قصة يوسف 18: وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ


قصة يوسف 18: وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ
خلص حديثنا في الجزء السابق من هذه المقالة عند الآية الكريمة التي تصور طلب يوسف الشخصي من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، قال تعالى:
        قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
فأصبح يوسف منذ تلك اللحظة هو المسئول عن تصريف أموال الدولة وذلك لتمتعه بصفتين اثنتين وهما أنه حفيظ وعليم (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).


وفي هذه النقطة تنتهي معاناة يوسف في بلاد الغربة، لتعود قصته مع إخوته تظهر من جديد لتتوالى فصولها حتى النهاية. لذا سنحاول أن نتعرض فيما تبقى من أجزاء هذه المقالة لما حصل مع يوسف وإخوته بعدما أصبح هو المسئول عن تصريف أموال الدولة في سنين الخير الوافر التي تبعتها سنين القحط الشديد. فالله نسأل أن يعلمنا ما لم نكن نعلم وأن لا نفتري عليه الكذب عن علم إنه هو الواسع العليم – آمين.
أما بعد،
بداية، نحن نعلم من صريح اللفظ القرآني أن يوسف هو من اقترح خطة الخلاص في سنين القحط عندما كان لازال قابعا في السجن، وكان ذلك كجزء من تفسيره لرؤيا الملك:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
فعمد يوسف في سنين الرخاء (نحن نتخيل) إلى توفير كل ما يقدر عليه من الحصاد في سنبله ليكون هو مخزون الدولة الاستراتيجي في سنين الجفاف القادمة. ونحن نتخيل أن ذلك قد حصل على النحو التالي:
يعمد يوسف إلى إنشاء سبع صوامع يجمع في كل واحدة منها مخزون سنة بأكملها، كما في الشكل التوضيحي  التالي:




كما نتخيل أنه قد جعل في كل واحدة من هذه الصوامع سبعة مخازن كبيرة ليتم جمع كل محصول (سنبلة) في مخزن خاص به، فتم تجميع محصول القمح في مخزن والشعير في مخزن آخر، وهكذا.
ثانيا، ما أن بدأت سنين الجفاف تحل بالبلاد حتى أخذ يوسف يستخدم ما تم تخزينه في مخازن الصومعة الأولى، فكفتهم سنة القحط الأولى. وفي السنة الثانية أخذ يستخدم ما تم تجميعه في مخازن الصومعة الثانية، وهكذا. حتى استطاع أن يخرج بالبلاد من هذه المحنة التي كادت أن تهلكها. فكان ذلك – في ظننا- من الأسباب التي عززت التمكين الإلهي ليوسف في الأرض:
وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57)

فأصبح يوسف يتبوأ منها حيث يشاء. فأصابه الله برحمته لأن الله ما كان ليضيع أجر يوسف الذي لا نشك قيد أنملة أنه كان من المحسنين.
(دعاء: أسألك ربي أن أكون من المحسنين الذين تصيبهم برحمة منك، إنك أنت السميع العليم – آمين)
وفي هذه الأثناء تبدأ قصته مع إخوته تعود لتتوالى فصولها من جديد. فيصيب الجفاف أرضهم، ولا يجدون بدّا من الهبوط إلى مصر للاستعانة بعزيزها على هذه الظروف القاسية.
وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58)  

