لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه9 ؟


خلص الجزء السابق من هذه المقالة إلى الزعم بأنّ المعراج إلى السموات العلى

(التي حاول الفكر الديني الإسلامي تسويقه لقرون من الزمن) لم يحصل إطلاقاً، ولم تكن رحلة النبي محمد – في رأينا- أكثر من رحلة من المسجد الحرام الذي ببكة إلى المسجد الأقصى الذي في بيت المقدس، مصداقاً لقوله تعالى:


سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الإسراء (1)


وحاولنا التركيز في نهاية ذلك الجزء من المقالة على جزئية غاية في الأهمية في هذه الآية الكريمة وهي الهدف من تلك الرحلة العظيمة، لنجد أن الهدف قد تلخّص في قوله تعالى " لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا"، لذا كانت الافتراءات التي وصلنا إليها تتمثل فيما يلي:








1. كانت رؤية بعض آيات الله تتطلب الذهاب إلى ذلك المكان (بيت المقدس)


2. لم يكن من الممكن أن يري نبي الله آيات ربه تلك من مكان المسجد الحرام (مكة)، وإلاّ لانتفى وجود هدف للرحلة


3. لم يكن هناك حاجة للعروج إلى السماء لأن آيات الله التي سيريها نبيه يمكن رؤيتها من هناك (المسجد الأقصى)، وإلاّ لما دعت الحاجة إلى لذهاب إلى بيت المقدس أصلاً، ولتوجه محمد من المسجد الحرام إلى السماء مباشرة (express باللسان الأعجمي)


4. عاد النبي مأموراً أن يولي وجهه في صلاته إلى بيت المقدس، فكانت تلك قبلته وقبلة المسلمين الذين يصلون معه قسطاً من الزمن


5. لم يكن النبي محمد راض تمام الرضا عن تلك القبلة فأخذ يقلّب وجهه في السماء باحثاً عن قبلة غيرها


6. لمّا كان الله هو العالم بنفوس عباده، علم أن تلك القبلة لم تكن ترضي محمداً تمام الرضا


7. استجاب الله تقلب وجه نبيه في السماء، فولّاه قبلة غير التي كان عليها


8. كان الكرم الإلهي على نبيه يتمثل في أنه تقبل أن يوليه القبلة التي يرضاها محمد بنفسه (فجعل المسجد الحرام هو القبلة التي يولي إليها وجهه)


9. كان تغيير القبلة أمراً كبيراً جداً في طبيعته حتى قال الله عنها "وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً"، وجاء إقرار رباني بأن في ذلك حجة للذين ظلموا علينا:


وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ البقرة (150)


10. وكان تحول القبلة أمراً كبيراً في نتائجه أيضاً، فحاول أهل الكتاب استغلال تلك الحادثة لشق صف المسلمين وزعزعة الإيمان عن عدد منهم، فكان ذلك ابتلاء حقيقياً للمسلمين:


وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ البقرة (143)


نتيجة: نحن نجد أنه من الضروري التأكيد مرة أخرى على ما خلصنا إليه في نهاية مقالتنا السابقة، حيث زعمنا أن النبي محمد قد أدرك في تلك الحادثة أن رؤية بعض آيات الله لا يمكن أن تتم إلا من ذلك المكان (المسجد الأقصى)، فكان ذلك سبباً لقلقٍ صاحَبَهُ فترة من الزمن على الرغم أنه ولّى وجهه في صلاته شطر المسجد الأقصى، فصلى بالمسلمين قسطاً من الزمن مولّياً وجهه شطره، لكن ذلك لم يمنعه أن يبحث عن قبلة غيرها، فكانت تلك الحادثة على الدوام – في رأينا- المحرك الأساسي لأن يقلّب وجهه في السماء، غير راض عن تلك القبلة، باحثاً عن البديل الذي يرضيه حتى تحقق له ما أراد:


قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)


وهنا نتوقف لنطرح التساؤل الأكثر أهمية وهو: لماذا لم يكن محمد راض عن القبلة الأولى حتى ظلّ يقلب وجهه في السماء؟


افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن هناك على الأقل سببان رئيسان دفعا بالنبي محمد لأن يقلب وجهه في السماء باحثاً عن القبلة التي يرضاها وهما:


1. رؤية الآيات


2. استرجاع الإرث الديني الذي فُقِدَ قسطاً من الزمن


وهذا ما سيشكل جل النقاش في هذا الجزء من المقالة، ولنبدأ بالسبب الأول وهو رؤية الآيات






رؤية الآيات


لا شك لدينا أن الهدف الرئيس من الرحلة كان رؤية بعض آيات الله، وسنحاول الخوض في معنى الآيات التي ترد في كتاب الله محاولين تسخير ذلك – بحول الله وتوفيقه- لفهم ماهية الآيات التي جيئ بمحمد إلى هذا المكان ليراها، وبالتالي فهم حقيقة ما حصل فعلاً في ليلة الإسراء تلك.


أما بعد،


فلقد جاء في كتاب الله في نفس الآية التي تتحدث عن الإسراء بنبي الله محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الهدف من تلك الرحلة واضحاً جليا، فقال تعالى:


سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الإسراء (1)


إنّ الملفت للانتباه هنا هو أن الذهاب في تلك الرحلة كان لهدف رؤية بعض آيات الله وليس كل آيات الله، فجاء النص على نحو"لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا"، إنّ أبسط ما يمكن أن نخلص إليه من هذه الحقيقة القرآنية هي أن هناك بعض آيات الله التي من أجل رؤيتها أسرى الله بنبيه محمد من المسجد الحرام الذي ببكة إلى المسجد الأقصى الذي في بيت المقدس، فماذا كانت تلك الآيات؟






الجواب: لقد ألزمنا طرح هذا السؤال ضرورة تدبر مفردة الآيات كما ترد في كتاب الله، فخرجنا بعد دراسة سطحية للمفردة بالافتراء التالي:


افتراء من عند أنفسنا: يمكن تقسيم الآيات كما ترد في كتاب الله إلى قسمين رئيسين وهما:


1. الآيات التي تتلى


2. الآيات التي ترى


فكثير ما ورد في كتاب الله الحديث عن الآيات التي تتلى:


وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يونس (15)


وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى ۚ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ سبأ (43)


سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فصلت (53)


وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الجاثية (25)


تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ البقرة (252)


وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ آل عمران (101)


تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۗ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ آل عمران (108)


لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ آل عمران (113)


وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ لقمان (7)


رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا الطلاق (11)


