فهرس المقالة
- ملخص الافتراءات السابقة والجديدة
- لغز ظهور يوسف أمام النسوة
- البرهان بين موسى ويوسف: اليد البيضاء والقميص
- الأصل النوراني للإنسان وفقدانه
- عودة إلى قميص يوسف: مصدر النورانية
- استراحة: تأملات في فقه الحج وأصله الإبراهيمي
- الربط النهائي: هيئة يوسف وهيئة الطواف
- خاتمة وتساؤلات للجزء القادم
- المؤلفون
- الهوامش
ملخص الافتراءات السابقة والجديدة
خلصنا في الجزء السابق إلى تقديم الافتراءات التالية:
- كان البرهان الذي رءاه يوسف فحال بينه وبين الوقوع في المعصية هو القميص
- يعقوب هو من ألبس يوسف ذاك القميص يوم أن أرسله مع إخوته ليرتع ويلعب كجزء من ميراث النبوة
- كان هذا القميص هو ما ستر الله به عورة إبراهيم يوم أن أخرجه من النار
- انتقل هذا القميص من إبراهيم إلى إسحق ومن ثم إلى يعقوب، فلم يكن لأي منهما إخوة ينافسونه على ملكيته
- كان ليعقوب أكثر من ولد فكان الأحق بالقميص هو يوسف من دون إخوته جميعا، ولم يستطع يعقوب أن يجزم بذلك إلا بعد أن قصّ يوسف خبر الرؤيا على أبيه.
وسنحاول في الأجزاء القادمة من هذه المقالة الخاصة بقصة يوسف وفي بقية مقالاتنا المتعلقة بقصة موسى أن ندافع عن الافتراءات الخطيرة جدا التالية والتي سيظهر من خلالها الربط بين قصة يوسف (آخر أنبياء بني إسرائيل من سلالة إبراهيم المباشرة) وقصة موسى (أول رسول لبني إسرائيل بعد انقطاع طويل)
الافتراءات الجديدة
- بالإضافة إلى القميص، كان هناك العصا التي استطاع إبراهيم بواسطتها الخروج من النار التي كانت جحيما (وهذه العصا هي التي كان يتنقل بواسطتها إبراهيم - كما سنفتري لاحقا- بين بيت المقدس والبيت المحرم – للتفصيل بداية انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: لماذا قدّم لوط بناته بدلا من ضيوفه؟)
- بقيت تلك العصا في يد يعقوب حتى انتقل إلى أرض مصر، فانتهت تلك العصا في ملكية يوسف
- بقيت تلك العصا وذلك القميص ضمن ممتلكات يوسف حتى هلك
- عندما هلك يوسف لم يدرك الحاضرون أهمية تلك العصا وذلك القميص، فظنوا أنها من موروثات النبوة فقط، فلم تقع العصا والقميص في يد أحد، فظن الناس حينئذ أن الله لن يبعث رسولا من بعد يوسف، فكان يوسف هو آخر ألانبياء الذين جعل الله فيهم ورثة الكتاب والنبوة المباشرة (إبراهيم- إسحق- يعقوب- يوسف):
(سورة غافر)
- كانت تلك العصا وذلك القميص هي البينات التي جاءهم بها يوسف (وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ)
- بقيت تلك البينات موروثات (من ممتلكات آل يعقوب)، فبقيت نعمة الله تامةً على يوسف وعلى آل يعقوب من بعده:
(سورة يوسف)
- لما أضاع بنو إسرائيل تلك الموروثات (ذلك القميص وتلك العصا) حصلت لهم العبودية في أرض مصر على يد الفراعنة
- انتقلت تلك "الممتلكات" إلى بلاط الفراعنة بعد أن أزاحوا بني إسرائيل عن ملك مصر:
(سورة المائدة)
فبالإضافة إلى النبوة، كان في بني إسرائيل الملك، وكانت تلك المقتنيات هي علامات الملك. وما أن انتقلت تلك المقتنيات إلى بلاط الفراعنة حتى أصبح الأمر لهم، فاستعبدوا بني إسرائيل في الأرض
- بقيت العصا والقميص في بلاط الفراعنة الذين ربما لم يدركوا قيمتها إلا متأخرا
- استقرت تلك الممتلكات في حوزة امرأة فرعون وأخيها ذي الكفل (انظر مقالتنا تحت عنوان: قصة موسى)
