كيف تم خلق عيسى بن مريم 7؟


عودة على بدء: من هم الحواريون الذين كانوا أنصار الله؟     
كان الافتراء الأكبر الذي قدّمناه في الجزء السابق من هذه المقالة يتمثل في أن عيسى بن مريم لم يتحاور إلا مع نفر قليل ممن حوله وهم الحواريون، وذلك لأن غيرهم لم يكن يستطيع أن يفهم لسان عيسى بن مريم الذي جاء ينطق بالحق منذ اللحظة الأولى لولادته، فالله هو من علّم عيسى ذاك اللسان الذي نطق به، بالضبط كما علّم آدم من قبله، فكان عيسى بن مريم هو من وردت مشابهته بآدم فقط في كتاب الله:
          إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ                  آل عمران (59)
فبالإضافة إلى الأشياء الكثيرة التي يتشابه بها عيسى بن مريم مع آدم (والتي تعرضنا لبعض منها في مقالاتنا السابقة)، نظن أن اللسان الذي نطق به عيسى بن مريم هو واحدة من أوجه التشابه بين الاثنين، فكلاهما نطق بتعليم مباشر من الله:
          وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ                                                                                                         البقرة (31)
فعجزت الملائكة عن أن ينبئوا الله بتلك الأسماء:
          قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
ونطق آدم على الفور بها:
قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
وقد ركزنا على ظننا بأن رسالة عيسى كرسول إلى بني إسرائيل كانت تتمثل في الآتي:
1.     ليصدق بما بين يديه من التوراة، فلم يلغها     وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
2.     ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم              وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
3.     ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه بالحكمة التي جاءهم بها     قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ
وحتى يتأكد القوم من صدق قوله لهم، جرت على يديه الآيات البينات:
وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
فتمثلت تلك الآيات البينات بما جاء في قوله تعالى عن المسيح عيسى بن مريم:
وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)
خلاصة: كان تعليم عيسى قد جاء مباشرة من الله:
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (110)
سؤال: لماذا كان عيسى بن مريم هو الوحيد من بين جميع رسل الله القادر على القيام بمثل هذه الأعمال؟
جواب: لأن لسانه مختلف عن ألسنة الناس كافة
سؤال: وماذا كان لسانه؟
جواب: هو اللسان الذين يتحقق به الأمر بكن فيكون
سؤال: وماذا هو ذلك اللسان؟
افتراء خطير خطير خطير: إنه "لسان" الله نفسه. نعم نحن نظن أن المسيح عيسى بن مريم كان ينطق بالحق فقط، فهو لم يتعلم الأسماء التي ورثناها نحن الناس عن آبائنا وأجدادنا وذلك لأن الله لم ينزل بهذه الأسماء سلطانا:
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71)
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)
فما اتبع المسيح عيسى بن مريم الظن أو ما تهوى الأنفس قط، ولكنه كان كلمة الله التي ألقاها إلى مريم. ولا أعتقد أن كلمة الله تكون غير كلمة الحق.
والمدقق في الآية السابقة يجد أن المقابل لهذه الأسماء التي سماها آباؤنا وأجدادنا والتي لم ينزل الله بها سلطان يأتي الهدى المباشر من الله (وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى)
نتيجة مهمة سنحتاج لها لاحقا: من أراد أن يجيئه الهدى من ربه فعليه أن يبتعد عن تلك الأسماء التي لم ينزل الله بها من سلطان.
السؤال: كيف سيستطيع الناس من حول المسيح أن يفهموا قوله والذي لم يكن من مسميات آبائهم وأجدادهم؟ 
رأينا: لما كان بنو إسرائيل الذين كان المسيح عيسى بن مريم رسولا إليهم (ولم يكن رسولاً منهم) لا يرضون بغيرهم ولا يصدّقون إلا أنفسهم، جاءهم نبي منهم ليصدق بالمسيح (كـ كلمة من الله) وهو يحيى بن زكريا:
فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)
وكانت المشكلة الأكبر تكمن – في رأينا- "بترجمة" (أو بكلمات أكثر دقة بتفصيل) قول عيسى بن مريم إلى الناس الذين لا يتحدث لسانهم، فكيف حدث ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن هذا قد حصل عندما جاء وحي مباشر من الله إلى نفر ممن حوله وهم الحواريون ليضطلعوا بتلك المهمة المقدسة:
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
وهنا نتوقف لنعيد طرح التساؤل الكبير التالي: من هم الحواريون؟
بعد نقاش حول الآيات التي تتحدث عن  الحواريين، خرجنا في الجزء السابق من هذه المقالة ببعض الافتراءات التي ظننا أننا نستنبطها من كتاب الله، نذكر منها:
أولا، أن الحواريين نفر من الناس قد استجابوا لطلب المسيح بالنصرة:
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
(دعاء: اللهم رب أسألك بأسمائك الحسنى كلها وكلمتك التامة صدقا وعدلا أن تتقبلني في أن أكون من أنصارك، إنك أنت العزيز الحكيم)
ثانيا: أنهم قد نصروا الله مباشرة:
          ... قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ...
ثالثاً: أن الله قد نصرهم ما داموا أنهم قد نصروا الله
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ... (7)
رابعاً: أن الله قد ثبّت أقدامهم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
خامسا: أن الله قد أوحى إليهم:
          وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي ... (111)
سادساً: أنهم نفر قد آمنوا:
          وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا ...
سابعاً: أنهم نفر أصبحوا من المسلمين:
          وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
ثامناً: أنهم وإن كانوا ممن نصرهم الله لكن ذلك لا ينفي أن القوم ممن حولهم ربما يكونوا قد بغوا عليهم، وألحقوا بهم بعض الأذى، فطلب النصرة عادة ما يأتي عندما يكون هناك ساعة عسرة:
لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (117)
وعادة ما تأتي النصرة مباشرة من الله عندما يحاول القوم إخراج من يدعوهم إلى الهدى من بينهم:
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
وربما تأتي عندما يكون هناك تهديد قد يلحق الأذى الجسدي:
          فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18)
تاسعاً: لو تصورنا أن هؤلاء النفر من حول المسيح قد مرّوا ببعض هذه الظروف نتيجة موقفهم من دعوة المسيح مقابل عناد بني إسرائيل، لربما صح لنا أن نستنبط أن القوم من حولهم قد بغوا عليهم، لذا لم يكن الحواريين من الظالمين.
عاشرا: أن هؤلاء النفر من الناس لم يكونوا ممن يتحدثون لسان بني إسرائيل وإلا لخرج الإنجيل بنسخه المتعددة بلسان عبراني
أحد عشر: أن مفردة الحواريين لها علاقة بالحور، لذا فهم من نذروا أنفسهم لرسالة عيسى بن مريم فتركوا بعض ملذات الحياة كالزواج وهذه هي – برأينا- الرهبانية (الرهبانية التي كتبها الله عليهم وليست الرهبانية التي ابتدعوها من بعد ذلك)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
اثنا عشر: أن مفردة الحواريين لها علاقة بالحوار، فلا نجد في كتاب الله كله حدوث التحاور بالقول ورد القول بين عيسى ومن حوله إلا من خلال الحواريين. فلو تفقدنا السياقات القرآنية لوجدنا أن القوم (وأقصد أي قوم) يخاطبون كل رسول جاءهم بالقول ورد القول، فقد خاطبوا نوحا بالقول (يَا نُوحُ):
          قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
وخاطبوا إبراهيم مباشرة:
          قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
          قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)
وكذلك لوطا:
          قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
وصالحاً:
          فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
وشعيبا:
قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
وتكررت هذه الصيغة مرات ومرات مع موسى:
          وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ (134)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

