تفترض هذه المقالة أن "صاحب موسى" هو العزير، الذي تزعم اليهود أنه ابن الله. وتقارن المقالة بينه وبين المسيح عيسى بن مريم، حيث ترى أن كليهما "آية للناس". وتناقش كيف أدى هذا المفهوم إلى خلافات داخلية في اليهودية والنصرانية، وكيف حُسم الخلاف عند اليهود بسبب وجود كتاب موحد (التوراة)، بينما استمر عند النصارى لتعدد المصادر. ثم تحلل رحلة موسى مع العزير، مفرقة بين "إحداث الذكر" الذي يتطلب علمًا مباشرًا من الكتاب، و"التأويل" الذي هو إخبار بالمستقبل.
وحاولنا عقد مقارنة بينه وبين المسيح ابن مريم الذي زعمت النصارى أنه ابن الله كما ورد في الآية الكريمة نفسها، فخرجنا بالاستنباط المفترى من عند أنفسنا والذي مفاده أنّ هذان الشخصان من دون البشر جميعاً هم من جعلهم الله آية للناس كما جاء في السياقين القرآنيين التاليين حيث يتحدث الأول عن الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية على عروشها فأماته الله مئة عام ثم بعثه ليكون آية للناس ويتحدث الآخر عن عيسى بن مريم الذي جعله الله آية للناس:
نتيجة مفتراة: لو حاولنا التدقيق في ألفاظ القرآن الكريم في هاتين الآيتين الكريمتين لوجدنا أن عيسى بن مريم (وذاك الرجل) لم يكونا آية لمجموعة أو لطائفة محددة من الناس ولكنهما – بنص الآيات الكريمة- كانا آية للناس (أي لكل الناس الذين جاءوا من بعدهم، بدليل أن الله قد جعلهما جعلا). فذاك الرجل أصبح منذ تلك الحادثة آية للناس:
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ
وكذلك أصبح عيسى بن مريم آية للناس منذ أن ولدته أمه:
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ
السؤال: كيف يمكن أن يكون العزير وعيسى ابن مريم آية للناس؟ كيف بهم آية لي ولك ونحن اللذين لم نعاصرهم؟ وكيف بهم آية لكل الناس الذين جاءوا من بعدهم؟
رأينا: سنرى لاحقاً أن من جعله الله آية للناس لا بد أن يبقى موجوداً على الدوام بالضبط كما جعل الله فرعون ببدنه آية لمن خلفه:
نتيجة: لقد كان ذلك الرجل الذي مرّ على القرية آية للناس كما كان عيسى بن مريم آية للناس، وكان فرعون ببدنه آية لمن خلفه.
(دعاء: اللهم أسألك وحدك أن لا أكون من الغافلين عن آياتك، وأسألك وحدك أن تريني آياتك فأعرفها، إنك أنت السميع العليم)
الاختلاف حول طبيعة المسيح والعزير
افتراء من عند أنفسنا: ونحن نفتري الظن أن النصارى قد فتنوا بنبيهم عيسى بن مريم لدرجة أنهم ظنوا أنه ابن الله وكذلك – برأينا- فعل اليهود من قبلهم، فلقد فتنوا بذلك الرجل الذي جعله الله آية للناس فظنوا أنه ابن الله، لما بدر منهما على مرأى من الناس من أفعال. فلقد تحصل لهؤلاء الشخصين من العلم الإلهي المباشر ما لم يتحصل لغيرهم (ربما سوى آدم الذي أضاع ذلك العلم فيما بعد).
سؤال: لماذا توقف اليهود عن زعمهم بأن لله ولد بينما استمر النصارى في ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن هذه القضية (وجود أم عدم وجود ولد لله) كانت من المحاور المفصلية في الديانة اليهودية والنصرانية، فلقد وقع اليهود تحت تأثير الاعتقاد الكاذب بأن لله ولدًا (فجعلوا العزير الذي - هو برأينا- معلم موسى ابن الله) وكذلك وقع النصارى تحت الاعتقاد الكاذب نفسه (فجعلوا المسيح بن مريم ولد الله). وإنهم لكاذبون. ولكن كيف تخلى اليهود عن هذا الاعتقاد واستمر النصارى فيه؟
إشكالية "ابن الله" عند النصارى واليهود
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن هذه الفكرة بحد ذاتها كانت كفيلة بأن يقع القوم بسببها في الاختلاف، فلا أظن أن اليهود بمجموعهم سيتقبلون فكرة أن يكون لله ولد وكذلك لا أظن أن اليهود بمجموعهم سيتنازلون عن فكرة أن لله ولد، وكذلك كان الأمر بالنسبة للنصارى كما تصور ذلك – برأينا- الآية الكريمة التالية:
فمما لا شك فيه أن القرآن الكريم يثبت أن عيسى بن مريم نفسه لم يقل يوماً للناس أنه إله من دون الله أو أنه ابن لله، فها هو عيسى بن مريم يبرئ نفسه من هذه التهمة التي ألصقها بعض أتباعه فيه:
فجاء ذلك من باب الشك في البدء، فما كان لهم به من علم، ولم يأتِ ذلك إلا من باب الظن فيما بعد.