- قضت الإرادة الإلهية أن يتربى طفل بني إسرائيل (موسى) في بلاط الفراعنة ليستعيد تلك الموروثات التي كانت في حوزة البلاط الفرعوني
- قامت امرأة فرعون بإلباس موسى ذلك القميص منذ نعومة أظفاره، وأمسك موسى بتلك العصا فكان يتوكأ عليها، فنحن نفتري الظن بأن عين الله كانت ولا زالت على آياته على الدوام، وهو ما نفهمه من قوله تعالى لموسى:
(سورة طه)
(وسنتعرض لهذه الجزئية بالتفصيل عند الانتقال للحديث عن موسى بحول الله وتوفيقه. فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علما، إنه هو السميع المجيب – آمين)
- ما أن كبر موسى حتى أخذ العصا من بيت فرعون نفسه
- أدرك الفرعون الأول حجم المؤامرة التي كانت تحاك ضده، فأخذ يبحث عن العصا والقميص
- علم موسى أن فرعون قد يصل إليهما، فما كان منه إلا أن هرب بتلك المقتنيات القيّمة من بلاط فرعون الأول
- خرج موسى من المدينة لابسا الثوب وممسكا العصا متوجها إلى الأرض المقدسة حيث آتاه الله هناك حكما وعلما عندما بلغ أشده واستوى:
(سورة القصص)
وهو بالضبط ما كان قد حصل ليوسف من ذي قبل:
(سورة يوسف)
وقد كان إبراهيم من المحسنين من قبلهما:
(سورة الصافات)
- أستمر الفرعون الأول يقتّل أبناء بني إسرائيل لعلمه بأن الأمر قد ينقلب عليه بين ليلة وضحاها
(انظر قصة موسى: لماذا كان يقتل فرعون أبناء بني إسرائيل؟) - عاش موسى فترة هروبه الأول في الواد المقدس
- بعد أن آتاه الله هناك حكما وعلما، عاد موسى إلى أرض مصر في فترة موت الفرعون الأول وكانت فترة اضطراب سياسي قبل أن يتقلد الفرعون الثاني ملك مصر، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها:
(سورة القصص)
(انظر قصة موسى: فرعون الرسالة)
- ما أن دخل موسى المدينة على حين غفلة من أهلها حتى وجد أن بني إسرائيل قد بدءوا المقاومة من جديد
- حصل أن قتل موسى رجلا من بني إسرائيل وأراد أن يقتل الآخر عندما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه
- كانت العصا هي ما وكز موسى الرجل بها
- تآمر الملأ من بني إسرائيل على موسى مع قدوم الفرعون الجديد
- جاء رجل من أقصى المدينة ليحذر موسى من تآمر الملأ به، وهو نفس الشخص والد الغلاميين اليتيمين اللذين بنى لهما صاحب موسى الجدار في القرية (انظر: قصة موسى: باب العزير)
- خرج موسى من المدينة خائفا يترقب فتوجه هذه المرة تلقاء مدين (أرض شعيب) حيث قضى سنين من عمره هناك
- بعد أن قضى موسى الأجل في مدين، أخذ أهله وسار بهم باتجاه الواد المقدس
- ما أن أشرف على ذلك المكان حتى آنس النار من جانب الطور الأيمن عند البقعة المباركة من الشجرة، وهناك حصلت المقابلة الأولى لموسى مع ربه
- بدأ اللقاء بالخطاب أولا عن العصا:
(سورة طه)
(انظر باب السامري)
- لم ينتهي الحديث هناك بل انتقل إلى إدخال اليد في الجيب لتخرج بيضاء من غير سوء
- أدخل موسى يده في جيبه فخرجت بيضاء من غير سوء وضم جناحه إليه من الرهب، فكانا برهانان من ربه إلى فرعون وملئه:
(سورة القصص)
وهنا بالضبط نجد التلاقي بين قصة موسى من جهة وقصة يوسف الذي سبقه في الزمن من جهة أخرى، ونقرأ هذا التلاقي في ذلك البرهان الذي رءاه يوسف فحال بينه وبين الوقوع في الفاحشة:
(سورة يوسف)
فكان ذلك البرهان – كما افترينا القول في الجزء السابق من هذه المقالة- هو القميص.