ولكن ربما الملفت للانتباه أن هذه الصيغة تغيب تماما في حالة المسيح  عيسى بن مريم، فلا نجد في كتاب الله أن القوم من حول المسيح قد خاطبوه بالقول (يا عيسى بن مريم)، ونجد هذه الصيغة في الخطاب مع عيسى بصيغة (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) في حالتين فقط، وهما:
1.     خطاب الله مع عيسى:
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ     آل عمران (55)
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ     المائدة (110)
وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ                                                                المائدة (116)
2.     خطاب الحواريين مع عيسى
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ                                                                        المائدة (112)
نتيجة مهمة جدا: فقط الحواريون هم من تخاطبوا مع المسيح عيسى بن مريم من دون خلق الله جميعا.
وبعد جملة هذه الافتراءات التي هي بلا شك من عند أنفسنا يعود السؤال نفسه إلى الواجهة: من هم هؤلاء النفر من الناس الذين جاء ذكرهم في كتاب الله على أنهم الحواريون؟
رأينا المفترى: هم مجموعة من الأشخاص نصروا الله بعد أن طلب عيسى النصرة إلى الله ممن حوله، فانقسمت نتيجة لذلك بنو إسرائيل إلى طائفتين، فأيد الله الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
حصل كل ذلك بعد أن أحس عيسى بن مريم الكفر من بني إسرائيل:
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
وقع – برأينا- الأذى من بني إسرائيل على عيسى بأن حاولوا أن يخرجوه وأن يقتلوه، فما استطاعوا ذلك لأن الله قد توفاه ورفعه إليه وطهره من الذين كفروا:
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
بقي الحواريون بعد أن رفع الله عيسى إليه بين القوم، فواجهوا المشاكل بسبب موقفهم العقائدي، فهم أنصار الله.
كانت المشكلة الأكبر بين الطائفتين من بني إسرائيل تكمن في إثبات أو نفي الإلوهية عن عيسى بن مريم، فقال بعض من كفر منهم أن الله هو المسيح عيسى بن مريم:
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72)
وقال البعض الآخر ممن كفر منهم أن الله هو ثالث ثلاثة أحدهم المسيح عيسى بن مريم:
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
فنسبت هذه الطائفة منهم تبني الولد لله (أي جعلوا لله الولد):
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116)
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
ولكن هذه الدعوة قد كذّبها الله في أكثر من مكان في كتابه العزيز:
          أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69)
وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
ولمّا كان الحواريون يدركون بأنه لا ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، كانت عقيدتهم تتلخص بما جاء في الآيات الكريمة التالية:
وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
 فكان موقفهم على النحو التالي: لقد أنكروا عقيدة الذين كفروا من بني إسرائيل، ورفضوا جملة وتفصيلا العقيدة التي مفادها أن يكون المسيح ولد الله كما زعمت طائفة من الذين كفروا من بني إسرائيل الذين اتخذوا من دون الله آلهة، لأنهم يعلمون أن المسيح (معلمهم) لم يقل مثل هذا الكلام:
وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
نتيجة: الحواريون الآن متواجدون – كما نتصورهم- بين قومهم الذين اتخذوا من دون الله آلهة، فثبتوا على موقفهم، فحاول القوم إلحاق الأذى بهم، ولكن لمّا كان الحواريون من الذين نصروا الله:
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
كان الله لا محالة ناصرهم على الذين كفروا ومثبت أقدامهم:
          يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
 فمن هم يا ترى؟
افتراء خطير خطير خطير من عند أنفسنا: إنهم الفتية الذين أمنوا بربهم وزدناهم هدى، أنهم أصحاب الكهف والرقيم
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
الدليل
نحن نظن أن الحاجة تستلزم قراءة قصة أهل الكهف والرقيم كاملة في سياقها الذي وردت به من بداية سورة الكهف وحتى نهاية قصتهم، لنطرح من خلالها التساؤلات التالية:
-        من هم هؤلاء الفتية؟
-        كم كان عددهم؟
-        لماذا آووا إلى الكهف؟
-        ماذا كان في جعبتهم؟
-        أين هو كهفهم الذي آووا إليه؟
-        هل نستطيع أن نحدد مكانه؟
-        هل لازال الفتية متواجدون في كهفهم حتى الساعة؟
-        هل نستطيع أن نطلع عليهم الآن؟
-        الخ
قبل محاولتنا الإجابة على هذه التساؤلات نجد الضرورة تستدعي أن نؤكد على ما يلي:
أولا، نحن نظن أننا نستطيع أن نقدم إجابات (من عند أنفسنا) على جميع هذه التساؤلات، إجابات نظن نحن أنها مستنبطة من كتاب الله، لذا ندعو القارئ الكريم منذ البداية أن لا يصدِّق ما نفتري من قول ما لم يجد أن الدليل من كتاب الله يدعمه، فإن ثبت له ذلك، فليأخذ مما نقول، وإلاّ فليلق بكل ما نقول في سلة المهملات لأن الحق فقط فيما صدّقه قول الحق، وليس ما نخرج به نحن الناس من استنباطات قد لا تتعدى أن تكون أكثر من تخيلات زائفة من عند أنفسنا.
ثانيا، نحن نظن أن فيما سنقول بعد قليل من الخطورة ما يمكن أن يقلب كل الموازين رأساً على عقب، لذا لابد من التأكيد على الحاجة إلى التثبت قبل التيقّن، فالكلام خطير والنتائج لا محالة كارثية على الكثيرين، فالله وحده أسأل أن ينفذ قوله بإرادته ومشيئته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري، إنه هو السميع المجيب.