وهنا نتوقف على الفور لنطرح التساؤلات التالية الخاصة بالمفردة الأولى في هذه الآية الكريمة وهي مفردة "وَجَاء":
  • لماذا جاء أخوة يوسف إلى أرض مصر؟
  • كم كان عدد الذين جاءوا منهم؟
  • لماذا لم يطلبوا المعونة من مكان آخر؟
  • كيف علموا بخبر عزيز مصر؟
  • أين كانت تقع ديارهم؟
  • كم استغرقت رحلتهم للوصول إلى يوسف والعودة من عنده؟
  • الخ.
حاولنا في مقالات سابقة لنا التعرض لمعنى فعل المجيء (جَاء)، فعقدنا مقارنة بينه وبين فعل آخر له علاقة مباشرة بالفعل "جاء" هو الفعل "أتى"، فزعمنا القول أن هناك فروقا جوهرية - هي في نظرنا- مهمة للتمييز بين الفعلين، أما أكثر ما يهمنا هنا هو القول بأن أحد الفروق بين الفعلين يتمثل في أن فعل المجيء يحمل في ثناياه معنى المفاجأة. انظر التناوب بين الفعلين في قصة مريم:
        فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
ففي حين أن مريم قد أتت قومها فلم يكن قدومها بنفسها سيشكل (نحن نظن) مفاجأة لهم، إلا أن مجيئها بشيء تحمله هو الذي سبب المفاجأة عندهم (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا).
وعلى عكس الفعل "أتى" فإن الفعل "جاء" يحمل - نحن نزعم - في ثناياه أيضا معنى السرعة:
        وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ... (143)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
ففي حين أننا نعلم أن مجيء موسى لميقات ربه كان على عجل، فإن نقصان الأرض من أطرافها يحدث بطريقة تدرجية بطيئة (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: لماذا نصلي خمس مرات في اليوم والليلة؟).
وليس أدل على أن الفعل "أتى" يدل على البطء في الحركة –في ظننا- مما جاء في قوله تعالى:
        أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
نتيجة مفتراة: مادام أن إخوة يوسف قد جاءوا (وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ)، فقد كانوا (نحن نتخيل) في عجلة من أمرهم، كما أننا نتخيل بأن مجيئهم قد أحدث مفاجأة عند يوسف. فلم يكن يوسف – نحن نفتري القول- يظن أنه من خلال هذا التدبير الله سيرى إخوته من جديد.
السؤال: كيف استطاع يوسف أن يعرفهم عندما دخلوا عليه؟
رأينا: تعرضنا في مقالات سابقة لنا للتمييز بين المعرفة (ومشتقاتها) والعلم (ومشتقاته) وزعمنا القول بأن المعرفة غير نقلية، تحتاج إلى بذل شيء من الجهد من قبل من أراد الحصول عليها، كما تتطلب توافر قرينة تدعم ظنه، وهي تدرجية (للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان: هل لعلم الله حدود؟). فخبر إخوة يوسف (نحن نظن) لم ينقل إليه نقلا، فلم يأتي أحد من حوله ليخبره بأن هؤلاء الغرباء القادمين من بعيد هم إخوته، وإلا لكان ذلك علما، فيوسف هو من عرف إخوته بنفسه، كما أنه - لا شك- قد بذل جهدا للتعرف عليهم، فالأمر لم يحصل على الفور، وأن معرفته بهم قد سندها الدليل (القرينة). فكيف استطاع يوسف أن يعرف بأن هؤلاء الداخلين عليه هم إخوته؟
رأينا: نحن نظن أنه قد عرفهم من قرينتين اثنتين على الأقل:
  1. بسيماهم
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
  1. في لحن القول
وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
السؤال: وكيف تم ذلك؟
رأينا المفترى: لا شك عندنا أن دخول إخوة يوسف على أخيهم قد سبب له الدهشة والحيرة عندما رءاهم واقفين في حضرته. فتلك الوجوه ليست بالغريبة تماما عن ذاكرته، فهو يعرفهم بسيماهم. صحيح أن الزمن قد غيّر في أشكالهم، لكن تقدمهم بالعمر لم يكن ليشك حاجزا كاملا له عن معرفتهم، فلازالت ملامحم (سيماهم) تُظهِر شيئا من صورتهم المخزنة في ذاكرته عندما جعلوه في غيابة الجب. فالعديد منهم كان يكبره في السن، ولازالت ملامحه تظهر شيئا من شخصيته القديمة التي لا يمكن أن تخفى على شخص بفطنة وذكاء يوسف.
كما أن عددهم كان لا شك سيؤكد ليوسف ظنه بهم، فهؤلاء القادمون من بعيد هم لا شك إخوته الذين تآمروا عليه وأخرجوه من الديار عندما أجمعوا أمرهم على أن يطرحوه أرضا:
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
لكننا نكاد نجزم القول بأن أكثر ما لفت انتباه يوسف فيهم هو – في ظننا- "لحن القول" (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، فهؤلاء القوم لا شك قادمون من بعيد، لذا فإن "لهجتهم" تختلف عن لهجة أهل البلد، ولا شك أن يوسف يستطيع أن يميز جيدا "لهجة" إخوته الّذين تربى فيهم قسطا من الزمن.
الدليل
نحن نعلم من صريح اللفظ القرآني أن إخوة يوسف كانوا يسكنون البدو، فهذا ما ذكره يوسف بملء فيه عندما جاءه أبوه مع إخوته وأهليهم جميعا:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
افتراء من عند أنفسنا: مادام أن إخوة يوسف قد جاءوا من البدو، فإننا نعتقد بأن لغتهم (أو لنقل لهجتهم الدارجة على لسانهم حينئذ) كان فيها من الخصائص ما يجعلها مميزة عن غيرها. ولمّا كان يوسف يعلم تماما لهجة أهله الّذين نشأ فيهم ما كان ليخطئ الفهم بأن هؤلاء القادمين من بعيد هم من أهل تلك الديار التي تركها يوم أن كاد له إخوته وطرحوه أرضا. وهنا يبرز السؤال الحتمي التالي: أين كانت ديارهم؟
جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نفتري الظن بأن الديار التي جاء منها إخوة يوسف إلى أرض مصر هي قريبة من الأرض المقدسة، فلقد كانت هجرة جدهم الأول إبراهيم إليها:
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
ولكن يعقوب وأبناءه جميعا قد جاءوا من البدو:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
السؤال: لماذا نعت يوسف البلاد التي جاء منها أبوه وإخوته وأهليهم جميعا بأنها أرض بدو. وأين هي تلك الديار؟
جواب مفترى: نحن نظن أنها أرض البداوة المحاذية للأرض المقدسة ((أو على أقل تقدير الواقعة في أطراف الأرض المقدسة).
السؤال: وأين هي إذن؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري القول بأنها الأرض التي تقع فيها مدينة بئر السبع الحالية في صحراء النقب من أرض سيناء التاريخية كما تظهر في الخريطة التالية:
 