وسنحاول في هذا الجزء من المقالة أن نتابع حديثنا عن قصة يوسف، باحثين عن مصدر ذلك القميص (من أين جاء ذلك القميص؟)، مبتدئين النقاش في هذا الموضوع بالتساؤلات التالية:
لغز ظهور يوسف أمام النسوة
التساؤلات المطروحة
- - كيف رأت النسوة يوسف على أنه ملك كريم؟
- - فهل كانت النسوة على معرفة بطلّة وشكل الملك الكريم حتى حصلت المقارنة بين يوسف (البشر) والملك الكريم بمجرد رؤيته؟
- - كيف شاهدت النسوة يوسف على تلك الهيئة (هيئة الملك الكريم) حتى نعتنه بتلك الصفة بمجرد أن خرج عليهن؟
(سورة يوسف)
- - وبكلمات أكثر دقة نحن نسأل: ما الفرق بين من هو من البشر (مثلي ومثلك) ومن هو ملك كريم (كيوسف)؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن لذلك علاقة مباشرة بذلك القميص. ولكن كيف ذلك؟
الدليل
نحن نظن أنه من أجل أن نستجلي الدليل على ذلك، فلابد من التعريج على حصل مع موسى يوم أن أدخل يده في جيبه، ولكن كيف يكون ذلك؟
(سورة النمل)
حتى خرجت بيضاء من غير سوء. ولم يتوقف الأمر عن هذا الحد بل جاء الطلب الإلهي الآخر من موسى هو أن يضمم إليه جناحه من الرهب:
(سورة القصص)
البرهان بين موسى ويوسف: اليد البيضاء والقميص
افتراءات
لقد افترينا القول في الجزء السابق من هذه المقالة أن يعقوب (والد يوسف) هو من ألبس ولده يوسف ذلك القميص يوم أن أرسله مع إخوته ليرتع ويلعب. ولما كان ذلك القميص من ميراث النبوة في ذلك البيت الطاهر وقد تأكذ ليعقوب أن ميراث النبوة من حق يوسف بعد أن قص عليه خبر الرؤيا، افترينا القول أن القميص قد جاء من عند الله لإبراهيم يوم أن أخرجه من نار القوم الذي ألقوه فيه، فوارى الله بذلك القميص سوءة إبراهيم بعد أن كانت النار قد أكلت ما كان يلبس.
افتراء: القميص هو لباس آدم في الجنة
جواب: كان اللون الأبيض مسيطرا على المشهد في حادثة مراودة النسوة ليوسف، وكان الجناح من الرهب متواجدا في المشهد نفسه. وسنتعرض لهذه الافتراءات بالتفصيل عند حديثنا عن مشروعية مناسك الحج: أصلها ومشروعيتها والحكمة منها بحول من الله وتوفيق منه. فالله وحده أسأل أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو الحكيم الخبير.
أما الآن فسنحاول الوصول إلى ماهية ذلك اللون الأبيض الذي كان يلف يوسف ليواري سوءته عندما خرج على النسوة، ومن أجل المحاولة للإجابة على مثل هذا التساؤل، فإننا نظن أننا بحاجة للعودة إلى ما افتريناه في بعض مقالاتنا السابقة عن معنى العبارة (تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) التي تتحدث عن يد موسى عندما أدخلها في جيبه. وقد زعمنا حينئذ أن لهذا علاقة بالسوءة التي بدت لآدم وزوجته بعد عصى آدم ربه عندما تقبلا نصيحة الشيطان لهما:
(سورة طه)
كما نظن أن لها علاقة بتلك السوءة التي لم يستطع القاتل من ابني آدم أن يواريها لأخيه المقتول:
(سورة المائدة)
(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: لماذا يدفن الناس موتاهم؟)
ولكن كيف ذلك؟
