قصة ذي القرنين - قصة يأجوج ومأجوج الجزء الأول


قصة ذي القرنين
قصة يأجوج ومأجوج
قصة السد المزعوم: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
قصة الردم الحقيقي: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
التساؤلات
-  من هم يأجوج ومأجوج؟
-  أين مكان تواجدهم؟
-  متى كان زمان تواجدهم؟
-  هل سيخرجون مرة ثانية؟
-  ومتى سيكون ذلك؟
-  من هو ذو القرنين؟
-  لم جاء ذكره في كتاب الله؟
-  لماذا سمي بذي القرنين؟
-  ما هي الرحلات التي قام بها؟
-  هل قام ذو القرنين ببناء سد كما طلب القوم؟
-  وأين هو مكان ذاك السد في جغرافية العالم (إن صح ما زعموا)؟
-  الخ
حاولنا في مقالات سابقة لنا أن نتعرض لهذه القصة القرآنية من بعض جوانبها، وكان ذلك لغرض إثبات أو تفنيد قضية فكرية محددة بذاتها تخص النقاش الذي كان دائر حينئذ. أما في هذه السلسة الجديدة من المقالات فسنحاول (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) أن نخوض في تفاصيل هذه القصة بذاتها، محاولين أن نقدم جملة من الافتراءات التي هي لا شك من عند أنفسنا والتي نظن أنها ربما تسعف في فهم القصة من جديد، مشدّدين في الوقت ذاته على موقفنا العقائدي الثابت الذي تعرضنا له في مقالتنا تحت عنوان جدلية الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم والمتمثل بحتمية قراءة النص القرآني – في نظرنا- على الحقيقة، وذلك لخلو القران الكريم بأكمله (في ظننا) من المجازات. لذا سنحاول أن نقرأ الآيات الكريمة الخاصة بالقصة لنفهم مفرداتها على الحقيقة دون اللجوء إلى المجازات والاستعارات التي نظن أنها غالبا ما شوهت التفاسير للنص القرآني، وبالتالي أخذت المفسرين بعيدا عن اكتشاف الحقائق التي يجليها النص القرآني. وسنقدم المثال هنا من قصة ذي القرنين التي وردت في سورة الكهف في الآيات الكريمة التالية:
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)  
السؤال الأول: هل يمكن أن نثق بعلم من سبقنا ممن تصدوا لتفسير هذه الآيات الكريمة الخاصة بهذه القصة؟
جواب: لا أظن ذلك.
السؤال: لماذا؟
رأينا: نحن نعتقد جازمين بأنه من أجل أن نثق بعلم من سبقنا من أهل الدراية الذي نقله  لنا أهل الرواية فلابد أن يثبت لنا بأنه يقع في باب العلم في المقام الأول. أما إن ثبت لنا بالدليل القاطع أنه "كلام" لا يرقى إلى درجة أن يكون علما، فذاك إذن تهريج يمكن أن يتسلى به الناس في مجالس الشتاء الطويلة حول نار أجدادهم العتيقة، أو أن يتسامروا به في ليل الصيف الدافئ على ضوء القمر ليتذاكروا الأشعار التي قيلت فيه والتي هي من صنعة الذين يتبعهم الغاوون. أما من أراد الخوض في كتاب الله فسيكون لزاما عليه أن يأتي بالبرهان على كل افتراء يسوقه من عند نفسه:
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111)
أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24)
وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
وذلك البرهان يتحصل (نحن نؤمن) بواحدة من طريقين: إما بالعلم من الكتاب أو بأثارة من علم:
قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4)
وبخلاف ذلك يبقى الحديث كله محض افتراء كذب على الله، يقع في باب الظن وما تهوى الأنفس:
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)
وبالتالي فهو مما يقع في دائرة علم الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)
السؤال: لماذا هذه المقدمة النارية الهجومية على علماء الأمة؟ كما ذكّرنا أحد القراء الأكارم الذي ظن أننا بأسلوبنا هذا إنما نشن حربا على علماء الأمة. وربما يزيد صاحبنا في السؤال مستغربا: ألا تعلم أن لحوم علماء الأمة مسمومة؟ ألا تظن بأن القدح في العلماء ربما ينقل الشخص إلى دائرة الشبهات؟ ثم، ما علاقة هذا كله بقصة يأجوج ومأجوج؟
رأينا: نحن نكاد نجزم الظن بأن ما وصلنا حول هذه الجزئية من "علم" من عند من سبقنا من أهل الدراية كما نقله لنا أهل الرواية إنما يقع – برأينا- في دائرة الأماني والظنون وذلك لأنه يخلو (نحن نفتري القول) من الدليل من الكتاب ليثبته أو أثارة من علم لتسنده.
الدليل
لنبدأ النبش بما جاءنا عن هذه القصة القرآنية من عند من سبقنا من أهل الدراية كما نقله لنا أهل الرواية، فإليك عزيزي القارئ (خاصة من ظن بأننا نتجنى على علمائه الأجلاء) تفسير القصة القرآنية كما جاءت في الطبري مثلا، راجيا أن تقرأ الكلام بنفسك لا أن تترك الآخرين يقرءونه ثم ينقلون لك منه ما يختارون ويكتمون عنك ما يريدون:
وقوله : { إن يأجوج ومأجوج } اختلفت القراء في قراءة قوله { إن يأجوج ومأجوج } فقرأت القراء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم : " إن يأجوج ومأجوج " بغير همز على فاعول من يججت ومججت , وجعلوا الألفين فيهما زائدتين , غير عاصم بن أبي النجود والأعرج , فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا , وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام , وكأنهما جعلا يأجوج : يفعول من أججت , ومأجوج : مفعول . والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا , أن { ياجوج وماجوج } بألف بغير همز لإجماع الحجة من القراء عليه , وأنه الكلام المعروف على ألسن العرب ; ومنه قول رؤبة بن العجاج . لو أن ياجوج وماجوج معا وعاد عادوا واستجاشوا تبعا وهم أمتان من وراء السد .
