تستكمل المقالة تحليل قصة موسى وصاحبه (العزير)، مع التركيز بشكل خاص على حادثة قتل الغلام. تفترض المقالة أن مبرر القتل لم يكن "قتل نفس بغير نفس"، بل درء "فساد في الأرض"، حيث كان الغلام سيُرهق والديه المؤمنين طغياناً وكفراً. وتربط المقالة بين هذا الغلام وبين الشخصية المذكورة في سورة الأحقاف التي قالت لوالديها "أفٍ لكما"، معتبرة أن هذا القول يمثل قطيعة عقائدية تامة، مما يعني أن القول قد حقَّ على الغلام وأصبح من الخاسرين، وهو ما علمه صاحب موسى بعلمه اللدني.
حاولنا في الأجزاء السابقة من هذه المقالة تسويق افتراء من عند أنفسنا مفاده أن الشخص الذي ذهب موسى ليطلب العلم من عنده هو العزير الذي نسب إليه يهود صفة الألوهية عندما ظنوا أنه ابن الله كما فعلت النصارى من بعدهم عندما نسبوا ذلك لنبيهم عيسى بن مريم:
ولكن نبوءة الرجل قد صدقت بعدم قدرة موسى على الصبر معه، فما طاق موسى ذرعًا بما فعل الرجل، فظهرت معارضته في ثلاث مواقف وهي:
خرق السفينة
قتل الغلام
بناء الجدار
وقد حاولنا أن ننبش في تفاصيل هذه المواقف، فبدأنا الحديث في الجزء السابق على وجه التحديد من عند قضية بناء الجدار، وكان الافتراء الأكبر الذي سقناه حينئذ أن الجدار الذي كان في القرية:
وأن والد هذين الغلامين كان هو نفسه ذلك الرجل الصالح الذي جاء محذرا موسى من البقاء في المدينة عندما قتل رجلا من بني إسرائيل يوم أن دخل المدينة على حين غفلة من أهلها:
وسنتابع في هذا الجزء من المقالة وفي الأجزاء القادمة الحديث عن قصة موسى مع هذا الرجل لنتعرض على وجه التحديد إلى ثلاثة أسئلة رئيسة وهي:
كيف يمكن أن نفهم قصة قتله للغلام الذي لقياه؟
كيف يمكن أن نفهم قصة خرقه لسفينة المساكين؟
من هو ذلك الرجل؟ وأين يمكن أن نجده؟
وسنحاول في هذا الجزء من المقالة على وجه التحديد أن نتطرق (بحول من الله وتوفيق منه) للتساؤل الأول وهو: كيف نفهم قصة قتل هذا الرجل للغلام الذي لقياه في الطريق؟ على أن نتابع (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) في الأجزاء اللاحقة النبش في التساؤلين الأخريين.
ونحن نظن – مفترين القول من عند أنفسنا- أن موسى قد أخطأ في تفسيره للسبب الذي من أجله قتل صاحبُه الغلامَ، فلقد ظن موسى أن قتل النفس هنا يقع في باب قتل نفس بغير نفس، ولربما غفل موسى – نحن نظن- أن قتل النفس يمكن أن يبرر إذا كان بحق من يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا كما تنص على ذلك الآية الكريمة التي ذكرناها آنفا ونعيدها هنا لتأكيد الفكرة:
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن السبب الذي دفع بالرجل (صاحب موسى) أن يقتل الغلام لم يكن من باب قتل النفس بالنفس وإنما كان – برأينا- من باب كف الفساد من الأرض لأن هذا الغلام كان من الذين يحاربون الله ورسوله. لذا نحن نتجرأ على القول بأن عدم قتل الرجل لذاك الغلام كان يمكن أن يؤدي إلى فساد في الأرض، وما جاء قتل الرجل للغلام (عن علم) إلا لكف ذلك الفساد.
