الكواكب، وبالذات كوكب نيبرو (الذي أصبح يعرف في الحضارات اللاحقة بمردوخ).

إن ما يهمنا في هذا الطرح هو الحقيقة التاريخية التي ربما يصعب المجادلة فيها، ألا وهي أن الحضارة في بلاد الرافدين قد بدأت على النحو التالي

السومريون ← الأكديون ← الآشوريون ← البابليون

رأينا المفترى:

نحن نظن أن هذه الحضارات كانت السبّاقة إلى فكرة خط الصفر الذي يقسم الشرق عن الغرب، فهم يسكنون في بلاد لا شرقية ولا غربية، وفيها يمر خط الصفر الذي من عنده يمكن مراقبة أفلاك السماء، ومن ثم حساب التوقيت بطريقة دقيقة جدا، فنحن نظن أن القوم كانوا بارعين في مراقبة الشمس والقمر لهذه الغاية، قال تعالى:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٥﴾
(سورة يونس)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴿١٢﴾
(سورة الإسراء)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٢٠﴾
(سورة المزمل)
السؤال:

متى بدأ الاهتمام بالفلك وبمراقبة الأجرام السماوية؟

جواب مفترى:

نحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن الاهتمام بمراقبة السماء قد بدأ في الحضارة التي نشأ فيها إبراهيم، وربما لهذا (نحن لازلنا نفتري القول من عند أنفسنا) نجد السياقات القرآنية الأولى عن حياة إبراهيم تبرزه شخصا مهتما بالكواكب والشمس والقمر، قال تعالى:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿٧٦﴾ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿٧٧﴾ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿٧٨﴾ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٧٩﴾
(سورة الأنعام)

لذا سنترك الحديث عن ما وصلنا من أخبار تلك الحضارات في النقوش القديمة والكتابات والجداريات التي لازالت قائمة لأهل الاختصاص، وسنحاول تسطير رؤيتنا الخاصة حول الموضوع نفسه، زاعمين الظن أن السياقات القرآنية (كما نفهمها) تؤيد ما سنذهب إليه من أفهام مفتراة من عند أنفسنا، طارحين تساؤلاتنا حول السياقات القرآنية التي تبرز إبراهيم متفكرا في الفلك من حوله، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله، فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو العليم الحكيم – آمين.

تساؤلات

  • لماذا اهتم إبراهيم بالكواكب والشمس والقمر؟
  • لماذا ظن إبراهيم بداية أن ربه هو ذلك الكوكب؟
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿٧٦﴾
(سورة الأنعام)
  • ما هو ذلك الكوكب الذي رءاه إبراهيم؟
  • ألا يوجد في السماء كواكب كثيرة غيره؟
  • كيف لا، ويوسف قد رأى أحد عشر كوكبا؟
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴿٤﴾
(سورة يوسف)
  • كيف لا، والله قد زين السماء الدنيا بزينة الكواكب؟
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴿٦﴾
(سورة الصافات)
  • متى رأى إبراهيم ذلك الكوكب على وجه التحديد؟
  • كيف علم إبراهيم أن ذلك الكوكب قد أفل؟
  • وكيف كانت طريقة أفوله؟

افتراء خطير: نحن نظن أن لذلك كله علاقة بتلك الزيتونة التي لا شرقية ولا غربية:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٣٥﴾
(سورة النور)
  • لماذا انتقل إبراهيم بعد ذلك مباشرة إلى القمر؟
  • كيف رءاه؟
  • متى رءاه؟
  • كيف أفل؟
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿٧٧﴾
(سورة الأنعام)
  • لماذا انتقل بعد ذلك إلى الشمس؟
  • متى رأى إبراهيم الشمس بازغة؟
  • كيف رءاها بازغة؟
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿٧٨﴾
(سورة الأنعام)
  • لماذا توقف إبراهيم عند هذا الحد؟
  • لِم لم يتوقف عن اثنتين فقط؟
  • لم لم ينتقل إلى كينونة رابعة ليتفقدها كما فعل مع ذاك الكوكب والشمس والقمر؟
  • السؤال: لماذا ثلاثة (كوكب، الشمس، القمر) فقط؟
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿٧٦﴾ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿٧٧﴾ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿٧٨﴾ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٧٩﴾
(سورة الأنعام)
  • كيف وجّه إبراهيم بعد ذلك وجهه مباشرة للذي فطر السموات والأرض حنيفا؟
  • ما علاقة هذا بهجرة إبراهيم (وذهابه) إلى ربه؟
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٢٦﴾
(سورة العنكبوت)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿٩٩﴾
(سورة الصافات)
  • الخ

