قصة موسى 5: باب العزير 02




زعمنا في الجزء السابق من هذه المقالة أن الذي ذهب موسى ليطلب العلم عنده هو العزير الذي زعمت اليهود بأنه ابن الله كما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)
وحاولنا عقد مقارنة بينه وبين المسيح ابن مريم الذي زعمت النصارى أنه ابن الله كما ورد في الآية الكريمة نفسها، فخرجنا بالاستنباط المفترى من عند أنفسنا والذي مفاده أنّ هذان الشخصان من دون البشر جميعاً هم من جعلهم الله آية للناس كما جاء في السياقين القرآنيين التاليين حيث يتحدث الأول عن الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية على عروشها فأماته الله مئة عام ثم بعثه ليكون آية للناس ويتحدث الآخر عن عيسى بن مريم الذي جعله الله آية للناس:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ۖ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
نتيجة مفتراة: لو حاولنا التدقيق في ألفاظ القرآن الكريم في هاتين الآيتين الكريمتين لوجدنا أن عيسى بن مريم (وذاك الرجل) لم يكونا آية لمجموعة أو لطائفة محددة من الناس ولكنهما – بنص الآيات الكريمة- كانا آية للناس (أي لكل الناس الذين جاءوا من بعدهم، بدليل أن الله قد جعلهما جعلا). فذاك الرجل أصبح منذ تلك الحادثة آية للناس:
          وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ
وكذلك أصبح عيسى بن مريم آية للناس منذ أن ولدته أمه:
          وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ
السؤال: كيف يمكن أن يكون العزير وعيسى ابن مريم آية للناس؟ كيف بهم آية لي ولك ونحن اللذين لم نعاصرهم؟ وكيف بهم آية لكل الناس الذين جاءوا من بعدهم؟
رأينا: سنرى لاحقاً أن من جعله الله آية للناس لا بد أن يبقى موجوداً على الدوام بالضبط كما جعل الله فرعون ببدنه آية لمن خلفه:
          فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ                    يونس (92)
نتيجة: لقد كان ذلك الرجل الذي مرّ على القرية آية للناس كما كان عيسى بن مريم آية للناس، وكان فرعون ببدنه آية لمن خلفه.
(دعاء: أللهم أسألك وحدك أن لا أكون من الغافلين عن آياتك، وأسألك وحدك أن تريني آياتك فأعرفها، إنك أنت السميع العليم)

افتراء من عند أنفسنا: ونحن نفتري الظن أن النصارى قد فتنوا بنبيهم عيسى بن مريم لدرجة أنهم ظنوا أنه ابن الله وكذلك – برأينا- فعل اليهود من قبلهم، فلقد فتنوا بذلك الرجل الذي جعله الله آية للناس فظنوا أنه ابن الله، لما بدر منهما على مرأى من الناس من أفعال. فلقد تحصل لهؤلاء الشخصين من العلم الإلهي المباشر ما لم يتحصل لغيرهم (ربما سوى آدم الذي أضاع ذلك العلم فيما بعد).
سؤال: لماذا توقف اليهود عن زعمهم بأن لله ولد بينما استمر النصارى في ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن هذه القضية (وجود أم عدم وجود ولد لله) كانت من المحاور المفصلية في الديانة اليهودية والنصرانية، فلقد وقع اليهود تحت تأثير الاعتقاد الكاذب بأن لله وله (فجعلوا العزير الذي - هو برأينا- معلم موسى ابن الله) وكذلك وقع النصارى تحت الاعتقاد الكاذب نفسه (فجعلوا المسيح بن مريم ولد الله). وإنهم لكاذبون. ولكن كيف تخلى اليهود عن هذا الاعتقاد واستمر النصارى فيه؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن هذه الفكرة بحد ذاتها كانت كفيلة بأن يقع القوم بسببها في الاختلاف، فلا أظن أن اليهود بمجموعهم سيتقبلونن فكرة أن يكون لله ولد وكذلك لا أظن أن اليهود بمجموعهم سيتنازلون عن فكرة أن لله ولد، وكذلك كان الأمر بالنسبة للنصارى كما تصور ذلك – برأينا- الآية الكريمة التالية:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا                                           النساء (157)
فمما لا شك فيه أن القرآن الكريم يثبت أن عيسى بن مريم نفسه لم يقل يوماً للناس أنه إله من دون الله أو أنه ابن لله، فها هو عيسى بن مريم يبرئ نفسه من هذه التهمة التي ألصقها بعض أتباعه فيه:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ                                                                                                                      المائدة (116)
ولكن الذي حصل بالفعل كان – برأينا – على نحو أنه ما أن قضى عيسى عن هذه الأرض بالوفاة حتى دب الخلاف في القوم فاختلفوا فيه:
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ
فجاء ذلك من باب الشك في البدء، فما كان لهم به من علم، ولم يأتي ذلك إلا من باب الظن فيما بعد.