أما بعد

قصة أهل الكهف والرقيم
السؤال الأول: من هم أهل الكهف والرقيم؟
جواب: نحن نفتري الظن بأن أهل الكهف والرقيم الذين جاء ذكرهم في سورة الكهف من كتاب الله هم حواري المسيح عيسى بن مريم الذين رفضوا جملة وتفصيلا دعوة قومهم أن يتخذوا المسيح عيسى بن مريم إلها من دون الله. وهم الذين التزموا بالعقيدة التي مفادها أن ما قاله قومهم ليس إلا كذبا. فهم من أوحى الله إليهم، وهم من آمنوا، وهم من كانوا مسلمين كما تصورهم الآية الكريمة التالية:
          وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ      المائدة (111)
الدليل
أولا، لو قرأنا سورة الكهف من بدايتها لوجدنا أنها تبدأ ببث البشرى للمؤمنين وبتوجيه الإنذار الشديد لم قال أن الإله قد اتخذ ولدا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
ثم يأتي بعد ذلك التبيان بالقول الفصل بأن نسبة الولد للإله ليس إلا دعوى باطلة ليست مبنية على علم وبالتالي ما هي إلا كذب ما بعده كذب:
          مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
وتطلب من النبي الكريم أن لا "يبخع" نفسه على آثارهم[1]:
          فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
ويبين له العاقبة:
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
وهنا تبدأ مباشرة قصة أصحاب الكهف والرقيم:
          أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
ليبدأ التفصيل في قصتهم بأحداثها وشخوصها وأسبابها ونتائجها، الخ.
السؤال: ما علاقة بداية السورة الكريمة التي تنفي تبني الإله للولد بأصحاب الكهف والرقيم؟ من يدري!!!

نحن نبدأ النبش في هذه القصة بإثارة التساؤل الأول التالي: ماذا يعني أن يكونوا هؤلاء هم أصحاب الكهف والرقيم؟ فإذا كنا نعرف أنهم أصحاب الكهف لأنهم آووا إلى الكهف، فماذا عن الرقيم؟ كيف يكونوا أصحاب الرقيم؟ وما هو الرقيم أصلاً؟
رأينا: نحن نستميح سادتنا العلماء أهل الدراية وأهل الرواية العذر أن نخالفهم الرأي بأن الرقيم (كما زعم بعضهم اسم لمكان يتواجد فيه الكهف، أو أنه اسم اللوح الذي كتبت به أسماؤهم كما قال آخرون)، لنفتري الظن من عند أنفسنا بأن مفردة الرقيم مشتقة من "الرقم"، ومنه أخذت – في ظننا- مفردة "مَّرْقُومٌ" التي ترد في السياقات القرآنية التالية
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)    
وبناء عليه، نحن نتجرأ على الافتراء بأن للرقيم علاقة بالكتب وبالمكان الذي يتواجد به الكتاب معا، فسجين مثلاً هو المكان (أو لنقل الحيز) الذي يتواجد به كتاب الفجار، وعلِّيِّون هو المكان (أو الحيز) الذي يتواجد به كتاب الأبرار، وكلاهما (سجين وعليون) كتاب مرقوم. فكل واحد منهما يكون كِتَابٌ مَّرْقُومٌ، أليس كذلك؟
السؤال: ما جمع الكتاب المرقوم الواحد؟ ماذا يمكن أن نطلق على الجمع منه؟ أو ماذا يمكن أن نقول إذا كان عندنا أكثر من كتاب واحد مرقوم؟
رأينا: رقيم، فَـمفردة الرَّقِيمِ هي – في ظننا- جمع مَّرْقُومٌ
السؤال: ما علاقة هذا بأصحاب الكهف؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لمّا كان كل واحد من الحواريين لديه كتاب قد رقمه بنفسه مما جاءه من العلم من لسان عيسى بن مريم الذي استطاع أن يفهمه بوحي مباشر من الله، أصبح يتوافر أكثر من كتاب مرقوم واحد يتواجد في مكان ما، فأصبحت تلك الكتب بمجموعها "رقيم"، فكانوا هم أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ:
          أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
فمفردة أصحاب لا تطلق في النص القرآني على المكان فقط، فهناك أصحاب السبت مثلاً:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا                النساء (47)
وهناك أصحاب الأعراف
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ                                                                                                     الأعراف (48)
وهناك أصحاب الأيكة:
وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ                                                    الحجر (78)
وهناك أصحاب الحجر
          وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ الحجر                                         الحجر (80)
وهناك أصحاب الصراط:
          قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ    طه (135)
وهناك أصحاب الرس:
          وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا                                   الفرقان (38)
وهناك أصحاب السفينة:
          فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ                                     العنكبوت (15)
وهناك أصحاب الفيل:
          أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ                                                الفيل (1)
وهناك أصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال:
          وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ                                        الواقعة (27)
          وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ                                               الواقعة (41)
السؤال: فما المانع أن يكون هناك أصحاب الكهف والرقيم معاً؟
          أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
من يدري!!!
ثانيا، لو تدبرنا السياق القرآني الذي جاء بعد ذلك مباشرة لوجدنا أنه يبرز الكهف على أنه هو ما يشير إلى المكان، ولا نجد الحديث عن المكان في قصة أهل الكهف يظهر فيه الرقيم مرة أخرى، فالفتية قد أووا إلى الكهف:
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (17)
وهم قد لبثوا فيه أيضاً:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
نتيجة مفتراة: المكان الذي أوى الفتية إليه والمكان الذي لبثوا فيه هو الكهف ولا علاقة للرقيم في فعل أوى (أَوَى، فَأْوُوا) أو لبث (وَلَبِثُوا).