وهذا يدعونا إلى الاعتقاد (ربما مخطئين) بأن فعل هذا الغلام سيكون أقرب إلى فعل قارون منه إلى فعل فرعون، ففي حين أن فرعون كان من الذين يريدون علوا في الأرض كان قارون من المفسدين:
لذا نحن نتجرأ على الاستنباط (ربما مخطئين) أن هذا الغلام كان أقرب في فعله إلى ما فعله قارون منه إلى ما فعله فرعون. وهو - بلا شك- على النقيض تماما من موسى الذي كان يريد أن يكون من المصلحين:
وأن السبب الذي دفع بصاحب موسى أن يقتل الغلام يعود إلى الخشية من أن يرهقهما طغيانا وكفرا (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا). وأن الإرادة (فَأَرَدْنَا) كانت منصبه على أن يبدلهما الله خيرا منه زكاة وأقرب رحما:
فالقصة تدور – كما نتخيلها- حول عائلة فيها غلام قد خرج عن دعوة والديه اللذين كانا يستغيثان الله (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ) لدعوته إلى الإيمان (وَيْلَكَ آمِنْ) ويحذرانه من وعد الله الحق (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، فما كان رده إلا أن وضع ذلك كله في باب أساطير الأولين (مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
ولو تدبرنا الآية الكريمة في سياقها القرآني الأوسع، لوجدنا التقابل بين من كان بارا بوالديه:
وهو الذي نظن أن الآية الكريمة تتحدث عنه. لكن السؤال الذي يبقى قائما هو: كيف علم صاحب يوسف بخبر هذا الغلام؟ وهل ما قاله لموسى يكفي أن يكون سببا مقنعًا لقتله الغلام؟
جواب: نعم، نحن نظن أن الرجل صاحب موسى كان عنده ما يكفي من العلم ليبرر قتله الغلام. وأين الدليل على ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الدليل متوافر في ما قاله الغلام لوالديه وهو "أُفٍّ لَّكُمَا". فما معنى قول الغلام لوالديه أُفٍّ لَّكُمَا؟
جواب: غالبا ما ساق أهل العلم الآية الكريمة التالية لتدل على ضرورة البر بالوالدين:
وقد صوّر علماؤنا الأجلاء التأفف للوالدين بأنه " أدنى مراتب القول السيئ". ونحن نرى ضرورة مخالفة أهل الدراية الرأي وذلك لظننا أن هذا يجعل ما جاء بعده من قول غير ضروري في الآية الكريمة نفسه. فانظر - عزيزي القارئ- الآية جيدا، ثم تدبرها من هذا الجانب خاصة قوله تعالى:
فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا
فإذا كان التأفف – نحن نستغرب- هو أدنى مراتب القول السيئ (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ)، فلم ينهانا الله عن ما هو أكبر منه وهو نهرهما (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، فمراد القول هو إذا كان الله قد نهانا أن نقول لهما أف (كأدنى مراتب القول السيئ) فهل نحتاج بعد ذلك أن ينهانا الله عن ما هو أكبر منه (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا لأنه بمجرد أن نكون منهين أن نقول لهما أف كأدنى مراتب القول السيئ فإن ما هو أكبر منه منهي عنه لا محالة. لذا نحن نتجرأ على تقديم الافتراء التالي الذي هو من عند أنفسنا: التأفف هو أكبر من النهر لأننا نظن أن التأفف هو – على عكس ما ظن علماؤنا الأجلاء- أكبر مراتب القول السيئ. لذا فإن قولك لوالديك (أف لكما) هو – برأينا- أعظم ذنبا من أن تنهرهما. لذا فإن الله قد نهانا أولا عن التأفف (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ) كعمل شنيع جدا بحق الوالدين ثم نهانا بعد ذلك عن ما هو أقل منه وهو نهرهما (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، ثم دعانا إلى أن نقول لهما قولا كريما (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، وأن نتبع ذلك بأن نخفض لهما جناح الذل من الرحمة والدعوة لها:
بداية نحن نجد لزاما علينا هنا الخروج عن فحوى الموضوع لتصحيح غلط شنيع نظن أن علماؤنا أهل الدراية قد وقعوا وأوقعوا الناس فيه لقرون طويلة من الزمن. والغلط هو – في ظننا- إخفاقهم في تفسير هذه الآية الكريمة للعامة، ولكن كيف ذلك؟
جواب: لعل القارئ العادي للقرآن الكريم (من مثلي) ربما يجد الإرباك الشديد في أن يجد عبارة بالوالدين إحسانا (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) واقعة في هذا السياق القرآني تسبقها الدعوة إلى عدم الإشراك بالله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ويتبعها الدعوة إلى عدم قتل الأولاد خشية الإملاق (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ):
فلقد كنت على الدوام أتساءل عن السبب أن يحرم الله علينا البر بالوالدين كما حرم علينا أن لا نشرك به شيئا، فكان السؤال الذي يخالجني هو: هل البر بالوالدين من الأشياء التي حرمها الله علينا؟
وقد حاول أحد القراء لمقالاتنا أن يثير هذا التساؤل سابقا، فحاولنا أن نقدم له إجابتنا على هذا الأمر على عجل حينئذ، لكننا سنحاول التفصيل بالقضية هنا لعلاقتها بفحوى موضوع النقاش هنا عن البر بالوالدين.