نتيجة مفتراة: بعد أن توفى الله عيسى بن مريم ورفعه إليه، دب – برأينا- الخلاف بين أتباعه بخصوص كينونة عيسى نفسه، فظن فريق منهم أن عيسى ليس بإنسان مثلنا، فرفعوه إلى منزلة أعلى من منزلة الناس العاديين، ولكن دون منزلة الإله نفسه، فقالوا عنه بأنه ولد الله:
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ الْغَنِيُّ ۖ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَٰذَا ۚ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ                                                                                  يونس (68)
فكذّب الله زعمهم هذا وتوعدهم من إفكهم هذا:
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)                                                                                                                    الكهف
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)                                      الصافات
وبرر السبب في أن الإله لا يتخذ ولدا ولا ينبغي أن يكون له شريك في الملك:
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ                                                                                                           المؤمنون (91)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا                                                                                                                    الإسراء (110)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا                                                                                                                                     الفرقان (2)
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل الذي حصل بعد أن توفى الله عيسى بن مريم على النحو التالي: أنقسم أتباع عيسى بن مريم حول إلوهية عيسى بن مريم بادي الأمر إلى فريقين: فريق يظن أن عيسى ولد الله وفريق آخر يؤمن أن عيسى ليس ولد الله، ,وربما نستطيع أن نجزم بمثل هذا الظن من الآية الكريمة التالية:
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
نتيجة: كانت نتيجة الاختلاف وجود فريقان يقتتلان بين بعضهم البعض، ولكن لم كانت الغلبة؟
الجواب: للفريق الأول الذي ظن أن عيسى ولد الله. فاستمر أهل الديانة النصرانية في الاعتقاد بأن لله ولد.
سؤال: لماذا كانت الغلبة لهذا الفريق؟ ولِم لَم تكن للفريق الآخر؟
رأينا: نحن نظن أن السبب في ذلك يعود إلى الحقيقة التي مفادها أنّ النصارى كان عندهم الإنجيل بأكثر من نسخة (وسنتعرض بالتفصيل لهذه القضية في مقالاتنا حول عيسى بن مريم بحول الله وتوفيقه، فالله وحده أسأل أن يأذن لي بعلم لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم). فكان – برأينا- من الاستحالة بمكان أن يحصل الاتفاق بينهم مادام أنهم يرجعون إلى أكثر من مصدر للمعلومة المتنازع عليها.

سؤال: ولكن ما الذي حصل في حالة اليهود؟ لم لم يستمر اليهود بالاعتقاد بأن لله ولد كما فعلت النصارى من بعدهم؟
نحن نظن أن النفر من بني إسرائيل الذين عادوا من التيه بعد أن فرق الله بينهم وبين موسى وأخيه وحرم عليهم دخول الأرض المقدسة أربعين سنة هم الذين هادوا:
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ                                  الأعراف (156)
وما أن هادوا (أي رجعوا) حتى وجدوا في سيرة نبيهم موسى التي حصلت في غيابهم ما يثير الدهشة ويدعو إلى الاختلاف:
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ                                                                                        يونس 93
وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ ۖ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ                                                                                        الجاثية 17
فنحن نظن أن واحدة من دواعي الاختلاف بينهم أنهم قد وجدوا –في ظننا- أن نبي الله موسى (على مكانته) قد ذهب يطلب العلم عند شخص آخر، ولم يصبر على صحبته، وهنا كان لابد منهم أن يتفكروا بماهية هذا الرجل الذي كان معلماً لموسى نفسه، وكان موسى تابعاً له.