ومأجوج مفسدون في
وقوله : { مفسدون في الأرض } اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين , فقال بعضهم : كانوا يأكلون الناس . ذكر من قال ذلك : 17582 - حدثنا أحمد بن الوليد الرملي , قال : ثنا إبراهيم بن أيوب الخوزاني , قال : ثنا الوليد بن مسلم , قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في قوله { إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } قال : كانوا يأكلون الناس . وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض , لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون . ذكر من قال ذلك , وذكر صفة اتباع ذي القرنين الأسباب التي ذكرها الله في هذه الآية , وذكر سبب بنائه للردم : 17583 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثنا محمد بن إسحاق , قال : ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب , ممن قد أسلم , مما توارثوا من علم ذي القرنين , أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني , من ولد يونن بن يافث بن نوح . 17584 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثني محمد بن إسحاق , عن ثور بن يزيد , عن خالد بن معدان الكلاعي , وكان خالد رجلا قد أدرك الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال : " ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب " قال خالد : وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول : يا ذا القرنين , فقال : اللهم غفرا , أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء , حتى تسموا بأسماء الملائكة ؟ فإن كان رسول الله قال ذلك , فالحق ما قال , والباطل ما خالفه . 17585 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثني محمد بن إسحاق , قال : فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني , وكان له علم بالأحاديث الأول , أنه كان يقول : ذو القرنين رجل من الروم . ابن عجوز من عجائزهم , ليس لها ولد غيره , وكان اسمه الإسكندر . وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس , فلما بلغ وكان عبدا صالحا , قال الله عز وجل له : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض , وهي أمم مختلفة ألسنتهم , وهم جميع أهل الأرض ; ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله , ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله , وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج . فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض : فأمة عند مغرب الشمس , يقال لها : ناسك . وأما الأخرى : فعند مطلعها يقال لها : منسك . وأما اللتان بينهما عرض الأرض , فأمة في قطر الأرض الأيمن , يقال لها : هاويل . وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر , فأمة يقال لها : تاويل ; فلما قال الله له ذلك , قال له ذو القرنين : إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت , فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها , بأي قوة أكابرهم , وبأي جمع أكاثرهم , وبأي حيلة أكايدهم , وبأي صبر أقاسيهم , وبأي لسان أناطقهم , وكيف لي بأن أفقه لغاتهم , وبأي سمع أعي قولهم , وبأي بصر أنفذهم , وبأي حجة أخاصمهم , وبأي قلب أعقل عنهم , وبأي حكمة أدبر أمرهم , وبأي قسط أعدل بينهم , وبأي حلم أصابرهم , وبأي معرفة أفصل بينهم , وبأي علم أتقن أمورهم , وبأي يد أسطو عليهم , وبأي رجل أطؤهم , وبأي طاقة أخصمهم , وبأي جند أقاتلهم , وبأي رفق أستألفهم , فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم , ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم , وأنت الرب الرحيم , الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها , ولا يحملها إلا طاقتها , ولا يعنتها ولا يفدحها , بل أنت ترأفها وترحمها . قال الله عز وجل : إني سأطوقك ما حملتك , أشرح لك صدرك , فيسع كل شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء , وأبسط لك لسانك , فتنطق بكل شيء , وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء , وأمد لك بصرك , فتنفذ كل شيء , وأدبر لك أمرك فتتقن كل شيء , وأحصي لك فلا يفوتك شيء , وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء , وأشد لك ظهرك , فلا يهدك شيء , وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء , وأشد لك قلبك فلا يروعك شيء , وأسخر لك النور والظلمة , فأجعلهما جندا من جنودك , يهديك النور أمامك , وتحوطك الظلمة من ورائك , وأشد لك عقلك فلا يهولك شيء , وأبسط لك من بين يديك , فتسطو فوق كل شيء , وأشد لك وطأتك , فتهد كل شيء , وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء . ولما قيل له ذلك , انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس , فلما بلغهم , وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله , وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله , وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة , وقلوبا متفرقة ; فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة , فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها , فأحاطتهم من كل مكان , وحاشتهم حتى جمعتهم في مكان واحد , ثم أخذ عليهم بالنور , فدعاهم إلى الله وإلى عبادته , فمنهم من آمن له , ومنهم من صد , فعمد إلى الذين تولوا عنه , فأدخل عليهم الظلمة . فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم , ودخلت في بيوتهم ودورهم , وغشيتهم من فوقهم , ومن تحتهم ومن كل جانب منهم , فماجوا فيها وتحيروا ; فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد , فكشفها عنهم وأخذهم عنوة , فدخلوا في دعوته , فجند من أهل المغرب أمما عظيمة , فجعلهم جندا واحدا , ثم انطلق بهم يقودهم , والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم , والنور أمامهم يقودهم ويدلهم , وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى , وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل , وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره , فلا يخطئ إذا ائتمر , وإذا عمل عملا أتقنه . فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه , فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال , فنظمها في ساعة , ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود , فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها , ثم دفع إلى كل إنسان لوحا فلا يكرثه حمله , فلم يزل كذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل , فعمل فيها كعمله في ناسك . فلما فرغ منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس , فعمل فيها وجند منها جنودا , كفعله في الأمتين اللتين قبلها , ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى , وهو يريد تأويل وهي الأمة التي بحيال هاويل , وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله ; فلما بلغها عمل فيها , وجند منها كفعله فيما قبلها ; فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجن وسائر الناس , ويأجوج ومأجوج ; فلما كان في بعض الطريق ما يلي منقطع الترك نحو المشرق , قالت له أمة من الإنس صالحة : يا ذا القرنين , إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله , وكثير منهم مشابه للإنس , وهم أشباه البهائم , يأكلون العشب , ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترسها السباع , ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب , وكل ذي روح ما خلق الله في الأرض , وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد , ولا يزداد كزيادتهم , ولا يكثر ككثرتهم , فإن كانت لهم مدة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم , فلا شك أنهم سيملئون الأرض , ويجلون أهلها عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها , وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم , وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين { فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما } أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم , وأعلم علمهم , وأقيس ما بين جبليهم . ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم , فوجدهم على مقدار واحد , ذكرهم وأنثاهم , مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا , لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا , وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها , وأحناك كأحناك الإبل قوة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل , أو كقضم الفحل المسن , أو الفرس القوي , وهم هلب , عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم , وما يتقون به الحر والبرد إذا أصابهم ; ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان : إحداهما وبرة ظهرها وبطنها , والأخرى زغبة ظهرها وبطنها , تسعانه إذا لبسهما , يلتحف إحداهما , ويفترش الأخرى , ويصيف في إحداهما , ويشتي في الأخرى , وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه , ومنقطع عمره , وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد , ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد , فإذا كان ذلك أيقن بالموت , وهم يرزقون التنين أيام الربيع , ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه , فيقذفون منه كل سنة بواحد , فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل , فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم , فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا , ورئي أثره عليهم , فدرت عليهم الإناث , وشبقت منهم الرجال الذكور , وإذا أخطأهم هزلوا وأجدبوا , وجفرت الذكور , وحالت الإناث , وتبين أثر ذلك عليهم , وهم يتداعون تداعي الحمام , ويعوون عواء الكلاب , ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم . فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين , فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك ما يلي مشرق الشمس , فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ ; فلما أنشأ في عمله , حفر له أساسا حتى بلغ الماء , ثم جعل عرضه خمسين فرسخا , وجعل حشوه الصخور , وطينه النحاس , يذاب ثم يصب عليه , فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض , ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب , وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر , فصار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد ; فلما فرغ منه وأحكمه . انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن ; فبينا هو يسير , دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون , فوجد أمة مقسطة مقتصدة , يقسمون بالسوية , ويحكمون بالعدل , ويتآسون ويتراحمون , حالهم واحدة , وكلمتهم واحدة , وأخلاقهم مشتبهة , وطريقتهم مستقيمة , وقلوبهم متألفة , وسيرتهم حسنة , وقبورهم بأبواب بيوتهم , وليس على بيوتهم أبواب , وليس عليهم أمراء , وليس بينهم قضاة , وليس بينهم أغنياء , ولا ملوك , ولا أشراف , ولا يتفاوتون , ولا يتفاضلون , ولا يختلفون , ولا يتنازعون , ولا يستبون , ولا يقتتلون , ولا يقحطون , ولا يحردون , ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس , وهم أطول الناس أعمارا , وليس فيهم مسكين , ولا فقير , ولا فظ , ولا غليظ ; فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم , عجب منه ! وقال : أخبروني , أيها القوم خبركم , فإني قد أحصيت الأرض كلها برها وبحرها , وشرقها وغربها , ونورها وظلمتها , فلم أجد مثلكم , فأخبروني خبركم ; قالوا : نعم , فسلنا عما تريد , قال : أخبروني , ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت , ولا يخرج ذكره من قلوبنا ; قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب ؟ قالوا : ليس فينا متهم , وليس منا إلا أمين مؤتمن ; قال : فما لكم ليس عليكم أمراء ؟ قالوا : لا نتظالم ; قال : فما بالكم ليس فيكم حكام ؟ قالوا : لا نختصم ; قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر ; قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نتكابر ; قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ; قال : فما بالكم لا تستبون . ولا تقتتلون ؟ قالوا : من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم , وسسنا أنفسنا بالأحلام ; قال : فما بالكم كلمتكم واحدة , وطريقتكم مستقيمة مستوية ؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب , ولا نتخادع , ولا ينتاب بعضنا بعضا ; قال : فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم , واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صحت صدورنا , فنزع بذلك الغل والحسد من قلوبنا ; قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير ؟ قالوا : من قبل أنا نقتسم بالسوية ; قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع ; قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا ؟ قالوا : من قبل أنا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل ; قال : فما بالكم لا تقحطون ؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار ; قال : فما بالكم لا تحردون ؟ قالوا : من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا , وأحببناه وحرصنا عليه , فعرينا منه ; قال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس ؟ قالوا : لا نتوكل على غير الله , ولا نعمل بالأنواء والنجوم ; قال : حدثوني أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون ؟ قالوا : نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم , ويواسون فقراءهم , ويعفون عمن ظلمهم , ويحسنون إلى من أساء إليهم , ويحلمون عمن جهل عليهم , ويستغفرون لمن سبهم , ويصلون أرحامهم , ويؤدون أماناتهم , ويحفظون وقتهم لصلاتهم , ويوفون بعهودهم , ويصدقون في مواعيدهم , ولا يرغبون عن أكفائهم , ولا يستنكفون عن أقاربهم , فأصلح الله لهم بذلك أمرهم , وحفظهم ما كانوا أحياء , وكان حقا على الله أن يحفظهم في تركتهم . 17586 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , عن أبي رافع , عن أبي هريرة , عن نبي الله صلى الله عليه وسلم : " إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم , حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فتحفرونه غدا , فيعيده الله وهو كهيئته يوم تركوه , حتى إذا جاء الوقت قال : إن شاء الله , فيحفرونه ويخرجون على الناس , فينشفون المياه , ويتحصن الناس في حصونهم , فيرمون بسهامهم إلى السماء , فيرجع فيها كهيئة الدماء , فيقولون : قهرنا أهل الأرض , وعلونا أهل السماء , فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فتقتلهم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم " . 17587 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن محمد بن إسحاق , عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري , عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل , عن أبي سعيد الخدري , قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عز وجل { وهم من كل حدب ينسلون } 21 96 فيغشون الأرض , وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم , ويضمون إليهم مواشيهم , فيشربون مياه الأرض , حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه , حتى يتركوه يابسا , حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر , فيقول : لقد كان ها هنا ماء مرة , حتى لم يبق من الناس أحد إلا انحاز إلى حصن أو مدينة , قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم , بقي أهل السماء , قال : ثم يهز أحدهم حربته , ثم يرمي بها إلى السماء , فترجع إليه مخضبة دما للبلاء والفتنة . فبينا هم على ذلك , بعث الله عليهم دودا في أعناقهم كالنغف , فتخرج في أعناقهم فيصبحون موتى , لا يسمع لهم حس , فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه , فينظر ما فعل العدو , قال : فيتجرد رجل منهم لذلك محتسبا لنفسه , قد وطنها على أنه مقتول , فينزل فيجدهم موتى , بعضهم على بعض , فينادي : يا معشر المسلمين , ألا أبشروا , فإن الله قد كفاكم عدوكم , فيخرجون من مدائنهم وحصونهم , ويسرحون مواشيهم , فما يكون لها رعي إلا لحومهم , فتشكر عنهم أحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابت قط " . 17588 - حدثني بحر بن نصر , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : ثني معاوية , عن أبي الزاهرية وشريح بن عبيد : أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف : صنف طولهم كطول الأرز , وصنف طوله وعرضه سواء , وصنف يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى فتغطي سائر جسده . 17589 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثنى أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } قال : كان أبو سعيد الخدري يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل " قال : وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول : لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد حتى يولد له ألف رجل من صلبه . فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة يأجوج ومأجوج , يدل على أن الذين قالوا لذي القرنين { إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } إنما أعلموه خوفهم ما يحدث منهم من الإفساد في الأرض , لا أنهم شكوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم , والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض , ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السد الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد . فإذا كان ذلك كذلك بالذي بينا , فالصحيح من تأويل قوله { إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض .
الأرض فهل نجعل لك
وقوله { فهل نجعل لك خرجا } اختلفت القراء في قراءة ذلك , فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : { فهل نجعل لك خرجا } كأنهم نحوا به نحو المصدر من خرج الرأس . وذلك جعله . وقرأته عامة قراء الكوفيين : " فهل نجعل لك خراجا " بالألف , وكأنهم نحوا به نحو الاسم , وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدا بيننا وبين هؤلاء القوم . وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه : " فهل نجعل لك خراجا " بالألف , لأن القوم فيما ذكر عنهما , إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السد , وقد بين ذلك بقوله : { فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما } ولم يعرضوا عليه جزية رءوسهم . والخراج عند العرب : هو الغلة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 17590 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن عطاء الخراساني , عن ابن عباس " فهل نجعل لك خراجا " قال : أجرا { على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } 17591 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , في قوله : " فهل نجعل لك خراجا " قال : أجرا . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا أبو سفيان , عن معمر , عن قتادة , قوله : " فهل نجعل لك خراجا " قال : أجرا .
خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم
وقوله : { على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } يقول : قالوا له : هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج حاجزا يحجز بيننا وبينهم , ويمنعهم من الخروج إلينا . وهو السد
(انتهى الاقتباس)
لمّا كنت لا أريد أن أدخل بتفاصيل هذا "التأويل العظيم" مادام أنه مبني كله (في ظني) على "تخريفات" لا يدعمها الدليل القاطع من الكتاب أو أن فيها أثارة من علم تسد رمق الباحث عن الحقيقة، فيكفيني أن أقف مع القارئ الكريم على بعضه لنثبت (لمن يريد) أن "الحقيقة المنشودة" هي أبعد ما تكون عن مثل هذا الكلام المفترى عل الله كذبا. وسأحاول أن أنبش في ثلاث جزئيات فقط لإثبات هذا الزعم الخطير الذي نحاول تبيانه للقارئ الكريم، وهذه الجزئيات هي ما وضعنا تحته خط في التأويل السابق، ولنبدأ بها الواحدة تلو الأخرى.
أولا: حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثنا محمد بن إسحاق , قال : ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب , ممن قد أسلم , مما توارثوا من علم ذي القرنين , أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني , من ولد يونن بن يافث بن نوح
لاحظ - عزيزي القارئ- أنه مادام أن الكلام قد رُفِع إلى ابن إسحق فإنه – كالعادة- لن يخلو من تخريفات من سبقنا من أهل الكتاب. فلا يمكن أن تجد أسماء أبطال القصص الدينية إلا في بطون تحريفات التوراة وأكاذيب التلمود. لذا يجب التحري والتأكد قبل الاقتباس والتيقن. فمن أين عرف هؤلاء المفسرون اسم ذاك الرجل الذي نعته الله بلقب "ذي القرنين" في كتابه الكريم؟ هل هذا موجود في الكتاب أم هل وجدوا أثارة من علم ترشدهم إلى اسمه؟ وكيف عرفوا أنه مصري الجنسية يوناني الأصل (وربما المولد: أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني)؟ من يدري؟!!!
ثانيا: قال : ثني محمد بن إسحاق , قال : فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني , وكان له علم بالأحاديث الأول , أنه كان يقول : ذو القرنين رجل من الروم . ابن عجوز من عجائزهم , ليس لها ولد غيره , وكان اسمه الإسكندر . وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس
لاحظ - عزيزي القارئ- التضارب في النقل حتى عن الشخص الواحد (وهو محمد بن إسحق في هذا المقام). فبعد أن كان يتحدث عن ذي القرنين على أنه من أهل مصر واسمه مرزبا بن مردبة اليوناني  في البداية أصبح الآن يتحدث عنه على أنه الإسكندر من الروم. ويزيد الطين بله قوله أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس.  فلعمري هذا لا يتعارض فقط مع الدليل النقلي وإنما يجعل عصافير الرأس (إن بقي شيء منها) تطير من مهجعها. فأي شخص هذا الذي صفحتي رأسه من نحاس؟ هل هذا لأنه "ذو القرنين"؟ أهكذا فهم السلف الصالح، عمالقة اللسان العربي قول الحق بأن الرجل هو "ذو القرنين"؟ أهذا هو كل ما جادت به قرائحهم اللغوية الفذة؟ من يدري؟!!! لننتظر ونرى ما يمكن أن نخرّص نحن (من لا نملك فصاحة القوم) في هذا المقام بعد قليل حول تسميته بذي القرنين، ثم لنترك للقارئ الكريم أن يحكم بنفسه بيننا.
