قصة يوسف 7: من أين جاء قميص يوسف؟


خلصنا في الجزء السابق إلى تقديم الافتراءات التالية:
1.     كان البرهان الذي رءاه يوسف فحال بينه وبين الوقوع في المعصية هو القميص
2.     يعقوب هو من ألبس يوسف ذاك القميص يوم أن أرسله مع إخوته ليرتع ويلعب كجزء من ميراث النبوة
3.     كان هذا القميص هو ما ستر الله به عورة إبراهيم يوم أن أخرجه من النار
4.     انتقل هذا القميص من إبراهيم إلى إسحق ومن ثم إلى يعقوب، فلم يكن لأي منهما إخوة ينافسونه على ملكيته
5.     كان ليعقوب أكثر من ولد فكان الأحق بالقميص هو يوسف من دون إخوته جميعا، ولم يستطع يعقوب أن يجزم بذلك إلا بعد أن قصّ يوسف خبر الرؤيا على أبيه.


وسنحاول في الأجزاء القادمة من هذه المقالة الخاصة بقصة يوسف وفي بقية مقالاتنا المتعلقة بقصة موسى أن ندافع عن الافتراءات الخطيرة جدا التالية والتي سيظهر من خلالها الربط بين قصة يوسف (آخر أنبياء بني إسرائيل من سلالة إبراهيم المباشرة) وقصة موسى (أول رسول لبني إسرائيل بعد انقطاع طويل)

الافتراءات الجديدة
1.     بالإضافة إلى القميص، كان هناك العصا التي استطاع إبراهيم بواسطتها الخروج من النار التي كانت جحيما (وهذه العصا هي التي كان يتنقل بواسطتها إبراهيم - كما سنفتري لاحقا- بين بيت المقدس والبيت المحرم – للتفصيل بداية انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: لماذا قدّم لوط بناته بدلا من ضيوفه؟)
2.     بقيت تلك العصا في يد يعقوب حتى انتقل إلى أرض مصر، فانتهت تلك العصا في ملكية يوسف
3.     بقيت تلك العصا وذلك القميص ضمن ممتلكات يوسف حتى هلك
4.     عندما هلك يوسف لم يدرك الحاضرون أهمية تلك العصا وذلك القميص، فظنوا أنها من موروثات النبوة فقط، فلم تقع العصا والقميص في يد أحد، فظن الناس حينئذ أن الله لن يبعث رسولا من بعد يوسف، فكان يوسف هو آخر ألانبياء الذين جعل الله فيهم ورثة الكتاب والنبوة المباشرة (إبراهيم- إسحق- يعقوب- يوسف):
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34)
5.     كانت تلك العصا وذلك القميص هي البينات التي جاءهم بها يوسف (وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ)
6.     بقيت تلك البينات موروثات (من ممتلكات آل يعقوب)، فبقيت نعمة الله تامةً على يوسف وعلى آل يعقوب من بعده:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
7.     لما أضاع بنو إسرائيل تلك الموروثات (ذلك القميص وتلك العصا) حصلت لهم العبودية في أرض مصر على يد الفراعنة
8.     انتقلت تلك "الممتلكات" إلى بلاط الفراعنة بعد أن أزاحوا بني إسرائيل عن ملك مصر:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20)
فبالإضافة إلى النبوة، كان في بني إسرائيل الملك، وكانت تلك المقتنيات هي علامات الملك. وما أن انتقلت تلك المقتنيات إلى بلاط الفراعنة حتى أصبح الأمر لهم، فاستعبدوا بني إسرائيل في الأرض
9.      بقيت العصا والقميص في بلاط الفراعنة الذين ربما لم يدركوا قيمتها إلا متأخرا
10.  استقرت تلك الممتلكات في حوزة امرأة فرعون وأخيها ذي الكفل (انظر مقالتنا تحت عنوان: قصة موسى)
11.  قضت الإرادة الإلهية أن يتربى طفل بني إسرائيل (موسى) في بلاط الفراعنة ليستعيد تلك الموروثات التي كانت في حوزة البلاط الفرعوني
12.  قامت امرأة فرعون بإلباس موسى ذلك القميص منذ نعومة أظفاره، وأمسك موسى بتلك العصا فكان يتوكأ عليها، فنحن نفتري الظن بأن عين الله كانت ولا زالت على آياته على الدوام، وهو ما نفهمه من قوله تعالى لموسى:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
(وسنتعرض لهذه الجزئية بالتفصيل عند الانتقال للحديث عن موسى بحول الله وتوفيقه. فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علما، إنه هو السميع المجيب – آمين)
13.  ما أن كبر موسى حتى أخذ العصا من بيت فرعون نفسه
14.  أدرك الفرعون الأول حجم المؤامرة التي كانت تحاك ضده، فأخذ يبحث عن العصا والقميص
15.  علم موسى أن فرعون قد يصل إليهما، فما كان منه إلا أن هرب بتلك المقتنيات القيّمة من بلاط فرعون الأول
16.   خرج موسى من المدينة لابسا الثوب وممسكا العصا متوجها إلى الأرض المقدسة حيث آتاه الله هناك حكما وعلما عندما بلغ أشده واستوى:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
وهو بالضبط ما كان قد حصل ليوسف من ذي قبل:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وقد كان إبراهيم من المحسنين من قبلهما:
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)[1]
17.  أستمر الفرعون الأول يقتّل أبناء بني إسرائيل لعلمه بأن الأمر قد ينقلب عليه بين ليلة وضحاها
18.  عاش موسى فترة هروبه الأول في الواد المقدس
19.  بعد أن آتاه الله هناك حكما وعلما، عاد موسى إلى أرض مصر في فترة موت الفرعون الأول وكانت فترة اضطراب سياسي قبل أن يتقلد الفرعون الثاني ملك مصر، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)
20. ما أن دخل موسى المدينة على حين غفلة من أهلها حتى وجد أن بني إسرائيل قد بدءوا المقاومة من جديد
21.  حصل أن قتل موسى رجلا من بني إسرائيل وأراد أن يقتل الآخر عندما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه
22.  كانت العصا هي ما وكز موسى الرجل بها
23.  تآمر الملأ من بني إسرائيل على موسى مع قدوم الفرعون الجديد
24.  جاء رجل من أقصى المدينة ليحذر موسى من تآمر الملأ به، وهو نفس الشخص والد الغلاميين اليتيمين اللذين بنى لهما صاحب موسى الجدار في القرية (انظر: قصة موسى: باب العزير)
25.  خرج موسى من المدينة خائفا يترقب فتوجه هذه المرة تلقاء مدين (أرض شعيب) حيث قضى سنين من عمره هناك
26.  بعد أن قضى موسى الأجل في مدين، أخذ أهله وسار بهم باتجاه الواد المقدس
27.  ما أن أشرف على ذلك المكان حتى آنس النار من جانب الطور الأيمن عند البقعة المباركة من الشجرة، وهناك حصلت المقابلة الأولى لموسى مع ربه
28.  بدأ اللقاء بالخطاب أولا عن العصا:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
29.  لم ينتهي الحديث هناك بل انتقل إلى إدخال اليد في الجيب لتخرج بيضاء من غير سوء
30.  أدخل موسى يده في جيبه فخرجت بيضاء من غير سوء وضم جناحه إليه من الرهب، فكانا برهانان من ربه إلى فرعون وملئه:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