إبراهيم: باب الطفولة

لعلنا بحاجة للخوض في قصة حياة هذا النبي الكريم منذ بدايتها، محاولين التعرف أكثر على تفاصيل حياته في محطاتها المختلفة، مبتدئين النقاش من طفولة هذا النبي الكريم، طارحين التساؤلات التالية:

  • من هو إبراهيم هذا؟
  • لماذا سُمي بإبراهيم؟
  • من هو أبوه؟
  • من هي أمه؟
  • من هم قومه؟
  • متى عاش هذا النبي الكريم؟
  • ما سر اهتمامه بربه؟
  • كيف بدأ رحلته بالبحث عن ربه؟
  • الخ.

دعنا نحاول الإجابة على هذه التساؤلات متسلحين بالآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن سيرة حياة هذا النبي الكريم، منطلقين من المعضلة التالية: إبراهيم يتبرأ من أبيه وفي الوقت ذاته يستغفر لوالديه، كما نستنبط ذلك من التضارب الظاهري في السياقيين القرآنيين التاليين:

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴿١١٤﴾
(سورة التوبة)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿٣٩﴾ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّlْ دُعَاءِ ﴿٤٠﴾ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴿٤١﴾
(سورة إبراهيم)

المعضلة: التبرؤ من الأب والاستغفار للوالدين

السؤال المربك:

كيف بإبراهيم يتبرأ من أبيه (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وفي الوقت ذاته نجده يستغفر الله لوالديه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)؟

النقاش والحل المفترى: الفرق بين "الأب" و "الوالد"

النقاش

نجد أولا أن إبراهيم قد تبرأ من أبيه الذي كان يتخذ الأصنام آلهة:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٧٤﴾
(سورة الأنعام)

وحصل أن تبرأ إبراهيم منه بعد أن تبين له أنه عدو لله:

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴿١١٤﴾
(سورة التوبة)

ولو تفقدنا معنى عبارة "فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ"، لوجدنا (نحن نفتري القول) بأن مصدر التبيان كان إلهيا، فالله هو من بيّن لإبراهيم أن أباه هذا عدو لله. وليس أدل على ذلك – برأينا- مما حصل مع الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية على عروشها، فما حصل له التبيان إلا من مصدر إلهي:

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٥٩﴾
(سورة البقرة)
نتيجة مهمة جدا:

يسلم إبراهيم وجهه لله، يهديه الله إلى صراط مستقيم، يحاول إبراهيم ثني أبيه آزر عن اتخاذ الأصنام آلهة، فلم يفلح، يعد إبراهيم أباه بالاستغفار له، يتبين لإبراهيم (من مصدر إلهي) بأن أباه هذا عدو لله، فيتبرأ إبراهيم منه، أليس كذلك؟

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴿١١٤﴾
(سورة التوبة)

إن صح منطقنا المفترى هذا، فإننا نجد أنفسنا في معضلة كبيرة (أي ورطة) مع السياق القرآني التالية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿٣٩﴾ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴿٤٠﴾ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴿٤١﴾
(سورة إبراهيم)

المعضلة: هنا نجد أن إبراهيم يخاطب ربه على الكبر بعد أن وهب له إسماعيل وإسحاق (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ)، فيطلب من الله أن يجعله من مقيم الصلاة ومن ذريته (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي)، فيطلب المغفرة في الوقت ذاته لوالديه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ).

السؤال المربك جدا:

كيف بإبراهيم في هذا العمر (أي على الكبر) حيث تبين له – لا شك عندنا- من ذي قبل أن أباه عدو لله، فيتبرأ منه، وهو الآن يطلب المغفرة لوالديه؟ وبكلمات أخرى نحن نسأل: ألم يتبرأ إبراهيم من أبيه هذا من ذي قبل بعد أن تبين له أنه عدو لله؟ فلم إذن يعود على الكبر ليطلب المغفرة لوالديه؟ّ!