ثالثا: وقوله : { على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } يقول : قالوا له : هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج حاجزا يحجز بيننا وبينهم , ويمنعهم من الخروج إلينا . وهو السد
دعنا نبدأ النقاش الحقيقي من هذه النقطة، والهدف هو أن نثبت للقارئ البسيط من مثلي كم هي ساذجة مثل هذه الأفهام السابقة التي جاءت في هذا التفسير العظيم! ولعمري فإني على يقين بأنها تكاد لا تسوى الحبر الذي كتبت به ناهيك عن الرقع التي خطت عليها. ولو أن طالبا في الصف الثالث الابتدائي ج قد كتبها ثم قرأها على زملائه في الصف لأثار (نحن نتخيل) زوبعة من الضحك والهرج والمرج على "سخافة" مثل هذا التفكير - لو كان بينهم رجل رشيد (مثلي بالطبع).
السؤال: هل يمكن أن نثق بكلام من سبقنا هذا؟ هل يجب أن نحمله محمل الجد؟ هل يجب أن نضعه في بطون أمهات الكتب ثم نظن أن فيها من العلم ما يستحق أن ننفق عليه المال والجهد؟
رأينا: كلا وألف كلا، إن سلة المهملات أو RECYCLE BIN بالكلمات الأعجمية التي قد لا تثير الاشمئزاز عند البعض هي– في ظننا- المكان الأمثل لمثل هذا التهريج، وذلك لأنه ينمّ عن سطحية في التفكير تكاد تكون خرافية في الوجود. فمن آمن ووثق بمثل هذه الأفهام فهو بلا شك شخص يحتاج أن يعيد النظر في قدراته الذهنية كشخص حباه الله بنعمة التفكر، فأنكرها على نفسه عندما أوكل غيره ليفكر له نيابة عنه.
السؤال: لماذا؟
رأينا: عند البحث عن قصة يأجوج ومأجوج وجدنا الحديث قد استفاض عن ذاك السد الذي ظن سلفنا الصالح أن الرجل (ذا القرنين) قد بناه ليصد خطر يأجوج ومأجوج عن القوم. فهذا ما وجدناه عن ذاك السد في الطبري مثلا:
القول في تأويل قوله تعالى : { قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما } يقوله تعالى ذكره : قال ذو القرنين : الذي مكنني في عمل ما سألتموني من السد بينكم وبين هؤلاء القوم ربي ووطأه لي , وقواني عليه , خير من جعلكم , والأجرة التي تعرضونها علي لبناء ذلك , وأكثر وأطيب , ولكن أعينوني منكم بقوة , أعينوني بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل . كما : 17592 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد { قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة } قال : برجال { أجعل بينكم وبينهم ردما } وقال ما مكني , فأدغم إحدى النونين في الأخرى , وإنما هو ما مكنني فيه . وقوله : { أجعل بينكم وبينهم ردما } يقول : أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج ردما . والردم : حاجز الحائط والسد , إلا أنه أمنع منه وأشد , يقال منه : قد ردم فلان موضع كذا يردمه ردما ورداما ويقال أيضا : ردم ثوبه يردمه , وهو ثوب مردم : إذا كان كثير الرقاع ; ومنه قول عنترة : هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 17593 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قوله : { أجعل بينكم وبينهم ردما } قال : هو كأشد الحجاب . 17594 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : ذكر لنا أن رجلا قال : يا نبي الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج , قال : " انعته لي " , قال : كأنه البرد المحبر , طريقة سوداء , وطريقة حمراء , قال : " قد رأيته"
ولو فتشت – أخي القارئ الكريم- في بطون الكتب الأخرى لعثرت على "تكهنات" و"تخمينات" كثيرة جدا حول ذاك السد المزعوم ومكان تواجده، فقد ظن كثير منهم (أي من أهل الدراية السابقين) بأنه سد الصين العظيم، وقال بعضهم أنه يقع في ما وراء بلاد السند والهند، وجاء آخرون محدثون ليتحدثوا عنه على أنه هو ما يسمى بمثلث برمودا، ورفعه بعضهم في السماء، و أنزله آخرون منهم في باطن الأرض، وهكذا. والقارئ الكريم مدعو أن يبحث في الشبكة العنكبوتية عن هذا الموضوع ليرى بأم عينه ما جادت به قرائح أهل العلم عن مكان ذاك السد. وها هو أحد الخلفاء العباسيين يجهز حملة من أهل العلم (الراسخون فيه حتى الثمالة) ليذهبوا في رحلة استكشافية عن هذا السد العظيم.
السؤال المربك لنا: هل يحتاج البحث عن ذاك السد كل هذا الجهد؟ وهل استطاع القوم أن يجدوه بما توافر لهم من تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين مثلا؟ من يدري؟!!!
موقفنا المبدئي: لعلي أظن أني استطيع أن أكشف اللثام عن هذا السد في دقائق معدودة، ولعلي استطيع أن أطلع القارئ الكريم عليه الآن دون أن يتزحزح من مكانه، ولعلي أجزم القول بأن العثور على السد لا يتطلب أكثر من دقائق ننفقها معا في قراءة الآيات الكريمة جيدا.
السؤال: وكيف ذلك؟ فأين هو ذاك السد (إن صح ما تزعم)؟ يقول صاحبنا مستغربا.
جواب: هو موجود في مخيال علمائنا الأجلاء فقط، فليس هناك سد أساسا يمكن أن نبحث عنه، فتلك كذبة كبيرة افتراها أهل العلم على الله وصدقها الناس عندما وثقوا بمشايخهم أصحاب العقول "العظيمة" التي تتناسب مع حجم اللحى والعمامات التي ألبسوها أنفسهم.