نتيجة مفتراة: بعد أن توفى الله عيسى بن مريم ورفعه إليه، دب – برأينا- الخلاف بين أتباعه بخصوص كينونة عيسى نفسه، فظن فريق منهم أن عيسى ليس بإنسان مثلنا، فرفعوه إلى منزلة أعلى من منزلة الناس العاديين، ولكن دون منزلة الإله نفسه، فقالوا عنه بأنه ولد الله:
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل الذي حصل بعد أن توفى الله عيسى بن مريم على النحو التالي: انقسم أتباع عيسى بن مريم حول ألوهيته بادئ الأمر إلى فريقين: فريق يظن أن عيسى ولد الله وفريق آخر يؤمن أن عيسى ليس ولد الله، وربما نستطيع أن نجزم بمثل هذا الظن من الآية الكريمة التالية:
نتيجة: كانت نتيجة الاختلاف وجود فريقان يقتتلان بين بعضهم البعض، ولكن لم كانت الغلبة؟
الجواب: للفريق الأول الذي ظن أن عيسى ولد الله. فاستمر أهل الديانة النصرانية في الاعتقاد بأن لله ولد.
سؤال: لماذا كانت الغلبة لهذا الفريق؟ ولِمَ لَمْ تكن للفريق الآخر؟
رأينا: نحن نظن أن السبب في ذلك يعود إلى الحقيقة التي مفادها أنّ النصارى كان عندهم الإنجيل بأكثر من نسخة (وسنتعرض بالتفصيل لهذه القضية في مقالاتنا حول عيسى بن مريم بحول الله وتوفيقه، فالله وحده أسأل أن يأذن لي بعلم لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم). فكان – برأينا- من الاستحالة بمكان أن يحصل الاتفاق بينهم مادام أنهم يرجعون إلى أكثر من مصدر للمعلومة المتنازع عليها.
سؤال: ولكن ما الذي حصل في حالة اليهود؟ لِمَ لَمْ يستمر اليهود بالاعتقاد بأن لله ولد كما فعلت النصارى من بعدهم؟
نحن نظن أن النفر من بني إسرائيل الذين عادوا من التيه بعد أن فرق الله بينهم وبين موسى وأخيه وحرم عليهم دخول الأرض المقدسة أربعين سنة هم الذين هادوا:
فنحن نظن أن واحدة من دواعي الاختلاف بينهم أنهم قد وجدوا –في ظننا- أن نبي الله موسى (على مكانته) قد ذهب يطلب العلم عند شخص آخر، ولم يصبر على صحبته، وهنا كان لابد منهم أن يتفكروا بماهية هذا الرجل الذي كان معلماً لموسى نفسه، وكان موسى تابعاً له.