       

نعم، نحن نظن أن منطقة البداوة التي قدم منها إخوة يوسف هي نفسها مدينة بئر السبع في صحراء النقب الواقعة في أطراف الأرض المقدسة.
الدليل
لو أمعنا التفكر في قصة يوسف بشيء من الخيال العلمي وحاولنا ربط الأحداث مع بعضها البعض، لوجدنا أن قصة يوسف تتحدث عن منطقة فيها غَيَابَةِ الْجُبِّ، وهو ذاك المصدر المائي الذي جعله إخوته فيه عندما اجمعوا أمرهم أن يطرحوه أرضا:
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15)
ونحن نكاد نجزم القول بأن "غيابة الجب" ذاك هو ما يشبه "بئر الماء" الذي يتواجد على طريق القوافل التجارية، بدليل وجود السيارة الّذين أرسلوا واردهم إليه:
وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ... (19)
 كما زعمنا الظن في الأجزاء الأولى من هذه المقالة أن ذلك البئر كان يقع في منطقة جبليه لأن السيارة قد أرسلوا واردهم إليه إرسالا، ولو كان يقع على قارعة طريق السيارة لربما وردوه جميعا مع خيلهم وإبلهم وجميع دوابهم. ولكن ذلك البئر – نحن نتخيل- كان يقع في منطقة يصعب على السيارة بمجموعهم أن يردوه، فما كان منهم إلا أن أرسلوا إليه أحدهم، فكان هو واردهم الذي زفّ لهم خبر وجود غلام في ذلك البئر:
وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
ثانيا، نحن نعلم أيضا من مجمل قصة يوسف أن المنطقة كان يتواجد بها الذئاب بدليل أن والدهم قد حذرهم من أن يقع يوسف فريسة لها:
        قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
نتيجة: نحن نتحدث عن منطقة فيها (غيابة الجب) وفيها (الذئب). ليكون السؤال الآن ما هي تلك المنطقة؟
جواب مفترى: إنها بئر السبع
السؤال: وكيف يكون ذلك؟
رأينا: هذه هي صنعة أهل التحريف على مر الزمان. فنحن نفتري القول أن تلك المنطقة كانت تقع على طريق القوافل التجارية بين الأرض المقدسة من الشمال والشرق ومصر من الجنوب والغرب، وكان أهم ما يميزها ذلك المكان الذي يرده السيّارة وهو "غيابة الجب" حيث يتزودون منه بالماء. وقد كانت قوافل التجارة (السيّارة)- نحن نظن- تسلك طريقا محددة بذاتها لأن المكان تكثر فيه الذئاب. وما هي إلا فترة وجيزة حتى كان أهل التحريف قادرون على أن يخفوا الحقيقة عن الناس، فاختلفوا في الأمر كعادتهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14)
وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
(دعاء: اللهم أعوذ بك أن نكون ممن يختلفون من بعد ما جاءنا العلم بغيا بيننا. اللهم اهدنا لما اختلف فيه الناس من الحق بإذنك – آمين)
ولما كان البغي هو محرك الاختلاف بينهم، فقد حرّفوا "غيابة الجب" – نحن نظن- عندما جعلوه بئراـ وحرفوا  "الذئب" عندما جعلوه سبع. فأصبحت المنطقة تعرف منذ وقت طويل بـ "بئر السبع" وكان الأولى بها أن تعرف بـ "غيابة جب الذئب".
ولو تدبرنا الخريطة الجغرافية التالية، لوجدنا أنه من هناك يمكن الوصول إلى المنفذ البري الوحيد إلى أرض مصر من جهة الأرض المقدسة:






ثانيا، لو تدبرنا قصة يوسف جيدا لوجدنا أن الرحلة من وإلى أرض مصر كانت رحلة بريه بدليل:
  • الرحال
  • العير
  • القرية
  • البعير

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)

رأينا: بعيدا عن التقسيمات السياسية الحديثة، فإننا نظن بأن أرض صحراء سيناء بأكملها كانت هي أرض البداوة في ذلك الزمان، لأن منطقة فلسطين التاريخية هي في ظننا ما كانت تسمى بسيناء:

        وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20)