السؤال مرة أخرى:

نحن نظن أن إبراهيم قد تبرأ من أبيه الذي تبين له أنه عدو لله في وقت مبكر من حياته، ونحن نؤمن أن إبراهيم قد هجر أباه مليّا كما طلب هو بنفسه من إبراهيم:

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴿٤٦﴾
(سورة مريم)

ونحن نؤمن أنه قد تبين لإبراهيم بعد ذلك مباشرة أن أباه هذا عدو لله، فلم بعد هذا كله (نحن نسأل) يعود إبراهيم على الكبر ليطلب المغفرة لوالديه؟

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿٣٩﴾ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴿٤٠﴾ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴿٤١﴾
(سورة إبراهيم)
رأينا المفترى:

للخروج من هذا التضارب الظاهري، نجد لزاما علينا البحث عن هوية الأب الذي تبرأ إبراهيم منه مقابل هوية الوالد الذي طلب إبراهيم المغفرة له، مفترين الظن بأن أب إبراهيم يختلف عن والد إبراهيم.

افتراء من عند أنفسنا خطير جدا:

هناك فرق بين أب إبراهيم ووالد إبراهيم. انتهى.

السؤال:

أين الدليل على زعمك المفترى أن أب إبراهيم الذي تبرأ منه يختلف عن والد إبراهيم الذي طلب المغفرة له على الكبر؟ يسأل صاحبنا مستغربا.

جواب مفترى:

تعرضنا لهذه الجزئية في الجزء الخامس من سلسلة مقالاتنا لماذا قدم نبي الله لوط بناته بدلا من ضيوفه؟ وفي سلسلة مقالاتنا عن قصة يوسف عندما تعرضنا لقوله تعالى:

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿١٠٠﴾
(سورة يوسف)

فحاولنا حينها التفريق بين مفردة أَبَوَيْهِ ومفردة وَالِدَيْهِ كما تردا في النص القرآني، فزعمنا الفهم بأن مفردة "أَبَوَيْهِ" يمكن أن تحمل المعنى بأن يكون الاثنان مذكر (أي أب وأب) وليس فقط مذكر مع مؤنث (أي أب وأم)،ولكن مفردة والديه تعني بالضرورة أن يكون أحدهما مذكر (أب) والآخر مؤنث (أم)

الدليل

عند دراستنا للسياقات القرآنية الكثيرة حول مفردتي الأبوين والوالدين، وجدنا أن الحديث عن الأب والأم معاً يرد في النص القرآني بصيغة "الوالدين"، فالأم لا محالة هي أحد الوالدين، وذلك لأن الوالد هو الذي يلد:

وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴿٣﴾
(سورة البلد)

وانظر – إن شئت- في السياقات القرآنية العديدة التي تتحدث عن الوالدين، لترى كيف أن الأم هي طرف في هذا الحديث:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴿٨٣﴾
(سورة البقرة)

[... وغير ذلك من الآيات العديدة عن الوالدين ...]

فالأم هي والدة:

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٢٣٣﴾
(سورة البقرة)

لذا جاء حديث عيسى بن مريم عن والدته:

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُdُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا... ﴿١١٠﴾
(سورة المائدة)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴿٣٢﴾
(سورة مريم)

والأب هو كذلك والد:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿٣٣﴾
(سورة لقمان)
لتكون النتيجة المفتراة الآن هي:

الوالد هو الذي يلد

السؤال:

هل بالضرورة أن يكون الأب هو الذي يلد؟

رأينا:

كلا. فالأب ليس بالضرورة أن يكون الوالد المباشر الذي يلد، بدليل أننا كلنا ننتمي لآدم وزوجه على أساس أنهما أبوينا وليس والدينا:

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٢٧﴾
(سورة الأعراف)

فنحن من ذرية آدم وزوجه لأنهم لم يلدونا مباشرة، فهم إذن أبوينا (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ). ولو جئنا مباشرة من آدم وزوجه لأصبحا (نحن نفتري القول) والدينا.

