نبذة عن المقالة:
فهرس المقالة
- مقدمة: مراجعة لأحداث سابقة وافتراضات
- فك لغز رحيل يوسف: من هما الشمس والقمر؟
- الفرق الدقيق بين "أبويه" و "والديه" في القرآن
- تداعيات وجود أب آخر ليوسف
- أسباب ابتعاد يوسف عن يعقوب
- إعادة بناء رحلة يوسف: من الجب إلى بيت التبني
- لغز التمكين المزدوج: أين كانت أرض يوسف الأولى؟
- تفنيد الفكر السائد: هل كان المشتري هو عزيز مصر؟
- خاتمة وتساؤل للمستقبل
- الهوامش
قصة يوسف 4: وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَلِنُعَلِّمَه مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ
مقدمة: مراجعة لأحداث سابقة وافتراضات
خلصنا في الجزء السابق من هذه المقالة إلى القول بأن الصلاح تحقق لأبناء يعقوب بعد أن تخلصوا من أخيهم يوسف، وكان ذلك بعد أن خلا لهم وجه أبيهم.
(سورة يوسف)
فما عاد الأب يميز بين الأبناء. فظننا أن المشكلة كانت تكمن في وجود يوسف (وليس في وجود أخيه الآخر)، وذلك لأنه بمجرد أن غاب يوسف عن الساحة لم يعد الأبناء يعتدون على الأخ الشقيق ليوسف الذي كانوا يظنون في بداية الأمر أن أباهم يحبه كحب يوسف. فظننا أن ظنهم ذاك كان سابقا لحادثة الرؤيا، ولكن ما أن حصلت الرؤيا حتى أصبح واضحا للجميع أن حب يعقوب منحصر في يوسف. وخلصنا إلى افتراء القول بأن حب يعقوب لم يكن لشخص يوسف وإنما لمكانته التي اجتباه لها ربه في أن يكون هو وارث بيت النبوة لتمام النعمة على آل يعقوب بعد أن كان الله قد أتمها على أبويه إسحق وإبراهيم من قبل:
(سورة يوسف)
كما افترينا القول بأن الأولاد قد استطاعوا بكل ذكاء أن يتنصلوا من المسؤولية التي ألقاها أبوهم عليهم في المحافظة على يوسف عندما يأخذوه معهم للرتع وللعب. فهم قد كادوا ليوسف (وسنرى لاحقا بحول الله كيف أن الكيد يكون محكم التخطيط والتنفيذ عندما نتعرض للمفردة لاحقا عند الحديث عن كيد النسوة ليوسف، فالله أسأل أن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمّه ولو كره الكافرون). فحاولنا تسويق زعمنا المفترى بأن يوسف (من وجه نظر الأخوة) هو من يجب أن يتحمل مسؤولية فقدانه وليس إخوته لأنهم قد تركوه عند متاعهم:
(سورة يوسف)
فزعمنا أن في قولهم هذا (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا) سببا كافيا في أن لا يلق الأب باللائمة على أبناءه لضياع يوسف، وبررنا زعمنا ذاك بالظن المفترى من عند أنفسنا بأن المتاع غالبا ما يترك في المكان الأكثر أمنا، فمن غير المنطقي أن يترك من خرج في نزهة متاعه في مكان غير آمن، وغالبا ما يتم اختيار المكان الذي يكون تواجد الناس فيه شبه دائم، فلا يكون عرضة للخطر مثل خطر الحيوان المفترس (كالذئب مثلا)، فلا أظن أن الإخوة قد تركوا متاعهم في مكان كان يمكن للذئب أن يقترب منه، لذا فإن الرسالة التي نظن أننا نفهمها من كلام الأبناء إلى أبيهم في قولهم (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا) هي أن يوسف نفسه هو من يجب أن يتحمل المسؤولية وذلك لأن الذئب يستحيل أن يكون قد أكله في المكان الذي تركناه فيه، ولو أن يوسف مكث في المكان نفسه الذي تركناه فيه حيث يوجد متاعنا لما استطاع الذئب أن يقترب منه، لذا لابد أن يوسف هو من ترك المكان الذي يتواجد فيه المتاع وذهب إلى الذئب برجليه. وربما لهذا السبب لا نجد أن الأب يعقوب قد عاد للحديث مع أبناءه عن تلك الحادثة بعد ذلك قط.