وما تبقى من ذلك الأثر إلا ما نعرفه في يومنا بصحراء سيناء، فلا شك أن صحراء سيناء هي جزء من سيناء. ولا شك أن طور سيناء يقع في منطقة سيناء.
نتيجة مفتراة: سيناء هي فلسطين التاريخية أو بكلمات أكثر دقة هي الأرض المباركة. وقد كانت صحراء سيناء هي منطقة البداوة، وكانت الحضارة (المدنيّة) تقع إلى الشمال والشرق (الأرض المقدسة) وإلى الجنوب والغرب (مصر). وهناك في منطقة تقاطع السيارة كانت – نحن نفتري القول- أرض البداوة التي كان يسكنها يعقوب مع بنيه.
افتراء خطير جدا: نحن نفتري الظن أيضا بأن تلك هي المنطقة التي سكنها إبراهيم بعد أن جاء من الشرق متجها إلى الغرب، والتي ظلت من بعده أرض أحفاده من سلالة إسحق. ومن هناك هبط إبراهيم أرض مصر وحصلت قصته مع ذاك الذي آتاه الله الملك:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)  
السؤال: من هو ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه؟
جواب: إنه من آتاه الله الملك؟
السؤال: ومن هو؟
رأينا: نحن نظن أن ذاك الرجل لم يكن مَلِكا بالوراثة، لأنه لو وصل إليه الحكم (أي المُلك) عن طريق الوراثة لكان ملكا، لكن النص القرآني يتحدث عنه بصفة أن الله قد آتاه الملك (أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ). لنطرح التساؤل التالي: لماذا نعته القرآن الكريم بتلك الصفة؟ ولماذا لم يُشِر إليه على أنه ملكا؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن السبب في ذلك يعود إلى أن ذاك الرجل كان هو أول سلالة تلك العائلة المالكة. فالله هو من آتاه الملك ولم يتحصل على الملك من والده، وبكلمات أكثر دقة نقول: لقد أنشأ ذلك الرجل (الذي آتاه الله الملك) مملكة جديدة، فكان هو أول ملوكها، وكان فضل الله عليه أن آتاه الملك، لكن ذلك الرجل أنكر ذاك الفضل الإلهي عندما ظن أنه قادر على أن يحيي ويميت:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)  

السؤال: من هو ذاك الذي آتاه الله الملك إذن؟
رأينا المفترى: إنه أول ملوك مصر الذي أسس "الدولة المصرية" في زمن إبراهيم، وانتهى الملك إلى أحفاده من بعده، فكان أحد الملوك من أحفاده هو من عمل عنده يوسف كوزير للمالية (على خزائن الأرض)، فحفيده هو الملك صاحب الرؤيا الشهيرة.

تخيلاتنا: نحن نتخيل أن تلك المملكة في أرض مصر قد بدأت مع إبراهيم، فسار خط الملك في أرض مصر موازيا لخط النبوة والعلم في سلالة إبراهيم على النحو التالي:

سلالة إبراهيم
سلالة الملك في أرض مصر
إبراهيم
الملك الأول (الذي حاج إبراهيم في ربه بعد أن آتاه الله الملك)
إسحق
الملك الثاني
يعقوب
الملك الثالث
يوسف
الملك الرابع

الدليل
نحن نظن أننا نستشعر الدليل على افترائنا هذا مما حصل بين يوسف والملك عندما جاءه وكلمه:
        وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)
لو تدبرنا هذه الآية الكريمة جيدا لربما وجدنا- كما افترينا القول في جزء سابق من هذه المقالة- أن الحديث بين يوسف من جهة والملك من جهة أخرى كان حديثا على إنفراد. فيوسف لم يتحدث مع الملك على مسمع الجميع، فكلّمه لوحده (فَلَمَّا كَلَّمَهُ)، وذلك لأنّ يوسف كان يريد أن يوصل رسالة إلى هذا الملك يصعب أن تبث على مسمع الناس من حول الملك، وأعتقد أن فحوى الرسالة تتعلق بعقيدة يوسف، فلا أظن أن يوسف كان سيقبل بأن يستخلصه ذلك الملك لنفسه ما لم يخبره بالعقيدة التي يؤمن بها، ولا أظن أن يوسف سيطلب من ذلك الملك أن يجعله على خزائن الأرض ما لم يوافق الملك على حرية يوسف في عقيدته، فالالتزام بعقيدة الآباء والأجداد (إبراهيم وإسحق ويعقوب) كما صورها يوسف نفسه لصاحبيه السجن:

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)

أكثر أهمية بالنسبة له من أن يخرج من السجن أو أن يجد لنفسه وظيفة في بلاط الملك. فلا شك – عندنا- أن الحديث بينهما قد وصل إلى أدق التفاصيل، ولا شك عندنا أن الملك قد قَبِل بشروط يوسف حتى طلب يوسف بنفسه من الملك أن يجعله على خزائن الأرض:
        قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)

السؤال: ما الذي دار بينهما في ذاك الاجتماع الذي نظن أنه كان مغلقا؟
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل يوسف يتحدث للملك عن كامل تفاصيل قصته منذ ولادته وحتى وصوله إلى بلاط الملك في هذه الساعة، ولا أظن أن يوسف سيغفل عن الحديث عن أصله وسلالته التي انحدر منها، والعقيدة التي يؤمن بها، لذا نحن نتخيل يوسف يذكر للملك ذاك التاريخ العريق منذ الجد الأول إبراهيم، الذي نحن نظن أنه كان أول من هبط مصر ودخل على ملكها الأول، ذاك الذي آتاه الله الملك، فحاج إبراهيم في ربه:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)  

فربط يوسف (نحن نتخيل) قصة النبوة في سلالته الطاهرة (إبراهيم- إسحق- يعقوب- يوسف) بقصة نشأت الدولة الملكية في أرض مصر (الملك الأول- الملك الثاني- الملك الثالث- الملك الرابع). عندها وجد هذا الملك (نحن لازلنا نتخيل) أن الرابط بين هاتين العائلتين لا يمكن إنكاره، فما كان منه إلا أن وافق على شروط يوسف، وجعل منه عزيزا لمصر (بالإضافة لمنصبه كوزير للخزانة).