ولكن بالرغم من أن رسل الله كانوا على الدوام يتلون الآيات على أقوامهم، إلا أن القوم غالباً ما طلبوا نوعاً آخر من الآيات، وهي الآيات التي ترى بأم العين:


وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) العنكبوت


فلم تكن الأمم السابقة تكتفي بالآيات التي تتلى عليهم ليصدقوا الرسالة التي جاءت بها رسلهم من ربهم، وهو الأمر الذي استنكره الله عليهم (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ)، ولكنهم بحثوا عن الدليل (الآيات) المادي الذي يصدق دعوة الرسول (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ). وقضت إرادة الله أن ينزل بعض آياته ليراها الناس بأم أعينهم لتأكيد الآيات التي تتلى عليهم:


سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ الأعراف (146)


فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ يونس (92)


أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا الكهف (9)


قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (24) طه 21-24


وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ طه (57)


وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل 12-14


وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ النمل (82)


فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ القصص (36)


ويشدد القرآن الكريم بأن رؤية هذه الآيات المادية لم تكن على الدوام سبباً كافياً للناس لأن يقتنعوا بدعوة رسلهم، بل على العكس فقد اتخذ بعضهم تلك الآيات سخرية:


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ۖ وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)


وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ الزخرف (49)


وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)


ونعتها بعضهم بأنها أساطير الأولين:


إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ القلم (15)


إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ المطففين (13)


وقد نهانا الله أن نتخذ آياته (المتلوّة والمرئية) هزواً:


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة (231)


وذلك لأنه متى جاءت آيات الله، وكان التكذيب سمة القوم كان العقاب الرباني لا محالة نازل بالظالمين:


وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)






نتيجة بسيطة ومهمة جداً: نخلص من النقاش السابق إلى نتيجة بسيطة جداً مفادها أن الآيات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم يمكن أن تكون هي الدليل والبرهان على صدق رسالة دعوة رسل الله، ولكن هذا الدليل على نوعين:


1. دليل كلامي (آيات تتلى)


2. دليل مادي (آيات ترى)


ولكن لابد من الإشارة إلى ملاحظة مهمة وهي أنه كما جاء الرسل بهذه الآيات (الكلامية والمادية) من عند ربهم، لا يستبعد القرآن الكريم أن يؤتي الله هذه الآيات الكافر:


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ الأعراف (176)






قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىٰ (126) طه 125-126






وبعد هذه المقدمة الطويلة نعود إلى صلب الموضوع بطرح سؤالنا السابق الذي بدأنا به نقاشنا هذا هو: ما هي الآيات التي جيىء بمحمد إلى المسجد الأقصى ليراها؟


افتراء من عند أنفسنا: لا نظن أن محمداً جاء ليرى الآيات التي تتلى (فهي تتلى عليه في مكة)، لكنه جاء ليرى الآيات التي ترى، هل يبدو هذا صعباً على التفكر؟


وهنا سيبادرنا القارئ الكريم بالتساؤل الأكثر دقة بالقول: ما هي إذن تلك الآيات (التي يمكن أن ترى) التي جيئ بمحمد ليراها من هناك (في المسجد الأقصى) ولم يكن بالإمكان أن يراها من هنا (في المسجد الحرام)؟


الجواب: إنها آيات ربه الكبرى


سؤال: ولكن ما هي؟


جواب: عندما نتحدث عن الآيات التي ترى بأم العين، لا نجد صعوبة في أن نميّز بين الآيات التي يمكن أن يراها كل الناس وتلك التي خص الله برؤيتها بعضاً من خلقه، فلا يمكن أن يكون محمد قد جاء كل هذه المسافة ليرى الشمس أو القمر أو غيرها مما يمكن أن يراه الناس كلهم، فلقد أثبت الله في كتابه الكريم أن الناس العاديين يمكن أن يروا آيات ربهم:


اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) غافر


فهناك آيات كثيرة حولنا جعلها الله دليلاً على وجوده في كل وقت وحين، وهي آيات الله الكونية:


إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)


وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)


وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)


وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)


وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)






وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ الروم (25) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ الشورى (29)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)


وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الروم (24)


وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فصلت (37)


وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فصلت (39)


وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ الشورى (32)


نتيجة: من غير المحسوب لدينا أنه قد جيئ بمحمد كل تلك المسافة ليرى مثل هذه الآيات، فلا شك عندنا أن محمد قد جاء ليرى آيات من نوع خاص لا يستطيع كثير من الناس رؤيتها، ونحن نزعم الفهم أن تلك الآيات كانت آيات الله الكبرى، ولكن أين الدليل على ذلك؟


الجواب: إن الدليل على ذلك موجود في سورة النجم التي غالباً ما ظن أهل العلم أنها تدعم موقفهم في إثبات معراج النبي محمد إلى السموات العلى، وسنحاول تبيان كيف تنفي آيات هذه السورة الكريمة حصول المعراج إلى السموات العلى (إن هي قرءت بالطريقة التي نظن أنها صحيحة). لذا فنحن نستخدم الدليل نفسه لرد الفكر السائد عن القصة.






أما بعد،


يثبت الله تعالى في سورة النجم أن نبيه الكريم قد رأى من آيات ربه الكبرى:


مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17)


لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)


نعم، لقد أسري بمحمد من المسجد الحرام الذي ببكة إلى المسجد الأقصى الذي في بيت المقدس ليرى من آيات ربه الكبرى، ولو تدبرنا هذه الآيات الكريمة في سياقها الأوسع لوجدنا أنّ الإشارة إلى تلك الحادثة (حادثة الإسراء) واضحة:


وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1)


مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)


وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)


إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)


عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)


ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6)


وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7)


ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8)


فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)


فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10)


مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11)


أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12)


وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13)


عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ (14)


عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15)


إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16)


مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17)


لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)






حادثة الإسراء: تصور جديد


نحاول في هذا الجزء من المقالة طرح تصورنا لحادثة الإسراء بناء على قراءتنا (التي ربما تكون خاطئة) لهذه الآيات القرآنية التي تعرضت لهذه الحادثة، ونعتقد أن الخطوة الأولى في نقاشنا هذا تتمثل في رد ظن أهل العلم بأنّ هذه الآيات تثبت حصول معراج للنبي محمد إلى السموات العلى وذلك بدراسة مفردات الآيات كريمة دراسة متأنية محاولين الخروج باستنباطات يدعمها النص القرآني نفسه. ولكن كيف؟


إننا نظن أن الخطأ الذي وقع به علماؤنا الإجلاء عندما تصدّوا لتفسير هذه الآيات الكريمة تمثل على الأقل في أمرين أساسيين وهما:


1. عدم فهم ماهية الضمائر


2. عدم فهم معاني المفردات






مشكلة الضمائر


عند العودة إلى تفاسير أهل العلم تجد التضارب واضحاً في معرفة ماهية الضمير في هذه الآيات الكريمة (وبالتالي الكينونة التي يعود عليها الضمير في النصpronoun referent )، فتحدث بعضهم عن آية من هذه الآيات على أنها تخص النبي محمد، وتحدث آخرون عن الآية نفسها على أنها تتحدث عن جبريل، ولم يعدم ثالث أن يفتري – كما نفعل نحن الآن- بأنها تتحدث عن الذات الإلهية، لذا أصبح من المتعذر على الناس فهم النص بالدقة المنشودة (والقارئ الكريم مدعو لمراجعة أقوال العلماء في هذه الجزئية). أما نحن، فنعتقد جازمين أن معرفة ماهية الضمائر تسعف في فهم النص بشكل أكثر دقة، ولنحاول تقديم مثال على هذا الزعم.