أما بعد،
نحن نكاد نجزم أن السبب في هذا الخطأ في الفهم يعود إلى طريقة قراءة الآية الكريمة، فبالرغم أن هناك المتخصصون بعلم القراءات إلا أننا نظن أنهم قد فشلوا جميعا في قراءة هذه الآية الكريمة كما يجب، والغلط الذي وقع به هؤلاء يكمن – في ظننا- في علامات الوقف والوصل في هذه الآية الكريمة، فنحن نظن أن علامات الوقف على هذه الآية الكريمة يجب أن تكون على نحو استبدال علامة (ۖ) بعد مفردة عَلَيْكُمْ كما في الرسم القرآني
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن ذلك يعود لأن مفردة عليكم لا تعني أن الله قد خصّنا نحن بالذات بهذه المحرمات، فأنت عندما تقرأ الآية بالوقف بعد مفردة عليكم كما أراد أهل اللغة (وأهل الدين) الذين وضعوا علامات الوقف على كتاب الله:
فإنك تؤكد بأن ذلك يخصنا ولا يخص غيرنا، وكأن لسان حالهم يقول لنا أن هذه ما حرمه الله علينا نحن، لنطرح السؤال الآن على النحو التالي: أليست هذه من المحرمات علينا وعلى غيرنا؟ فما بالنا نخص أنفسنا (دون غيرنا) بها.
رأينا: كلا وألف كلا، هذا ما لا نتقبله إطلاقا لأن هذه – نحن نظن- من الأشياء التي حرمها الله على كل الأمم وليس علينا فقط. لذا يجب أن تقرأ الآية بالوقف على النحو التالي:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ۘ
فتصبح بذلك شريعة نافذة على الجميع.
ثانيا، نحن نظن أن أهل الدراية من سادتنا العلماء قد أخفقوا في فهم معنى مفردة عليكم في هذه الآية الكريمة. ولكن كيف ذلك؟
جواب: لو تدبرنا الآيات الكريمة التي ترد فيها هذه المفردة (عَلَيْكُمْ) لوجدناها بمعنى الظرفية التي تخص مجموعة محددة بذاتها في كثير من الآيات الكريمة:
ولكن الذي ربما يؤسف له أن علماءنا الأجلاء أهل الدراية والرواية قد غفلوا (ربما عن غير قصد) أن هناك في كتاب الله استخدام آخر لمفردة عليكم تدل على معنى الإلزام أو الإجبار كما في الآية الكريمة التالية:
السؤال: ما علاقة هذا كله بالمحرمات في الآية الكريمة التي نحن بصددها؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: دعنا نعود إلى الآية الكريمة التي انطلق هذا النقاش منها لنقرأها على هذه الشاكلة التي افتريناها من عند أنفسنا وهي أن مفردة عَلَيْكُمْ الواردة فيها تعني الإلزام للجميع، وربما يبين هذا على الفور بالوقف التام قبلها كما في الرسم التالي الذي افتريناه من عند أنفسنا:
فتصبح مفردة عليكم معطوفة على كل هذه المحرمات وتصبح جميعها من الوصايا التي وصانا الله بها (ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، لنخرج من ذلك بالوصايا الإلهية على النحو التالي:
ألا نشرك به شيئا
بالوالدين إحسانا
لا نقتل أولادنا خشية إملاق
لا نقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن
لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق
(دعاء: اللهم أسألك أن أكون ممن يعقلون وصاياك – آمين)
عودة إلى قصة قتل صاحب موسى للغلام الذي لقياه في الطريق
لو تدبرنا الوصية الخامسة والأخيرة لوجدنا أنها تنهانا عن قتل النفس إلا بالحق، لنطرح بناء على ذلك تساؤلنا التالي: هل قتل صاحبُ موسى تلك النفس (أي الغلام) بالحق؟
الجواب: نعم، لأنه كان من الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا.
الجواب: نحن نرى الدليل يمكن استنباطه بعد التعرض للمعنى الحقيقي لعبارة (أُفٍّ لَّكُمَا) التي نهانا الله عن قولها للوالدين.