كما زعمنا أن السبب في ذلك يعود إلى ظنهم بأن يوسف هو من تركهم وهرب طمعا في شيء كان قد سرقه من متاعهم:
(سورة يوسف)
كما افترينا القول أن في ما نفذه الأبناء هي الخطة نفسها التي رسمها لهم الأب دون دراية منهم، فهم كانوا ينفذون مخطط والدهم عن غير دراية منهم (باستثناء ربما واحد منهم فقط وهو الذي أشار عليهم بأن يلقوه في غيابت الجب ليلتقطه بعض السيارة)، لظننا أن هذا الابن هو فقط من فهم رسالة والده. ويكأن لسان حاله يقول لهم مادمتم أنكم لا محالة تريدون التخلص من يوسف بواحدة من اثنين وهما إما القتل أو الطرح أرضا، فالحل هو أن نلقي بيوسف في غيابت الجب حتى تأتي السيارة، فتأخذه من هناك إلى غير رجعة، فنكون بذلك قد تخلصنا منه (أي طرحناه أرضا)، ثم نعود إلى أبينا فنخبره بأن الذئب قد أكله.
وحاولنا التبرير لذلك بالقول بأن يعقوب كان على علم بكيد الإخوة بأخيهم، فهم لا محالة قاتلوه إن بقي بين ظهرانيهم، لذا كان لابد من العمل على إنقاذ يوسف من بين أيديهم. فما كان منه إلا أن رسم لهم خطة طرحه أرضا، فنبههم إلى خطر أن يأكله الذئب، فكان في ذلك رسالة ضمنية من الأب إلى الأبناء بالقول بأنهم يستطيعون أن يطرحوا يوسف أرضا ويتهموا الذئب بأكله زورا وبهتانا. فرسم لهم خطة الذئب دون دراية منهم. فما كان منهم إلا أن يأتوه بدم كذب ليبرروا فعلتهم تلك، فما أن رأى يعقوب ذلك الدم حتى علم أنه دم كذب وأن يوسف لم يقتل وإنما طرح أرضا. فعلم أن الآبناء قد نفذوا مؤامرة في أخيهم، فآثر الصبر على ذلك:
(سورة يوسف)
وقد كان يعقوب – في ظننا- على يقين بأن يوسف لا محالة تاركه، ولابد أن يخرج من هذه الديار. فآثر أن لا يدعو ربه أن يعيده له، واستعان بربه على هذا الفراق الذي لا مفر منه (وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
فك لغز رحيل يوسف: من هما الشمس والقمر؟
السؤال المركزي: من أين علم يعقوب برحيل يوسف؟
رأينا المفترى: افتراء من عند أنفسنا: ليذهب إلى أبيه الآخر
(سورة يوسف)
أما بعد،
تساؤلات حول غياب أم يوسف
نحن نرى أن الضرورة استدعت هناك أن نثير التساؤل التالي حول قصة يوسف: أين أم يوسف؟
وقد جلب هذا التساؤل في ثناياها حينئذ تساؤلات كثيرة نذكر منها:
- لم لا يذكر القرآن شيئاً عنها؟
- أليست الأم هي من ينفطر فؤادها على فراق ولدها؟ هل نسينا أم موسى يوم فارقها طفلها بوحي من الله؟ ألم تكن لتبدي به من شدة لهفتها على ابنها لولا أن الله قد ربط على قلبها؟
- لم حزن يعقوب على يوسف أكثر من حزن أمه عليه؟
- إذا كان يعقوب قد ابيضّت عيناه على فراق ولده من الحزن، فماذا حصل ببصر أم يوسف؟ هل لا زالت تبصر بمن حولها؟
- لم تحدث يوسفُ عن والده حتى في غيابه؟ فهو على الأقل قد بعث بقميصه إلى أبيه، ألم يكن يملك (وهو الآن رب مصر وسيدها) أن يرسل إلى أمه (ولو) بهدية بسيطة يعبر لها فيها عن حبه واشتياقه لها؟ هل كان ينتظر عيد الأم ليفعل ذلك؟ من يدري!!!