السؤال: وكيف حصل ذلك؟
جواب: استخلصه لنفسه.

السؤال: وكيف ذلك؟
جواب: بالمصاهرة.

تخيلات من عند أنفسنا: بعدما لم ينجح إبراهيم في ثني الملك الأول عن كفره، عاد من أرض مصر متوجها إلى الأرض المقدسة، وفي منتصف الطريق توقف إبراهيم في منطقة بئر السبع، القريبة من "غيابة الجب"، وأنشأ فيها (نحن لازلنا نتخيل) مستوطنته الجديدة التي ستكون لأبنائه من بعده.

لمّا تحصلت لإبراهيم الذرية على الكبر بإسماعيل (الحليم) وإسحق (العليم):

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)

نقل إبراهيمُ ولدَه إسماعيل (الحليم) وأمه إلى الواد غير ذي الزرع ليقيموا الصلاة هناك عند بيت الله الحرام:

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

ومكث إسحق (العليم) مع أمه في منطقة بئر السبع، وكان يتنقل إبراهيم بينهما بما آتاه الله به من الوسيلة التي تحدثنا عنها في بعض أجزاء مقالتنا تحت عنوان: لماذا قدم نبيّ الله لوط بناته بدلا من ضيوفه؟

ثالثا، في المنطقة المقابلة إلى الشرق كانت تقع قرية لوط التي نزل بها العقاب الإلهي بما كانوا يفسقون:

        إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: جاء إخوة يوسف قادمين من منطقة بئر السبع التي تقع إلى الغرب من قرية لوط على طريق السيارة بين الأرض المقدسة ومصر.

رابعا، لو تدبرنا قصة القحط في الأرض لوجدنا أن أرض البداوة التي جاء منها إخوة يوسف قد أصابها القحط كذلك، لذا نحن نفتري الظن بأن أرضهم تلك لم تكن بعيدة جدا عن أرض مصر، فمادام أن الضّر قد مسهم فإن منطقتهم قد أصابها ما أصاب أرض مصر:

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)



باب الكيل


دخل إخوة يوسف على أخيهم طالبين الكيل والمعونة بعد أن حلّ القحط بأرضهم كما حلّ بأرض مصر.
السؤال: لماذا دخلوا على يوسف عندما قدموا إلى أرض مصر؟
وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58)

بداية، نحن نفتري الظن بأن دخول إخوة يوسف على أخيهم كان مفاجئا له، فلو أن يوسف كان يعلم قدومهم لما انتظر حتى يدخلوا عليه بأنفسهم، لأن الفضول ربما كان سيدفعه للنظر إليهم ولو من بعيد. فهو قد تركهم منذ زمن، وكانوا هم حينها أصحاب الأمر الفصل، وها هم اليوم يقدمون إليه طالبين المعونة، فلم يعودوا في أحسن حال لهم.

السؤال الذي نظن أنه محوري في فهم قصة يوسف مع إخوته منذ هذه النقطة هو: لماذا دخلوا على يوسف؟

رأينا: غالبا ما صوّر أهل العلم دخول إخوة يوسف على أخيهم على أنه أمر ضروري لأنهم كانوا قادمين ليكتالوا من عنده، لكننا نطرح على أهل العلم والعامة على حد سواء التساؤل التالي: 
هل كان يدخل على يوسف كل من جاء ليكتال؟ هل كان يوسف يحضر بنفسه الكيل لكل من جاءه؟
رأينا: ذاك غير ممكن إطلاقا، لأن يوسف كان عنده من يقوم بهذه المهمة وهم فتيانه:

        وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

فالذين كانوا يقومون بمهمة الكيل للناس هم فتيانه وليس يوسف نفسه، فمن غير المنطقي أن يتواجد يوسف بنفسه عند كل كيل. فلا شك أن يوسف كان لديه مهام كثيرة يقوم بها لتصريف أمر الدولة.