مثال:


وردت الآية الكريمة التالية في بداية سورة الإسراء:


وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا الإسراء (2)


وتأكد المعنى في آية ثانية في سورة السجدة:


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ ۖ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)


السؤال: على ماذا يعود الضمير في مفردة "وَجَعَلْنَاهُ"؟ هل يعود على موسى أم على الكتاب أم على الاثنين معاً؟


لو راجعنا معظم كتب التفاسير لوجدنا أن العلماء غالباً ما انقسموا في فهمهم لمثل هذه الجزئية التي قد تبدو للوهلة الأولى بأنها بسيطة، لكنها – بكل تأكيد- ذات أهمية كبيرة لما سيترتب عليها من نتائج.


ونحن هنا نؤكد على موقفنا الذي ربما يتخذ شكل الشعار الثابت وهو: متى اختلفت الآراء، ضاعت الحقيقة[1]، فالعلماء يختلفون – في رأينا- عندما رينا- رأعندما لا يكون ما يقدمونه صحيحاً، وذلك لأن ظنهم عندئذ لا يكون أكثر من رأي غير مدعوم بالدليل المقنع، فلو كان لدى العلماء دليل مقنع (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) لما كان هناك فرصة للاختلاف، لأنّ الدليل سيكون حجة على الجميع، وسنحاول في هذا المثال أن نقدم حجتنا بخصوص ماهية الضمير في الآية قيد الدراسة، فإن كانت حجتنا صحيحة مدعومة بالدليل المقنع (أي البرهان)، يصبح من الصعب على الكثيرين (خاصة من طلب المعرفة) أن يجادلوا فيها.


رأينا: نحن نعتقد جازمين أن الضمير في مفردة "وَجَعَلْنَاهُ" في هذه الآية الكريمة تعود على الكتاب فقط، ولا تعود على موسى ولا تعود على الاثنين معا. ولكن أين الدليل؟


الدليل


أولاً، نحن نرى أن الضمير هنا لا يعود على الاثنين (موسى والكتب معاً) لأنه لو كان هذا الضمير يعود على الاثنين معاً لجاء بصيغة التثنية كما في المثال التالي:


مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (75)


أو كما في المثال التالي الذي يتحدث عن موسى وأخيه هارون:


اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43)


وهنا قد يحتج الكثيرون بالقول: لكن الفرق هنا واضح، ويتمثل في أن موسى بشراً بينما الكتاب شيء، لذا لم يجمعا معاً بضمير المثنى، فنقول لهم: ربما يكون كلامكم هذا صحيحاً، لذا نحن نحتاج إلى دليل آخر أكثر إقناعاً لإثبات الزعم الذي سقناه بأن الضمير هنا يعود على الكتاب فقط.


الدليل الثاني: نحن نحتاج أن نقرأ العبارة التي ورد فيها الضمير بشي من الدقة، فالله يقول " وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لنفهم أن للمفردة التي يعود عليها الضمير سواء كانت موسى أو الكتاب أو الاثنين معاً وظيفة ثابتة وهي أن يكون هدى لبني إسرائيل. لذا، إن كان الضمير يعود على موسى، يكون موسى بلا شك هدى لبني إسرائيل، وإن كان الضمير يعود على الكتاب يكون الكتاب هدى لبني إسرائيل، وإن كان الاثنان موسى والكتاب هدى لبني إسرائيل فلا ضير أن يعود الضمير على الاثنين معاً، ولكن – بالمقابل- إن تبيّن لنا أن موسى ليس هدى لبني إسرائيل، فلا يمكن أن يعود الضمير عندئذ على موسى، وإن تبيّن لنا أن الكتاب ليس هدى لبني إسرائيل، فلا يجوز أن نظن أنّ الضمير يعود على الكتاب، وهكذا.


نتيجة: الضمير يعود على الكينونة (سواء كان موسى أو الكتاب) شرط أن يكون هدى لبني إسرائيل.


وهنا نجد من الضروري أن نلفت الانتباه إلى أننا نتحدث هنا عن هداية الناس (أي أن يكونوا مؤمنين) وليس الهداية إلى الحق أو الطريق الصحيح، وذلك لأن الآية تتحدث عن هداية بني إسرائيل.


السؤال: من – يا ترى- يكون هدى لبني إسرائيل، موسى أم الكتاب (أم الاثنان معاً)؟


للإجابة على هذا السؤال ربما نحتاج أن نقرأ ما جاء في كتاب الله حول الهداية، ولنبدأ بقوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم:


إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ القصص (56)


وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا الفرقان (31)


إن أبسط ما يمكن أن نخرج به من استنباطات بعد قراءة هذه الآيات الكريمة هو أن الله ينفي أن يكون النبي محمد نفسه مصدر هداية للناس، فيستحيل أن يكون النبي (أي نبي كان) قادراً على هداية الناس، وذلك لأن وظيفة الرسول تتمثل في إبلاغ الرسالة فقط:


مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ المائدة (99)


ولا يظنن أحد بأن هذه المهمة قد أنيطت بمحمد فقط، بل هي مهمة جميع رسل الله:


وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ النحل (35)


قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) يس 16-17


نتيجة (1): تنحصر مهمة الرسول (أي رسول) بإبلاغ الرسالة فقط، فالرسول ليس هادياً للناس[2]


نتيجة (2): مادام أن الرسول يبلّغ ولا يهدي نستطيع أن نخلص إلى أن الضمير في الآية الكريمة التي نحاول تحديد الضمائر فيها (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) لا يمكن أن يعود على موسى، وذلك لأن موسى ليس أكثر من رسول يبلّغ رسالة ربه إلى قومه ولكنّه لا يهديهم.