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أن الذي حصل كان (كما هو في مخيالنا) على النحو التالي: لا شك أن بني إسرائيل يعلمون نسب موسى، وأنهم على دراية تامة بأنه قد جاء من أم وأب من بني إسرائيل، كما أنهم كانوا على علم بتفاصيل حياته:
          قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ                                                                                                                             الأعراف 129
لذا لم يكن لديهم بدا إلاّ الإقرار بأن موسى نفسه (إنسان مثلهم)، فلا مجال إذن أن ينسبوا تبني الإله للولد لنبيهم موسى، كما أنهم لم يجدوا في قصة موسى شيئا يخص إحياء الموتى أو النبأ بالغيب (كما حصل في حالة عيسى من بعدهم). ولكن هذه الصفات مجتمعة وجدوها عند ذاك الرجل الذي ذهب موسى ليطلب العلم من عنده، ورضي موسى أن يكون تابعاً له، كما أقر موسى بنفسه أن هذا الرجل قد اختصه الله برحمة من عنده وبعلم من لدنه:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
وطلب موسى بنفسه أن يكون تابعاً مطيعاً لهذا الرجل مقابل الحصول على شيء من العلم الذي اختصه الله به:
          قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
وأظن كذلك أنه قد انتهى إلى أولئك النفر من اليهود أن موسى نفسه لم يصبر على علم هذا الشخص:
          قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
فموسى نفسه لم يحط خبرا بما عند هذا الرجل من العلم، ولما لم يكن لهم علم بنسب هذا الرجل (فهم لا يعلموا من هو أب أو من هي أم هذا الرجل أو على الأقل من أين جاء)، كان السؤال (الذي نظن أنه قد احتار اليهود حينئذ في إجابته) هو: من هو ذلك الشخص الذي تعلم منه موسى يا ترى؟ أهو إنسان مثلنا (ومثل موسى)؟
-        أظن أن الإجابة عندهم كانت بالنفي، فنحن نظن أن القوم ربما اعتقدوا أن من كانت صفاته كصفات هذا الرجل الذي يكون معلماً للأنبياء أنفسهم ربما لا يمكن أن يكون شخصاً عادياً مثلنا
أهو إله إذن؟
-        أظن أن الإجابة كانت عند القوم بالنفي أيضاً، وذلك لأن موسى نفسه خاطب الإله في الواد المقدس عند النار:
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ    القصص 30
من هو إذن؟ ربما تساءل القوم.
جواب مفترى من عند أنفسنا: إن صح منطقنا المفترى هذا، فإننا نتخيل أن منطق القوم كان على النحو التالي: لابد أن ذاك الشخص الذي ذهب موسى ليتعلم منه هو أكثر من مجرد أن يكون إنسانا عاديا مثلنا ولكنه في الوقت ذاته أقل درجة من الإله نفسه الذي خاطبه موسى في الواد المقدس.
فمن يكون؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن الإجابة التي توصل لها نفر من اليهود آنذاك هي أن ذلك الشخص هو ابن الإله
سؤال: لماذا لم تستمر اليهود في تبني هذا الاعتقاد؟
رأينا: لا شك أن اعتقاداً كهذا سيؤدي إلى وقوع الاختلاف (بالضبط كما حصل في حالة النصارى من بعدهم)، وسيقسم الناس إلى فريقين، فريق يتبنى وجهة النظر القائلة بأن للإله ولد وفريق آخر يرفض الفكرة جملة وتفصيلاً،  لذا كان لابد من حسم الخلاف بين الفريقين (ولو بعد حين) بالرجوع إلى الكتاب نفسه، وهنا (على عكس النصارى) جاءت المفارقة التي حصلت عند اليهود وهي وجود كتاب واحد (التوراة) عندهم، ولم تكن التوراة أكثر من نسخة كما في حالة الإنجيل. لذا – نحن نفتري الظن- أنهم عندما رجعوا إلى الكتاب الذي ورثوه لم يجدوا فيه أي إشارة أن يكون للإله ولد، فكانت الغلبة في نهاية المطاف (على عكس النصارى) للفريق الرافض لفكرة وجود ولد للإله:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ                                         البقرة 213
دقق – عزيزي القارئ- في هذه الآية الكريمة جيداً لترى أنه بالرغم أن الاختلاف كان دافعه البغي بينهم (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) إلا أن هداية الله كانت للذين آمنوا قد أوصلتهم إلى الحق (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).
ولو حاولنا أن نقارن ذلك بحالة الاختلاف التي حصلت بعد عيسى لوجدنا أن النتيجة كانت مختلفة بعض الشيء:
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: ففي حين أن الاختلاف في حالة اليهود قد حسمت لصالح الذين آمنوا (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، بقي الاختلاف قائماً بالاقتتال بين الفريقين في حالة النصارى (وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).