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أن الذي حصل كان (كما هو في مخيالنا) على النحو التالي: لا شك أن بني إسرائيل يعلمون نسب موسى، وأنهم على دراية تامة بأنه قد جاء من أم وأب من بني إسرائيل، كما أنهم كانوا على علم بتفاصيل حياته:
لذا لم يكن لديهم بدا إلا الإقرار بأن موسى نفسه (إنسان مثلهم)، فلا مجال إذًا أن ينسبوا تبني الإله للولد لنبيهم موسى، كما أنهم لم يجدوا في قصة موسى شيئا يخص إحياء الموتى أو النبأ بالغيب (كما حصل في حالة عيسى من بعدهم). ولكن هذه الصفات مجتمعة وجدوها عند ذاك الرجل الذي ذهب موسى ليطلب العلم من عنده، ورضي موسى أن يكون تابعاً له، كما أقر موسى بنفسه أن هذا الرجل قد اختصه الله برحمة من عنده وبعلم من لدنه:
فموسى نفسه لم يحط خبرا بما عند هذا الرجل من العلم، ولما لم يكن لهم علم بنسب هذا الرجل (فهم لا يعلموا من هو أب أو من هي أم هذا الرجل أو على الأقل من أين جاء)، كان السؤال (الذي نظن أنه قد احتار اليهود حينئذ في إجابته) هو: من هو ذلك الشخص الذي تعلم منه موسى يا ترى؟ أهو إنسان مثلنا (ومثل موسى)؟
أظن أن الإجابة عندهم كانت بالنفي، فنحن نظن أن القوم ربما اعتقدوا أن من كانت صفاته كصفات هذا الرجل الذي يكون معلماً للأنبياء أنفسهم ربما لا يمكن أن يكون شخصاً عادياً مثلنا
أهو إله إذن؟
أظن أن الإجابة كانت عند القوم بالنفي أيضاً، وذلك لأن موسى نفسه خاطب الإله في الواد المقدس عند النار:
جواب مفترى من عند أنفسنا: إن صح منطقنا المفترى هذا، فإننا نتخيل أن منطق القوم كان على النحو التالي: لابد أن ذاك الشخص الذي ذهب موسى ليتعلم منه هو أكثر من مجرد أن يكون إنسانا عاديا مثلنا ولكنه في الوقت ذاته أقل درجة من الإله نفسه الذي خاطبه موسى في الواد المقدس.
فمن يكون؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن الإجابة التي توصل لها نفر من اليهود آنذاك هي أن ذلك الشخص هو ابن الإله.
سؤال: لماذا لم تستمر اليهود في تبني هذا الاعتقاد؟
رأينا: لا شك أن اعتقاداً كهذا سيؤدي إلى وقوع الاختلاف (بالضبط كما حصل في حالة النصارى من بعدهم)، وسيقسم الناس إلى فريقين، فريق يتبنى وجهة النظر القائلة بأن للإله ولد وفريق آخر يرفض الفكرة جملة وتفصيلاً، لذا كان لابد من حسم الخلاف بين الفريقين (ولو بعد حين) بالرجوع إلى الكتاب نفسه، وهنا (على عكس النصارى) جاءت المفارقة التي حصلت عند اليهود وهي وجود كتاب واحد (التوراة) عندهم، ولم تكن التوراة أكثر من نسخة كما في حالة الإنجيل. لذا – نحن نفتري الظن- أنهم عندما رجعوا إلى الكتاب الذي ورثوه لم يجدوا فيه أي إشارة أن يكون للإله ولد، فكانت الغلبة في نهاية المطاف (على عكس النصارى) للفريق الرافض لفكرة وجود ولد للإله:
دقق – عزيزي القارئ- في هذه الآية الكريمة جيداً لترى أنه بالرغم أن الاختلاف كان دافعه البغي بينهم (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) إلا أن هداية الله كانت للذين آمنوا قد أوصلتهم إلى الحق (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).
ولو حاولنا أن نقارن ذلك بحالة الاختلاف التي حصلت بعد عيسى لوجدنا أن النتيجة كانت مختلفة بعض الشيء:
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: ففي حين أن الاختلاف في حالة اليهود قد حسمت لصالح الذين آمنوا (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، بقي الاختلاف قائماً بالاقتتال بين الفريقين في حالة النصارى (وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).
وهذا الاختلاف في المنهجية بين اليهود والنصارى واضحة – برأينا- في الآيات الكريمة التالية:
رأينا: لمّا كانت اليهود لا تستند إلا إلى "كتاب" بنسخة واحدة (العهد القديم) لم يستمروا في الاعتقاد بأن للإله ولد لأنهم لا يجدوا في ذلك المصدر الرباني إشارة إلى أن للإله ولد، ولكن بالمقابل- لما كانت النصارى تستند إلى العهد القديم وإلى العهد الجديد (بنسخه المختلفة)، استمروا في الاختلاف فيما بينهم.