وهنا بالضبط نجد التلاقي بين قصة موسى من جهة وقصة يوسف الذي سبقه في الزمن من جهة أخرى، ونقرأ هذا التلاقي في ذلك البرهان الذي رءاه يوسف فحال بينه وبين الوقوع في الفاحشة:
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
فكان ذلك البرهان – كما افترينا القول في الجزء السابق من هذه المقالة- هو القميص.
وسنحاول في هذا الجزء من المقالة أن نتابع حديثنا عن قصة يوسف، باحثين عن مصدر ذلك القميص (من أين جاء ذلك القميص؟)، مبتدئين النقاش في هذا الموضوع بالتساؤلات التالية:
- كيف رأت النسوة يوسف على أنه ملك كريم؟
- فهل كانت النسوة على معرفة بطلّة وشكل الملك الكريم حتى حصلت المقارنة بين يوسف (البشر) والملك الكريم بمجرد رؤيته؟
- كيف شاهدت النسوة يوسف على تلك الهيئة (هيئة الملك الكريم) حتى نعتنه بتلك الصفة بمجرد أن خرج عليهن؟
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
- وبكلمات أكثر دقة نحن نسأل: ما الفرق بين من هو من البشر (مثلي ومثلك) ومن هو ملك كريم (كيوسف)؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن لذلك علاقة مباشرة بذلك القميص. ولكن كيف ذلك؟
رأينا: لا شك أن الصورة الذهنية المسيطرة على ذهن الناس كافة عن الملك الكريم لا تخلو من فكرة اللون الأبيض، فنحن نتصور تلك المخلوقات على شكل الأجسام الطائرة ذات الأجنحة ولونها ناصع البياض، أليس كذلك؟
السؤال: ألا نستطيع أن نتصور يوسف بذلك اللون الناصع البياض الذي يشبه لون الملك الكريم؟ إن صح هذا المخيال، ألا يحق لنا أن نسأل حينئذ: من أين جاء ليوسف ذلك اللون الأبيض؟
رأينا المفترى: من ذلك القميص الذي كان يلبسه فيواري به سوءته
الدليل
نحن نظن أنه من أجل أن نستجلي الدليل على ذلك، فلابد من التعريج على حصل مع موسى يوم أن أدخل يده في جيبه، ولكن كيف يكون ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأنه ما أن أمر الله موسى بأن يدخل يده في جيبه:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
حتى خرجت بيضاء من غير سوء. ولم يتوقف الأمر عن هذا الحد بل جاء الطلب الإلهي الآخر من موسى هو أن يضمم إليه جناحه من الرهب:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
السؤال: كيف أدخل موسى يده في جيبه فخرجت بيضاء من غير سوء؟ وكيف ضمّ موسى جناحه من الرهب إليه؟
رأينا المفترى الخطير جدا: نحن نتخيل ذلك بصورة الشخص الذي لبس الإحرام للطواف بالبيت العتيق، حيث طاف الرجل الأول الذي ألبسه الله ذلك القميص: إنه إبراهيم عليه أفضل الصلاة من الله وملائكته وعليه أفصل الصلاة والسلام منا.