وهذا الاختلاف في المنهجية بين اليهود والنصارى واضحة – برأينا- في الآيات الكريمة التالية:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)                                            البقرة
رأينا: لمّا كانت اليهود لا تستند إلا إلى "كتاب" بنسخة واحدة (العهد القديم) لم يستمروا في الاعتقاد بأن للإله ولد لأنهم لا يجدوا في ذلك المصدر الرباني إشارة إلى أن للإله ولد، ولكن بالمقابل- لما كانت النصارى تستند إلى العهد القديم وإلى العهد الجديد (بنسخه المختلفة)، استمروا في الاختلاف فيما بينهم.
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ                        البقرة 176
وقد نهانا الله عن الوقوع في الاختلاف كالذي حصل في حالة من سبقنا:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ                آل عمران 105
وأنزل الله الكتاب على نبيّنا، وكانت واحدة من أهداف هذا التنزيل هو أن يبين لهم الذي اختلفوا فيه:
وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ                   النحل 64
إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ                                      البقرة 76
لذا نحن مدعوون إلى أن نقرأ في قرآننا قصص بني إسرائيل لأنه يصوّر حقيقة ما اختلفوا فيه، فقرآننا هذا يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، لذا نحن مدعوون – على الدوام- أن نترك تخاريف الأمم السابقة وأن لا  ننجرّ وراءهم في كل أكذوبة ابتدعوها من عند أنفسهم، ولكن من المؤسف – في رأينا- هو أنه لو فتحنا أي كتاب من أمهات كتب التفاسير لدينا لوجدناها حبلى بتفاسير بني إسرائيل المفتراة، وفي تفاسير قصص سورة الكهف مثلاً الدليل الوفير على صحة ما نزعم. فالتفاسير الخاصة بقصص أهل الكهف والرقيم وصاحب الجنتين وصاحب موسى وذو القرنين مأخوذة بمجملها عن تخاريف الأمم السابقة، ومن أراد أن يجادل فليقرأ في المصادر جميعها عند أهل الإسلام وعند بني إسرائيل. وأنا لا أظن – مفتري القول كالعادة- أن الفكر الإسلامي قد اشتغل بأكثر من مهمة النقل من عند غيره. لذا فإن واحدة من أهدافنا كانت على الدوام هو قراءة هذه القصص من جديد بطابع لا تشوّهه موروثات الأمم السابقة بل بالاحتكام الكامل إلى النص القرآني ولا شيء غيره، فالقص القرآن في الوقت الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يقص علينا الحق ولا شيء غير الحق. والله أسأل أن يهدينا إلى الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، وأسأله وحده أن يختصني برحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً لا ينبغي لغيري إنه هو السميع المجيب
أما بعد،
رحلة موسى مع صاحبه العزير
بعد أن أخبر الفتى نبي الله موسى بأنه قد رأى الحوت عند الصخرة:
          قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
ما كان جواب موسى إلا أن قال " ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ":
قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا
وزعمنا الظن في مقالتنا السابقة أن اسم الإشارة "ذلك" يعود على الحوت نفسه، ربما لنفهم أن ذلك الحوت كان مقصد الرحلة، فموسى وفتاه انطلقا إلى مجمع البحرين بحثاً عن الحوت ولم يكونا – كما زعم معظم أهل الدراية- يحملان الحوت معهما ليكون لهما طعاماً في الرحلة.
كيفية القصص
نحن نفهم من السياقات القرآنية الخاصة بالقصص بأنه عبارة عن إتباع التفاصيل الواحدة تلو الأخرى، فالقصة لا يمكن أن تقص إلا عندما تفضي تفاصيلها إلى بعضها البعض دون انقطاع:
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ              الأعراف 176
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ          يوسف 3
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ                  يوسف 5
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ                                                                                             يوسف 111
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ۖ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ                 النحل 118
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ                                                                                القصص 25
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ                                                 غافر 78
لذا نحن نفتري الظن بأن موسى وفتاه قد ارتدا وهم يراقبون تفاصيل المنطقة التي سلكوها في رحلة الذهاب واحدة تلو الأخرى لكي يعودوا إلى نفس المكان الذي آووا إليه عندما وصلوا مجمع بين البحرين:
          قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
وذلك لأن هناك عند الصخرة اتخذ الحوت (علامة اللقاء) سبيله في البحر (عَجَبًا).