لكن يبقى التساؤل التالي: إذا كان موسى لا يهدي، فهل يمكن للكتاب أن يهدي؟ دعنا لا ننسى أن الآيات التي قدّمناها تنفي الهداية عن موسى (لأنه رسول) وتحصرها في الله، لكنها في الوقت ذاته لا تثبت الهداية للكتاب، ولنعيد الآيات مرة أخرى لنتدبرها من هذا الجانب:


إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ القصص (56)


وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا الفرقان (31)[3]


نعم، تثبت هذه الآيات الهداية لله وتنفيها عن البشر (حتى لو كان رسولاً كمحمد)، فالبشر لا يهدون ولكن الله هو من يهدي، لكن هذا لا يجيب على التساؤل التالي:


السؤال: كيف يمكن للكتاب أن يهدي (مادام أن الله – كما تشير الآية نفسها- هو من يهدي)؟


الجواب: إن هذا السؤال يلزمنا استحضار آية أخرى من كتاب الله ستسعفنا في حل هذه الإشكالية، قال تعالى:


إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا الإسراء (9)


نعم، القرآن هو مصدر هداية، لكن الرسول ليس مصدر هداية، ونحن نطلب من القارئ الكريم مراجعة جميع آيات الكتاب العزيز التي تتحدث عن الهداية ليجد أن الهداية تنحصر في


1. الذات الإلهية


2. كتب الله


ولكن قد يبادرنا البعض بالقول أن الآية السابقة تتحدث عن القرآن وليس عن كتاب موسى، فهل يمكن أن يكون كتاب موسى (كما القرآن) مصدر هداية؟


الجواب: نعم كل كتب الله (بما فيها القرآن وكتاب موسى) هي مصدر هداية، ولنقرأ الآية الكريمة التالية التي تجمع القرآن الكريم مع كتاب موسى على أنه مصدر هداية:


قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ الأحقاف (30)


وحتى يتيقن القارئ الكريم وجاهة ما نزعم، فإننا نجد لزاماً أن نذكره بما جاء في الآية الكريمة التالية التي تؤكد أن الله هو من جعل كتابه سبباً في الهداية:


وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ الشورى (52)


وهنا ربما نصل إلى ذروة ما نود أن نفصّله عن الفرق بين الهداية التي تخص الرسول والهداية التي تخص كتب الله، فكتب الله جميعاً هي هداية للناس مصداقاً لقوله تعالى:


نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ۗ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) آل عمران 3-4


نتيجة: كتاب موسى (كما القرآن الكريم) هو مصدر هداية






خلاصة: لقد خلصنا من المناقشة السابقة إلى الاستنباطات التالية:


1. البشر ليسوا مصدر هداية للناس (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)


2. الله هو مصدر الهداية (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)


(وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)


3. الكتاب مصدر هداية (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)


(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)


(مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ


مِنْ عِبَادِنَا)


(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ


قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ)


في ضوء هذه الاستنباطات ربما يمكننا الآن الرجوع إلى الآية محط الدراسة وقراءة الضمير فيها بطريقة تتميز بشيء من الدّقة:


وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا الإسراء (2)


فعلى ماذا يعود الضمير في "وَجَعَلْنَاهُ"، على موسى أم على الكتاب أم على الاثنين معاً؟ ماذا ترى عزيزي القارئ؟!






إن مثل هذا الطرح ربما يشكل حجة يصعب المجادلة فيها وربما ينهي الاختلاف في الرأي حول هذه الجزئية، ومن أراد أن يرد كلامنا هذا، فعليه أن يقدّم لنا حجة أكثر قوة وإقناعاً من حجتنا هذه، وإن هو فعل، فنحن - بلا شك- على استعداد أن نتخلى عن موقفنا على الفور ونتبنى الرأي الذي يظنه هو صحيحاً، فالعلم يؤخذ بالحجة وليس بالرأي.


نتيجة: نحن بحاجة أن نراقب الضمائر في مطلع سورة النجم مراقبة جيده لتسعفنا في فهم النص القرآني بشيء من الدقة المنشودة إن نحن أردنا فهم ماهية ما حصل فعلاً في ليلة الإسراء، ونحن نجزم أن الخطأ في فهم ماهية الضمائر قد سبّب إشكالات في الوقوف عند المعاني الحقيقية التي يجليها النص القرآني.






مشكلة المفردات


أما المشكلة الأخرى التي ربما لا نعدم الدليل أن نزعم بأن أهل العلم – كعادتهم- قد أخفقوا إخفاقا شديداً في فهمها فهماً صحيحاً ودقيقاً فهي مشكلة معاني المفردات، فنحن نتحدى أن يقدّم لنا أحد كلاماً يعتبر قولاً فصلاً في معاني مفردة واحدة من مفردات هذه الآيات الكريمة التي وردت في مطلع سورة النجم التي سنحاول تسليط الضوء عليها بعد قليل، وسنرى أن فهم (أو حتى محاولة فهم) هذه المفردات بالطريقة الصحيحة سترشدنا – بحول الله- إلى أفهام ربما تكون أكثر دقة وتميزاً مما ألف الناس في بطون الكتب الصفراء. ولكن قبل الدخول في تفصيل مفردات تلك السورة الكريمة لابد أن نقدم مثالاً واحد لنبين كيف يخفق العلماء (وبالتالي العامة الذين ينقادون لرأيهم دون عناء التفكر) في فهم آية كريمة عندما يكون فهمهم مدفوعاً بالفهم الشعبي السائد الذي قد لا يستند على الحجة من كتاب الله.






مثال:


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة (6)


نقدم هذه الآية الكريمة لنسأل عن معنى مفردتين اثنتين وردتا في هذه الآية الكريمة وهما مفردة الوجه ومفردة الرأس، لنسأل بعدئذ سؤالاً قد يبدو للكثيرين بأنه بسيط وغريب (وربما غير ضروري):


1. ما هو الوجه؟ ما المقصود بالوجه في هذه الآية الكريمة؟


2. ما هو الرأس؟ ما المقصود بالرأس في هذه الآية الكريمة؟


لا أظن أن مثل هذه المفردات قد استوقفت أهل العلم كثيراً، فهي تعتبر من المسلمات التي يظنون أنهم يعرفونها، وسنحاول تبيان كيف أن معرفتهم تلك كانت على الدوام معرفة مغلوطة (وبالتالي فقد بنوا كثيراً من الأحكام التشريعية على هذه المعلومة المغلوطة) وذلك لسببين رئيسيين:


1. كانت معرفتهم مستندة على ما ألفوا من أفهام عند العامة


2. لم يحاولوا تهذيب معرفتهم تلك بالحجة المأخوذة من كتاب الله


ولكن كيف؟


لو فاجأت أحدهم بالسؤال عن معنى مفردة الوجه أو معنى مفردة الرأس، لربما أثار هذا السؤال السخرية في الرد عند الكثيرين لظنهم أن هذا سؤال عن بديهيات ومسلّمات لا يمكن المجادلة فيها، وكأن لسان حالهم يقول: ألا تعرف ما الوجه وما الرأس؟ هل أنت فعلاً جاد في سؤالك هذا؟


وعندما كنت ألح في السؤال (حتى في محاضرات طلبة الدراسات العليا) محاولاً أن أطلب من أي شخص أن يحدد لي ذاك الشيء الذي نسميه رأساً أو وجهاً، كان يفعل ذلك بالإشارة إلى الجزء من الجسم الذي يعرف الناس أنه هو الوجه أو أنه هو الرأس.