الدليل

هذا يعقوب يقول ليوسف بملء فيه من هم أبويه:

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٦﴾
(سورة يوسف)

فيعقوب إذاً يثبت ليوسف بأن إبراهيم وإسحق هما أبويه (وليس والديه)، أليس كذلك؟

نتيجة مفتراة:

انظر خط السلالة هذه

إبراهيم (أب) ← إسحق (أب) ← يعقوب ← يوسف

... كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ...
السؤال:

ما علاقتهم جميعا بيوسف؟

افتراء (1): إبراهيم هو أب ليوسف لأنه لم يلده مباشرة

افتراء (2): إسحق هو أب ليوسف لأنه لم يلده مباشرة

افتراء (3): يعقوب هو والد يوسف لأنه هو من ولده مباشرة

نتيجة مفتراة خطيرة جدا:

نحن نفتري القول بأن الأبوين هما (بمصطلحات قومنا الدارجة) الوالدان غير المباشران.

تبعات هذا الظن الخطيرة

لو تفقدنا الآية الكريمة التالية، لربما خرجنا بتشريع قد يكون غير مسبوق. دعنا نقرأ الآية أولا:

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴿٢٢﴾
(سورة النساء)
السؤال:

هل هذا النهي مقتصر على زوجة الأب المباشر (أي الوالد)؟ وماذا عن ما نكح الجد؟ أليس الجد هو أب؟ وماذا عن ما نكح العم؟ أليس العم هو أب؟! من يدري؟

السؤال المربك:

إذا كان الأبوان هما الوالد والوالدة، فكيف يتساويان في حصة الميراث (وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ)؟ أليس من المفترض أن يكون للوالد ضعف ما للوالدة؟

من يدري؟!!!

عود على بدء

دعنا نترك أمر التشريع لأصحاب العمائم البيضاء والسوداء فهم الذين سطّروا العقائد كما أرادوها للناس اللذين آثروا على الدوام الالتزام بما سُطِّر لهم دون مسائلة أو مناقشة، لأنهم نسوا ما جاء في قوله تعالى:

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ﴿٩٠﴾ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ﴿٩١﴾ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٩٢﴾ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٩٣﴾
(سورة الحجر)

لنعود إلى صلب النقاش هنا بالافتراءات التالية عن إبراهيم:

افتراء (1): كان الذي تبرأ منه إبراهيم هو أبوه، لذا فهو فليس والده (أي الأب الأول له الذي ولده) وإنما قد يكون واحد من السلالة (كأبيه الثاني أو الثالث أو حتى عمه).

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٧٤﴾
(سورة الأنعام)
جواب مفترى من عند أنفسنا:

لما كنا نظن أن هناك أكثر من أب لإبراهيم، كان أحدهم هو آزر هذا الذي تبرأ منه.

افتراء (2): كان الذي استغفر لهما إبراهيم على الكبر هما والداه (أي أبوه وأمه المباشرين)، ليكون الافتراء الآخر الآن هو أن هناك والد واحد لإبراهيم هو الذي ولده، وهناك والده واحدة لإبراهيم هي التي ولدته، وهما والداه اللذان استغفر لهما على الكبر:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿٣٩﴾ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴿٤٠﴾ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴿٤١﴾
(سورة إبراهيم)

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: جاء إبراهيم من والدين هما أمه وأبوه المباشرين، وما أن كبر إبراهيم حتى وجد نفسه في كنف أبيه (أي والده غير المباشر)، وذلك (نحن نتخيل) لأن والديه كانا قد فارقا الحياة منذ زمن. فنشأ إبراهيم يتم الوالدين (كمثل محمد الذي نشأ أيضا يتيم الوالدين)، فعاش إبراهيم في كنف أبيه الذي رباه، كما عاش محمد في كنف أبيه (أي جده عبد المطلب بعد وفاه والده عبد الله) ومن ثم في كنف أبيه الآخر (عمه أبو طالب بعد موت جده عبد المطلب) كما تقول الروايات.

إبراهيم الفتى: مواجهة قومه

باب: إبراهيم الفتى

كان هذا الأب الذي تربى إبراهيم في كنفه (نحن لازلنا نتخيل) رجل ذو شأن في قومه، على درجة من العلم:

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴿٤٢﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴿٤٣﴾ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴿٤٤﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴿٤٥﴾
(سورة مريم)

[... سرد قصة مواجهة إبراهيم لقومه وتحطيمه الأصنام ...]