ولا يجب أن ننسى أيضاً أن فعل الرجوع كان بطريقة الارتداد:
قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا
والارتداد – برأينا- هو عبارة عن الحركة نفسها ولكن بالاتجاه المعاكس:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ               المائدة 21
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ                المائدة 54
فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ            يوسف 96
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ                                                   إبراهيم 43
قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ                                  النمل 40
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ                       محمد 25
السؤال: كيف تم الارتداد قصصا؟
لو تابعنا قصة موسى نفسها عندما ذهبت أخته بطلب من أمه لتقصه وجدناها تتبع أثره حتى لا يغيب عن ناظريها لتعرف أين ستنتهي به الرحلة:
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
ولكن الملفت للانتباه أن أخت موسى – كما تصور هذه الآية الكريمة- قد قصت موسى ولكنها بصرته به عن جنب، فهي – برأينا- لم تتبعه في الماء حيث قذفته أمه، ولكنها بقيت في اليابسة القريبة من الماء تتابع حركة التابوت في الماء حتى وقع في أيدي آل فرعون كما جاء الوحي الإلهي بذلك إلى أم موسى من ذي قبل:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي                                                                                                    طه 39
فبقيت الأخت مجاورة لأخيها الذي في التابوت (عَن جُنُبٍ) في تتبع أثره كحال الجار بالجنب أو الصاحب بالجنب:
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا
فما أن استقر بين أيدي القوم حتى دلّتهم على من يكفله لهم:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ ۖ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ                                          طه 40
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ           القصص 12
أما في حالة موسى وفتاه فإن عملية قص الرجل لم تحدث تماماً كما فعلت أخته من قبل وذلك لأن موسى وفتاه لم يبصران بالرجل عن جنب وإنما كان بطريقة الارتداد (فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا)، أي السير في الطريق نفسها ولكن بالمعكوس حتى وصلا إلى المكان الذي وجدا فيه الرجل:
          فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا                           الكهف 65
وكان ذلك عند الصخرة حيث "أويا" إليها في البداية عندما وصلا مجمع البحرين، فمما لا شك فيه – عندنا- أن الإنسان إذا ما ذهب إلى المكان المنشود الذي سيجد عنده من واعده فإنه يمكث في المكان بعض الوقت، وهذا ما نظن أنه جاء في النص القرآني بمعنى "أَوَيْنَا" في الآية الكريمة التالية:
          قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
ولو تتبعنا المفردة ومشتقاتها في السياقات القرآنية لوجدناها تدل على المكوث بعض الوقت ولكن ليس على سبيل الدوام، ويدل على ذلك مثلاً ما جاء في قوله تعالى في حالة ابن نوح حيث ظن الغلام أن مكوثه بعض الوقت في الجبل سيعصمه من الماء حتى انتهاء العاصفة:
قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
وها هو لوط يتمنى أن يأوي إلى ركن شديد يحميه من تدبير القوم به وبضيوفه:
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ                                                            هود 80
وها هو يوسف يؤوي إليه أخاه:
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ               يوسف 69
وكذلك فعل بأبويه:
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ                            يوسف 99
ولا شك أن أهل الكهف قد آووا إلى الكهف وكان غرضهم المكوث فيه بعض الوقت:
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا                        الكهف 10
والله هو من آوى المسيح وأمه إلى ربوة ذات قرار ومعين، فمكثت هناك بعض الوقت حتى عادت إلى قومها وهي تحمله:
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ                                           المؤمنون 50
وأظن أن جنات المأوى تختلف عن جنات الخلد بأنها جنات مؤهلة لاستقبال زبائنها فترة قصيرة من الزمن حتى يتم نقلهم بعد ذلك إلى جنات الخلد:
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ                            السجدة 19
تلخيص: وبهذا الزعم نعود لنلخّص القصة بالقول بأنه ما أن وصل موسى وفتاه إلى مجمع البحرين في البداية حتى مكثا هناك فترة من الزمن (أَوَيْنَا) عند تلك الصخرة التي تفصل الماء عن اليابسة. ولكن لم يستطيع الفتى مراقبة حركة الحوت الذي سيحدث أمراً عجباً ربما لانشغال الفتى بأشياء أخرى، فكان ذلك من باب ما أنساه الشيطان (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، فتابعا مسيرهما في البحر باستخدام السفينة التي سيأتي ذكرها بعد قليل حتى جاوزا البحر، وهناك طلب موسى من فتاه أن يحضر الطعام بعد هذه الرحلة الشاقة:
          فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا                                                     الكهف 62
فمفردة "جَاوَزَ" المكانية غالباً ما ترد في النص القرآني في حدود المكان الذي يتواجد به الماء:
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ                                                    البقرة 249