الدليل
دعنا نقرأ الآيات الكريمة ذات الصلة معا لأبيّن لك - عزيزي القارئ البسيط- أين يقع ذلك السد المزعوم. قال تعالى:
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
دقق – عزيزي القارئ الكريم- النظر جديدا في هذه الآيات الكريمة. ألا ترى أن القوم قد طلبوا من ذي القرنين أن يبني لهم سدا؟
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
السؤال التالي مباشرة: وكيف جاء رد ذي القرنين على طلبهم هذا؟ ألم يؤكد لهم بأن الله قد مكنه فيما هو خير (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)؟ ألم يطلب منهم العون بقوة بعد ذلك (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ)؟ فما الذي فعله الرجل بعد أن أعانه القوم بقوة؟ ألم يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج ردما (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)؟ انظر الآية التالية جيدا:
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
السؤال المربك لكل من يقرأ في تفاسير أهل العلم هو: ما الذي فعله ذو القرنين إذن: أهو سد (يا سادة) أم ردم (يا أحبة)؟
إعادة لما سبق: دعنا نعيد الفكرة نفسها بكلمات أخرى ليتجلى مراد قولنا للجميع بغض النظر عن قدرته اللغوية في الاستنباط من كتاب الله، فنقول: لاحظ - عزيزي القارئ- أن القوم يطلبون من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدا يصد خطرهم، ولكن ذو القرنين بيّن لهم بأن هناك طريقة أفضل لصد الخطر القادم من هناك، وهذه الطريقة تتمثل بإحداث الردم (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)، أليس كذلك؟
فأين إذن هو السد الذي يتحدث عنه أهل العلم؟ وأين هو السد الذي انطلقت رحلة أهل العلم (الراسخون فيه حتى الثمالة) للبحث عنه؟ وأين هو سور الصين العظيم من ذلك؟ فهل ذلك ردم أم سد؟ وما دخل مثلث برمودا وأنفاق الأرض بذلك كله؟
نتيجة مهمة: ما جعله ذو القرنين هو ردم وليس سدا (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد كان الأولى بأهل العلم أن يبدءوا البحث عن الردم بدل أن ينفقوا جل وقتهم وجهدهم في البحث عن سد هو أساسا غير موجود إلا في عقولهم الغارقة في الخيال والأوهام. فلعلي كنت (ربما) أثق بعض الشيء بقدرات سادتنا العلماء أهل الدراية العقلية لو أنهم انطلقوا يبحثون عن ردم مادام أن ذا القرنين قد جعل بين القومين ردما ولم يبني بينهما سدا. ألا ترى - عزيزي القارئ- أننا قد أنفقنا قرونا من الزمن نبحث عن شيء هو غير موجود على أرض الواقع أصلا؟ فأي ضلال وأي ظلمات أكثر من ذلك تريد منا أن نقنعك بأننا غارقون فيها؟ أليس هذا هو الضلال المبين؟ هل تعتقد أن العقول التي ظلت أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن تظن أن النص القرآني يتحدث عن وجود سد هل تظن أنها تستحق أن نضع بها ثقتنا؟ هل تظن أن هذه " العقول العظيمة" تستحق أن يوكل إليها مهمة تجلية العقيدة للناس البسطاء من مثلي ومثلك؟ ألا ترى أنها قد ضلت وأضلت؟ من يدري؟!!!
السؤال: ما الفرق بين السد والردم؟
رأينا المفترى: لعلي أظن أن من أبسط الفروق بين السد والردم هو أن الفعل اللازم لإحداث أحدهما يتعاكس تماما مع الفعل اللازم لإحداث الآخر. ففي حين أن السد يتطلب البناء فإن الردم يتطلب الهدم. فالسد هو تشيد ما هو غير مشيّد، بينما الردم – بالمقابل- فهو هدم ما هو مشيّد. لذا فإن ما فعله ذو القرنين هو عكس ما طلب القوم منه.
طلب القوم: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
رد ذي القرنين على أرض الواقع: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
نتيجة مفتراة: تعال معنا - عزيزي القارئ- في رحلة بحثية ولكن هذه المرة عن الردم الذي أحدثه ذو القرنين بعد أن أعانه القوم بقوة بدل أن نبحث – كما فعل أسلافنا من أهل العلم- عن السد الذي طلبه القوم منه.
السؤال: أين هو ذاك الردم الذي أحدثه ذو القرنين ليكف فساد يأجوج ومأجوج في الأرض؟
جواب مفترى: نحن نفتري القول من عند أنفسنا بأن ذاك الردم الذي أحدثه ذو القرنين ليكف فساد يأجوج ومأجوج في الأرض غير موجود على سطح الكرة الأرضية إطلاقا.
الدليل
لكي نستطيع إثبات هذا الافتراء الخطير جدا فلابد أن نخوض في تفاصيل الرحلات الثلاثة التي قام بها ذو القرنين كما يجليها النص القرآني، وهي
  1. بلوغه مغرب  الشمس
  2. بلوغه مطلع الشمس
  3. بلوغه بين السدين
السؤال: كيف حصل ذلك؟
الباب الأول: بلوغ ذي القرنين مغرب الشمس
رأينا: يثبت النص القرآني بما لا يدع مجالاً للشك أنّ ذا القرنين قد بلغ مغرب الشمس مصداقاً لقوله تعالى:
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
السؤال المربك لنا: كيف يمكن أن نفهم أن القرآن الكريم يثبت بلوغ ذي القرنيين مغرب الشمس ونحن نعرف يقيناً أن الشمس لا تغيب في مكان واحد؟ فمغيب الشمس يختلف باختلاف المكان. فهل مغيب الشمس بالنسبة لأهل المشرق هو نفس المغيب بالنسبة لأهل المغرب؟ والمنطق نفسه ينطبق على مطلع الشمس، فلا شك أن للشمس مطلع يختلف باختلاف المكان الذي يتواجد فيه الإنسان، وهنا جاء دور المفسرين في إدخال الاستعارة والمجاز في التفسير، ولكن تبقى الحقيقة صارخة: إذا كان المغرب أو المشرق يختلف باختلاف المكان، فأي مطلع وأي مغرب للشمس بلغه ذو القرنين؟ فلو ظن أهل الشرق الأوسط مثلاً أنه مغربهم أو مطلعهم، لنبرى أهل الصين أو أهل أوروبا ليقولوا أن القرآن لا يخصنا، وهكذا بالنسبة لبقية أقطار الأرض.