معنى قول "أُفٍّ لكما" في القرآن
الدليل
نحن نحاول أن نستجلب الدليل بأن عبارة (أُفٍّ لَّكُمَا) هي أعلى درجات القول السيئ وليس أدناها (كما ظن من سبقونا من سادتنا أهل الدراية والرواية) وذلك بطرح التساؤل البسيط التالي: إذا كان الله قد نهانا عن التأفف بحق الوالدين (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ)، فما بال إبراهيم (نبي الله وخليله) يفعل ذلك؟ ألم يكن إبراهيم هو أول من قال أف لقومه جميعا بمن فيهم أبيه الذي تبيّن له أنه عدو لله؟
السؤال: ما معنى عبارة "أُفٍّ لَّكُمْ" في النص القرآني إذن؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن هذه العبارة تعني القطيعة التامة بين الطرفين لأن عقائدهم قد وصلت إلى درجة من الاختلاف يستحيل أن يحدث التلاقي بعدها. فهذا نبي الله إبراهيم قد قال أف لقومه:
السؤال: هل لو كانت مفردة "أُفٍّ لَّكُمْ" التي قالها إبراهيم تعني أدنى درجات القول السيئ كما ظن معظم أهل الدراية وتفجرت حناجر خطبائهم بذلك على المنابر، هل كانت ردة فعلهم ستكون بهذه الشدة (حَرِّقُوهُ)؟
جواب: كلا وألف كلا. فنحن نظن أن ما قاله إبراهيم كان قولا بليغا، استوجب في نظر القوم عقوبة تصل إلى درجة التحريق (قَالُوا حَرِّقُوهُ).
السؤال: لماذا؟
رأينا: لأن قول الأف تعني تسفيه الإله الذي يعبده القوم، وهذا في ظننا واضح من قول إبراهيم:
فقول الأف هو المسبّة الأعظم التي يمكن أن يقولها الشخص بحق الإله الذي يعبده قوم آخرون، أو بحق دين الوالدين. فأنت عندما تقول لوالديك أف لكما فإنك بذلك قد أحدثت القطيعة بينك وبينهم بسبب الاختلاف في المعتقد.
الأفّ كقطيعة عقائدية تامة
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: ما أن تصل العلاقة بين الابن والوالدين لدرجة أن يقول الابن لوالديه أف لكما حتى تكون علاقتهما قد وصلت إلى القطيعة التامة، فهذا والد إبراهيم يطلب من إبراهيم أن يهجره:
فلقد كان الخلاف بينهما – كما هو واضح من تتمة الخطاب- خلافا عقائديا (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي) حيث يقبع كل طرف منهم على النقيض التام من الطرف الآخر، فالوالدين مؤمنين يدعوان ولدهما للإيمان (وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) والولد كافر بدين والديه ناعتا إياه بأنه ليس أكثر من أساطير الأولين (فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). والمشكلة التي ينكرها الولد إنكارا تاما هي الخروج من بعد الموت (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي). لذا وصلت العلاقة بينهما إلى درجة القطيعة لأن كل منهما لم يتزحزح عن موقفه، فأصبح – والحالة هذه- الهجران هو الحل الأمثل للطرفين، أي أن يهجر طرف منهم الطرف الآخر. وأظن أن الولد هو – عادة- من يرحل. فقد طلب والد إبراهيم من ولده إبراهيم أن يهجره (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)، وهذا الفتى – نحن نتخيل- قد خرج من عند والديه هاجرا إياهم بعد أن سفّه إلههم وعقيدتهم، وبعد أن نعت ما يؤمنون به على أنه من أساطير الأولين. فما كان – نحن نظن- يستطيع العيش مع والديه، فخرج من عندهم غاضبا، كافرا (غير مؤمن) بدينهم حتى حق عليه القول، انظر الآيات نفسها في سياقها الأوسع:
نتيجة: لقد خرج الفتى من بيت والديه هاجرا لهم وقد حق عليه القول، وهناك في الطريق لقيه موسى مع صاحبه، فما كان من صاحب موسى إلا أن يعمد إلى قتله بعد أن رآه مباشرة.