لذا نحن مدعوون إلى أن نقرأ في قرآننا قصص بني إسرائيل لأنه يصوّر حقيقة ما اختلفوا فيه، فقرآننا هذا يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، لذا نحن مدعوون – على الدوام- ألَّا ننجرّ وراءهم في كل أكذوبة ابتدعوها من عند أنفسهم، ولكن من المؤسف – في رأينا- هو أنه لو فتحنا أي كتاب من أمهات كتب التفاسير لدينا لوجدناها حبلى بتفاسير بني إسرائيل المفتراة، وفي تفاسير قصص سورة الكهف مثلاً الدليل الوفير على صحة ما نزعم. فالتفاسير الخاصة بقصص أهل الكهف والرقيم وصاحب الجنتين وصاحب موسى وذو القرنين مأخوذة بمجملها عن تخاريف الأمم السابقة، ومن أراد أن يجادل فليقرأ في المصادر جميعها عند أهل الإسلام وعند بني إسرائيل. وأنا لا أظن – مفتري القول كالعادة- أن الفكر الإسلامي قد اشتغل بأكثر من مهمة النقل من عند غيره. لذا فإن واحدة من أهدافنا كانت على الدوام هو قراءة هذه القصص من جديد بطابع لا تشوّهه موروثات الأمم السابقة بل بالاحتكام الكامل إلى النص القرآني ولا شيء غيره، فالقصص القرآني في الوقت الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يقص علينا الحق ولا شيء غير الحق. والله أسأل أن يهدينا إلى الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، وأسأله وحده أن يختصني برحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علمًا لا ينبغي لغيري إنه هو السميع المجيب
أما بعد،
رحلة موسى مع صاحبه العزير
بعد أن أخبر الفتى نبي الله موسى بأنه قد رأى الحوت عند الصخرة:
وزعمنا الظن في مقالتنا السابقة أن اسم الإشارة "ذلك" يعود على الحوت نفسه، ربما لنفهم أن ذلك الحوت كان مقصد الرحلة، فموسى وفتاه انطلقا إلى مجمع البحرين بحثاً عن الحوت ولم يكونا – كما زعم معظم أهل الدراية- يحملان الحوت معهما ليكون لهما طعاماً في الرحلة.
معنى القصص والارتداد في القرآن
نحن نفهم من السياقات القرآنية الخاصة بالقصص بأنه عبارة عن إتباع التفاصيل الواحدة تلو الأخرى، فالقصة لا يمكن أن تقص إلا عندما تفضي تفاصيلها إلى بعضها البعض دون انقطاع:
لذا نحن نفتري الظن بأن موسى وفتاه قد ارتدا وهم يراقبون تفاصيل المنطقة التي سلكوها في رحلة الذهاب واحدة تلو الأخرى لكي يعودوا إلى نفس المكان الذي آووا إليه عندما وصلوا مجمع بين البحرين:
ولكن الملفت للانتباه أن أخت موسى – كما تصور هذه الآية الكريمة- قد قصت موسى ولكنها بصرته به عن جنب، فهي – برأينا- لم تتبعه في الماء حيث قذفته أمه، ولكنها بقيت في اليابسة القريبة من الماء تتابع حركة التابوت في الماء حتى وقع في أيدي آل فرعون كما جاء الوحي الإلهي بذلك إلى أم موسى من ذي قبل:
أما في حالة موسى وفتاه فإن عملية قص الرجل لم تحدث تماماً كما فعلت أخته من قبل وذلك لأن موسى وفتاه لم يبصران بالرجل عن جنب وإنما كان بطريقة الارتداد (فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا)، أي السير في الطريق نفسها ولكن بالمعكوس حتى وصلا إلى المكان الذي وجدا فيه الرجل:
وكان ذلك عند الصخرة حيث "أويا" إليها في البداية عندما وصلا مجمع البحرين، فمما لا شك فيه – عندنا- أن الإنسان إذا ما ذهب إلى المكان المنشود الذي سيجد عنده من واعده فإنه يمكث في المكان بعض الوقت، وهذا ما نظن أنه جاء في النص القرآني بمعنى "أَوَيْنَا" في الآية الكريمة التالية:
ولو تتبعنا المفردة ومشتقاتها في السياقات القرآنية لوجدناها تدل على المكوث بعض الوقت ولكن ليس على سبيل الدوام، ويدل على ذلك مثلاً ما جاء في قوله تعالى في حالة ابن نوح حيث ظن الغلام أن مكوثه بعض الوقت في الجبل سيعصمه من الماء حتى انتهاء العاصفة:
تلخيص: وبهذا الزعم نعود لنلخّص القصة بالقول بأنه ما أن وصل موسى وفتاه إلى مجمع البحرين في البداية حتى مكثا هناك فترة من الزمن (أَوَيْنَا) عند تلك الصخرة التي تفصل الماء عن اليابسة. ولكن لم يستطيع الفتى مراقبة حركة الحوت الذي سيحدث أمراً عجباً ربما لانشغال الفتى بأشياء أخرى، فكان ذلك من باب ما أنساه الشيطان (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، فتابعا مسيرهما في البحر باستخدام السفينة التي سيأتي ذكرها بعد قليل حتى جاوزا البحر، وهناك طلب موسى من فتاه أن يحضر الطعام بعد هذه الرحلة الشاقة:
ولو تأملنا مفردة "وجد" في النص القرآني لاستطعنا القول بأن العثور على الرجل كان بالصدفة (أو لنقل بطريقة مفاجئة) كما حصل مع موسى يوم أن وجد امرأتين تذودان من دون الأمة من الناس الذين كانوا يسقون:
ولو دققنا في معنى "الإتباع" لربما فهمنا أن موسى يطلب أن يكون أقل منزلة من الرجل عندما قبل أن يتبعه، فالمتبِع (بكسر الباء) لا شك أقل شأناً من المتبَع (بفتح الباء). لأن المتبع هو المتعلم بينما المتبع هو المعلم.