الأصل النوراني للإنسان وفقدانه
(سورة ص)
لم يكن آدم بداية أكثر من بشر (أي سوءة)، ولكن ما أن نفخ الله فيه من روحه:
(سورة ص)
حتى أصبح آدم مخلوقا نورانيا خالصا لأن من نفخ في سوءته هو نور السموات والأرض:
(سورة النور)
فاكتسبت تلك السوءة (الطين) النورانية من ذلك النفخ الإلهي المباشر. وقد خلق الله من ذلك الكائن النوراني زوجه:
(سورة النساء)
فكان آدم وزوجه نورانيين في طلتهما وفي شكلهما، يسكنان الجنة في أمان:
(سورة البقرة)
خلق آدم ونزع اللباس
واستمرا يسكنان الجنة على تلك الهيئة حتى حصلت حادثة الأكل من الشجرة، فما أن أكل آدم وزوجه من الشجرة بوسوسة من الشيطان حتى بدت لهما سوءاتهما:
(سورة طه)
ولم يكن هدف الشيطان في ذلك يتجاوز إزالة تلك النورانية الإلهية عن آدم وزوجه، فنجح الشيطان في أن ينزع عن آدم وزوجه لباسهما ليريهما سوءاتهما:
(سورة الأعراف)
ليكونا فريسة سهلة له ولرجله وخيله فيجلبهم عليهم:
(سورة الإسراء)
ولم يكن ذلك ليتحصل لإبليس إلا بعد أن أصبح آدم وزوجه هدفا سهلا لإبليس لأنه يراهم من حيث لا يرونه:
(سورة الأعراف)
وما أن نزع عن آدم وزوجه ذلك اللباس وبدت لهما سوءاتهما حتى حلت العداوة محل الأمن الذي كان ينعمان به:
(سورة البقرة)
بهذه الافتراءات التي هي من عند أنفسنا، وبمثل هذه التساؤلات، نعود إلى قصة يوسف لنجد المقارنة واضحة بين البشر من جهة والملك الكريم من جهة أخرى في خطاب النسوة اللاتي رأين يوسف في الآية نفسها:
(سورة يوسف)
نتائج مفتراة
- كان آدم بشرا (طين)
- حصل النفخ الإلهي فيه، فاكتسب النورانية
- خلقت زوجه من نفسه، فكانت كذلك
- كان هناك لباس يواري سواءتيهما
- تقبل أدم وزوجه نصيحة الشيطان، فنزع عنهما لباسهما (يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا)
- أصبح بالإمكان رؤية البشرية (الطين) في آدم وزوجه
- لم يدخل آدم وزوجه في رحم امرأة، فبقيا بشرا خالصا
- لم يمكث عيسى بن مريم في رحم أمه فترة تسعة أشهر حيث الظلمات الثلاث
- خرج عيسى بشرا ولم يخرج إنسانا، فلم ينسى العهد الذي قطعه على نفسه
- أصبح البشر يتكاثرون بالولادة، حيث يمكث الواحد منهم فترة تسعة أشهر في بطن أمه
- يحيط بذلك المخلوق ظلمات ثلاث
- ما أن يخرج ذلك المخلوق من بطن أمه حتى يكون قد نسى ذلك العهد الأول فيصبح بذلك إنسانا (من النسيان)
حاول – عزيزي القارئ- أن تتدبر هذه الافتراءات في ضوء ما يمكن لك أن تفهمه من السياقات القرآنية الثلاث التالية:
(سورة الأعراف)
(سورة الزمر)
(سورة النحل)
ولكي يعوّض الله للإنسان ذلك النقص الذي اعتراه، أمده بالأدوات الثلاث التي يستطيع - إن هو أحسن استخدامها- أن يتغلب على ذلك النسيان الذي حصل له في بطن أمه، والأدوات الثلاثة هي: السمع والبصر والفؤاد (وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ).
(سورة النحل)
دعاء: اللهم اكشف الغشاوة عن بصري والوقر من أذني والأكنّة عن قلبي، واجعلني ممن يبصرون ويسمعون ويفقهون، فيعقلون – آمين.
(للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: كيف تم خلق عيسى بن مريم؟)
عودة على بدء بالافتراء التالي: البشر من طين والملك الكريم نورانيا
(سورة الأعراف)
وعندما راودت النسوة يوسف عن نفسه، لم ينزع يوسف ذلك القميص عنه، فبقي يواري سوءته، لذا فقد جاء اعتراف النسوة بذلك في نهاية القصة:
(سورة يوسف)
فالنسوة لم يعلمن على يوسف من سوء (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ)، فما معنى ذلك؟ ما معنى أن النسوة لم يعلمن على يوسف من سوء؟
ثانيا، نحن نعلم أن الله قد صرف السوء والفحشاء عن يوسف، فكيف يكون ذلك؟ أي كسف يصرف الله السوء عن يوسف؟
معنى السوء والفحشاء في قصة يوسف
(سورة يوسف)
(سورة البقرة)
ولكن لمّا كان يوسف يسير على منهج من سبقه من آباءه: إبراهيم فإسحق فيعقوب، ما كان له أن يتبع خطوات الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء لأنه من عباد الله المخلصين:
(سورة يوسف)
استراحة: تأملات في فقه الحج وأصله الإبراهيمي
خروج عن النص في استراحة قصيرة
الحج: أركانه مشروعيته وحكمته: واحد من الدروس التي تلقيتها خلال تعليمي المدرسي، واستحال عليّ أن أفهمها.
القصة: لا شك أني كنت خلال تعليمي المدرسي أحب درس (أو حصة كما نقول في لهجتنا الأردنية) الرياضة أكثر من درس التربية الدينية، فبالرغم أني لست من أصحاب الأجسام الرياضة، وبالرغم أني لم أكن أستطيع أن أنافس أقراني في أي نوع من أنواع الرياضة، وأن أكثر ما كنته أجيده في هذا الجانب هو أن أكون مع المشجعين على أطراف الملعب، ولكن بالرغم من هذا كلّه ضلّ درس التربية الرياضية أحب إلى قلبي من درس التربية الإسلامية، وربما يعود السبب في ذلك أننا لم نكن مطالبين بحفظ شيء بعد الانتهاء من درس التربية الرياضية، ولكن الأمر كان مختلفا تماما بالنسبة لدرس التربية الدينية، فما أن يفرغ المعلم من تلقينه إيانا ما كان يظن أنه علم شرعي واجب علينا تحصيله حتى تبدأ طلباته تنهال على رؤوسنا. وأظن أني لا زلت أذكر الدرس الذي كان (ولا زال) من المستحيل عليّ أن أحفظه كغيره من الدروس: إنه درس الحج.
فلقد بدأ المعلم – على ما أذكر أو أتذكر- بالحديث عن معنى الحج في اللغة والاصطلاح كالعادة، وعن تاريخ الحج عند المسلمين، فأسهب في ذلك ما شاء لنفسه أن يفعل، ثم انتقل بعد ذلك للحديث عن أركان الحج وسننه وكيفيته، وانتهى إلى الحديث عن الحكمة من مشروعيته والدروس المستقاة منه.
وكان أكثر ما أقلقني حينئذ هو طلب المعلم منا أن نحفظ كل ذلك- وهو ما لم أستطع عليه إلا ربما لغايات الامتحان، فما أن أفرغ من الامتحان حتى تكون معظم تلك المعلومات القيّمة قد تبخرت.
معضلة فهم شعائر الحج
الجواب: لأنني بكل بساطة لم أفهم شيئا مما قاله المعلم، وكل ما كان عليّ فعله هو أن أقوم بعملية تخزين لتلك المعلومات الكثيرة لفترة في الذاكرة القصيرة حتى ينقضي الامتحان.
المعضلة: لعلي أجزم بأنه لو استطاع المدرس أن يجيب على بعض ما كان يجول في خاطري حينئذ لربما كان الأمر مختلفا بعض الشيء، ولربما استطعت أن احتفظ بشيء مما نقله المعلم لنا من ذلك العلم الشرعي منذ ذلك الزمن البعيد، وقد كان جل تساؤلاتي (التي لم أتلفظ بها حينئذ) يتمحور حول التساؤلات التالية:
- لماذا يذهب الناس إلى مكة على وجه الخصوص لأداء فريضة الحج؟ أليس الذهاب إلى قبرص أو لارنكا أو جزر الباهاما (كما تروج لذلك شركات السياحة والسفر والحج) أكثر متعة؟
- لماذا يلبس الناس (الرجال) ذلك اللباس الذي يسمّونه إحراما عندما يذهبون إلى هناك؟ أليس الجينز أكثر سترا للعورة وأكثر فاعلية في ذلك الازدحام الرهيب؟
- لماذا يطوف الناس بذلك الحجر في ذلك الواد غير ذي الزرع؟
- لماذا يحلق الناس أشعارهم حينئذ؟ ألم يكن بالإمكان عمل التسريحات الأكثر جمالا؟
- لماذا لا تلبس النساء مثل ذلك اللباس (الإحرام) بالطريقة نفسها التي يلبس فيها الرجل؟
- لماذا لا تقصر النساء من أشعارهن كما يفعل الرجال؟ أليس شعر المرأة في العادة أطول من شعر الرجل؟ ألا يوجد عند هؤلاء القوم صالونات نسائية؟
- لماذا يحضر على المحرم (من يلبس ثوب الإحرام) أن يتوقف عن معاشرة النساء حتى يتحلّل منه؟
- لماذا أحضر الحجاج لمعظم إخواني وأصدقائي أبناء جيلي بنادق (ومسدسات) أفضل وأكثر كفاءة من ذلك المسدس الصيني الصناعة (التالف قبل أن يستخدم) الذي أعطوني إياه بعد فرغوا من توزيع كل الهدايا على من هم أكثر شغبا مني؟ هل لأني كنت أسكت فلا أزعجهم بغض النظر عن ما يعطوني؟!