وهنا كنت أفاجئهم بالتساؤل التالي: إذا كان الرأس هو هذا الجزء من الجسم الذي يظهر في الشكل التالي كما يحدده الناس عندما تسألهم عنه:










(المصدر: http://www.google.jo/#hl=ar&site=&source=hp&q=head+picture&rlz=1R2RNQN_enJO474&oq=head+picture&aq=f&aqi=g-L2g-vL1g-jL3&aql=&gs_l=hp.3..0i19l2j0i15i19j0i18i19l3.2964l8970l0l11450l12l12l0l3l3l0l250l1950l0j1j8l9l0.frgbld.&bav=on.2,or.r_gc.r_pw.,cf.osb&fp=908800666546803c&biw=1001&bih=421)


إذن، كيف يمكن أن نفهم قول الله في كتابه (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) في الآية التي تتحدث عن الوضوء؟


لم يكون المسح فقط على ذلك الجزء العلوي والخلفي من الرأس الذي يكون عادة مغطى بالشعر؟ لم لا نمسح على الوجه مادام أن الوجه (كما يظهر في الصورة وكما يفهم الناس) هو جزء من الرأس؟


كلا وألف كلا، ذلك ليس هو الرأس، فهناك فرق بين الرأس والوجه


نتيجة: إننا نفهم أن الرأس هو ذلك الجزء الذي يمسح مسحاً في الوضوء، بينما الوجه هو ذلك الجزء الذي يغسل غسلاً، فما يظهر في الصورة في الأعلى ليس كله رأساً بل هو رأس (الجزء العلوي والخلفي) ووجه (الجزء الأمامي) مصداقاً لقوله تعالى:


وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)


فتخيل – عزيزي القارئ- ما الذي يجب فعله حسب هذه الآية الكريمة لو كانت مفردة الرأس تشمل الرأس والوجه معاً (كما فهم علماؤنا الأجلاء)؟ ألا نصبح عندها ملزمين بحلق الشعر الذي ينبت في الوجه كاللحية والحاجبين وحتى رموش العينين؟ من يدري!!!


نتيجة مهمة جداً: الوجه ليس جزءاً من الرأس (وارأس لا يشمل الوجه) لأنه لو كان الوجه جزءا من الرأس لجاز المسح عليه مسحاً ما دام أن الأمر الإلهي جاء بالمسح على الرؤوس، ولأصبح حلق شعر الوجه واجباً في الحالات التي طلب فيها منا بحلق رؤوسنا كشعيرة من شعائر الحج مثلاً.[4]


عواقب هذا الفهم على أحكام الوضوء


الرأس: مادام أن الرأس – حسب فهمنا الآن- هو الجزء العلوي الخلفي من الشكل الذي يظهر في الصورة وهو – بلا شك- منفصل عن الوجه، فإن كل جزء منه يمسح مسحاً في الوضوء، لذا يمكننا الآن الإجابة على السؤال التالي: لماذا لا نغسل الآذان في الضوء ونكتفي بالمسح عليها (بالرغم أن الآية الكريمة التي تتحدث عن الوضوء لا تأتي على ذكر الآذان)؟


الجواب: لأن الآذان جزء من الرأس، لذا فهي تمسح مع الرأس مسحاً.






الوجه: مادام أن الوجه – حسب فهمنا الآن- هو فقط الجزء الأمامي من الشكل الذي يظهر في الصورة وهو مفصل عن الرأس، فإن كل جزء من الوجه يغسل غسلاً في الوضوء، وبهذا الفهم ربما يمكننا الإجابة على التساؤل التالي: لماذا نغسل الفهم (بالمضمضة) والأنف (بالاستنشاق) (بالرغم أن الآية الكريمة التي تتحدث عن الوضوء لا تأتي على ذكر الفم والأنف)؟


الجواب: لأنهما جزء من الوجه، لذا فهما يغسلا غسلاً[5]


نتيجة: غالباً ما اختلف أهل العلم في بعض أفعال الوضوء، فقسّموها إلى فروض (كغسل الوجه ومسح الرأس) وسنن (كالمضمضة والاستنشاق)، ونحن إذ لا نريد أن نخوض في آرائهم تلك، لكننا نطلب منهم أن يقدموا لنا حادثة واحدة توضأ الرسول فيها بالماء ولم يغسل فمه بالمضمضة أو أنفه بالاستنشاق (بل على العكس فقد طلب منّا المبالغة بالاستنثار عند الوضوء)، فأنا لا أعلم من أين جاءت تقسيماتهم هذه إلى فرائض وسنن غير فهمهم الخاطئ لمفردات النص القرآني، فعندما ظنوا أن الآية الكريمة لم تأتي على ذكر الآذان والفم والأنف جعلوها من السنن، واقتصرت الفرائض عندهم على الوجه واليدين إلى المرفقين والوجه والرأس (كما فهموها بالطبع). ولكننا نستميحهم العذر لمخالفتهم الرأي لنقول لهم: لو تدبرتم - يا علماءنا الإجلاء- معنى مفردة الوجه كما يحددها النص القرآني (وليس كما فهمتموها من آبائكم) لربما علمتم أن كل ما في الوجه (كالفم والأنف) يغسل غسلاً مادام أنه جزء منه، ولو تدبرتم معنى مفردة الرأس لعلمتم أن كل ما في الرأس (كالأذنين) يمسح عليه مسحاً ولا يغسل غسلاً. ولما استعصى عليكم الفهم أن الرأس شيء والوجه شيء آخر.