المعضلة: إن صح هذا الافتراء، فلم يثبت القرآن أن للشمس مغرب واحد ومطلع واحد في هذه الآية (وهو ما بلغه ذو القرنين) في حين أنه يثبت في مكان آخر أن هناك مشارق ومغارب؟
  رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ   الصافات (5)
  فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ   المعارج (40)
لا بل ويثبت القرآن الكريم أن للمكان الواحد عدة مشارق (باختلاف أوقات السنة)، فلا شك أن الشمس تشرق من مكان في فصل الصيف يختلف عن مشرقها في الربيع أو الخريف أو الشتاء، لا بل فإن الشمس تشرق في كل يوم في مشرق يختلف عن اليوم الذي يليه أو الذي سبقه كما يراه أهل المكان الواحد، قال تعالى:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ   الأعراف (137)
السؤال: وأي مغرب بلغه ذو القرنين؟
رأينا المفترى: هو مغرب واحد، لا يختلف باختلاف المكان على وجه الأرض كلها
السؤال: وأين هو؟
جواب: إنه المغرب الحقيقي للشمس نفسها وليس المغارب التي تظهر لمن هو موجود على سطح الأرض
السؤال: وكيف يكون ذلك؟
جواب مفترى خطير جدا: لأن رحلة ذي القرنين هذه كانت رحلة فضائية خارج نطاق الكرة الأرضية
الدليل الأول
إن جلب الدليل على هذا الافتراء يتطلب – في رأينا- فهم الآيات القرآنية على حقيقتها، وذلك بإثبات ما جاء بصريح اللفظ القرآني وهو أن للشمس مشارق ومغارب (مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) ولكن ذو القرنين بلغ مغربا واحداً للشمس (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) وبلغ مطلعاً واحداً للشمس (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ)، ولكن كيف ذلك؟
افتراء 1: للأرض مشارق ومغارب لأن الشمس تختلف مشارقها ومغاربها بالنسبة لمن هم متواجدون على سطحها
افتراء 2: للشمس نفسها مغرب واحد وللشمس مطلع واحد لا يتحدد بتواجد قوم ما على سطح الأرض، لأن ذلك المغرب وذلك المطلع هو نفسه للجميع.
افتراء 3: لقد بلغ ذو القرنين مغرب الشمس الذي يخص كل سكان الأرض وليس قوم بعينهم (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ)
افتراء 4: لقد بلغ ذو القرنين مطلع الشمس الذي يخص كل سكان الأرض وليس قوم بعينهم (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ)
تخيلاتنا: نحن نزعم الفهم أن الدليل على هذه الافتراءات الخطيرة جدا تلزمنا إعادة تدبر الآيات القرآنية التي تتحدث عن قصة ذي القرنين نفسها، والتي أظن أن الفكر الديني السائد قد أخفق في فهمها فهماً حقيقاً، وأخص هنا على وجه التحديد عبارة محددة وردت في النص القرآني في قصة ذي القرنين ثلاث مرات وهي عبارة "أَتْبَعَ سَبَبًا" في قوله تعالى:
فَأَتْبَعَ سَبَبًا  الكهف (85)
  ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا   الكهف (89)
  ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا   الكهف (92)
لقد وردت هذه العبارة ثلاث مرات في قصة ذي القرنين، ومما لا شك فيه عندنا أنها كانت ترد في بداية انتقاله من مكان إلى مكان آخر، فجاءت في المرة الأولى وكانت النتيجة بلوغه مغرب الشمس،
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا  قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
ووردت مرة أخرى فكانت النتيجة وصوله مطلع الشمس:
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
ثم وردت مرة ثالثة فكانت النتيجة أن بلغ بين السدين:
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
إنّ المتدبر للنص القرآني يجد أن تلك العبارة (أَتْبَعَ سَبَبًا)  تدل على حركة ذي القرنين من مكان إلى مكان آخر، ولب القول هو أنه كلما كان ذو القرنين بحاجة إلى الانتقال إلى مكان آخر (غير المكان الذي هو فيه) كان عليه أن يتبع سبباً، أليس كذلك؟ فما معنى أن يتبع ذو القرنين سببا؟
السؤال: ما هو السبب الذي كان يتبعه ذو القرنين؟
رأينا المفترى: لقد وردت هذه المفردة في مواطن أخرى من كتاب الله لتدل على طريقة الحركة والانتقال، فها هو فرعون مثلا يطلب من هامان أن يمكنه ليبلغ الأسباب (جمع سبب):
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)   غافر
ومما لا شك فيه – عندنا- أنّ فرعون قد طلب من هامان أن يبني له صرحاً أفقياً ليصعد إلى الأعلى لظنه – كما يقول موسى- أن الإله في السموات، أي في الأعلى.
وربما يؤكد فهمنا هذا هو أن من كان بحاجة إلى الحركة إلى السماء فعليه أن يرتقي في الأسباب، ومن هنا جاء قول الحق:
  أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ   ص (10)
فالأسباب (ومفردها سبب) هي – حسب فهمنا لهذه النصوص- الطريق الفضائية بين السماء والأرض، ومن أراد أن يسلكها فعليه أن يرتقي إلى الأعلى، وقد يرد البعض بالقول: هل وردت مفردة "سبب" بصيغة المفرد في القرآن الكريم لتدل على الطريق الفضائية؟ الجواب: نعم، ولنتدبر قوله تعالى:
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ  الحج (15)
إن مراد القول هو أن الحركة بالأسباب (ومفردها سبب) هي حركة خارج نطاق الحركة الأرضية (أي حركة ارتقاء)، لهذا جاء قول الحق على النحو التالي:
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أنه عندما كان ذو القرنين يتبع سببا كان يرتقي في السماء، فيتنقل بالطرق الفضائية (أي يتبع سببا)، لذا كانت حركته – كما يبينها القرآن الكريم- غاية في السرعة، فبلغ مغرب الشمس وبلغ مطلع الشمس وبلغ بين السدين وكأن ذلك يحصل بين ليلة وضحاها، ولو لم يكن يتبع سببا لما استطاع القيام بذلك بتلك السرعة والقوة التي يصوّرها النص القرآني.