- لماذا كان كل ما أحضر الحجاج من تلك الديار المقدسة موسوم بعبارة made in China؟ ألسنا نحن من أخبرنا معلّمنا بأننا خير أمة أخرجت للناس؟ ألا تستطيع هذه الأمة بخيريتها أن تصنع تلك السجادة التي يصلون عليها؟!
- الخ
تساؤلات كثيرة لم أكن أستطيع أن أجد إجابة شافية لها منذ ذلك الحين.
جواب: هذا ما سنحاول أن نقحم أنفسنا فيه في هذه الصفحات بحول الله وتوفيق منه، وسنحاول ربط ذلك في نهاية الأمر بقميص يوسف من جديد. فالله أسأل أن يعلمنا الحق الذي نقول فلا نفتري عليه الكذب إنه هو السميع المجيب.
افتراء: خروج إبراهيم من النار وشعائر الحج
أما بعد
ما أن خرج إبراهيم من نار قومه، حتى كانت النار (كما نتخيلها) قد أحرقت ملابسه كلها، لأن الأمر الإلهي قد صدر للنار بأن تكون بردا وسلاما على إبراهيم فقط:
(سورة الأنبياء)
لذا، نحن نفتري الظن بأن من نجا من النار هو إبراهيم فقط، ولم ينجو من النار ما لم يكن جزءا من إبراهيم، ولكن كيف ذلك؟
الجواب: كلا، فالشخص هو الشخص نفسه بغض النظر عن ملابسه. وما دام الأمر كذلك فإن الشخص يعرف بذاته دون ملابسه، فلا علاقة لملابسه به.
جواب: نعم، أظن أنها قد أكلت شيئا ما أظفاره (ولكن ليس كلها)، وهي الجزء الذي يمكن للإنسان أن يقصّره من أظفاره، فلا تزيد فيه ولا تنقص منه شيئا.
فقه الحج وشعائره
والآن، لمّا كان محمد هو أولى الناس بإبراهيم:
(سورة آل عمران)
دخل محمد البيت الحرام مع صحبه البيت الحرام آمنين (يلبسون ثوب الإحرام) محلّقين رؤوسهم ومقصرين أظفارهم:
(سورة الفتح)
(سورة الحج)
حتى قصد الناس ذلك المكان لأداء فريضة الحج، فذهبوا في رحلة إلى هناك دون بقاع الأرض كلها لأنه المكان الذي بوأه الله لإبراهيم4
ولو راقبنا ذلك اللباس للإحرام لوجدنا الملاحظات التالية:
- أنه لا يغطي كامل الجسم بالنسبة للرجل5
- أنه لا يكون مخيطا
- أنه يلبس بطريقة محددة، كما في الشكل التوضيحي التالي:
ونحن نظن أن الإجابة على هذه التساؤلات تكمن في تصور الهيئة التي كان عليها إبراهيم في طوافه بالبيت العتيق.
- لم يكن الثوب ليغطي كامل الجسم لأنه جاء ليغطي عورة إبراهيم (فعورة الرجل لا تشمل ما لا يغطيه لباس الإحرام)
- لم يخيط إبراهيم ذاك القميص ليبقى على الشاكلة التي جاءه بها من عند الله
- لبس إبراهيم ذلك الثوب بطريقة تشبه الملك الكريم حيث البياض الناصع، ويكأن أطرافه كأجنحة الملائكة.