افتراءات
لقد افترينا القول في الجزء السابق من هذه المقالة أن يعقوب (والد يوسف) هو من ألبس ولده يوسف ذلك القميص يوم أن أرسله مع إخوته ليرتع ويلعب. ولما كان ذلك القميص من ميراث النبوة في ذلك البيت الطاهر وقد تأكذ ليعقوب أن ميراث النبوة من حق يوسف بعد أن قص عليه خبر الرؤيا، افترينا القول أن القميص قد جاء من عند الله لإبراهيم يوم أن أخرجه من نار القوم الذي ألقوه فيه، فوارى الله بذلك القميص سوءة إبراهيم بعد أن كانت النار قد أكلت ما كان يلبس.
رأينا الجديد المفترى والأكثر خطورة: كان ذلك القميص هو ما كان يواري سوءة آدم في الجنة قبل أن ينزعه عنه الشيطان.
السؤال: وما علاقة هذا كله بقصة يوسف؟


جواب: كان اللون الأبيض مسيطرا على المشهد في حادثة مراودة النسوة ليوسف، وكان الجناح من الرهب متواجدا في المشهد نفسه. وسنتعرض لهذه الافتراءات بالتفصيل عند حديثنا عن مشروعية مناسك الحج: أصلها ومشروعيتها والحكمة منها بحول من الله وتوفيق منه. فالله وحده أسأل أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو الحكيم الخبير.
أما الآن فسنحاول الوصول إلى ماهية ذلك اللون الأبيض الذي كان يلف يوسف ليواري سوءته عندما خرج على النسوة، ومن أجل المحاولة للإجابة على مثل هذا التساؤل، فإننا نظن أننا بحاجة للعودة  إلى ما افتريناه في بعض مقالاتنا السابقة عن معنى العبارة (تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) التي تتحدث عن يد موسى عندما أدخلها في جيبه. وقد زعمنا حينئذ أن لهذا علاقة بالسوءة التي بدت لآدم وزوجته بعد عصى آدم ربه عندما تقبلا نصيحة الشيطان لهما:
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
كما نظن أن لها علاقة بتلك السوءة التي لم يستطع القاتل من ابني آدم أن يواريها لأخيه المقتول:
فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: لماذا يدفن الناس موتاهم؟)
ولكن كيف ذلك؟
رأينا: عندما خلق الله آدم من طين:
          إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71)
لم يكن آدم بداية أكثر من بشر (أي سوءة)، ولكن ما أن نفخ الله فيه من روحه:
          فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)
حتى أصبح آدم مخلوقا نورانيا خالصا لأن من نفخ في سوءته هو نور السموات والأرض:
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
فاكتسبت تلك السوءة (الطين) النورانية من ذلك النفخ الإلهي المباشر. وقد خلق الله من ذلك الكائن النوراني زوجه:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)[2]
فكان آدم وزوجه نورانيين في طلتهما وفي شكلهما، يسكنان الجنة في أمان:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35)
واستمرا يسكنان الجنة على تلك الهيئة حتى حصلت حادثة الأكل من الشجرة، فما أن أكل آدم وزوجه من الشجرة بوسوسة من الشيطان حتى بدت لهما سوءاتهما:
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
ولم يكن هدف الشيطان في ذلك يتجاوز إزالة تلك النورانية الإلهية عن آدم وزوجه، فنجح الشيطان في أن ينزع عن آدم وزوجه لباسهما ليريهما سوءاتهما:
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)
ليكونا فريسة سهلة له ولرجله وخيله فيجلبهم عليهم:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (64)
ولم يكن ذلك ليتحصل لإبليس إلا بعد أن أصبح آدم وزوجه هدفا سهلا لإبليس لأنه يراهم من حيث لا يرونه:
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)
وما أن نزع عن آدم وزوجه ذلك اللباس وبدت لهما سوءاتهما حتى حلت العداوة محل الأمن الذي كان ينعمان به:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا (1): كان آدم وزوجه يسكنان الجنة وعاليهم لباس يواري سوءاتهما، فاستطاع الشيطان أن ينزعه عنهما (يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا)، وكان آدم وزوجه يسكنان الجنة آمنين مادام  لباسهما لم ينزع عنهما بعد، فذلك اللباس (نحن نفتري الظن) هو مصدر الأمان. (وسنتحدث عن هذا بحول الله بعد قليل).
النتيجة المفتراة من عند أنفسنا (2): عاد آدم وزوجه من تلك النورانية الخالصة التي ألبسهما إياها ربهما إلى طبيعتهما البشرية (التراب: الطين: الصلصال:) فظهرت سوءاتهما بانطفاء ذلك النور الإلهي بعد أن أكلا من تلك الشجرة، وبعد أن نجح الشيطان في أن ينزع عنهما لباسهما الذي كان يواري سوءاتيهما، فما عاد آدم يشبه تلك المخلوقات النورانية التي تركها (كالملائكة مثلا). فأصبح آدم بشرا ولم يعد كالملك الكريم (في طلته وهيئته).
السؤال: كيف نزع الشيطان عن آدم وزوجه لباسهما؟ وأين ذهب ذلك اللباس الذي كان يواري سوءاتهما؟
بهذه الافتراءات التي هي من عند أنفسنا، وبمثل هذه التساؤلات، نعود إلى قصة يوسف لنجد المقارنة واضحة بين البشر من جهة والملك الكريم من جهة أخرى في خطاب النسوة اللاتي رأين يوسف في الآية نفسها:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
نتائج مفتراة
1.     كان آدم بشرا (طين)
2.     حصل النفخ الإلهي فيه، فاكتسب النورانية
3.     خلقت زوجه من نفسه، فكانت كذلك
4.     كان هناك لباس يواري سواءتيهما
5.     تقبل أدم وزوجه نصيحة الشيطان، فنزع عنهما لباسهما (يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا)
6.     أصبح بالإمكان رؤية البشرية (الطين) في آدم وزوجه
7.     لم يدخل آدم وزوجه في رحم امرأة، فبقيا بشرا خالصا
8.     لم يمكث عيسى بن مريم في رحم أمه فترة تسعة أشهر حيث الظلمات الثلاث
9.     خرج عيسى بشرا ولم يخرج إنسانا، فلم ينسى العهد الذي قطعه على نفسه
10. أصبح البشر يتكاثرون بالولادة، حيث يمكث الواحد منهم فترة تسعة أشهر في بطن أمه
11.  يحيط بذلك المخلوق ظلمات ثلاث
12. ما أن يخرج ذلك المخلوق من بطن أمه حتى يكون قد نسى ذلك العهد الأول فيصبح بذلك إنسانا (من النسيان)
حاول – عزيزي القارئ- أن تتدبر هذه الافتراءات في ضوء ما يمكن لك أن تفهمه من السياقات القرآنية الثلاث التالية:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)

خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
ولكي يعوّض الله للإنسان ذلك النقص الذي اعتراه، أمده بالأدوات الثلاث التي يستطيع - إن هو أحسن استخدامها- أن يتغلب على ذلك النسيان الذي حصل له في بطن أمه، والأدوات الثلاثة هي: السمع والبصر والفؤاد (وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ).
افتراء من عند أنفسنا: ما أن يستخدم الإنسان سمعه كما أراده الله أن يستخدمه حتى يخرج بذلك من واحدة من الظلمات. وما أن يستخدم بصره بنفس الطريقة حتى يخرج من الظلمة الثانية. وما أن يستخدم فؤاده كما أمره الله حتى يخرج من الظلمة الثالثة، فيشكر به ربه كما أراده الله أن يشكره:
وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
دعاء: اللهم اكشف الغشاوة عن بصري والوقر من أذني والأكنّة عن قلبي، واجعلني ممن يبصرون ويسمعون ويفقهون، فيعقلون – آمين.
(للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: كيف تم خلق عيسى بن مريم؟)

عودة على بدء بالافتراء التالي: البشر من طين والملك الكريم نورانيا
السؤال: من أين جاءت النورانية ليوسف حتى جاء تشبيه النسوة له من هذا الجانب؟
رأينا المفترى الخطير جدا: لما خرج يوسف على تلك النسوة كان لابساً ذلك القميص الذي جاء أصلا من الله ليستر به عورة إبراهيم عندما أخرجه من النار، وهو (في ظننا) ما كان يغطي به آدم سوءته قبل أن ينزعه عنه الشيطان، أي ما كان يلبس آدم في الجنة قبل المعصية:
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)
وعندما راودت النسوة يوسف عن نفسه، لم ينزع يوسف ذلك القميص عنه، فبقي يواري سوءته، لذا فقد جاء اعتراف النسوة بذلك في نهاية القصة:
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
فالنسوة لم يعلمن على يوسف من سوء (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ)، فما معنى ذلك؟ ما معنى أن النسوة لم يعلمن على يوسف من سوء؟
رأينا المفترى: لم تنكشف عورته (أي سوءته)، فما رأين من يوسف سوءة. فالسوء هنا – في زعمنا- لها علاقة مباشرة بالسوءة لأن من غير المنطقي أن يكون لها علاقة بشيء فعل يوسف وسلوكه على نحو ما زعم أهل الدراية من قبلنا، وذلك لأن يوسف لم يكن يخالط النسوة جميعا، والنسوة لم يعرفن يوسف من ذي قبل، فجل ما خبرنه من يوسف هو تلك الحادثة في بيت امرأة العزيز. لذا فإن السوء الذي لم يعلمنه على يوسف ذات علاقة مباشرة – برأينا- بالسوءة (انظر الرسم القرآني: سَوْءَاتِهِمَا مقابل سُوءٍ)
ثانيا، نحن نعلم أن الله قد صرف السوء والفحشاء عن يوسف، فكيف يكون ذلك؟ أي كسف يصرف الله السوء عن يوسف؟
رأينا: نحن نظن أن لذلك علاقة مباشرة بانكشاف السوءة، فمادام أن الله قد صرف عن يوسف الفاحشة فهو لم يقع بالزنا، ومادام أن الله قد صرف عنه السوء فهو برأينا لم تنكشف له عورة (مقدمة الزنا). فما وقع يوسف في فعل الزنا (وهو الفاحشة)، لم يقع يوسف في السوء (أي كشف العورة). فعورة يوسف لم تنكشف ولم يواقع النسوة في الفراش. انظر الترتيب كيف يسبق السوءُ الفاحشةَ حسب نص الآية نفسها:
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: السوء هو انكشاف العورة كفعل مقدم للفاحشة. فما وقع يوسف في فعل السوء والفحشاء لأن ذلك ما يأمرنا الشيطان به:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169)
ولكن لمّا كان يوسف يسير على منهج من سبقه من آباءه: إبراهيم فإسحق فيعقوب، ما كان له أن يتبع خطوات الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء لأنه من عباد الله المخلصين:
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