السؤال: وأين كان يتواجد يوسف عندما دخل عليه إخوته؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن يوسف كان يتواجد في مكان حكمه، وهو المكان نفسه الذي دخلوا عليه فيه عندما جاءوا إليه بأخيهم الذي طلبه منهم:

        فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99)

وهو المكان نفسه الذي رجعوا ليدخلوا عليه فيه عندما أرسلهم إليه أبوهم ليتحسسوا من يوسف وأخيه

يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)

وهو المكان نفسه الذي دخل عليه جميع أهله فيه بمن فيهم والده يعقوب حيث خروا لهم جميعا سجدا بعد أن رفع أبويه على العرش:

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

السؤال: أين إذن كان يتواجد يوسف؟
رأينا: في المكان الذي يتواجد فيه عرشه.
السؤال المحوري هنا هو: لماذا دخل إخوة يوسف على يوسف هناك إذن؟ لِم لَم يتم الكيل لهم من قبل فتيان يوسف دون الحاجة أن يدخلوا على يوسف إلى مكان عرشه؟

رأينا المفترى: نحن نفتري القول أن الدخول على يوسف نفسه لم يكن ممكنا في تلك الظروف إلا للحاجة القصوى، فطلب الكيل بحد ذاته (نحن نظن) لا يستدعي حضور يوسف أو الدخول عليه، وما كان دخول من يكتل على يوسف ممكنا إلا إذا كان الأمر يستدعي ذلك.

السؤال: متى كان الدخول على يوسف ممكنا من قبل من جاء يطلب الكيل
جواب مفترى: نحن نظن أن دخول من جاء يطلب الكيل على يوسف يصبح لازما متى ما حصلت مشكلة ما لا يستطيع أن يبت فيها القول إلا يوسف نفسه. فكيف حصل ذلك؟

تخيلات: نحن نتخيل أن إخوة يوسف قد جاءوا مسرعين طالبين الكيل، فتوجهوا إلى المكان الذي سيكتالون فيه، فوجدوا فتيان العزيز هم من يقومون بهذه المهمة، وهنا نشبت مشكلة ما بحق هؤلاء الغرباء لا يستطيع حلها إلا العزيز نفسه، فتم إحالتهم إلى يوسف ليعرضوا عليه تلك المشكلة، ليكون قوله هو القول الفصل فيها.

السؤال: إن صح ما تزعم (يقول صاحبنا): فماذا كانت تلك المشكلة؟
رأينا: للإجابة على هذا التساؤل لابد من إثارة تساؤل آخر وهو: هل تظنون – يا سادة- أن ذلك الكيل الذي يتوافر عند يوسف هو من حق كل من حضر طالبا له؟ هل تظنون أن يوسف كان يعطي الكيل لكل من طلبه؟ ألم يكن هناك شروط "محددة" يجب توافرها فيمن جاء يطلب الكيل؟
جواب مفرى: لا شك عندنا أن "عملية الكيل" للناس في تلك الظروف العصيبة لم تكن بالسهولة التي يتخيلها من يقرأ كتاب الله على عجل، فيوسف (قبل كل شيء) حفيظ عليم، يقوم بتوزيع تلك المحاصيل المتوفّرة عنده بالدقة المطلوبة، فيعطيها لمستحقيها، أليس كذلك؟
السؤال: هل كان إخوة يوسف ممن يستحقون تلك المعونة؟
جواب: كلا.
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأنهم ليسوا من أهل البلاد (مصر). فإخوة يوسف لم يكونوا من أفراد الدولة المصرية حينئذ. فهم قادمون من البدو، وهم غرباء عن أرض مصر، فلا يحق لهم (نحن نفتري القول) الحصول على المعونة مما تم تخزينه في سنين القحط ليسد حاجة أهل البلاد الأصليين (المصريين).

تخيلات: عندما حضر إخوة يوسف إلى المكان الذي يتم فيه الكيل، طلبوا من فتيان العزيز (الذين لا يعرفونه بعد) أن يكتالوا لهم، ولما كان فتيان يوسف يقومون بإعطاء الكيل ضمن قيود وسجلات رسمية، كان لابد من أن يأخذوا من هؤلاء القادمين من بعيد المعلومات الشخصية الضرورية كالاسم والعائلة والمسكن والمهنة، الخ. وعندما تبين لفتيان العزيز (نحن لازلنا نتخيل) أن هؤلاء الإخوة ليسوا من أهل البلاد المصرية، ما كان فتيان يوسف يستطيعون أن يكتالوا لهم، لأن الكيل هو من حق أهل البلاد فقط، عندها تم إحالتهم على الفور إلى صاحب القرار القطعي في ذلك وهو يوسف نفسه، ولهذا السبب – نحن نفتري القول- كان دخول إخوة يوسف على أخيهم مبررا:

وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58)

تخيلات: نحن نتخيل أن إخوة يوسف قد دخلوا على يوسف ليعرضوا عليه قضيتهم المتمثلة بأن فتيانه قد منعوهم الكيل لأنهم غرباء عن هذه البلاد، وهذا ما نجده في قولهم عندما رجعوا إلى أبيهم لا كيل معهم:

        فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)

السؤال: لماذا مُنع منهم الكيل؟
الفكر الشعبي السائد: غالبا ما ظن من يقرأ قصة يوسف بما أفهمهم إياه سادتنا العلماء أهل الدراية أن إخوة يوسف قد عادوا يحملون من عند يوسف كل ما لذّ وطاب في رحلتهم الأولى هذه، أليس كذلك؟