السؤال:

لماذا سنحت الفرصة لإبراهيم للتنكيل بأصنام القوم في غيابهم؟

جواب مفترى:

لأن إبراهيم كان فتى يعمل في ذلك المعبد مع أبيه آزر (المسئول الأول عن المعبد)

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نشأ إبراهيم بعد ولادته يتم الوالدين، فتربى في كنف والده (أي أبيه غير المباشر). وكان هذا الأب يتخذ أصناما لا تسمع ولا تعقل آلهة من دون الله، وفي الوقت ذاته كان يعبد الشيطان. وكان هذا الأب (آزر) هو المسئول الأول المباشر عن المعبد، ولما كان إبراهيم فتى، كان يقوم هو أيضا (ربما بتكليف من والده آزر) هذا على خدمة المعبد. فنشأ إبراهيم في هذه البيئة المشحونة إيمانيا، المنحرفة عقائديا، ولما كان هذا الفتى ذو قلب سليم:

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴿٨٣﴾ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٤﴾
(سورة الصافات)

لم يتقبل ما كان يعبد قومه من دون الله (ربما كما فعل محمد عندما وجد قومه يتخذون أصناما آلهة من دون الله)، فبدأ يتشكك بما يفعله القوم:

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴿٨٥﴾ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ﴿٨٦﴾ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٨٧﴾ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ﴿٨٨﴾ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴿٨٩﴾ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴿٩٠﴾ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴿٩١﴾ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ ﴿٩٢﴾ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴿٩٣﴾ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴿٩٤﴾ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴿٩٥﴾ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴿٩٦﴾ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴿٩٧﴾ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ﴿٩٨﴾ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿٩٩﴾
(سورة الصافات)

عقيدة القوم والبحث عن الحقيقة

التساؤلات:

  • ماذا كانت عقيدة القوم؟
  • لماذا شكك إبراهيم بعقيدة قومه؟
  • كيف نظر إبراهيم نظرة في النجوم؟
  • ولماذا نظر نظرة في النجوم؟
  • وماذا كانت تبعات تلك النظرة؟
  • الخ.
افتراء خطير جدا جدا:

نحن نظن أن عقيدة القوم كانت قائمة على مبدأ ثلاثية الآلهة

تفنيد الفكر السائد

لعل الغالبية من الناس (خاصتهم وعامتهم) يفهمون السياق القرآني الذي يتحدث عن اتخاذ إبراهيم هذه الكينونات آلهة من باب بحث إبراهيم عن ربه الحقيقي، لكنهم لا يتجاوزن ذلك في تفكيرهم، فلا يطرحون تساؤلاتنا السابقة عن هذه الكينونات الثلاثة على وجه التحديد من حيث العدد والطبيعة. فلا نجد فيما سطرته أقلامهم سببا عن تفكر إبراهيم بهذه الكينونات بالذات، أو سببا عن عدم تفكر إبراهيم في غيرها، ربما ظانين أن ذلك يقع في باب المصادفة.

وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- فيما سطرته أقلام أهل الرواية عما تنقلوه عن أهل الدراية في بطون واحدة من أمهات كتب التفسير (تفسير القرطبي) عن تفسيرهم هذه الحادثة القرآنية الخاصة بإبراهيم:

فلما جن عليه الليل أي ستره بظلمته , ومنه الجنة والجنة والجنة والجنين والمجن والجن كله بمعنى الستر . وجنان الليل ادلهمامه وستره . قال الشاعر : ولولا جنان الليل أدرك ركضنا بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب ويقال : جنون الليل أيضا . ويقال : جنه الليل وأجنه الليل لغتان . رأى كوكبا هذه قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه . فقيل : رأى ذلك من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب . وقيل : لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس فرأى الإبل والخيل والغنم فقال : لا بد لها من رب . ورأى المشتري أو الزهرة ثم القمر ثم الشمس , وكان هذا في آخر الشهر . قال محمد بن إسحاق : وكان ابن خمس عشرة سنة . وقيل : ابن سبع سنين . وقيل : لما حاج نمروذا كان ابن سبع عشرة سنة . قال هذا ربي اختلف في معناه على أقوال ; فقيل : كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة ; وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان . فاستدل قائلو هذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : " فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي " فعبده حتى غاب عنه , وكذلك الشمس والقمر ; فلما تم نظره قال : " إني بريء مما تشركون " [ الأنعام : 78 ] . واستدل بالأفول ; لأنه أظهر الآيات على الحدوث . وقال قوم : هذا لا يصح ; وقالوا : غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف , ومن كل معبود سواه بريء . قالوا : وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل , وأراه ملكوته ليكون من الموقنين , ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة , بل عرف الرب أول النظر . قال الزجاج : هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قاله ; وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال : " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " [ إبراهيم : 35 ] وقال جل وعز : " إذ جاء ربه بقلب سليم " [ الصافات : 84 ] أي لم يشرك به قط . قال : والجواب عندي أنه قال " هذا ربي " على قولكم ; لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر ; ونظير هذا قوله تعالى : " أين شركائي " [ النحل : 27 ] وهو جل وعلا واحد لا شريك له . والمعنى : أين شركائي على قولكم . وقيل : لما خرج إبراهيم من السرب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه ; فظن أنه ضوءه قال : " هذا ربي " أي بأنه يتراءى لي نوره .