نتيجة: يقبل موسى أن يأتمر بأمر هذا الرجل فلا يعصي له امرا. وحصل ذلك بعد أن أخبر الرجل موسى بأنه لا يستطيع معه صبرا:
قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
وكانت هذه هي النبوءة الأولى (إن صح القول) التي أنبأ بها الرجلُ موسى، لذا فإن عدد نبوءات هذا الرجل كانت أربعة وليست ثلاث وهي:
أن موسى لن يستطيع معه صبرا
خرق السفينة
قتل الغلام
بناء الجدار
لذا نحن نفترض أن النبوءة الأكبر لهذا الرجل هي الأولى، وهي أن موسى لن يستطيع معه صبرا، ولو صبر موسى على ذلك لأصبح علم الرجل عملاً من باب التنجيم الذي يصدق بعضه ويكذب بعضه، ولكن عدم صبر موسى على صحبة الرجل (بالرغم من الوعود الكثيرة التي قطعها موسى على نفسه وبالرغم من تحذيرات الرجل المتكررة له) يدلنا – بما لا يدع مجالاً للشك- بأن علم هذا الرجل هو علم حقيقي وليس ضرباً بالغيب. كما أننا نظن أن قبول الرجل بصحبة موسى كان – في جانب منه- ليثبت الرجل لموسى عدم قدرة موسى على تحمل ما لم يحط به خبرا:
وربما يرشدنا هذا أن الإنسان مهما بلغ من العلم (وربما الإيمان) لا يستطيع الصبر على ما لم يحط به خبرا. فلا أظن أن موسى ولا غيره يستطيع الصبر على ما لم يحط به خبرا. فالرجل يسأل بصيغة المستغرب عن كيفية (وبالتالي نفي) قدرة موسى على الصبر على ما لم يحط به خبرا (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)، ربما لأن الإحاطة خبرا بالأمور هي من شأن الله أو من كان علمه مباشرة من الله:
كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا
وعندما ألح موسى في طلب صحبة الرجل وظن أنه قادر عليها، قبل الرجل صحبته شريطة أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا:
نتيجة مهمة جداً: الرجل يطلب من موسى أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث هو بنفسه لموسى من الأمر ذكرا، لنفهم أن الاتفاق كان على نحو أن يحدث الرجل لموسى من الأمر ذكرا إن هو صبر على صحبته. ولكن لو راقبنا الذي حصل عندما لم يصبر موسى على صحبة الرجل (وسأله عن ما كان من المفترض من موسى أن لا يسأله عنه) قام الرجل بفعل التأويل بدل أن يحدث له من الأمر ذكرا:
السؤال: ما الفرق بين أن يحدث الرجل لموسى من الأمر ذكرا أو أن يقوم بتأويل ما لم يستطع عليه موسى صبرا؟
لو راقبنا النص القرآني لوجدنا أن الاتفاق كان على النحو التالي: أن لا يسأل موسى الرجل شيئاً، فإن هو صبر فسوف يحدث الرجل لموسى من كل أمر فعله ذكرا. ولكن كيف سيكون ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة ربما يمكن استنباطها لو استطعنا الإجابة على سؤال آخر وهو: لماذا انطلق الرجل مع موسى؟ ولماذا تركا فتى موسى في مكانه؟ وإلى أين كانا ينويان الذهاب؟
جواب: لو دققنا في اللفظ القرآني في الآيات نفسها لوجدنا أن أول ما فعله الرجل مع موسى هو فعل الانطلاق:
جواب: إن المتتبع لفعل الانطلاق في النص القرآني يجد أن من يقوم بهذا الفعل تكون لدية فكرة تامة عن المكان الذي ينوي الذهاب إليه، لأن فعل الانطلاق لا يأتي في النص القرآني – نحن نظن- إلا لمكان محدد بعينه:
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أن الرجل كان ينوي أن يصحب موسى إلى مكان محدد بعينه لكي يحدث له من الأمر ذكرا هناك. وحصلت جميع تلك الأحداث من خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار وهم – برأينا- في طريقهم إلى ذلك المكان. ولكن ما هو ذلك المكان؟