ثالثاً، لو دققنا في هذه الآيات جيدا لوجدنا أن الكهف هو شيء معروف (معهود) بالنسبة لهم:
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
فالمدقق بنص هذه الآية الكريمة يجد على الفور بأن الفتية قد ذهبوا إلى الكهف الذي يعرفونه. فهم لم يأووا إلى كهف ما وإنما إلى الْكَهْفِ ، فوجود أداة التعريف مع مفردة الكهف منذ أول سياق تظهر فيه يدلنا على أن الفتية قد عهدوا هذا الكهف من ذي قبل (وسنتحدث بحول الله وتوفيقه عن تفصيلات هذا الكهف ومكانه لاحقا).
رابعا، لو تدبرنا في السياق القرآني أكثر لوجدنا أن الفتية قاموا بفعل الإيواء (أَوَى، فَأْوُوا)، التي نظن أنها في سياقاتها القرآنية تدل على المكان الذي يتم اختياره لوجود مواصفات محددة تفي بالغرض الذي تم اختياره من أجله، فالله هو من آوى ابن مريم وأمه إلى ربوة ذات قرار ومعين:
          وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
وغالباً ما يتم اختيار هذا المكان من أجل أخذ قسط من الراحة كما حصل في حالة موسى وفتاه عند الصخرة:
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
وغالبا ما يكون المكان الذي تم اختياره لفعل الإيواء من أجل النجاة من شي (أو من خطر يتهدد من يقوم بالفعل) كما كان في حالة ابن نوح في خضم الطوفان:
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
أو في حالة لوط عندما جاءه أهل المدينة يهرعون من أجل الفتية:
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
وغالبا ما يكون ذلك لهدف المكوث فترة قصيرة من الوقت:
          أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)[2]
          أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
وما أن يذهب هذا الخطر (أو العارض) حتى يخرج من ذلك المكان من أوى إليه. فلا أظن أن "ابن" نوح كان ينوي أن يمكث في ذلك الجبل الذي ظن أنه يمكن أن يعصمه من الماء إلى الأبد، ولا أظن أن مريم وابنها مكثا في تلك الربوة طويلا، وهكذا.
وغالباً ما يأوي الأحباب والأصحاب مع بعضهم البعض:
          وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69)
          فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن الفتية كانت بينهم صحبة يجمعها رابط قوي حتى آووا إلى الكهف معا، ونحن نظن أنهم قد أووا إلى الكهف بحجة المكوث فيه لفترة قصيرة من أجل الراحة وحتى يزول الخطر الذي كان يتهددهم.
خامسا: نحن نستميح السادة العلماء العذر مرة أخرى أن نخالفهم الرأي لنؤكد أن هؤلاء الفتية قد خرجوا من بين قومهم بهدف الاعتزال فقط (وليس الهروب) كما تؤكد ذلك الآية الكريمة التي تتحدث عنهم بصريح اللفظ:
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)
نتيجة: لقد خرج الفتية لأنهم أرادوا اعتزال قومهم لأن قومهم كانوا يعبدون إلها آخر من دون الله.
ولو تدبرنا مفردة الاعتزال في السياقات القرآنية لربما وجدناها تؤكد على أن ذلك الحدث (كما هو فعل الإيواء) هو أيضاً حدث آني (أو temporary باللسان الأعجمي) لن يكون إلى الأبد (أو permanent بالإنجليزية):
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
كما نظن أن السبب في إقدام الشخص على فعل الاعتزال يكون بدافع شرعي كما في حالة اعتزال النساء في المحيض.
والاعتزال يحصل في حالة القتال، فالذي يتوقف عن القتال فهو يتوقف عنه لأنه لا يريد إلحاق الأذى بالآخرين:
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)
وغالباً ما تكون المخاصمة في الدين هي الدافع الشرعي الأكبر للاعتزال كما حصل في حالة إبراهيم مثلا:
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48)
وكما في طلب ذاك الرسول الكريم الذي جاء آل فرعون:
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
ونحن نظن أن عاقبة الاعتزال تكون خيرا:
          فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
نتيجة: نحن نظن أن الفتية قد قاموا بفعل الاعتزال إلى الكهف عندما شعروا بالتهديد الذي يمكن أن يلحق الأذى بهم لو أنهم لم يعتزلوا قومهم، فهم لا يرغبون في مقاتلة قومهم أو إلحاق الأذى بغيرهم، كما لا يريدون أن يلحق قومهم الأذى بهم. فمن أقدم على اعتزال القتال يفعل ذلك عندما تحصر صدورهم:
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً                                                   النساء (90)
السؤال: ماذا كان يمكن أن يحصل لو أن هؤلاء الفتية لم يعتزلوا قومهم وظلوا متواجدين بينهم؟
رأينا: نحن نظن أن العاقبة ستكون على نحو "الرجم"
فإبراهيم اعتزل قومه لأن أباه هدده بالرجم إن هو لم ينته ويكف عن الدعوة ضد دين آباءه وأجداده:
          قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
وهذا ما حاول القوم أن يفعلوه بالرسول الكريم الذي جاء آل فرعون لينصح لهم:
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
وكان هذا هو تهديد القوم للمرسلين الثلاثة:
          قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
ولقي شعيب تهديد من قومه بالرجم إن لم ينتهي عما يقول:
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
وهي النتيجة التي كان يمكن أن يكون عليها حال فتية الكهف لو أنهم لم يعتزلوا قومهم كما جاء على لسان الفتية أنفسهم:
          إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)   
نتيجة: نحن نتخيل بناء عليه أن الصراع بين الفتية من جهة وقومهم من جهة أخرى كان صراع عقيدة، فكان الحل عند القوم يكمن بواحدة من خيارين: إما أن يعود هؤلاء الفتية في ملة قومهم أو الرجم. عندها اتخذ الفتية القرار بالاعتزال وذلك بأن يأووا إلى الكهف الذي يعرفونه:
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)
السؤال: لماذا اختار الفتية الكهف؟ وكيف عرفوه؟ ومن أين عهدوه؟
جواب: نحن نفتري الظن بأن الإجابة على هذا التساؤل يمكن أن تستنبط من المشاهدة البسيطة التالية: في حين أن هؤلاء هم فتية (أكثر من فتى واحد) وهم لا شك ليسوا إخوة من بيت واحد (كحالة إخوة يوسف مثلا) إلا أنهم كانوا مشتركين جميعاً في كلب واحد، أليس كذلك؟
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22)
فبالرغم من كثرة عددهم إلا أن الكلب لهم جميعا، فهم يتشاركون فيه (وَكَلْبُهُم)، فكيف حصل ذلك؟
رأينا: لو تدبرنا في القصة أكثر لوجدنا أنه عندما قام الفتية بفعل الإيواء إلى الكهف لم يأوي الكلب إلى الكهف معهم:
          إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
فالذين أووا إلى الكهف هم – بصريح لفظ الآية الكريمة- الفتية فقط، ليكون السؤال الآن على النحو التالي: من أين جاءهم الكلب الذي هو لا شك كلبهم جميعا (وَكَلْبُهُم
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل الموقف على النحو التالي: جاء الفتية من "المدينة" ليعتزلوا قومهم، حتى تهدأ العاصفة التي أثيرت حول اتخاذ الإله للولد (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)، فتوجهوا إلى الكهف الذي يعرفونه (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ)، سائلين الله أن ينشر لهم من رحمته (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته)، وحتى يهيئ لهم من أمرهم مرفقا (ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا):
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)
حصل كل ذلك ولم يكن الكلب معهم، وما أن يأوي الفتية إلى الكهف، حتى يصبح الحديث عنهم يبرز معه الكلب:
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22)
لنفتري الظن إذن بأن الكلب لم يأتي قادما من المكان الذي جاءوا منه إلى الكهف معهم ولكنه كان – في ظننا- متواجدا في ذلك الكهف عندما حضروا إليه.
السؤال: لماذا كان الكلب هناك في الكهف؟ ماذا كان يعمل؟
رأينا: نحن نظن أن الكلب لا يستخدم لحمل الأثقال:
          ... فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ... (176)
فهو ليس من الأنعام التي تحمل الأثقال:
وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7)
وهو ليس للزينة كما الخيل والبغال والحمير:
          وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8)
السؤال: ما هي المهمة التي يمكن أن توكل إلى الكلب؟
رأينا: مهمة الحراسة.
فالكلب – برأينا- كانت موكلة إليه مهمة حراسة الكهف وما يتواجد فيه من ذي قبل، وما أن جاء الفتية إلى الكهف حتى وجدوا الكلب في وصيد الكهف يقوم بتلك المهمة خير قيام.
السؤال: ماذا كان يحرس الكلب؟ ومن الذي أوكل إليه تلك المهمة؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن الإجابة على هذا التساؤل تكمن في جلب السياق القرآني التالي:
وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
لنثير حولها التساؤلات التالية:
-        لماذا بعثوا أحدهم إلى المدينة؟
-        لماذا لم يذهبوا بمجموعهم؟
-        ماذا كان من المطلوب ممن بعثوه أن يحضر لهم؟
-        لماذا طلبوا منه أن يحضر لهم الرزق من المدينة؟