نتيجة: من قال لوالديه أف لكما فقد حق عليه القول فكانوا ممن حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ
سؤال: ما الآلية التي يحق بها القول على هؤلاء؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: أن يُقيّض لهم قرناء كما نفهم ذلك من الآية الكريمة السابقة في سياقها الأوسع:
ولعل همّ القرين (الشيطان) الأول والأخير هو أن يصد الناس عن السبيل وذلك بزعزعة إيمانه بالبعث والخروج بعد أن يصبح الإنسان ترابا وعظاما. فيدخل القرين (وهو شيطان) لمن قيّضه الله له من الجن والإنس من هذا الباب:
نتيجة مهمة جدا: من كان له قرين (شيطان) فهو يزين له ما بين يديه وما خلفه حتى يصل في نهاية المطاف إلى إنكار البعث (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي) ويضع الحديث عن العقيدة بأكمله في إطار (مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). وذلك لأنه صدّق قول قرينه (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟)
السؤال: ما علاقة هذا بقتل صاحب موسى للغلام بمجرد أنهما لقياه؟
جواب: نحن نظن أن مجرد أن يحق القول فهذا بحد ذاته مقدمة للعقاب الإلهي المباشر:
نتيجة: لقد خرج ذلك الغلام كافرا بدين والديه اللذين كانا يدعوانه إلى الله (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ)، وقد حذراه من أن وعد الله الحق (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، فما استجاب لدعوتهم بل أصر على استكباره ناعتا كلام والديه بأنه لا يعدو أن يكون أكثر من أساطير الأولين (مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، فكان من الذين حق عليهم القول (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)، وكانت تلك سنة الله التي قد خلت من قبله (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ)، فكان هذا الغلام (كما كانت تلك الأمم) من الخاسرين (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ).
تخيلات من عند أنفسنا: هناك في الطريق لقياه موسى وصاحبه ، فلم يكن علم موسى يؤهله أن يعلم أن هذا الفتى قد حق عليه القول فوجب نزول العقاب بحقه، ولكن علم هذا الرجل (الذي علمه إياه ربه من لدنه) كان يؤهله أن يصل إلى هذه المعلومة، فما تردد أن يقتل الغلام:
رأينا المفترى من عند أنفسنا الذي نطلب من القارئ الكريم أن لا يصدقه ما لم يجد أن الدليل من كتاب الله يثبته: نحن نفتري القول بأنه ما أن رأى صاحب موسى ذلك الغلام حتى استطاع (بما علمه الله من لدنه من العلم) أن يرى قرين هذا الفتى، أي لقد كان هذا الرجل يملك من العلم ما يمكنه من رؤية القرين، الأمر الذي دفعه لقتل الغلام بمجرد أن رأى قرينه، لأن ذلك يعني أن هذا الفتى قد أصبح ممن حق عليهم القول كما تشير الآية الكريمة التالية التي تشير إلى عاقبة من قال لوالديه أف لكما:
السؤال: لماذا أقدم صاحب موسى على قتله؟ فهل كل من حق عليه القول يجب أن يقتل؟
جواب: لو راقبنا ما قاله صاحب موسى لموسى لوجدنا أن الذي دفع بصاحب موسى أن يقدم على قتل الغلام الذي حق عليه القول والذي (كما افترينا القول) قد قيض له قرين هو الخشية بأن يحدث هذا الفتى فسادا أكبر في الأرض، وذلك بأن يرهق أبويه طغيانا وكفرا كما جاء بصريح اللفظ القرآني:
رأينا المفترى: نحن نفتري القول (ربما مخطئين) بأنه لو لم يعمد صاحب موسى إلى قتل الغلام لكانت النتيجة لا محالة هو أن يرهق ذاك الغلام أبويه طغيانا وكفرا. لذا نحن نؤمن أن صاحب موسى قد قتل الغلام الذي حق عليه القول لكي لا يرهق أبويه طغيانا وكفرا وهو بذلك قد كف فتنة هي أكبر من القتل:
فما أن ثقف صاحبُ موسى ذلك الغلام حتى علم أنه من الذين يحاربون الله ورسوله وأنه من الذين لا يألون جهدا في أن يردوا المؤمنين عن دينهم إن استطاعوا. ولكن كيف ذلك؟
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أن ذلك الغلام قد خرج من عند والديه وهو في أشد حالات غضبه منهما، منكرا البعث (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي)، وقد كان شاتما مسفها لهما ولدينهما، ناعتا إياه بأنه من أساطير الأولين (فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، عازما على أن يهجرهما لاستحالة التلاقي بينهما مادام أن كل طرف منهم يقف على النقيض العقائدي من الآخر. فالأبوان مؤمنين يدعوان ولدهما للإيمان (وَيْلَكَ آمِنْ) ويحذرانه من وعد الله الحق (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ). والغلام –بالمقابل- كافر رافض دعوة والديه له.