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ                                                                                                                 الأعراف 138
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ                                                                                              يونس 90
فعادا مرتدين في السفينة نفسها التي انطلقا يقطعان البحر فيها إلى الشاطئ المقابل، ولما ارتدا على آثارهما قصصا عاد إلى المكان نفسه ليجدا الرجل هناك:
                   فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا                           الكهف 65
ولو تأملنا مفردة "وجد" في النص القرآني لاستطعنا القول بأن العثور على الرجل كان بالصدفة (أو لنقل بطريقة مفاجئة) كما حصل مع موسى يوم أن وجد امرأتين تذودان من دون الأمة من الناس الذين كانوا يسقون:
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ   
أو كحال الهدهد الذي وجد المرأة:
          إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ                              النمل 23
وهنا تبدأ مقابلة موسى لهذا الرجل للمرة الأولى فيبتدئه موسى بالطلب التالي:
          قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا                                              الكهف 66
ولو دققنا في معنى "الإتباع" لربما فهمنا أن موسى يطلب أن يكون أقل منزلة من الرجل عندما  قبل أن يتبعه، فالمتبِع (بكسر الباء) لا شك أقل شأناً من المتبَع (بفتح الباء). لأن المتبع هو المتعلم بينما المتبع هو المعلم.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ                                                       الأنفال 64
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ                                                                                 هود 27
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ                                           الحجر 42
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ                                                                         الشعراء 111
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ                                                               الشعراء 215
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ                                                                                                                             القصص 35
نتيجة: لقد قبل موسى أن يكون هذا الرجل معلماً له، لا بل واتخذ موسى على نفسه شرطاً آخر بأن لا يعصي للرجل أمرا:
          قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا
نتيجة: يقبل موسى أن يأتمر بأمر هذا الرجل فلا يعصي له أمرا. وحصل ذلك بعد أن أخبر الرجل موسى بأنه لا يستطيع معه صبرا:         
          قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
وكانت هذه هي النبوءة الأولى (إن صح القول) التي أنبأ بها الرجلُ موسى، لذا فإن عدد نبوءات هذا الرجل كانت أربعة وليست ثلاث وهي:
  1. أن موسى لن يستطيع معه صبرا
  2. خرق السفينة
  3. قتل الغلام
  4. بناء الجدار
لذا نحن نفترض أن النبوءة الأكبر لهذا الرجل هي الأولى، وهي أن موسى لن يستطيع معه صبرا، ولو صبر موسى على ذلك لأصبح علم الرجل عملاً من باب التنجيم الذي يصدق بعضه ويكذب بعضه، ولكن عدم صبر موسى على صحبة الرجل (بالرغم من الوعود الكثيرة التي قطعها موسى على نفسه وبالرغم من تحذيرات الرجل المتكررة له) يدلنا – بما لا يدع مجالاً للشك- بأن علم هذا الرجل هو علم حقيقي وليس ضرباً بالغيب. كما أننا نظن أن قبول الرجل بصحبة موسى كان – في جانب منه- ليثبت الرجل لموسى عدم قدرة موسى على تحمل ما لم يحط به خبرا:
          وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا
وربما يرشدنا هذا أن الإنسان مهما بلغ من العلم (وربما الإيمان) لا يستطيع الصبر على ما لم يحط به خبرا. فلا أظن أن موسى ولا غيره يستطيع الصبر على ما لم يحط به خبرا. فالرجل يسأل بصيغة المستغرب عن كيفية (وبالتالي نفي) قدرة موسى على الصبر على ما لم يحط به خبرا (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)، ربما لأن الإحاطة خبرا بالأمور هي من شأن الله أو من كان علمه مباشرة من الله:
          كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا
وعندما ألح موسى في طلب صحبة الرجل وظن أنه قادر عليها، قبل الرجل صحبته شريطة أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا:
          قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا
نتيجة مهمة جداً: الرجل يطلب من موسى أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث هو بنفسه لموسى من الأمر ذكرا، لنفهم أن الاتفاق كان على نحو أن يحدث الرجل لموسى من الأمر ذكرا إن هو صبر على صحبته. ولكن لو راقبنا الذي حصل عندما لم يصبر موسى على صحبة الرجل (وسأله عن ما كان من المفترض من موسى أن لا يسأله عنه) قام الرجل بفعل التأويل بدل أن يحدث له من الأمر ذكرا:
          قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا

الفرق بين أن يحدث له من الأمر ذكرا وأن يؤول له الأمر
السؤال: ما الفرق بين أن يحدث الرجل لموسى من الأمر ذكرا أو أن يقوم بتأويل ما لم يستطع عليه موسى صبرا؟