سؤال: هل هناك مفردة واحدة في العربية تجمع الوجه والرأس معاً؟ أو ما هو ذاك الشيء الذي يظهر في الصورة السابقة ككتلة واحدة؟


الجواب: لازالت الغالبية الساحقة (إن لم يكن كل) أبناء العربية يظنون أن الرأس هو ذلك الشيء الذي فوق العنق، أليس كذلك؟ لكننا نستوقفهم هنا لنقول لهم بأننا لا نظن أن هناك مفردة في العربية تجمع الرأس والوجه معاً، وجل ما يمكن أن نسمي به ذلك الشيء الذي يجمع الرأس والوجه معاً هو "فوق العنق"، فالعنق مثلاً ليس جزءاً من الرأس أو الوجه:


إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[6] الأنفال (12)


فمادام العنق ليس جزءاً من الوجه فهو لا يغسل في الوضوء، ومادام العنق ليس جزءاً من الرأس فلا يمسح عليه في الوضوء.[7]


نتيجة: لقد قدمنا هذا المثال لنبين أن الحاجة ملحّة على الدوام للتوقف عند معاني المفردات مهما ظننا أنها بسيطة، لأن فهمها غالباً ما يكون مغلوطاً خاصة إن كان مدفوعا بالفهم العام السائد غير المستند على الحجة من كتاب الله.






عودة على بدء


سنحاول العودة الآن لنقدم فهمنا الخاص لآيات مطلع سورة النجم مركزين على أمرين أثنين وهما (1) ماهية الضمائر و (2) معاني المفردات في هذه الآيات الكريمة، علّنا نستطيع – إنْ أذن الله لنا بشيء من علمه- أن نخرج بقصة لا نعدم الرجاء أن تكون أفضل مما توارثه الناس من تخاريف وتحريفات منقول جلها عن يهود.






أما بعد،


سنبدأ نقاشنا هنا بإثارة تساؤلات حول هذه الآيات الكريمة:


1. ما هو النجم؟ ولماذا يقسم الله بالنجم في بداية هذه السورة الكريمة بالذات؟


2. لم قال الله "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ"؟


3. من الذي لا ينطق عن الهوى؟


4. من الذي كان قوله وحياً يوحى؟


5. مَنْ الذي علّم مَنْ؟


6. من هو شديد القوى؟


7. من المقصود ب "ذو مرة"؟ وما معناها؟


8. من الذي استوى؟ وما معناها؟


9. من الذي كان بالأفق الأعلى؟


10. من الذي دنا فتدلى؟


11. ومن الذي كان قاب قوسين أو أدنى؟


12. الخ.






إنّ الإجابة الصحيحة – في رأينا- على هذه الأسئلة يجب أن تبدأ بمتابعة حركة الضمائر في هذه الآيات الكريمة، وذلك بإثارة السؤال التالي: من الذي قام (أو لم يقم) بكل فعل من هذه الأفعال كالضلالة والغوي والنطق والتعليم والاستواء والدنو والتدلي والاقتراب قاب قوسين أو أدنى، وهكذا؟






أما بعد،


لنبدأ بتفصيل هذه الآيات الواحدة تلو الأخرى مركزين على حركة الضمائر فيها


1. الضلالة والغوي في قوله تعالى " مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ". فمن الذي "ما ضل وما غوى"؟


لا شك عندنا أن الحديث هنا جاء عن النبي محمد، فهو صاحبنا، وهو الذي ينفي الله عنه أن يكون قد ضل أو أنه قد غوى، ولعل هذا هو قول معظم أهل العلم، فنحن لم نبتعد كثيراً بعد.


2. النطق " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ"


لا شك لدينا أن المقصود هنا هو النبي نفسه، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، والسبب في ذلك هو لأن قوله وحي من ربه " إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ"، وهذا أيضاً يوافق رأي معظم أهل العلم.


3. التعليم عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ


وهنا نتوقف أكثر لنتساءل: مَنْ الذي علّم مَنْ؟ لا شك لدينا أن الله هو من علّم نبيه؟ فلا داعي لإقحام جبريل في الموقف، فالتعليم حصل من المعلم (الله) إلى المتعلم (النبي) مباشرة، لذا فإن الله (شديد القوى) هو من علم نبيه، ولكن أين حصل ذلك؟


الجواب: وهو بالأفق الأعلى (وسنأتي على تفصيل هذه الجزئية بعد قليل)






4. من هو "ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ"؟


هنا تبدأ تفسيرات أهل العلم بالتباين. فهناك من يظن أن الآية الكريمة تتحدث عن النبي محمد وهناك من يرى أنها تخص جبريل وهكذا، لكننا نرى أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الذات الإلهية، ولكن كيف؟


أولاً، من المعلوم بالضرورة لدينا أن الذي استوى هو الله، لأنه هو ذو مرة، ونحن نظن أنه لو كان المقصود هنا النبي محمد، لجاء اللفظ على نحو "ذي مرة" (أو ربما ذي مرة) لأن "ذو" - كما يعلم الجميع- من الأسماء الخمسة التي تكون مرفوعة إن عادت على مرفوع ومنصوبة إن عادت على منصوب، فالذي علّم في الآية السابقة هو الله، والذي تعلم هو النبي محمد، لذا تعود "ذو مرة" على المعلم الله وليس على المتعلم النبي محمد.


ثانياً، ربما لا يجب علينا أن نغفل هنا أن الآية تدلنا على حدوث استواء "ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ"، ولو دققنا في النص القرآني لربما وجدنا أن حركة الاستواء لا تكون إلا لله، فالإنسان لا يستطيع أن يستوي إلا أن يكون هناك ما يستوي عليه كحالة نوح ومن معه عندما استووا على الفلك:


فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ المؤمنون (28)


أو السفينة التي استوت على الجودي:


وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هود (44)


أو الاستواء على ظهور الأنعام:


لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)


لذا لا نعتقد أن محمد يستطيع الاستواء ما لم يكن هناك ما يمكنه من الاستواء، أما الله فهو يستوي على الأشياء وإلى الأشياء كيفما يشاء ويريد، فهو الذي استوى على العرش:


الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ طه (5)


وهو الذي استوى إلى السماء:


ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فصلت (11)


5. من الذي كان بالأفق الأعلى (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ) المعلم أم المتعلم؟


وهنا يزيد التباين في تفسيرات أهل العلم، ونحن إذ لا نقصد أن نعيد ما قال الأقدمون، نريد فقط أن نُمْنح فسحة من المكان والوقت لتمرير رأينا، ثم الانتظار لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور في نهاية المطاف


رأينا: نحن نعتقد جازمين أن الذي كان في الأفق الأعلى هو المعلم (الله) وليس المتعلم (نبيه)، فيستحيل أن يكون المتعلم في الأفق الأعلى والله هو من قال عن نفسه:


سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)


فالوجود في المكان الأعلى يستحيل أن يكون لأحد غير الله، ويؤكد زعمنا هذا ما جاء في الآية التي تليها، لأن قراءة الآيات معاً تؤكد أن الفاعل الذي قام بهذه الأفعال هو نفس الكينونة:


عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)


ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6)


وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7)


ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8)


فالضمير في هذه الآيات جميعاً يعود – حسب زعمنا- على الفاعل نفسه، فإن نحن استطعنا أن نثبت من هو الفاعل في واحدة منها، استطعنا تعدية ذلك إلى الآيات الثلاثة الأخرى.