-        لماذا لم يتابعوا مسيرهم في الهروب (إن صح ما قاله من سبقنا عنهم) ليتناولوا رزقهم من الطعام في مكان آخر؟
-        أين كانوا سيأكلون رزقهم الذي سيأتيهم به من بعثوه منهم؟
-        الخ.
نحن نظن أن الغرابة تكمن في أن يبعث الفتية أحدا منهم إلى المدينة ليحضر لهم بعض الرزق ليأكلوه في كهفهم، فهل من الطبيعي أن يكون الكهف هو المكان الذي يتناول به الناس رزقهم من الطعام؟
... فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
فالآية تشير بما لا يدع مجالاً للشك بأن من سيبعثوه منهم إلى المدينة سيعود ومعه ذلك الرزق من الطعام إلى الكهف حيث يتواجد بقية الفتية، ليكون السؤال الذي نود طرحه هنا هو: هل الكهف مؤهل لتقديم المائدة فيه؟
رأينا: نعم، هو كذلك، فكهف هؤلاء الفتية – في ظننا- مجهّز ومحضّر ليتم تناول المائدة فيه؟
السؤال: وكيف ذلك؟ ولماذا اختاروا أن يتناولوا رزقهم من الطعام فيه؟ والأهم من ذلك كله لم جاء التفصيل في كتاب الله عن الطعام وعن الرزق وعن الكهف معاً؟ فهل هذا الحديث جاء في سياق سرد أحداث القصة وكفى؟
رأينا المفترى: كلا وألف كلا، إننا نظن أن الحديث عن تناول الطعام من الرزق في الكهف له غاية عظيمة لابد من محاولة البحث عنها. ولما حاولنا أن نتدبر ذلك خرجنا بالافتراء الخطير جداً التالي:
نحن نظن أن ذاك الكهف الذي كان يتواجد فيه الفتية قد كان صالحاً ليتناولوا رزقهم من الطعام فيه لأن ذلك حصل معهم من ذي قبل، فهم قد أكلوا الرزق من الطعام في ذلك الكهف من ذي قبل.
ولكن متى حصل ذلك؟
افتراء خطير جدا جدا جدا من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن ذلك حصل من ذي قبل عندما أنزل الله عليهم المائدة التي طلبوها من عيسى بن مريم من ذي قبل. فالله – في ظننا- كان قد أنزل عليهم تلك المائدة في ذلك الكهف نفسه.
فهناك في ذلك الكهف – نحن نفتري القول- أنزل الله على الحواريين مع رسولهم عيسى بن مريم من السماء المائدة التي طلبوها منه:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ                                                 المائدة (112)
الدليل
باب الكهف: الفرق بين الكهف والغار
عندما تفقدنا السياقات القرآنية وجدنا أن هناك الكهف:
          إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
وهناك الغار:
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
لنطرح عندها التساؤل التالي: ما الفرق بين الكهف والغار؟ أو بكلمات أكثر دقة نسأل: كيف يختلف الكهف عن الغار؟
رأينا: نحن نظن أن للكهف مواصفات محددة بعينها تجعل منه بناء يختلف في تركيبه عن الغار، لذا لابد من الغوص في تفصيلات علّها تسعفنا بالخروج باستنباطات صحيحة تمكننا من رسم صورة ذهنية لما يمكن أن يطلق عليه وصف "كهف".
ونحن نظن أن التفصيل قد جاء في سورة الكهف (التي سميت به) حيث تبين أدق التفاصيل التي نحن بحاجة أن نتدارسها لندرك ماهية هذه الكينونة، لذا لابد من جلب السياقات القرآنية التي تتحدث عن الكهف والتي جاءت جميعها في سورة الكهف. والغاية من تسمية السورة بهذا الاسم ربما تبين في نهاية هذا النقاش، فالله أسأل أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع المجيب.
أما بعد،
أولاً: الكهف عبارة عن مكان يمكن أن يأوي إليه الشخص بقصد أخذ قسط من الراحة:
          إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
لذا نحن نظن أن الكهف يجب أن يكون واقعاً خارج حدود المدينة وإن لم يكن يبتعد كثيرا عنها، وإلا لما أقدم الفتية على التفكير بأن يبعثوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم برزق من الطعام من هناك:
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
والتساؤل المثير هنا هو: لماذا لم يأخذ الفتية طعامهم معهم عندما خرجوا إلى المدينة وتوجهوا إلى الكهف؟
جواب: لأن الكهف لم يكن يبعد كثيرا عن المكان الذي يمكن الحصول على الطعام منه كالمدينة مثلا.
ثانيا: غالباً ما يكون الكهف يتواجد في مكان مرتفع بعض الشيء كالجبل مثلا، والدليل على ذلك يأتي من فعل الإيواء، فهذا ابن نوح يخاطب والده بالقول بأنه سيأوي إلى جبل ليعصمه من الماء:
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
والله هو نفسه من آوى المسيح وأمه إلى ربوة:
          وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ             المؤمنون (50)            
وكان يوسف قد آوى إليه أخوه في المرة الأولى:
          وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69)
وآوى إليه أبويه في المرة الثانية:
          فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99)
ونحن نظن أن فعل الإيواء الذي قام به يوسف قد تم بالرفع كما حصل في حالة أبوية:
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
نتيجة مفتراة: لكي تقوم بفعل الإيواء فلابد من الارتفاع إلى الأعلى، لذا نحن نتخيل أن الفتية قد قاموا بفعل الصعود إلى الأعلى عندما ذهبوا إلى الكهف الذي سيؤويهم قسطا من الزمن؟
ثالثاً، الكهف هو عبارة عن تجويف يمكن النظر إلى ما في داخله من أعلاه، والدليل على ذلك يأتي من فعل الإطلاع الوارد في القصة نفسها:
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)  
فالفتية – حسب نص هذه الآية الكريمة- هم رقود في الكهف، ولكن من يريد أن ينظر إليهم فلابد أن ينظر إليهم من الأعلى، كأن يقف فوق حافة الكهف لينظر فيرى ما في داخله (أي فجوته)، ففعل الإطلاع يحمل في ثناياه النظر من الأعلى إلى الأسفل كما في الآيات الكريمة التالية:
          قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55)
وها هو فرعون يريد من هامان أن يبني له صرحا فيطلع إلى إله موسى:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
لتتشكل الصورة على النحو التالي: من أراد أن يطلع فعليه أن يصعد إلى الأعلى أولا ثم يقوم بعد ذلك بالنظر من الأعلى إلى الأسفل، فجبروت فرعون لا يدعه يتنازل عن فكرة أن يبقى هو الأعلى:
          فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أن الكهف هو مكان فيه شيء من الفسحة (فجوة) التي يمكن أن يتواجد فيها أكثر من شخص (كالفتية وكلبهم مثلا)، وهو يتواجد عادة في مكان مرتفع كالجبل، ومن أراد أن يأوي[3] إليه فعليه أن يصعد إليه صعودا، ولكن ما أن تصل إليه حتى تصبح بحاجة أن تنزل فيه، ليتمكن من أراد أن ينظر ما في داخله أن يطلع عليه اطلاعاً.
رابعاً: نحن نتخيل أن الكهف عبارة عن تجويف داخل الجبل له أكثر من منفذ، خاصة الغربي والشرقي منه، فالشمس كانت حاضرة (يمكن رؤيتها) عندما تطلع وعندما تغيب:
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17)
خامساً: يجد المتدبر لهذه الآية الكريمة أكثر أن الشمس لا تكون حاضرة في الكهف عندما تشرق، ولكنها حاضرة في الكهف عندما تطلع. فما الفرق؟
رأينا: نحن نظن أن المشرق هو ما يقابل المغرب:
          وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
والشمس تشرق كما أنها تغرب، ويبدأ شروق الشمس منذ اللحظة الأولى التي يسطع فيها نورها على الأرض، وتغيب في اللحظة التي يذهب نورها عن الأرض. لكن المتدبر للسياق القرآني لقصة أهل الكهف لا يجد حديثا عن غروب الشمس مقابل شروقها، ولكنه يجد النص القرآني يتحدث عن غروب الشمس مقابل طلوعها. لذا نحن نتخيل الأمر على النحو التالي:
لما كان الكهف عبارة عن تجويف داخل الجبل يمكن النظر إلى ما في داخله من الأعلى فإن أشعة الشمس لن إلا بعد أن ترتفع قليلاً في السماء عندما تكون الشمس قد طلعت (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ). فأشعة الشمس لا تدخل الكهف منذ اللحظة الأولى لإشراقها، ولكن ذلك يحصل بعد أن ترتفع الشمس شيئا قليلاً في كبد السماء عندها تبدأ تزّاور عن كهفهم:
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17)
فكيف كانت الشمس تزاور عن كهفهم إذا طلعت؟
رأينا: إن حركة أشعة الشمس يتولد عنها مد الظل وقبضه:
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
فنحن نعرف بأنه عندما تسطع أشعة الشمس لا تبقى ثابتة  في مكان محدد، ولكنها تتحرك شيئا فشيئا بطريقة غاية في السلاسة التي لا تولد عند الناس النفور من حركتها تلك، وهو ما نفهم على أنه قَبْضًا يَسِيرًا، لتترك ورائها الظل.
السؤال: ما علاقة ذلك بفتية الكهف؟
جواب: نحن نتخيل أن الشخص إذا ما أراد النوم لا يضع نفسه في مكان تسطع عليه فيه أشعة الشمس كليا، ولكنه غالباً ما يختار الظل، لذا عندما كانت الشمس تطلع على الفتية كان الفتية في حالة من الرقود التي لا يمكن أن يكون سطوع الشمس عليه فيها سطوعا كاملا، فالشمس يمكن أن تصيب جزءا منه ولكن لفترة وجيزة، وما هي إلا لحظات حتى ينقبض الظل شيئا قليلا لتصيب أشعة الشمس حينها شيئا من أخيه الذي بجواره وهكذا، حتى يصيب جميعهم شيء من أشعة الشمس ولكن ليس لفترة طويلة، فالإنسان بطبعه لا يستطيع أن ينام تحت أشعة الشمس المباشرة فترة طويلة من الزمن.  فدخول أشعة الشمس إلى كهف الفتية يمكن تصوره كما في الشكل التوضيحي التالي:

لذا نحن نتخيل أن الفتية كانوا ينامون على جنبهم اليمين عندما تطلع الشمس عليهم قادمة من الشرق لتزاور عن كهفهم، فتكون وجوههم مولية شطر الغرب (وهم في حالة تمدد باتجاه الشمال والجنوب)، ولتكون أشعة الشمس (أو أي جزء منها) يصيبهم من الخلف. ولكن ما أن تصل الشمس إلى الجهة الغربية حتى تدخل كهفهم فقط في وقت الغروب، كما في الشكل التوضيحي التالي:
Silhouette of photographer taking photo in a cave (King Solomon Quarries a.k.a. Zedekiah's Cave in Jerusalem, Israel) - stock photo

عندها يديرون ظهورهم إليها، فيتم قرضهم ذات الشمال، لتصبح الشمس أشعة الشمس قادمة إليهم من ورائهم:
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17)
نتيجة: تستمر الشمس وهي طالعة عليهم قسطا من الزمن فتزاور عن كهفهم مادام الظل ينقبض شيئا فشيئا، وما أن تأخذ الشمس في الغروب في لحظاتها الأخيرة حتى تدخل كهفهم ثانية ولكن لفترة قصيرة فتقرضهم فيه.
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نستطيع أن نتخيل الكهف الآن على النحو التالي: تجويف داخل جبل، يمكن النظر فيه من الأعلى، تدخله أشعة الشمس بعد أن ترتفع في كبد السماء فتستمر أشعة الشمس فيه فترة من الزمن طالعة عليهم، ما أن تصل الشمس إلى مرحلة الغروب حتى تدخل الكهف بأشعتها في تلك اللحظة من الطرف المقابل. ليكون الكهف – في ظننا عبارة عن تجويف داخل جبل بفتحتين (شرقية عالية وغربية هابطة) كما في الشكل التالي:


نتيجة مفتراة: الكهف هو تجويف له فتحتان يمكن لأشعة الشمس أن تدخله بعد فترة الشروق، أي عندما ترتفع قليلا في السماء وليس عندما تشرق مباشرة (أي عندما تطلع وليس عندما تشرق) وتدخله مرة أخرى في وقت الغروب. وهذا ما نفتري الظن بأنه يميز الكهف عن الغار الذي – لا شك عندنا- أنه تجويف ذات فتحة واحدة كما في الشكل التالي:

فلو كان غار ثور (الذي مكث فيه الرسول مع صاحبه في طريقهما عندما هاجرا إلى المدينة من مكة) له فتحة شرقية وأخرى غربية لما استدعى القلق من صاحبه عندما وقف المشركون على باب الغار (كما تبين ذلك قصص أهل الرواية عن أهل الدراية):
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
باب الكهف: الفرق بين الكهف والجب
نحن نفتري الظن بأن الكهف وإن كان عبارة عن تجويف داخل الجبل يمكن النزول فيه من الأعلى إلى الأسفل، إلا أن ذلك لا يمنع الحركة السهلة منه وإليه، فالفتية قد أووا بأنفسهم إلى الكهف، دون أن يساعد بعضهم البعض في حركة الإيواء تلك بدليل أنهم قد بعثوا أحدهم ليأتيهم برزق من المدينة ثم يعود إليهم في كهفهم ليتناولوا رزقهم من الطعام هناك، وهذا في ظننا ما يمكن أن يميز الكهف عن غيابة الجب الذي ألقى فيه أخوة يوسف أخاهم فيه:
          قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
فالحركة إلى غيابة الجب تتم بالإلقاء، فمن تم إلقاءه فيه لا يستطيع أن يخرج منه بمفرده، لذا لابد من أن يدلي فيه دلوه من أراد أن يخرج من فيه. كما فعل من وجد يوسف في غيابة الجب.
كما أن الماء يتوافر في غيابة الجب، بدليل أن الوارد قد جاء أصلا إلى هناك ليطلب الماء. بينما في حالة الكهف فليس شرطا أن يتوافر الماء في داخله.
سؤال: كم كان عد الفتية الذين أووا إلى ذلك الكهف؟
نحن نكاد نجزم الظن بأن الفتية الذين يتواجدون داخل الكهف هم سبعة، ونظن أن قليل ممن سبقنا قد توصل إلى مثل هذه النتيجة:
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22)
أما نحن وإن كنا نشترك في هذه النتيجة مع القليل ممن سبقنا، إلا أننا نفتري الظن بأننا نملك الدليل على ذلك من الآية الكريمة نفسه، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: الكلب، نعم نستطيع أن نتوصل إلى الإجابة من خلال الكلب، ولكن كيف ذلك؟
افتراء من عند أنفسنا: لقد افترينا سابقاً أن الكلب كان يخصهم جميعاً، فهم فتية كثيرون ولكن لهم جميعا كلب واحد، فهم يشتركون فيه، وظننا أن السبب ربما يعود إلى ما افترينا من قول سابقا بأن الكلب لم يأوي معهم إلى الكهف، فالفتية فقط هم من أووا إلى الكهف:
          إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
فالكلب كان متواجدا على الدوام في ذلك الكهف الذي عهدوه من ذي قبل، وما أن حضر الفتية إلى الكهف حتى وجدوا الكلب ينتظرهم هناك. فالكلب لم يكن قادما معهم من المدينة، فبناء على هذا الظن دعنا الآن نقرأ الآية السابقة من هذا المنظور ونرى الفرق بين الحالتين. ولكن كيف؟
أولا، لقد ظن البعض أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم:
          سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ
ونحن نظن أن هذا غير صحيح، ونعتقد أن قولهم هذا هو من باب ما جاء على لسان الذين كذبوا القول، وذلك لأنهم جعلوا الكلب شريكا للفتية في رحلة الإيواء إلى الكهف، فهم يظنون أن الكلب قد خرج معهم من المدينة وأووا جميعا مع كلبهم إلى الكهف، وهذا من قول الذين لم يكن عندهم العلم بالقصة الحقيقة.
ثانياً، وكذلك ظن الفريق الآخر الذين قالوا أنهم خمسة سادسهم كلبهم:
وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ
فهؤلاء أيضاً من الذين ليس لهم علم بتفاصيل القصة الحقيقية، لأنهم أيضاً أشركوا الكلب معهم في رحلة الإيواء إلى الكهف.
ثالثاً، أما المجموعة التي صدقت القول فهم الذين قالوا أنهم سبعة وثامنهم كلبهم:
          وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ
السؤال: وأين الدليل على ما تقول؟ إنك لم تقدم أي دليلاً على ما تزعم.
رأينا: حسنا، نحن نظن أن هناك دليلان يمكن أن يدعما موقفنا هذا وهما:
1.     وجود عبارة رجماً بالغيب مباشرة بعد قول الفئة الأولى والثانية، انظر الآية الكريمة جيداً:
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22)
ربما ليتأكد عندنا أن ما قالته المجموعة الأولى (ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) وأن ما قالته المجموعة الثانية (خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) لم يكن يخرج عن باب الرجم بالغيب، ولكن بالمقابل جاء ما قالته المجموعة الثالثة (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) التي نظن أنها كانت على علم بتفاصيل القصة الصحيحة منفصلاً عن باب الرجم بالغيب، ليكون ما قالوه مبنيا على علم.
2.     أما الدليل الثاني الذي نظن أنه قد يرشدنا إلى الجزم أن المجموعة الثالثة كانت على علم دقيق بالتفاصيل الصحيحة لقصة الفتية فيأتي من معرفتهم – حسب ظننا- الدقيقة بعدم اشتراك الكلب في رحلة الإيواء إلى الكهف بدليل أنهم وضعوا فاصلاً بين الفتية من جهة وكلبهم من جهة أخرى عندما استخدموا حرف الواو في قولهم (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). فلنقارن بين المجموعات الثلاثة من هذا الجانب:
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ
وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ
وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ[4]
لذا نحن نفتري الظن بأنه عندما قالت المجموعة الأولى من باب الرجم بالغيب أنهم (ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) دون الفصل بين الفتية والكلب بالواو فقد ظنوا أن الكلب قد خرج معهم من المدينة إلى الكهف في تلك الرحلة، وكذلك فعلت المجموعة الثانية الذين قالوا أنهم (خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ)، أما المجموعة الثالثة الذين قالوا أنهم (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فقد كانت على علم يقين بأن الكلب لم يخرج معهم في رحلتهم من المدينة إلى الكهف، لذا جاء الفصل واضحاً في قولهم بين الفتية الذين جاءوا إلى الكهف من المدينة والكلب الذي كان ينتظر هناك عند الكهف (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).
وغالبا ما طرح العامة التساؤل التالي على أهل الدراية والرواية: لِم لًم يخبرنا الله بعددهم وكفى؟ لم يدخلنا في هذه الدوامة؟ ألم يكن يعلم عددهم بالضبط؟!
رأينا: نحن نفتري الظن بأن توافر المعلومة على هذا النحو في كتاب الله لا توصل لنا فكرة عددهم وكفى، ولكنها تدلنا على ما هو أكثر من ذلك بكثير، وهو التفريق بين من كذب القول وجاء به من باب الرجم بالغيب كما قالت المجموعة الأولى والثانية في مقابل من صدق القول وجاء به عن علم:
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21)
السؤال: ولكن كيف يكون ذلك؟
رأينا: نحن نظن أنه عندما اختلف أهل المسيحية بينهم وتشتت أمرهم إلى فرق وملل، كانت النتيجة أن كل حزب بما لديهم فرحون:
          فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
إلا أن فرقة واحدة – في ظننا- بقيت تأتي بالقول على علم في حين كانت جميع الفرق الأخرى تأتي بالقول الكاذب من باب الرجم بالغيب. فكان العثور على هؤلاء الفتية هو الدليل الحاسم على صدق فرقة واحدة من بينهم وزيف وبطلان دعاوي الآخرين، فمن هي تلك الفرقة يا ترى؟
رأينا: إنها من قال منهم أن حواري عيسى بن مريم هم سبعة وثامنهم كلبهم، فهم في ظننا الفئة التي تأتي بالقول من باب العلم (لذا فعقيدتهم صحيحة)، وكل من سواهم هم ممن يأتون بالقول من باب الرجم بالغيب (لذا فإن عقيدتهم منحرفة).