لو راقبنا النص القرآني لوجدنا أن الاتفاق كان على النحو التالي: أن لا يسأل موسى الرجل شيئاً، فإن هو صبر فسوف يحدث الرجل لموسى من كل أمر فعله ذكرا. ولكن كيف سيكون ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة ربما يمكن استنباطها لو استطعنا الإجابة على سؤال آخر وهو: لماذا انطلق الرجل مع موسى؟ ولماذا تركا فتى موسى في مكانه؟ وإلى أين كانا ينويان الذهاب؟
جواب: لو دققنا في اللفظ القرآني في الآيات نفسها لوجدنا أن أول ما فعله الرجل مع موسى هو فعل الانطلاق:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا                          الكهف 71
وحصل الانطلاق مرة أخرى بعد حادثة السفينة:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا          الكهف 74
وحصل مرة ثالثة بعد حادثة قتل الغلام:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا                                                                             الكهف 77
فـ إلى أين كانا متجهين؟
جواب: إن المتتبع لفعل الانطلاق في النص القرآني يجد أن من يقوم بهذا الفعل تكون لدية فكرة تامة عن المكان الذي ينوي الذهاب إليه، لأن فعل الانطلاق لا يأتي في النص القرآني – نحن نظن- إلا لمكان محدد بعينه:
وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ                              ص 6
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا                                 الفتح 15
فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ                                                                                   القلم 23
انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (26) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (3)                            المرسلات
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أن الرجل كان ينوي أن يصحب موسى إلى مكان محدد بعينه لكي يحدث له من الأمر ذكرا هناك. وحصلت جميع تلك الأحداث من خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار وهم – برأينا- في طريقهم إلى ذلك المكان. ولكن ما هو ذلك المكان؟
رأينا: إنها القرية التي بعثه الله فيها بعد أن أماته مئة عام:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ                                                                                                                    البقرة 259
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الرجل كان ينوي أن يصحب موسى إلى المكان الذي جاءه فيه العلم مباشرة من الله، ولو راقبنا في النص القرآني تلك القرية الخاوية على عروشها لوجدنا ذكرها أيضاً في الآية الكريمة التالية فقط:
فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ     (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)         

إن هذه الآية الكريمة تعيدنا مباشرة إلى السبب الذي من أجله مر هذا الرجل على تلك القرية الخاوية على عروشها، فنحن نظن أنه كان يسير في الأرض باحثاً عن حقيقة الأقوام التي سبقت، فالدعوة إلى السير في الأرض والنظر في كيفية العاقبة للأمم السابقة جاءت في السياقات القرآنية التالي:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ                                                             يوسف 109
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ                                                                                                       الحج 46
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ                           الروم 9
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا                                                                  فاطر 44
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ                                                                             غافر 21
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ                                                                                                  غافر 82
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا        محمد  10
ولما كان الرجل بيسير في الأرض لينظر كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، هناك في تلك القرية آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علماً، وبقي ذلك الرجل في تلك القرية حيث البئر المعطلة والقصر المشيد.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الرجل كان ينوي أن يصطحب موسى إلى هناك حيث سيحدث له من الأمر ذكرا، لأن إحداث الذكر في رأينا يتطلب وجود الدليل على ذلك، ولكن كيف سيكون ذلك الدليل، نحن نظن أن الدليل لا يكون بأقل من وجود شيء عظيم كالذي تصوره الآية الكريمة التالية:
          وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا
فالآية الكريمة توضح بأن القرآن الكريم يمكن أن يحدث لنا ذكرا، بالضبط كما كان الرجل ينوي أن يفعل لموسى:
          قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا 
نتيجة مفتراة: لكي يحدث الرجل لموسى من الأمر ذكرا فلابد أن يذهب به إلى مكان حيث يوجد شيء مكتوب لكي يعلمه هذا الرجل لموسى، حتى يستطيع موسى أن يتعلم كيفية القيام بمثل هذه الأفعال التي قام بها الرجل وهم في طريق الذهاب إلى ذلك المكان كخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار. فلو صبر موسى على صحبة الرجل لربما تحصل له مثل ذلك العلم اللّدنّي.