رأينا: نحن نظن أن إخوة يوسف قد رجعوا في رحلتهم الأولى وقد منعوا الكيل، فلم يكتل لهم يوسف، وجل ما جاءوا به من عند يوسف هذه المرة هو بعض المتاع:

وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)

لذا نحن نجد الضرورة تستدعي التفريق بين الكيل الذي منعهم إياه يوسف:

        فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)

والمتاع الذي عادوا به من عند يوسف، وهو الذي فتحوه عندما عادوا إلى أبيهم:
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)


السؤال: ما الفرق بين الكيل (الذي منعوه) والمتاع (الذي فتحوه)؟
رأينا المفترى: بداية نحن نظن أن المتاع هو ما يكفي المسافر في رحلته كما كان حال إخوة يوسف عندما ذهبوا به ليرتع ويلعب في رحلتهم خارج الديار عندما كان صغيرا:
قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)

كما نعتقد جازمين أن المتاع يشمل جميع حاجات المسافر ولا يقتصر على الطعام، (وسنتعرض لهذا بالتفصيل في الجزء القادم بحول الله وتوفيق منه).

لذا، نحن نظن أن ما عاد به إخوة يوسف من عند أخيهم في رحلتهم الأولى لم يكن سوى متاعهم الذي يكفيهم عناء السفر، ولكنهم في القوت ذاته قد منعوا الكيل كما جاء على لسانهم لأبيهم:
        فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)

السؤال مرة أخرى: لماذا مُنع منهم الكيل؟
جواب مفترى: لأن الكيل من حق أهل البلد الأصليين فقط، أي من كان ينتمي إلى شعب "ملك مصر" حينئذ.
السؤال: لماذا؟
رأينا: نحن نعتقد أن يوسف كان يدير شؤون الدولة المصرية حينئذ، وكان حفيظا على أرزاق الشعب، عليما بكيفية تصريفها بالطريقة الصحيحة، فيوسف يعلم أن تلك الأقوات هي حق للشعب المصري لا يحق له أن يعطي منها أحدا حتى لو كان من يطلبها هم إخوته، وحتى لو كان يعلم أنهم سيذهبون بها إلى أبيه ليأكل منها.

السؤال: لماذا؟
رأينا: لا شك عندنا أن الدولة المصرية حينئذ كان لها حدودها المعروفة جغرافيا، وأن الملك مسئول عن شعبه داخل حدود دولته، ولا شك أن لأفراد الدولة الحق في أن تساعدهم دولتهم في أيام الشدائد، ولكن للدولة أيضا حق على أفرادها بأن يدافعوا عنها في أوقات الحرب مثلا. لذا كان لزاما على كل من يطلب من الدولة المساعدة في أوقات الحاجة أن يكون مسجلا في قيودها ليتم استدعاءه "للخدمة العسكرية" في أوقات الحرب للدفاع عن الدولة من الأخطار التي قد تحدق بها.
نتيجة مفتراة: كان للدولة سجلات وقيود رسمية تبين بالتفصيل من هم المنطوين تحت لوائها ويعتبرون أنفسهم جزءً من تلك الدولة.

السؤال: لماذا منع إخوة يوسف الكيل؟
جواب: لأنهم لم يكونوا من "أفراد الدولة المصرية" الذين يستحقون أن تدفع لهم الدولة في هذا الوقت العصيب.
تخيلات: عندما جاء إخوة يوسف إلى المكان الذي يتم فيه الكيل، تم البحث في قيود الدولة عن أسمائهم، فلم يتم العثور عليها، عندها لم يستطع فتيان يوسف أن يكتالوا لهم لأنهم لاشك سيحاسبون على ذلك. فالأمر في عهد يوسف يختلف (ربما بعض الشيء) عن ما نراه في دولنا العربية الإسلامية العتيدة، الغنية بالثروات، "المعاقة" في توزيعها. فـ لعلي أجزم القول بأن فتيان يوسف كانوا على قدر من النزاهة (كعزيز مصر وملكها) تمنعهم من سرقة ونهب أموال البلاد والعباد. فالبلاد بثرواتها ليست مزرعة "للخلفوهم" يعيثون فيها فسادا كما يفعل أهل السياسة في وطننا العربي الإسلامي من المحيط إلى الخليج. وأنا مالي؟ شو دخلني بهالكلام؟!!!