وهنا نتوقف قليلا لنشير إلى أن هناك في خطاب صاحب موسى القرآني مفارقة عجيبة يجب التنبيه إليها وهي استحالة أن يرجع الغلام عن كفره في حين أن هناك احتمالية (وإن كانت ضئيلة) أن يتراجع الوالدان عن إيمانهما.
الدليل
في حين أن كفر الغلام بدين والده كان أمرا لا رجعة فيه بدليل أنه قد قال لهما أف لكما، وبدليل أنه كان من الذين حق عليهم القول فكان من الخاسرين:
فلو دققنا في كلام صاحب موسى هذا لوجدنا أن الخشية من أن يرهق الغلام والديه طغيانا وكفرا كانت لازالت قائمة، أليس كذلك؟
ولكن لماذا؟
جواب: لو حاولنا أن نتخيل موقف أي أبوين من ولدهما الذي سيهجرهما لمجرد الاختلاف العقائدي لربما وجدنا أن الآباء غالبا ما يغلّبون منطق العاطفة الجامحة في حب أبنائهم. لذا نحن نتخيل أن أحد الأبوين لهذا الغلام ربما كان سيقول للآخر (بعد خروج ولدهما من البيت قاصدا هجرهم) بأن مجاراة الولد (الكافر) على كفره ربما هي أهون عليه من هجره لهما، وأظن أن هذا كان موقف الوالدة المحبة لولدها، وربما كان مثل هذا الشعور سيشكل دافعا يؤدي بها للتنازل عن موقفها بعض الشيء، وربما يدفعها لأن تؤثر على زوجها من هذا الباب، مما قد يدفعها معا في النهاية إلى تقديم بعض التنازلات شيئاً فشيئاً، حتى يصل الأمر في نهاية المطاف إلى غلبة الابن (الكافر) على والديه المؤمنين من الناحية العقائدية. وهذا ما نظن أن الرجل صاحب موسى كان يخشاه عندما قال فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا :
ولا شك أن الرهق إذا ما وقع على الشخص فإنه قد لا يقوى عليه:
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (سورة المدثر)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد كانت الخشية حاضرة عند صاحب موسى من أن في عدم قتل الغلام احتمالية كبيرة جدا أن يسبب ذلك طغيانا وكفرا لوالديه، بعد أن كانا مؤمنين نتيجة حبهما لولديهما الذي رفض دينهما رفضا قاطعا فآثر أن يهجرهما هجرا غير جميلا (أي إلى غير رجعه) لأن الهجر الجميل يكون فيه الصبر على من هجرت:
فلو كان هجر الغلام لوالديه من باب الهجر الجميل لكان فيه صبر عليهما ولربما كان ذلك إلى حين، ولكن كان هجر الغلام – نحن نفتري القول- هجرا غير جميل، فكان لا محالة راحلا عنهما وإلى الأبد مادام أنه قد قال لهما أف لكما بالضبط كما حصل مع إبراهيم نفسه وإن كانت هي الصورة المعاكسة، ومثل هذا الهجران غير الجميل كان يمكن (نحن نفتري القول) أن يحرك عاطفة الوالدين تجاه ولديهما ليردوه عن هجره لهما حتى لو كان ذلك على حساب التنازل بعض الشيء عن عقائدهم، ولو حصل أن تنازل الوالدين عن شيء من ذلك مقابل أن يرجع إليهما والديهما لما توقف ذلك الغلام عند ذلك الحد، ولأصر على أن يرهقهما طغيانا وكفرا، ولربما وصل الأمر بالوالدين إلى درجة الكفر التام، لان الولد يكون بذلك قد استطاع أن يردهما عن دينهما:
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن الموقف قد حصل على النحو التالي: يصل الأمر بين الوالدين من جهة وولدهما (الغلام) من جهة أخرى إلى طريق مسدود، يحاول الوالدان أن يردا ولدهما عن طغيانه وكفره فلا يفلحان لتعنت الغلام على موقفه الرافض تماما لدين والديه، وهو يحسب أنه من المهتدين. وتصل به درجة التعنت إلى أن يوجه لوالديه أقسى درجات الشتم وهو التأفف (أُفٍّ لَّكُمَا)، وهنا تحدث القطيعة التامة بين الوالدين والغلام، فيستحيل أن يتواجد الطرفان معا في المكان