6. من الذي دنا فتدلى "ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ"؟


إننا نعتقد أن الذي دنا فتدلى هو الله نفسه وليس النبي محمد (كما زعم الكثيرون)، فالاقتراب حصل من الله إلى نبيه وليس العكس كما كان ظن معظم أهل العلم، ولكن أين الدليل؟


لو ركزنا على اتجاه الحركة، لوجدنا أنها حركة من الأعلى إلى أسفل وليس العكس، فمن قام بهذا الفعل فقد نزل ولم يرتفع لأنها حركة دنو (اقتراب) وتدلي (نزول من الأعلى إلى أسفل)، فها هو وارد السيارة الذين وجدوا يوسف في البئر يدلي دلو:


وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)


فهو إذاً يقوم بحركة من الأعلى إلى أسفل، وبهذا المنطق يمكننا فهم أنه لو كان الذي قام بفعل الدنو والتدلي النبي محمد (كما زعم الكثيرون) لتصورنا المشهد على أن النبي محمد يدنو (أي يقترب) من الذات الإلهية ثم ما يلبث أن يتدلى (أي ينزل من الأعلى إلى أسفل)، وهذا ما لا يمكن قبوله أو حتى تصوره مادامت القاعدة العقائدية لدينا هي أن الله هو الأعلى. وأما من ظن أن ذاك يخص جبريل فنقول له: ما الداعي أن يقوم جبريل بفعل الدنو ثم التدلي وهو ما انفك يزور محمد في مكة صباح مساء؟ ويستحيل –بالمنطق نفسه- أن يكون جبريل هو من دنا ثم تدلى من الذات الإلهية لأن هذا يعني أن جبريل ما أن اقترب من الذات الإلهية (دَنَا) حتى اضطر أن ينزل (فَتَدَلَّىٰ) وبهذا يكون جبريل في مكان أعلى من المكان الذي يتواجد به الذات الإلهية، فهل يعقل مثل هذا الكلام؟!






7. من الذي كان قاب قوسين أو أدنى " فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ"؟


لا شك لدينا أن الضمير لازال يعود على من كان الخطاب عنه في الآيات السابقة، فلو تدبرنا هذه الآية مع الآية التي سبقتها لوجدنا أن الضمير لازال يعود على الكينونة نفسها، فليس هناك ما يدعو لتغيير ماهية الضمير:


ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8)


فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)


فالذي كان قاب قوسين أو أدنى هو من دنا فتدلى، فتلك الحركة من الدنو والتدلي هي من جعلته قاب قوسين أو أدنى، ولو تدبرنا الآية التي تليها لوجدنا أنها تعزز هذا الفهم.


فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)


فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10)


8. فمن الذي أحوى إلى عبده ما أوحى؟


فمن هو المعبود (الذي أوحى) ومن هو العبد (الذي أوحي إليه) يا علماء الأمة؟ هل يعقل أن يكون محمد عبد لجبريل ليوحي إليه؟


9. "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ"، على ماذا يعود الضمير في هذه الآية الكريمة؟


لا شك عندنا أن القارئ (حتى غير المتدبر للقرآن) لهذه الآية الكريمة يشعر أن ماهية الضمير قد اختلفت في هذه الآية الكريمة، فالآية تتحدث عن كذب وعن فؤاد، وينفي الله أن يكون ذلك الفؤاد قد كذب ما رأى، فنحن نعتقد جازمين أن الضمير هنا يخص النبي محمد.


10. وأخيراً نحن نعتقد أن باستطاعتنا تقديم الدليل الحاسم الذي يثبت أن النبي محمد لم يعرج إلى السماء (فليس هناك معراج) ولكن الله هو من نزل في تلك الليلة المباركة (فكان هناك نزول). والدليل يأتي من الآية الكريمة التي جاءت في السورة نفسها، السورة التي استخدمها علماؤنا الأجلاء قروناً من الزمن لتسويق بضاعتهم بحصول معراج للنبي محمد إلى السماء العلى في تلك الليلة، والآية هي قول الحق:


وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ


ألا تدلنا هذه الآية من سورة النجم نفسها– يا سادة- على أن هناك رؤيا أخرى ونزلة أخرى؟ فمتى إذن كانت الرؤيا الأولى والنزلة الأولى؟ ومن الذي رأى ومن الذي نزل؟


ألم تقرءوا – يا علماء الأمة- مطلع سورة سبأ:


يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)


أو ما جاء في سورة الحديد:


هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)


ألا تدلنا هذه الآيات الكريمة أن الحركة إلى السماء هي حركة عروج وأن الحركة من السماء إلى الأرض هي حركة نزول "وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا"؟ فما الذي حصل في تلك الليلة نزول كما تدل الآية الكريمة "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ" أم عروج كما أحببتم أن تتخيلوها في أذهانكم؟ ومن يجب أن نثق به ونصدقه أكثر – نحن العامة- النص القرآن أم عقولكم يا سادة؟[8] !!!






وللحديث بقية بحول الله وتوفيقه


29 آذار 2012


المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان


بقلم د. رشيد الجراح



















[1] وهذا المبدأ يتناقض كلياً مع المقولة الشعبية السائدة التي فحواها أن في اختلاف الأمة رحمة للأمة، فنحن نظن العكس تماماً فنزعم أن في اختلاف الأمة مضيعة للحقيقة.


[2] ونحن نستنكر ما يقوله كثير من الخطباء على منابر الخطابة (عن قصد أو غير قصد) عندما يحاولون في بداية كلامهم أو في نهايته الثناء على النبي محمد بأنه الهادي الأمين، فلقد سمعت مثل هذه العبارة كثيراً، وهنا أتوقف لأسأل: كيف يجرؤ علماؤنا أن ينعتوا النبي محمد بأنه هادي وهم يتلون قول الحق:


إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ القصص (56)


وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا الفرقان (31)


فلابد لهم من التفريق بين هداية الناس والهداية إلى الحق أو إلى الطريق المستقيم، فالنبي لا شك يهدي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ولكنه لا يستطيع أن يهدي الناس. لأنه لو كانت الهداية للحق من عند النبي نفسه، لا يصبح هناك معنى للدعوة، فالرسول يمكن أن يهدي الناس إلى الطريق لكنه لا يستطيع أن يجعلهم مؤمنين. فيجب على علمائنا التنبيه إلى هذه الجزئية حتى لا يقع الإنسان في تناقض عندما يسمع كلامهم ومن ثم يستذكر الآيات السابقة التي تحصر هداية الناس بالله وحده.