رأينا: إنها القرية التي بعثه الله فيها بعد أن أماته مئة عام:
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الرجل كان ينوي أن يصحب موسى إلى المكان الذي جاءه فيه العلم مباشرة من الله، ولو راقبنا في النص القرآني تلك القرية الخاوية على عروشها لوجدنا ذكرها أيضاً في الآية الكريمة التالية فقط:
إن هذه الآية الكريمة تعيدنا مباشرة إلى السبب الذي من أجله مر هذا الرجل على تلك القرية الخاوية على عروشها، فنحن نظن أنه كان يسير في الأرض باحثاً عن حقيقة الأقوام التي سبقت، فالدعوة إلى السير في الأرض والنظر في كيفية العاقبة للأمم السابقة جاءت في السياقات القرآنية التالي:
ولما كان الرجل يسير في الأرض لينظر كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، هناك في تلك القرية آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا، وبقي ذلك الرجل في تلك القرية حيث البئر المعطلة والقصر المشيد.
مصدر العلم اللدني
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الرجل كان ينوي أن يصطحب موسى إلى هناك حيث سيحدث له من الأمر ذكرا، لأن إحداث الذكر في رأينا يتطلب وجود الدليل على ذلك، ولكن كيف سيكون ذلك الدليل، نحن نظن أن الدليل لا يكون بأقل من وجود شيء عظيم كالذي تصوره الآية الكريمة التالية:
نتيجة مفتراة: لكي يحدث الرجل لموسى من الأمر ذكرا فلابد أن يذهب به إلى مكان حيث يوجد شيء مكتوب لكي يعلمه هذا الرجل لموسى، حتى يستطيع موسى أن يتعلم كيفية القيام بمثل هذه الأفعال التي قام بها الرجل وهم في طريق الذهاب إلى ذلك المكان كخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار. فلو صبر موسى على صحبة الرجل لربما تحصل له مثل ذلك العلم اللّدنّي.
ولو توقفنا عن مفردة "لدنا" في الآية الكريمة التي تتحدث عن مصدر علم هذا الرجل لوجدناه علماً لدنّي:
نتيجة مفتراة: لقد تحصل لهذا الرجل الذكر، فكان يستطيع القيام بتلك الأعمال عن علم حقيقي. لذا نحن نفتري الظن بأن الرجل كان ينوي أن يصحب موسى لكي يحدث له من الأمر ذكرا، أي ليطلعه على علم الكتاب الذي هو الحق بعينه.
فلقد كان يوسف ينبئ صاحبيه السجن بالطعام الذي سيرزقانه قبل أن يأتيهما، فكان ذلك من باب التأويل، وكذلك فعل بالنسبة لرؤيا الملك، فلقد أخبرهم بما ستؤول إليه الأمور لاحقاً:
والتأويل يحتاج إلى من يتذكر (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)
(دعاء: أسألك اللهم رب أن أكون من أولي الألباب الذين يتذكرون، فأكون أكثر أهل الأرض رسوخاً في العلم، وأسألك تعالى أن تعلمني تأويله إنك أنت السميع العليم)
نتيجة مفتراة: لكننا نظن أن الرجل كان لديه من العلم ما يفوق مجرد التأويل، لقد كان لديه الذكر، وهذا في ظننا ما جعله معلماً لنبي الله وكليمه موسى.
خاتمة وتساؤلات
السؤال: كيف نفهم تأويل الرجل لخرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار؟
هذا ما سنتناوله في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيقه، فالله أسأل أن يؤتيني وعليًّا رحمة من عنده وأن يعلمنا من لدنه علمًا لا ينبغي لغيرنا إنه هو السميع العليم.
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
15 أيار 2013
📖 شروط قراءة المقالات:
❌ المقالة ليست فتوى.
💭 هي رأي فكري شخصي قابل للخطأ والصواب.
📝 يُمنع تلخيصها أو إعادة صياغتها.
📚 يُسمح بالاقتباس مع ذكر المصدر وعدم تحريف المعنى.
⚖️ لا يحق مقاضاة الكاتب بسبب اختلاف الآراء.