خروج عن النص في استراحة قصيرة
الحج: أركانه مشروعيته وحكمته: واحد من الدروس التي تلقيتها خلال تعليمي المدرسي، واستحال عليّ أن أفهمها.
القصة: لا شك أني كنت خلال تعليمي المدرسي أحب درس (أو حصة كما نقول في لهجتنا الأردنية) الرياضة أكثر من درس التربية الدينية، فبالرغم أني لست من أصحاب الأجسام الرياضة، وبالرغم أني لم أكن أستطيع أن أنافس أقراني في أي نوع من أنواع الرياضة، وأن أكثر ما كنته أجيده في هذا الجانب هو أن أكون مع المشجعين على أطراف الملعب، ولكن بالرغم من هذا كلّه ضلّ درس التربية الرياضية أحب إلى قلبي من درس التربية الإسلامية، وربما يعود السبب في ذلك أننا لم نكن مطالبين بحفظ شيء بعد الانتهاء من درس التربية الرياضية، ولكن الأمر كان مختلفا تماما بالنسبة لدرس التربية الدينية، فما أن يفرغ المعلم من تلقينه إيانا ما كان يظن أنه علم شرعي واجب علينا تحصيله حتى تبدأ طلباته تنهال على رؤوسنا. وأظن أني لا زلت أذكر الدرس الذي كان (ولا زال) من المستحيل عليّ أن أحفظه كغيره من الدروس: إنه درس الحج.
فلقد بدأ المعلم – على ما أذكر أو أتذكر- بالحديث عن معنى الحج في اللغة والاصطلاح كالعادة، وعن تاريخ الحج عند المسلمين، فأسهب في ذلك ما شاء لنفسه أن يفعل، ثم انتقل بعد ذلك للحديث عن أركان الحج وسننه وكيفيته، وانتهى إلى الحديث عن الحكمة من مشروعيته والدروس المستقاة منه.
وكان أكثر ما أقلقني حينئذ هو طلب المعلم منا أن نحفظ كل ذلك- وهو ما لم أستطع عليه إلا ربما لغايات الامتحان، فما أن أفرغ من الامتحان حتى تكون معظم تلك المعلومات القيّمة قد تبخرت.
السؤال: لماذا؟
الجواب: لأنني بكل بساطة لم أفهم شيئا مما قاله المعلم، وكل ما كان عليّ فعله هو أن أقوم بعملية تخزين لتلك المعلومات الكثيرة لفترة في الذاكرة القصيرة حتى ينقضي الامتحان.
المعضلة: لعلي أجزم بأنه لو استطاع المدرس أن يجيب على بعض ما كان يجول في خاطري حينئذ لربما كان الأمر مختلفا بعض الشيء، ولربما استطعت أن احتفظ بشيء مما نقله المعلم لنا من ذلك العلم الشرعي منذ ذلك الزمن البعيد، وقد كان جل تساؤلاتي (التي لم أتلفظ بها حينئذ) يتمحور حول التساؤلات التالية:
1.     لماذا يذهب الناس إلى مكة على وجه الخصوص لأداء فريضة الحج؟ أليس الذهاب إلى قبرص أو لارنكا أو جزر الباهاما (كما تروج لذلك شركات السياحة والسفر والحج) أكثر متعة؟
2.     لماذا يلبس الناس (الرجال) ذلك اللباس الذي يسمّونه إحراما عندما يذهبون إلى هناك؟ أليس الجينز أكثر سترا للعورة وأكثر فاعلية في ذلك الازدحام الرهيب؟
3.     لماذا يطوف الناس بذلك الحجر في ذلك الواد غير ذي الزرع؟
4.     لماذا يحلق الناس أشعارهم حينئذ؟ ألم يكن بالإمكان عمل التسريحات الأكثر جمالا؟
5.     لماذا لا تلبس النساء مثل ذلك اللباس (الإحرام) بالطريقة نفسها التي يلبس فيها الرجل؟
6.     لماذا لا تقصر النساء من أشعارهن كما يفعل الرجال؟ أليس شعر المرأة في العادة أطول من شعر الرجل؟ ألا يوجد عند هؤلاء القوم صالونات نسائية؟
7.     لماذا يحضر على المحرم (من يلبس ثوب الإحرام) أن يتوقف عن معاشرة النساء حتى يتحلّل منه؟
8.     لماذا أحضر الحجاج لمعظم إخواني وأصدقائي أبناء جيلي بنادق (ومسدسات) أفضل وأكثر كفاءة من ذلك المسدس الصيني الصناعة (التالف قبل أن يستخدم) الذي أعطوني إياه بعد فرغوا من توزيع كل الهدايا على من هم أكثر شغبا مني؟ هل لأني كنت أسكت فلا أزعجهم بغض النظر عن ما يعطوني؟!
9.     لماذا كان كل ما أحضر الحجاج من تلك الديار المقدسة موسوم بعبارة made in China؟ ألسنا نحن من أخبرنا معلّمنا بأننا خير أمة أخرجت للناس؟ ألا تستطيع هذه الأمة بخيريتها أن تصنع تلك السجادة التي يصلون عليها؟!
10. الخ
تساؤلات كثيرة لم أكن أستطيع أن أجد إجابة شافية لها منذ ذلك الحين.
السؤال: هل بالإمكان الخوض في بعض فقه الحج وأركانه ومشروعيته من جديد؟
جواب: هذا ما سنحاول أن نقحم أنفسنا فيه في هذه الصفحات بحول الله وتوفيق منه، وسنحاول ربط ذلك في نهاية الأمر بقميص يوسف من جديد. فالله أسأل أن يعلمنا الحق الذي نقول فلا نفتري عليه الكذب إنه هو السميع المجيب.
أما بعد
ما أن خرج إبراهيم من نار قومه، حتى كانت النار (كما نتخيلها) قد أحرقت ملابسه كلها، لأن الأمر الإلهي قد صدر للنار بأن تكون بردا وسلاما على إبراهيم فقط:
          قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
لذا، نحن نفتري الظن بأن من نجا من النار هو إبراهيم فقط، ولم ينجو من النار ما لم يكن جزءا من إبراهيم، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: لو سألت أحدكم سؤالا عن نفسه بالقول: هل تختلف أنت في كل مرة تلبس فيها لباسا جديدا؟ فهل إذا ما لبست أنا ثوبا أصبح رشيد، وإذا ما لبست ثوبا آخر أصبحت شخصا آخر؟
الجواب: كلا، فالشخص هو الشخص نفسه بغض النظر عن ملابسه. وما دام الأمر كذلك فإن الشخص يعرف بذاته دون ملابسه، فلا علاقة لملابسه به.
افتراء من عند أنفسنا (1): لذا لما كان الله قد أمر النار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم لم تكن النار بردا وسلاما على ما كان يلبس إبراهيم، فأكلت النار ملابس إبراهيم. فكان الكرم الإلهي على إبراهيم يتمثل بأن ألبسه قميصا ليستر به عورته بعد أن أنجاه بذاته من النار، فكان ذلك القميص (نحن نتخيل) يشبه في شكله وتفصيله ما كان يلبس آدم في الجنة قبل أن ينزع عنه الشيطان ذلك اللباس، ليريهما سوءاتهما. وربما نتجاوز في الافتراء لنقل أنه ربما هو نفس اللباس الذي كان يواري سوءة آدم في الجنة بعد أن نزعه عنه الشيطان.