[3] لاحظ أنه في حين أن الله هو هادياً ونصيرا معاً، فإن الكتاب يهدي لكنه لا ينصر.


[4] وغالباً ما أخطأ الناس في الفهم عندما ظنوا أن رأس الشيء هو أعلاه، فلو كان كلامهم هذا صحيحاً لما خرج الناس – برأينا- بمفردات مثل رأس البصل، ورأس الثوم، ورأس الملفوف، ورأس الزهرة من الخضروات مثلاً (على الأقل هذا ما نقوله نحن في الأردن)، لأن الرأس من هذه النباتات هو أسفلها أو ما يكون أحياناً تحت التراب، ولو طرحنا السؤال التالي:لم يستخدم أبناء العربية مفردة الرأس مع هذه الخضروات مثلاً ولا يستخدموها مع الطماطم أو البطاطا أو مع الفواكه كالتفاح والبرتقال وغيرها بالرغم أنها متشابهة جداً في شكلها الدائري؟


رأينا: إننا نظن أن الرأس لا علاقة له بالشكل أو الصنف وغيرها وإنما هو مفردة متعلقة بالوظيفة، فلو راقبنا الخضروات التي يطلق عليها رأس (كالبصل والملفوف والزهرة وغيرها) لوجدنا أن الرأس منها هو منبت الحياة، لأنه متى قطف هذا الرأس أنتهت حياة النبتة بأكملها، ولكن لو تمّ قطاف حبة الطماطم أو البطاطا أو التفاحة أوالبرتقالة فذلك لا يعدو أكثر من قطف الثمرة التي لا تؤثر على حياة النبتة إطلاقاً، فتبقى النبتة حية لتنتج غيرها.


إن ما يهمنا القول هو أن الرأس من الشيء (بغض النظر عن شكله وكينونته) هو منبت الحياة، ما أن يقطف الرأس حتى تنتهي الحياة، وبهذا المنطق يمكن فهم أي جزء من الانسان هو رأسه، فلو تم قطع اليد أو الرجل أو الكتف أو حتى الوجه، أو ... الخ. لما انهى ذلك حياة الكائن الحي، ولكن متى قطف الرأس انتهت حياته. لذا نحن نظن أن حياة الإنسان في بطن أمه تبدأ من الرأس الذي يمد سائر الجسم بالحياة، لكن متى توقف ذلك الرأس عن امداد الجسم بالحياة تحول ذلك الجسم إلى جسد لا حراك فيه ولا فائدة منه.


[5] يكون ذلك غسلاً متى توافر الماء، وإن لم يتوافر الماء يصبح الوجه مسحاً ويتعذر عندها المضمضة والاستنشاق


[6] إننا نظن أنه لو جاء الأمر الإلهي بضرب الرؤوس بدلاً من الضرب فوق الأعناق لأصبح لزاماً أن يأتي الضرب من الخلف فقط، ولكن لما كان الضرب فوق الأعناق فلا ضير إذاً أن تأتي الضربة من أي اتجاه.


[7] لاحظ كيف خاطب هارون أخاه موسى يوم أخذ برأسه وبلحيته:


قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)


فلو كان الرأس واللحية جزءاً واحد لما كان هناك حاجة للتفصيل فيهما، ولكن لما كان الشعر الذي ينمو على الرأس شيئا والشعر الذي ينبت على الوجه شيئا آخر كان لزاماً الفصل بينهما.


[8] إن أول ما يمكن أن يفكر به أهل العلم لرد ما زعمنا في هذه المقاله باستحالة حصول معراج للنبي إلى السموات العليا في تلك الحادثة هو حفنة من الأحاديث التي نسبوها للنبي محمد نفسه، لكني أدعو القارئ الكريم إلى تدبر بعض تلك الأحاديث نفسها ليجد فيها ما يرد ظن أهل العلم، فلقد اشتهر عن تلك الحادثة حوار المشركين مع الصديق أبي بكر ليخبروه بما "يزعم صاحبه" بحصول رحلة له في الليلة السابقة لحوارهم ذاك مع أبي بكر إلى بيت المقدس، فلقد اشتهر فيما يروى عن تلك الحادثة أن قريشاً جاءوا أبا بكر ليخبروه بأن صاحبه "يزعم" أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، فيجري ما يشبه الحوار التالي بينهم وبين أبي بكر:


أو قال ذلك؟


قالوا: نعم.


قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق.


قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح.


قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. (فلذلك سمي أبو بكر الصديق).






لو تدبرنا – عزيزي القارئ - هذه الحادثة لوجدنا أن الحوار بينهم كان عن الرحلة من البيت الحرام إلى بيت المقدس، ولا نجد كلاماً يدور بينهم عن معراج إلى السماء، فلو كان هناك معراج لبدأ الكافرون حوارهم به لأنهم أصلاً جاءوا ليكذبوا ما يقول محمد، فيستحيل أن يتحدثوا عن رحلة أرضية إلى بيت المقدس ويغفلوا عن ما هو أعظم وأخطر – في نظرهم- وهي الرحلة إلى السماء، فالذي يريد أن يكذب شخصاً يستخدم الحجة الأقوى لديه، فلو علم المشركون أن النبي كان يتحدث عن عروج إلى السماء لما كانت رحلة أرضية إلى بيت المقدس ستأخذ حيزاً كبيراً في مجادلتهم، لأن لديهم عندئذ حجة أكبر يمكن لهم أن يسوقوها لتكذيب النبي محمد في تلك اللحظة.


ولو تدبرنا رد أبي بكر في نهايته لوجدنا أن أبي بكر هو من يتحدث عن تصديقه للنبي فيما هو أبعد من ذلك، وكأن لسان حال أبي بكر يقول للقوم" أتريدوني أن لا أصدقه في رحلة كهذه والوحي يأتيه في الليل والنهار بخبر ما هو أبعد من ذلك، أي خبر السماء".


إن ما يهمنا قوله هنا هو أنه لو كان الخبر آنذاك عن إسراء وعن معراج، لكان جل الخطاب من المشركين منصباً على المعراج لأن غايتهم تكذيب محمد وكفى، فيستحيل أن يتحدثوا بالتفصيل عن الإسراء ولا يأتوا في خطابهم ذاك على ذكر المعراج (وهو الحجة التي ستكون في صالحهم كما يظنون).