الربط النهائي: هيئة يوسف وهيئة الطواف
عودة على بدء: يوسف (ملك كريم)
(سورة يوسف)
ولو حاولنا أن نربط قصة موسى يوم أن أخرج يده من جيبه وضم إليه جناحه إليه من الرهب مع قصة يوسف يوم أن رأته النسوة لما خلا المشهد من البياض الذي لا سوء فيه:
(سورة القصص)
فكما كانت خروج يد موسى من جيبه وضم جناحه إليه من الرهب برهانان إلى فرعون وملئه، كان قميص يوسف الذي يتلألأ (إنْ صح القول) يظهر فيه يوسف وكأنه ملك كريم، هو البرهان من ربه نفسه الذي رءاه فحال بينه وبين ما اشتهت نفسه عندما راودته المرأة وهمت به:
(سورة يوسف)
معنى صفة "كريم"
الدليل:
ها هي المرأة التي تملك قومها في سبأ يأتيها كتاب سليمان فيكون كتاب كريم:
(سورة النمل)
ونحن نظن أن نعته بهذه الصفة (أي كريم) له علاقة بطريقة إلقاءه (من أعلى إلى أسفل). فالهدهد هو من ألقى ذلك الكتاب إلى تلك المرأة.
وها هو من ضل قومه، وكان فوقهم كفرعون مثلا الذي قال أن الأنهار تجري من تحته:
(سورة الزخرف)
فنصّب من نفسه إلها عليهم:
(سورة القصص)
لن يكون مصيره إلا ما جاء في الآية الكريمة التالية:
(سورة الدخان)
وربما يمكننا أن نفهم بعد ذلك لم ينعت عرش الرحمن بأنه عرش كريم:
(سورة المؤمنون)
وذلك لأن الكريم يعتلى ما دونه. فالشخص الكريم (الذي يعطي المال مثلا) يأتي كرمه ليس من إنفاقه ولكن لأن يده هي العليا ويد من يأخذ منه هي الدنيا.
ثانيا، لو تدبرنا الآية الكريمة التالية جيدا لوجدنا أن السماء هي مكان الرزق أصلا:
(سورة الذاريات)
ربما استطعنا بعد ذلك أن نتفهم التلازم بين مفردة الرزق ومفردة كريم في كثير من السياقات القرآنية:
(سورة الأنفال)
(سورة الأنفال)
(سورة الحج)
(سورة النور)
فلا شك عندنا أن الرزق الكريم مصدره السماء إذا ما وضعنا الأمر في إطار قوله تعالى: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ.
ذكاء امرأة العزيز ومراودة النسوة
لذا نحن نتخيل أن يوسف كان في نظر تلك النسوة ملكا كريما لأنه كان على هيئة النازل من أعلى، أو لربما ويكأن ما كان يواري سوءته حينئذ ويكأنه شيء قد نزل من السماء. ونحن نظن مفترين القول من عند أنفسنا أن هذا كان سببا رئيسا في أن تراود النسوة جميعا يوسف عن نفسه، ألم يخطر ببال أحدنا السؤال التالي: لم لم تمنع واحدة من النساء نفسها عن مراودة يوسف؟ هل "سحرهن" يوسف جميعا؟ ألم تستطع (على أقل تقدير) أحدهن أن تفلت من ذلك "السحر"؟
(سورة يوسف)
ونحن نظن أن في هذا شهادة بذكاء امرأة العزيز، فلربما من أجل هذا خططت امرأة العزيز الحادثة برمتها لتضع عن نفسها عبّ التهمة، ولتلصقه بمجموع النساء (الحاضرة منهن والغائبة):
(سورة يوسف)
فنحن نفهم من قول امرأة العزيز بهذه الصيغة (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أنها لا تلام وحدها في مراودتها ليوسف، وأن الأمر كان خارجا عن نطاق تحملها كامرأة، لأن كل نساء الأرض (الحاضرات منهن والغائبات عن تلك المائدة الشهيرة التي أعدتها لهن) لن يترددن في مراودة يوسف عن نفسه متى ما رأين يوسف على تلك الشاكلة، وأنا على يقين أنه لو أن أمي (رحمها الله) نفسها قد شاهدت يوسف على تلك الشاكلة لما ترددت أن تراوده عن نفسه، ولما لُمتها أنا في ذلك.