المهم بالنسبة لنا هنا أن فتيان يوسف لم يكونوا ليكتالوا لإخوة يوسف مادام أن أسماء هؤلاء الغرباء لا تظهر في سجلات الدولة المصرية حينئذ. فتم إحالتهم إلى صاحب القرار القطعي في هذه القضية، فدخلوا على يوسف طالبين منه أن يحل لهم مشكلتهم هذه.
وما أن دخل إخوة يوسف على أخيهم حتى عرفهم وإن كانوا هم لازالوا له منكرين، فعرضوا عليه قضيتهم، ولكن يوسف (الحفيظ) لم يكن يستطيع أن يخرق القوانين، فهو يعلم أن هذه أموال للدولة، وأنها من حق أفراد الدولة فقط، توزع بالعدل والقانون، فلا يستطيع أن يخرقها لمجرد أن هؤلاء الطالبين للكيل هم إخوته، لذا كان رده عليهم على النحو التالي:
وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60)        

ولو تدبرنا هذه الآية الكريمة لما وجدنا أن يوسف ما قدّم لهم أكثر من جهازهم (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ)، مؤكدا لهم بأن الكيل لهم مشروط بأن يأتوه بأخ لهم من أبيهم.
تساؤلات
  • لماذا وضع يوسف هذا الشرط؟
  • كيف عرف يوسف أن لهم أخا آخر من أبيهم؟
  • لماذا لم يدخل هذا الطلب الريبة في نفوسهم؟
  • لماذا لم يتردد الأبناء من طلب أخيهم للذهاب معهم في المرة القادمة؟
  • لماذا لم يسأل يعقوب عن السبب الذي من أجله طلب عزيز مصر من أبناءه أن يأتوه بأخيهم من أبيهم؟ لماذا لم يستنكر يعقوب النبي طلب عزيز مصر هذا؟
  • الخ
رأينا: نحن نظن أن الإجابة على جميع هذه التساؤلات تكمن في عبارة واحدة قالها الأبناء لأبيهم عندما عادوا أليه وقد منعوا الكيل.

السؤال: ما هي تلك العبارة؟
رأينا: إنها عبارة "وَنَمِيرُ أَهْلَنَا":
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
السؤال: ما معنى "وَنَمِيرُ أَهْلَنَا"؟ وما هي الرسالة التي أوصلها الأبناء لأبيهم عندما ذكروا له ذلك؟
جواب: نحن نظن أن الأبناء قد أوصلوا رسالة لأبيهم مفادها أنه يستحيل عليهم الحصول على الكيل من عند عزيز مصر ما لم يتم "تنمير الأهل"، أي تسجيل أسمائهم جميعا في قيود وسجلات عزيز مصر ليكونوا جزء من الدولة المصرية، فـ "تنمير الأهل" يعني إعطائهم "نمرة"، أي سجلا مدنيا في قيود الدولة. وهذا في ظننا هو السبب الذي من أجله طلب يوسف أن يحضروا إليه أخاهم الذي من أبيهم، ولكن كيف ذلك؟

رأينا المفترى: نحن نتخيل أن الذين قدموا من البدو كانوا إخوة يوسف جميعا باستثناء واحد "وهو الأخ الشقيق ليوسف" الذي جاء خبره في الآية الكريمة التالية في بداية قصة يوسف:
        إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)

ولما كان هؤلاء الإخوة يسكنون على أطراف أرض مصر، لم يكونوا منطوين تحت لواء الدولة المصرية حينئذ، وما أن وصل الإخوة إلى مكان الكيل حتى طلب منهم فتيان يوسف المعلومات الشخصية وعدد البعير الذي سيحمل كيلهم، فما كان من إخوة يوسف إلا أن قدّموا معلومات صحيحة تماما عنهم تتمثل بأن عددهم أحد عشر شخصا، لذا فهم يطلبون أحد عشر كيلا، وأنهم قادمون من البدو، وأنهم...الخ. ولكن هذا لا شك أدخل الريبة في نفوس فتيان يوسف مادام أن الحاضرين منهم هم عشرة فقط، فكيف سيصدقون بأنهم يستحقون أحد عشر كيلا؟

رأينا: لقد كان ظن إخوة يوسف أن لكل شخص يكتب اسمه في سجلات الدولة الحق في كيل واحد، لذا عمدوا إلى تسجيل جميع اسمائهم بمن فيهم أخيهم الذي مكث عند أبيه، ولكن هذا الأمر لم يكن ليرضي فتيان يوسف لأن من أراد الكيل فلابد أن يكون حاضرا، فتم إحالة الملف بجميع تفاصيله إلى يوسف قبل أن يسمح للإخوة جميعا بالدخول عليه، وما أن بدأ يوسف ينظر بالملف حتى أصابته الحيرة في أمرهم لأن هذا العدد وهذا الوصف ينطبق على أهله في البدو، فوقف يوسف (نحن نتخيل) ليتساءل بينه وبين نفسه: هل فعلا هؤلاء هم إخوتي؟

رأينا: عندما نظر يوسف في ذلك الملف المربك الذي يحتوي جميع المعلومات عن هؤلاء الغرباء والتي جمعها فتيانه منهم قبل أن يسمحوا لهم بالدخول عليه، لم يستطع يوسف أن يتمالك نفسه، فأمر على الفور بأن يدخلوهم عليه، وما أن دخلوا عليه حتى كانت النتيجة كما تصورها الآية الكريمة التي بدأنا النقاش فيها في بداية هذه المقالة:
        وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58)  

وللحديث بقية
فالله وحده أسأل أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يهدينا رشدنا، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمّه ولو كره الكافرون، فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو العليم الحكيم – آمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
6 نيسان 2014