السؤال: ولكن هل هذا كل ما أكلت النار من إبراهيم؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: كلا، فنحن نظن أن النار قد أكلت كل ما لا يؤثر على إبراهيم كشخص.
السؤال: مثل ماذا؟
جواب مفترى: الشعر. لقد أكلت النار شعر إبراهيم، فالإنسان بشعره (محلّق وغير محلّق) هو الشخص نفسه بغض النظر عن تسريحته، أليس كذلك؟
افتراء من عند أنفسنا (2):  لمّا كان الله قد أمر النار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم لم يسلم من لهيبها شعر إبراهيم فأكلته النار كله، فخرج إبراهيم من النار بغير شعر يغطي جسمه ولكن خرج فقط بذلك الثوب الذي ستر الله به عورته به.
السؤال: وهل أكلت النار شيئا آخر من إبراهيم غير ملابسه وشعره؟
جواب: نعم، أظن أنها قد أكلت شيئا ما أظفاره (ولكن ليس كلها)، وهي الجزء الذي يمكن للإنسان أن يقصّره من أظفاره، فلا تزيد فيه ولا تنقص منه شيئا.
فقه الحج وشعائره
والآن، لمّا كان محمد هو أولى الناس بإبراهيم:
          إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
دخل محمد البيت الحرام مع صحبه البيت الحرام آمنين (يلبسون ثوب الإحرام) محلّقين رؤوسهم ومقصرين أظفارهم:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)  
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن دخول إبراهيم البيت الحرام كان على تلك الشاكلة التي دخل بها محمد البيت الحرام (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ)[3]:
1.     آمِنِينَ: يلبسون ثوب الإحرام الأبيض
2.     مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ
3.     وَمُقَصِّرِينَ (أظفاركم)

افتراء من عند أنفسنا: نحن نعتقد أن الطواف بالبيت العتيق لم ينقطع يوما منذ أن طاف به إبراهيم نفسه، فهي من شعائر الله التي ابتدأها إبراهيم عند البيت الحرام، بعد أن أنجاه الله من النار، فبقيت ماثلة حتى يومنا هذا. لذا فإننا نعتقد أن ما يقوم به الحاج من الناس (أي الرجال) من لبس للإحرام  (آمِنِينَ) وطواف بالبيت العتيق وهم (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) ليس أكثر من إتباع لنهج إبراهيم الذي طاف بالبيت العتيق على تلك الشاكلة، فنحن نتخيل إبراهيم قد لبس ذلك الثوب الأبيض الذي ألبسه إياه ربه عندما أخرجه من النار، فأصبح آمنا (بالضبط كما كان آدم وزوجه في الجنة قبل المعصية)، وطاف بالبيت العتيق محلقا شعره ومقصرا أظفاره التي أكلتها النار، لأنه عندما خرج من تلك النار لم يكن هناك – كما نتخيله- شعر يكسو جسمه، وكانت أظفاره قد تقصرت، فما بقي منه إلا إبراهيم بذاته، ولا شيء غيره، وما أن أمر الله إبراهيم أن يؤذن بالناس بالحج:
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
حتى قصد الناس ذلك المكان لأداء فريضة الحج، فذهبوا في رحلة إلى هناك دون بقاع الأرض كلها لأنه المكان الذي بوأه الله لإبراهيم[4]
ولو راقبنا ذلك اللباس للإحرام لوجدنا الملاحظات التالية:
1.     أنه لا يغطي كامل الجسم بالنسبة للرجل[5]
2.     أنه لا يكون مخيطا
3.     أنه يلبس بطريقة محددة، كما في الشكل التوضيحي التالي:





 ونحن نظن أن الإجابة على هذه التساؤلات تكمن في تصور الهيئة التي كان عليها إبراهيم في طوافه بالبيت العتيق.
-        لم يكن الثوب ليغطي كامل الجسم لأنه جاء ليغطي عورة إبراهيم (فعورة الرجل لا تشمل ما لا يغطيه لباس الإحرام)
-        لم يخيط إبراهيم ذاك القميص ليبقى على الشاكلة التي جاءه بها من عند الله
-        لبس إبراهيم ذلك الثوب بطريقة تشبه الملك الكريم حيث البياض الناصع، ويكأن أطرافه كأجنحة الملائكة.
عودة على بدء: يوسف (ملك كريم)
افتراء من عند أنفسنا: على مثل تلك الهيئة أخرجت امرأة العزيز يوسف لتعرضه على تلك النسوة، فما أن رأينه حتى أكبرنه وقطعن أيديهن وشهدن جميعا على أن هذا الشخص الذي رأينه بأم أعينهن لا يشبه البشر في طلّته ولكنه يشبه الملك الكريم:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
ولو حاولنا أن نربط قصة موسى يوم أن أخرج يده من جيبه وضم إليه جناحه إليه من الرهب مع قصة يوسف يوم أن رأته النسوة لما خلا المشهد من البياض الذي لا سوء فيه:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
فكما كانت خروج يد موسى من جيبه وضم جناحه إليه من الرهب برهانان إلى فرعون وملئه، كان قميص يوسف الذي يتلألأ (إنْ صح القول) يظهر فيه يوسف وكأنه ملك كريم، هو البرهان من ربه نفسه الذي رءاه فحال بينه وبين ما اشتهت نفسه عندما راودته المرأة وهمت به:
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
سؤال: إذا كان البياض هو ما يميز صفة الملك، فلم جاء خطاب النسوة عن يوسف على أنه ملك كريم (إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)؟ فما معنى أن يكون الملك كريما؟ وما معنى مفردة "كريم" أصلا؟ فهل الكرم مرتبط بالعطاء والمال؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الشيء (أي شيء) يمكن أن يكسب صفة أن يكون كريما إذا جاء من ارتفاع.
الدليل:
ها هي المرأة التي تملك قومها في سبأ يأتيها كتاب سليمان فيكون كتاب كريم:
قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
ونحن نظن أن نعته بهذه الصفة (أي كريم) له علاقة بطريقة إلقاءه (من أعلى إلى أسفل). فالهدهد هو من ألقى ذلك الكتاب إلى تلك المرأة.
وها هو من ضل قومه، وكان فوقهم كفرعون مثلا الذي قال أن الأنهار تجري من تحته:
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
فنصّب من نفسه إلها عليهم:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
لن يكون مصيره إلا ما جاء في الآية الكريمة التالية:
ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
وربما يمكننا أن نفهم بعد ذلك لم ينعت عرش الرحمن بأنه عرش كريم:
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
وذلك لأن الكريم يعتلى ما دونه. فالشخص الكريم (الذي يعطي المال مثلا) يأتي كرمه ليس من إنفاقه ولكن لأن يده هي العليا ويد من يأخذ منه هي الدنيا.

ثانيا، لو تدبرنا الآية الكريمة التالية جيدا لوجدنا أن السماء هي مكان الرزق أصلا:
          وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
ربما استطعنا بعد ذلك أن نتفهم التلازم بين مفردة الرزق ومفردة كريم في كثير من السياقات القرآنية:
أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
فلا شك عندنا أن الرزق الكريم مصدره السماء إذا ما وضعنا الأمر في إطار قوله تعالى:   وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ.