الحنيفية ونفي الشرك

رأينا المفترى والخطير جدا:

نحن نظن أن من كان حنيفا هو المقابل المعاكس لمن كان من المشركين، لتكون النتيجة التي نحاول افتراءها هي أن إبراهيم كان حنيفا ولم يكن من المشركين. ولو تفقدنا السياقات القرآنية الخاصة بإبراهيم بهذه الجزئية لوجدناها جميعا تنفي عن إبراهيم الشرك، قال تعالى:

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٣٥﴾
(سورة البقرة)

تقاطعات بين عقيدة قوم إبراهيم والنصرانية

[... سرد المقارنات بين عقيدة قوم إبراهيم وعقيدة النصارى واليهود ...]

نتيجة مفتراة خطيرة جدا:

لقد كان إبراهيم (نحن لازلنا نتخيل) أول من ثار على عقيدة اتخاذ آلهة من دون الله.

تخيلات مفتراة ربما غير مسبوقة عن قصة إبراهيم: كان قوم إبراهيم على عقيدة عبادة من هم من دون الله آلهة، فكانوا مشركين، وكانت عقيدتهم مبنية على مبدأ أن الإله ثلاثة (الشمس والقمر وكوكب). نشأ إبراهيم في تلك البيئة المنحرفة عقائديا. لكن لما كان إبراهيم ذو قلب سليم، حاول البحث عن الحقيقة، لذا أخذ يتفقد ما يعبده قومه شيئا فشيئا، فتفقد الآلهة الثلاثة التي يعبدها قومه من دون الله الواحد تلو الآخر، فبدا بالإله الأصغر، ألا وهو ذاك الكوكب:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿٧٦﴾
(سورة الأنعام)

ثم انتقل إلى الإله الذي يليه وهو القمر:

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿٧٧﴾
(سورة الأنعام)

ثم انتهى إلى الإله الأكبر:

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿٧٨﴾
(سورة الأنعام)

وفي نهاية تلك المحطة بالذات، بان لإبراهيم أن هذه ليست آلهة تستحق العبادة من دون الله، لذا تبرأ إبراهيم من شرك قومه أجمعين (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ).

تقاطعات بين يوسف وإبراهيم: كوكب الشمس والقمر

لو تفقدنا السياقات القرآنية الخاصة بإبراهيم لوجدنا أن هذه الكينونات الثلاثة هي التي نبذها إبراهيم كآلهة من دون الله:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿٧٦﴾ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿٧٧﴾ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿٧٨﴾
(سورة الأنعام)

ولو رجعنا إلى تفاصيل قصة يوسف، لوجدنا أن هذه الكينونات كانت حاضرة في رؤياه التي قصها على والده منذ طفولته:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴿٤﴾
(سورة يوسف)
السؤال:

لماذا نجد هذه الكينونات حاضرة في الموقفين؟

هذا ما سنتابع النقاش حوله في المرة القادمة، فالله وحده أسأل أن يأذن لي الإحاطة بشيء من علمه فيها لا ينبغي لغيري، إنه هو العليم الحكيم، وأدعوه وحده أن يكشف الوقر من أذني والأكّنة عن قلبي والغشاوة عن بصري، فأكون أول من يرى آياته فيعرفها، فأكون من الموقنين، وأسأله وحده أن يعلمني الحق الذي أقوله فلا أفتري عليه الكذب، إنه هو السميع المجيب- آمين


المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح

2 أيلول 2015

الهوامش

  1. قصة يونس - الجزء 25 (1)
أحدث أقدم