نفسه، فما يكون من ذلك الغلام إلا أن يخرج من البيت هاجرا والديه هجرا غير جميل (أي إلى غير رجعة). وهنا (نحن نتخيل فقط) تتحرك العاطفة عند الوالدين جامحة، فيحصل النقاش بين الطرفين (الوالدين فقط في غياب ولدهما)، فيبديان قدرا من الجاهزية للتنازل بعض الشيء عن موقفهما، رغبة في ثني ولديهما عن ما هو مقدم عليه، ويحدث هذا الحوار بين الوالدين بعد أن خرج الغلام من البيت مهاجرا، ونحن نتخيل أيضا بأنه ما أن يرى الوالدان ما كان ولدهما فاعلا حتى يخرج أحدهما (وأظن أنه الوالد) من البيت لاحقا ولده ليثنيه عن موقفه، وربما ليقدم له بعض التنازلات، ولو تمكن الوالد (نحن نتخيل) من اللحاق بالولد لربما حصل ذلك، ولكن يحصل – أقول نحن نتخيل فقط- أن يلقيا موسى وصاحبه ذلك الغلام في الطريق قبل أن يتمكن والده من اللحاق به، فما يكون من صاحب موسى (الذي آتاه الله علما من لدنه) إلا أن يقدم على الفور إلى قتل ذلك الغلام قبل أن يتمكن والده من اللحاق به. تاركا إياه جثة هامدة، وما أن يصل والده (نحن لا زلنا نتخيل) إلى المكان حتى يجد ولده مصروعا، لا يدري من فعل هذا به. فما كان من رجل لازال على إيمانه السابق إلا أن يكون قوله:
فيكون قتل الغلام الذي أقدم عليه صاحب موسى سببا كافيا بأن لا يقع والداه في فتنة هي أكبر من القتل، فينتقلا (لو أن الأمر حصل على غير تلك الشاكلة) من الطرف الإيماني إلى طرف الطغيان والكفر.
(دعاء: اللهم رب أشهدك قولي أنك أنت الإله الواحد الأحد، وأشهدك أني آمنت بأنه لا شريك لك، فأعوذ بك وحدك من أن تبلوني لتعلم صبري وأعوذ بك أن تبلوا أخباري).
خاتمة وتساؤلات للمستقبل
السؤال: كيف يحق القول على الكافرين؟ أو بكلمات أكثر دقة كيف عرف صاحب موسى أن هذا الغلام قد حق عليه القول أصلا؟
جواب: إن هذا السؤال يعيدنا على الفور إلى جدلية كبيرة جدا طرحناها في مقالاتنا تحت عنوان مقالة في التسيير والتخيير، و هل لعلم الله حدود: جدلية القلب والعقل؟ و صلاة الاستسقاء. وسنحاول أن نعيد هنا بعض تفاصيل بعض افتراءاتنا السابقة لعلاقتها بقصة قتل صاحب موسى للغلام.
أما بعد،
التساؤلات:
لماذا أنزل الله قرآنا يتلى بحق عم النبي أبي لهب قاطعا خبره وخبر امرأته؟
لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق عم النبي العباس الذي بقي على دين آبائه وأجداده حتى فتح مكة كما تقول بعض رواياتهم؟
لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق أبي سفيان الذي لم يسلم حتى فتح مكة؟
لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق أبي جهل أو سهيل بن عمر أو أمية بن خلف وغيرهم اللذين ماتوا على الكفر؟
والأهم من هذا كله، لماذا لم ينزل الله قرآنا يتلى بحق فرعون نفسه؟ ألم يقل فرعون أنه ربهم الأعلى؟
لماذا أرسل الله لمن ادعى الألوهية (فرعون) رسولين ليقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى؟
الخ
وللحديث بقية
فالله وحده أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً، وأسأله وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يجعل فضله عليّ عظيما، والحمد لله رب العالمين.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
📖 شروط قراءة المقالات:
❌ المقالة ليست فتوى.
💭 هي رأي فكري شخصي قابل للخطأ والصواب.
📝 يُمنع تلخيصها أو إعادة صياغتها.
📚 يُسمح بالاقتباس مع ذكر المصدر وعدم تحريف المعنى.
⚖️ لا يحق مقاضاة الكاتب بسبب اختلاف الآراء.