(سورة يوسف)
وما دام أنه متواجد أصلا في بيتها:
(سورة يوسف)
فكيف يمكن أن نفهم أن جميع النسوة اللاتي رأين يوسف على تلك الشاكلة قد راودنه عن نفسه؟ فهل أخذت كل واحدة منهن يوسف إلى بيتها لتراوده عن نفسه هناك؟ هل خلا يوسف بكل واحدة منهن؟ أم هل حصلت حفلة جماعية من المراودة؟
جواب: دعنا نلحظ ما حصل عندما رأت النسوة يوسف وقد أخرجته امرأة العزيز عليهن:
(سورة يوسف)
تحليل حادثة تقطيع الأيدي
الجواب: ثلاثة أشياء متتالية وهي:
- أَكْبَرْنَهُ
- وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
- وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
جواب: نحن نظن أن لا علاقة لرؤية يوسف بتقطيع النسوة أيديهن. وأن تقطيع الأيدي لم يكن بسبب رؤية يوسف وذلك لو أن الأمر كان على تلك الشاكلة لجاء الترتيب في ظننا على النحو التالي:
- قطعن أيديهن
- أكبرنه
- قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم
وبكلمات بسيطة نقول لو أن تقطيع النسوة لأيديهن كان بسبب رؤية يوسف لما أكبرنه قبل أن يقطعن أيديهن. ولو أن تقطيع الأيدي كان بسبب رؤية يوسف لما حصل ذلك الخطاب المريح منهن (وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) بعد أن كانت كل واحدة منهن منشغلة بيدها التي قطعتها. ولكن هذا يتطلب منا الخوض في معاني هذه المفردات لفهمها كما يجليها النص القرآني نفسه لا كما نريدها نحن لنركب من خلالها حكاية نسجتها عقولنا وألزمنا كتاب الله بها، وهو (في ظننا) منها براء.
خاتمة وتساؤلات للجزء القادم
هذا ما سنحاول الخوض فيه في الجزء القادم من هذه المقالة سألين الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن ينفذ قوله بمشيئته لنا بأن لا يكون أمرنا كأمر فرعون، وأن ينفذ قوله بإرادته لنا بأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرين، وأن يهدينا إلى الحق فلا نفتري عليه الكذب إنه هو الحكيم الخبير – أمين.
وللحديث بقية
المؤلفون
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
20 تشرين ثاني 2013
د. رشيد الجراح مركز اللغات
جامعة اليرموك
الهوامش
- وقد كان إلياس من المحسنين:وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٢٣﴾ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٢٤﴾ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ﴿١٢٥﴾ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴿١٢٦﴾ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴿١٢٧﴾ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿١٢٨﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿١٢٩﴾ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ﴿١٣٠﴾ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿١٣١﴾
(سورة الصافات)لتكون سلسلة المحسنين على النحو التالي: إبراهيم يوسف إلياس موسى (وهارون). ↩
- لعل هذه واحدة من الفروقات الجوهرية بين الرجال (الناس) والنساء، ففي حين أن مادة خلق الرجل أصلا هي التراب فإن مادة خلق المرأة هي ما نتج من الخلق من ذلك التراب. لذا يبقى تمسك الرجل بالتراب وحب الدنيا والميراث وغيرها أكبر بكثير من حب النساء لذلك. ↩
- إن هذا يدعونا إلى السبب في وجود مفردة آمِنِينَ و لَا تَخَافُونَ في الآية ذاتها: آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ↩
- لم يقتصر على ذلك، فقد بوأ الله لبني إسرائيل أيضا مبوأ صدق:وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿٩٣﴾
(سورة يونس)(وسنتعرض لهذه الجزئية لاحقا بحول الله وتوفيق منه، فالله أسأل أن يعلمني من لدنه علما لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم) ↩
- ونحن نظن أنه لو كانت امرأة قد ألقيت في النار، وصدر الأمر الإلهي بأن تكون تلك النار بردا وسلاما عليها (كما في حالة إبراهيم)، لأخرجها الله مستورة العورة باللباس الذي كان يواري سوءة زوج آدم قبل أن ينزعه الشيطان عنها. ↩