ما يهمنا هنا هو إنّ الفهم أن ذا القرنين كان يتبع سببا (أي يسلك طريقاً فضائية) يمكننا من الفهم الحقيقي للآيات الكريمات، فالحركة بطريقة " أَتْبَعَ سَبَبًا" يخرجه من نطاق الكرة الأرضية، وبالتالي يخرجه من نطاق اختلاف مغارب الشمس ومطالعها، وبالتالي فهو سيصل إلى مغرب واحد للشمس ومطلع واحد للشمس كما ووردت بصريح اللفظ القرآني
الدليل الثاني
أما الدليل الثاني الذي نقدمه لإعادة تغليف قصة ذي القرنين بأفهام جديدة فيأتي من طلب القوم ورده عليهم، أما طلب القوم فقد جاء في قوله تعالى:
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا   الكهف (94)
وجاء رده على النحو التالي:
... أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا   الكهف (95)
فلماذا لم يجعل ذو القرنين بينهم سداً كما طلبوا؟ لقد جاء الجواب من ذي القرنين واضحا:
  قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ...   الكهف (95)
نعم لقد مكن الله ذا القرنين بشيء خير من طلبهم ذلك، فجاءت تكملة الآية الكريمة على نحو:
  قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
نعم، إن ما فعله ذو القرنين هو الردم، لكن ردم ماذا؟ ما الذي ردمه ذو القرنين؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن ذا القرنين قد ردم السبب، أي الطريق الفضائية التي يستطيع من خلالها أن تصل يأجوج ومأجوج إلى الأرض لتفسد فيها، لقد أغلق ذو القرنين بما مكّنه الله فيه الطريق التي بدونها لن تستطيع يأجوج ومأجوج الوصول إلى الأرض، ومن ذلك الوقت ويأجوج ومأجوج يموج بعضهم ببعض لعدم قدرتهم الوصول إلى الأرض. ولكن متى ستفتح يأجوج ومأجوج؟
لا شك أن القرآن الكريم يثبت أن يأجوج ومأجوج سيبقى بعضهم يموج في بعض حتى قبيل النفخ في الصور:
قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)  الكهف
وتتأكد الصورة نفسها في موطن آخر من كتاب الله،، فلقد ورد الحديث عن يأجوج ومأجوج في سورة الأنبياء على النحو التالي:
حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)  الأنبياء
إن ما يهمنا قوله هنا هو أن الفتح على يأجوج ومأجوج لن يتحصل إلا مع اقتراب الوعد الحق كما في هذه الآية الكريمة أو قبيل النفخ في الصور كما في آية الكهف السابقة. ونحن نتساءل هنا عن المكان الذي يمكن أن يتواجد فيه يأجوج ومأجوج (على كثرتهم وبطشهم كما يصورها القرآن الكريم) ولا يتم لهم الخروج منه إلا مع اقتراب الوعد الحق (أو النفخ في الصور). إن أبسط ما يمكن أن نخرج به من هذا الفهم هو استحالة أن يكون مأجوج ومأجوج قد خرجوا من موطنهم ذاك كما صورتها بعض التفسيرات السابقة للنص القرآني. أو احتمالية وجودهم في مكان ما على سطح الأرض بعد أن تجلت الأرض بكليتها للناس مع هذا التقدم الهائل في الاستكشاف والبحث.
الدليل الثالث
وهنا نتوقف مع القارئ الكريم على جزئية مهمة في الآيات التي تصور خبر يأجوج ومأجوج كما وردت في سورة الأنبياء وهي قول الحق " وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ"، لنسأل: كيف سينسل يأجوج ومأجوج من كل حدب. إن الفهم السابق الذي ظن أن يأجوج ومأجوج هم قوم على هذه الأرض لا يمكن أن يتماشى مع هذه العبارة القرآنية، فكيف يمكن لقوم موجودون في مكان محدد على وجه الكرة الأرضية أن ينسلوا من كل حدب؟ صحيح أنهم قد يذهبوا في كل اتجاه، فتلك وجهتهم. ولكننا نتساءل عن مصدر خروجهم، فلا يمكن أن يأتوا من كل حدب (جهة) إن كانوا متواجدين أصلاً في مكان محدد على سطح هذا الكوكب كما في التصوير التالي:



ولكن لننظر الآن إلى الفكرة التي نحاول الترويج لها وهي أن يأجوج ومأجوج هم قوم متواجدون خارج نطاق الأرض، وهم سيأتونها من كل حدب متى فتحت طريقهم (أي سببهم). إن هذا الافتراض يحل الإشكالية برمتها، لأن من كان خارج نطاق الأرض يمكن أن يصل إليها من كل اتجاه كما في التصوير التالي:



ثم لننظر إلى الدقة القرآنية التي تصف الحركة على شكل حدب "وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ"، فكيف ستكون الحركة من مكان على سطح الأرض إلى مكان آخر على سطح الأرض؟ الجواب لا يمكن أن تكون على شكل حدب، ولكن كيف يكون الانتقال بالطرق الفضائية؟ الجواب إن الحركة من الفضاء الخارجي إلى مكان آخر لا يمكن أن تتم إلا بطريقة الحدب (ولتسهيل الفكرة ما على القارئ الكريم إلا أن يتصور عملية هبوط أو إقلاع الطائرة). فنحن نفهم أن الحركة الفضائية مهما كانت لا تتم إلا بطريقة الأحداب.
ما يهمنا في هذا الطرح هو التالي: عندما يتحصل فهم جديد لما في كتاب الله لا بد من ترك والتخلي عن ما فهمه أسلافنا، فكثير من علمائنا الإجلاء يضفون شيئاً من القدسية (وإن لم يقولوها صراحة) عندما لا يتنازلون عن ما قاله الأقدمون لا لشيء وإنما لظنهم أن أولئك القوم هم الأقدر على فهم ما جاء في كتاب الله.
السؤال: المربك: من هم يأجوج ومأجوج أصلا؟
هذا ما سنتناوله في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيقه. فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم إنه هو السميع العليم - آمين
المدكرون  رشيد سليم الجراح  &   علي محمود سالم الشرمان
بقلم:   د. رشيد الجراح 

الجزء الثاني