لذا نحن نتخيل أن يوسف كان في نظر تلك النسوة ملكا كريما لأنه كان على هيئة النازل من أعلى، أو لربما ويكأن ما كان يواري سوءته حينئذ ويكأنه شيء قد نزل من السماء. ونحن نظن مفترين القول من عند أنفسنا أن هذا كان سببا رئيسا في أن تراود النسوة جميعا يوسف عن نفسه، ألم يخطر ببال أحدنا السؤال التالي: لم لم تمنع واحدة من النساء نفسها عن مراودة يوسف؟ هل "سحرهن" يوسف جميعا؟ ألم تستطع (على أقل تقدير) أحدهن أن تفلت من ذلك "السحر"؟
رأينا: عندما وقفن جميعا في حضرة الملك للتحقيق في الحادثة في نهاية قصة يوسف، لم تنكر أحد منهن أنهن جميعا قد راودن يوسف عن نفسه فعلا، فجاء الخطاب صريحا على لسان الملك:
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
ونحن نظن أن في هذا شهادة بذكاء امرأة العزيز، فلربما من أجل هذا خططت امرأة العزيز الحادثة برمتها لتضع عن نفسها عبّ التهمة، ولتلصقه بمجموع النساء (الحاضرة منهن والغائبة):
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
فنحن نفهم من قول امرأة العزيز بهذه الصيغة (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أنها لا تلام وحدها في مراودتها ليوسف، وأن الأمر كان خارجا عن نطاق تحملها كامرأة، لأن كل نساء الأرض (الحاضرات منهن والغائبات عن تلك المائدة الشهيرة التي أعدتها لهن) لن يترددن في مراودة يوسف عن نفسه متى ما رأين يوسف على تلك الشاكلة، وأنا على يقين أنه لو أن أمي (رحمها الله) نفسها قد شاهدت يوسف على تلك الشاكلة لما ترددت أن تراوده عن نفسه، ولما لُمتها أنا في ذلك.
السؤال: كيف حصلت مراودة النسوة جميعا ليوسف عن نفسه؟ إذا كنا نستطيع أن نفهم كيفية مراودة امرأة العزيز ليوسف مادام أنه فتاها:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
وما دام أنه متواجد أصلا في بيتها:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
فكيف يمكن أن نفهم أن جميع النسوة اللاتي رأين يوسف على تلك الشاكلة قد راودنه عن نفسه؟ فهل أخذت كل واحدة منهن يوسف إلى بيتها لتراوده عن نفسه هناك؟ هل خلا يوسف بكل واحدة منهن؟ أم هل حصلت حفلة جماعية من المراودة؟
رأينا: للإجابة على مثل هذه التساؤلات لابد من العودة لفهم بعض تفاصيل القصة بالترتيب الذي حصلت فيه، ولكن كيف ذلك؟
جواب: دعنا نلحظ ما حصل عندما رأت النسوة يوسف وقد أخرجته امرأة العزيز عليهن:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
السؤال: ما الذي حصل عندما خرج يوسف على النسوة كما جاء في هذه الآية الكريمة؟
الجواب: ثلاثة أشياء متتالية وهي:
1.     أَكْبَرْنَهُ
2.     وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
3.     وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
السؤال: ما الذي يمكن أن نستنبطه من حدوث هذه الأمور الثلاث على هذا الترتيب؟
افتراء من عند أنفسنا: يمكن من خلال ذلك أن نلقي بجل ما جاءنا من عند أهل الدراية من تفسيرات عن قصة تقطيع النسوة أيديهن على لسان أهل الرواية في __________.
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب: نحن نظن أن لا علاقة لرؤية يوسف بتقطيع النسوة أيديهن.  وأن تقطيع الأيدي لم يكن بسبب رؤية يوسف وذلك لو أن الأمر كان على تلك الشاكلة لجاء الترتيب في ظننا على النحو التالي:
1.     قطعن أيديهن
2.     أكبرنه
3.     قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم
وبكلمات بسيطة نقول لو أن تقطيع النسوة لأيديهن كان بسبب رؤية يوسف لما أكبرنه قبل أن يقطعن أيديهن. ولو أن تقطيع الأيدي كان بسبب رؤية يوسف لما حصل ذلك الخطاب المريح منهن (وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) بعد أن كانت كل واحدة منهن منشغلة بيدها التي قطعتها. ولكن هذا يتطلب منا الخوض في معاني هذه المفردات لفهمها كما يجليها النص القرآني نفسه لا كما نريدها نحن لنركب من خلالها حكاية نسجتها عقولنا وألزمنا كتاب الله بها، وهو (في ظننا) منها براء.

هذا ما سنحاول الخوض فيه في الجزء القادم من هذه المقالة سألين الله وحده أن يهدينا رشدنا وأن ينفذ قوله بمشيئته لنا بأن لا يكون أمرنا كأمر فرعون، وأن ينفذ قوله بإرادته لنا بأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرين، وأن يهدينا إلى الحق فلا نفتري عليه الكذب إنه هو الحكيم الخبير – أمين.

وللحديث بقية

المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح
20 تشرين ثاني 2013





[1] وقد كان إلياس من المحسنين:
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131)
لتكون سلسلة المحسنين على النحو التالي: إبراهيم   يوسف     إلياس     موسى (وهارون).
[2] لعل هذه واحدة من الفروقات الجوهرية بين الرجال (الناس) والنساء، ففي حين أن مادة خلق الرجل أصلا هي التراب فإن مادة خلق المرأة هي ما نتج من الخلق من ذلك التراب. لذا يبقى تمسك الرجل بالتراب وحب الدنيا والميراث وغيرها أكبر بكثير من حب النساء لذلك.
[3] إن هذا يدعونا إلى السبب في وجود مفردة آمِنِينَ و لَا تَخَافُونَ في الآية ذاتها: آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ
[4] لم يقتصر على ذلك، فقد بوأ الله لبني إسرائيل أيضا مبوأ صدق:
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)  
(وسنتعرض لهذه الجزئية لاحقا بحول الله وتوفيق منه، فالله أسأل أن يعلمني من لدنه علما لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم)
[5] ونحن نظن أنه لو كانت امرأة قد ألقيت في النار، وصدر الأمر الإلهي بأن تكون تلك النار بردا وسلاما عليها (كما في حالة إبراهيم)، لأخرجها الله مستورة العورة باللباس الذي كان يواري سوءة زوج آدم قبل أن ينزعه الشيطان عنها.