ولو توقفنا عن مفردة "لدنا" في الآية الكريمة التي تتحدث عن مصدر علم هذا الرجل لوجدناه علماً لدنّي:
          فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا
السؤال: ما هو مصدر العلم اللدني؟
رأينا: إنه علم الكتاب:
          الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ                                     هود 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)                                                             الكهف 1-2
بالضبط كعلم القرآن الذي جاء محمداً من لدن حكيم عليم:
          وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ                                      النمل 6
فمن تحصل على ذلك العلم اللدني استطاع القيام بمثل هذه الأفعال عن علم، كما فعلها عيسى بن مريم الذي كان بنفسه هو من لدن الله:
وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا
لأن يكون عنده الذكر:
كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ۚ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا                  طه 99
لأن مهمة الذكر هو أن يبين للناس:
          بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
نتيجة مفتراة: لقد تحصل لهذا الرجل الذكر، فكان يستطيع القيام بتلك الأعمال عن علم حقيقي. لذا نحن نفتري الظن بأن الرجل كان ينوي أن يصحب موسى لكي يحدث له من الأمر ذكرا، أي ليطلعه على علم الكتاب الذي هو الحق بعينه.
(دعاء: اللهم رب أسألك أن تعلمني الذكر وتجعلني لأهل الذكر إماما)
لكن عندما لم يستطع موسى أن يصبر على صحبة الرجل لم يحدث الرجل لموسى من الأمر ذكرا واكتفى بتأويل ما لم يستطع عليه موسى صبرا:
          قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا                          الكهف 78
السؤال: ما هو التأويل؟
رأينا: التأويل هو الإخبار عن ما سيحدث مستقبلاً كما جاء في الآية الكريمة التالية:
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ                                                                                 يوسف 37
فلقد كان يوسف ينبئ صاحبيه السجن بالطعام الذي سيرزقانه قبل أن يأتيهما، فكان ذلك من باب التأويل، وكذلك فعل بالنسبة لرؤيا الملك، فلقد أخبرهم بما ستؤول إليه الأمور لاحقاً:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ                                                            يوسف 36
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ                                                يوسف 44
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ                                         يوسف 45
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ                                                                                         يوسف 100
فكان علم يوسف هو علم تأويل الأحاديث، أي الإخبار عن ما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً، وهو علم علمه الله إياه في صغره:
وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ                                                                          يوسف 6
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ                                  يوسف 21
وانتهت حياة يوسف به:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ                                                                                     يوسف 101


ويدل على هذا آيات عديدة في كتاب الله، فلو تدبرنا كتاب الله جيداً وعلمنا تأويله لاستطعنا أن نفهم كيف ستنتهي بنا الأمور:
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ                                                                                                   آل عمران 7
والتأويل يحتاج إلى من يتذكر (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)
(دعاء: أسألك اللهم رب أن أكون من أولي الألباب الذين يتذكرون، فأكون أكثر أهل الأرض رسوخاً في العلم، وأسألك تعالى أن تعلمني تأويله إنك أنت السميع العليم)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا                                                              النساء 59
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ                      الأعراف 53
(دعاء: رب أشهد أن رسلك قد جاءت بالحق، فأسألك رب أن أتذكره فلا أكون ممن ينساه)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ                                                                                                                                            يونس 39
لقد قام هذا الرجل بتأويل ما لم يستطع عليه موسى صبرا:
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا                   الكهف 82
نتيجة مفتراة: لكننا نظن أن الرجل كان لديه من العلم ما يفوق مجرد التأويل، لقد كان لديه الذكر، وهذا في ظننا ما جعله معلماً لنبي الله وكليمه موسى.
السؤال: كيف نفهم تأويل الرجل لخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار؟
هذا ما سنتناوله في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيقه، فالله أسأل أن يؤتيني وعليا رحمة من عنده وأن يعلمنا من لدنه علما لا ينبغي لغيرنا إنه هو السميع العليم.

المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح

 15 أيار 2013