السؤال: وأين هم وكيف سنتعرف على الفرقة الناجية منهم؟ وكيف سنعرف من كذب القول منهم؟ هل نستطيع أن نفعل ذلك اليوم؟ لقد حصل ذلك عندما تم العثور عليهم في الزمن الغابر؟ وها نحن نعود من جديد إلى الاختلاف؟ فهل يمكن حسم المسألة بتبيان أي الفرق من المسيحية هي التي لا زالت تتبع تعاليم المسيح الصحيحة كما نقلها لها حواريو المسيح؟
رأينا: ننحن نظن أنه يمكننا القيام بذلك بكل سهولة ويسر.
سؤال: وكيف ذلك؟
جواب: العدد؟
سؤال: لم أفهم شيئا، كيف يساعد العدد في ذلك؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري القول بأنه إن صح لنا أن نستنبط أن عدد أهل الكهف (وهم حواريو المسيح) عيسى بن مريم هم سبعة بدليل أنهم (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، فإن ذلك يعني بكل بساطة أن عدد نسخ الإنجيل لابد أن تكون سبعة، لأن كل واحد منهم قد رقم نسخة من الإنجيل، فهم بالإضافة إلى أنهم أصحاب الكهف، فهم أصحاب الكهف والرقيم:
          أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
لذا فإننا بناء على ذلك نتجرأ على افتراء القول بأن الفرقة الناجية من المسيحية هي التي لازالت تظن أن عدد نسخ الإنجيل هي سبعة نسخ بعدد حواري المسيح عيسى بن مريم الذين أووا إلى الكهف. فأي فرقة ظنت أن نسخ الإنجيل هي أكثر أو أقل من سبعة نسخ فهم – برأينا- يقولون ذلك من باب الرجم بالغيب. فهم إما أن ينقصوا شيئا من ذلك فيضيّعوا بعض مما نقله الحواريون عن معلمهم المسيح عيسى بن مريم أو أن يزيدوا شيئا على ما نقله الحواريون عن معلمهم عيسى بن مريم.

في المرة القادمة سنحاول إن أذن الله لنا بشيء من علمه النبش في بقية التساؤلات التالية:
-        أين هم هؤلاء الفتية؟
-        هل لازالوا متواجدين في كهفهم حتى الساعة؟
-        أين هو ذلك الكهف؟
-        هل نستطيع أن نجد مكانه؟
-        هل يمكن التدليل على ذلك بالبرهان العملي؟
فالله وحده أساله بأسمائه الحسنى وبكلمته التامة أن ينفذ قوله بمشيئته وغرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، وأن يتقبل دعائنا في أن نكون من أنصاره كما كان الحواريون أنصاره:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

وللحديث بقية
المدّكرون:        رشيد سليم الجراح
                   علي محمود سالم الشرمان
                   23 تموز 2013
بقلم: د. رشيد الجراح









[1] إذن لابد أن لهؤلاء آثارا نهى الله نبيه أن يبخع عليها، ويدعوه في آية أخرى أن لا يبخع نفسه عليهم إن أرادوا أن لا يكونوا مؤمنين:
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
[2] انظر المقالات السابقة من أجل التفريق بين جنات المأوى وجنات الخلد
[3] ربما يدل الفعل أوى (بهمزة القطع والمجرد عن السوابق) على أن الشخص قام بالفعل بنفسه:
                إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
بينما تدل آوى (بالألف الممدودة والمجرد عن السوابق) على أن الشخص وقع عليه الفعل من الآخرين:
        وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ                        المؤمنون (50)        
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69)
            فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99)

[4] لاحظ أن المجموعات الثلاث اشتركت في شيء واحد وهو أن عددهم فردي (ثَلَاثَةٌ أو خَمْسَةٌ أو سَبْعَةٌ)، فلا نجد أحدا يظن أن عددهم زوجي (أربعة أو ستة أو ثمانية، الخ).