- لم لا نجد خطاباً ليوسف يتحدث فيه عن أمه؟
- الخ.
رأينا المفترى: نحن نفتري القول بأن والدة يوسف لم تكن موجودة إطلاقا في خضم الأحداث كلها، فلقد توفاها الله (نحن نفتري القول) من ذي قبل.
نقد الفكر السائد حول دور الأم
الفكر السابق: لقد درج الفكر السابق على الزج بأم يوسف في القصة بين الفينة والأخرى متى ظنوا أن الحاجة تستدعي ذلك دون دليل من كتاب الله نفسه، فكانت حاجة المفسرين (أهل الدراية من أصحاب الفضيلة والإمامة والآيات) لوجود أم يوسف واضحة في موطنين فقط هما:
- لإسقاط الرؤيا التي راءها يوسف على أرض الواقع (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)
- لفهم كيفية رفع يوسف لأبويه على العرش (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ)
فظن علماؤنا الأجلاء أن أم يوسف قد تواجدت لهذين الغرضين في القصة، ولم تتعامل تفسيراتهم مع المرأة في أي موطن آخر من القصة (ومن يجد في تفسيلاات أهل الدراية شيئا عن المرة في غير هذين الموطنين فليسعفنا به وله من الله الأجر إن شاء ومنا الشكر والثناء)، فلا نجد ردة فعل لها على فراق ولدها، ولا على لقياه في أرض مصر، ولا حتى في شكوى بث وحزن يعقوب. فالرجل لم يشتكي حتى لأم يوسف بثه وحزنه، ولجأ إلى الله في ذلك (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ). والأهم من ذلك كله أن المرأة لم تشكو بثها وحزنها لله على فراق ولدها كما فعل زوجها المكلوم على فراق ولده!
النظرة الجديدة: الشمس والقمر ليسا الأب والأم
رأينا المفترى: نحن نظن بأنه لا علاقة لأم يوسف على الإطلاق بهذين الموقفين، فلا هي المشار إليها في الرؤيا التي التي راءها يوسف ولا هي من رُفِعتْ على العرش في أرض مصر. ولكن كيف ذلك؟
رأينا المفترى: غالباً ما فهم العامة (بسبب تفاسير معظم أهل الدراية كما نقلها لهم أصحاب الرواية) أن قصة الشمس والقمر اللذين جاء ذكرهما في قصة يوسف ربما تشير أن المقصود في الخطاب عن (َالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) هما أم يوسف وأبيه، أليس كذلك؟ ولكننا نحب أن نثير تساؤلاً بسيطاً جداً، وليعذرنا السادة القراء على بساطة (وربما سخافة) سؤالنا الذي هو: أيهما الأب وأيهما الأم؟ هل الأم هي الشمس أم القمر؟ وهل الأب هو الشمس أم القمر؟ فأيهما أيهما؟
نحن نرجو سادتنا العلماء الذين استنبطوا أنّ الشمس والقمر هما أم يوسف وأبوه (أو العكس) أن يسعفونا بالتعرف على الأم والأب بشيء من التفصيل.
أما نحن، فإننا نعتقد جازمين أن الشمس والقمر لم يكونا أم يوسف وأبوه، ولكن من هم إذاً؟
لا شك أن الشمس والقمر سيكونون تابعين، والمتبوع هو يوسف، ليسبحوا (نحن نظن) في فلكه:
(سورة الأنبياء)
كما كان إخوته تابعين له، لأنهم جميعا خروا له سجدا، واعترفوا له بفضلهم عليه:
(سورة يوسف)
الفرق الدقيق بين "أبويه" و "والديه" في القرآن
رأينا المفترى: نحن نفتري الظن بأن كثيرا من أهل العلم لم يميّزوا بالدقة المنشودة بين مفردتين متقاربتين استخدمتا في النص القرآني وهما: والديه وأبويه، فيوسف قد رفع أبويه ولم يرفع والديه على العرش، دقق – عزيزي القارئ- في النص جيداً:
(سورة يوسف)
فما الفرق؟
بداية لا شك عندنا أن يوسف قد رفع على العرش شخصين بدليل أن مفردة أَبَوَيْهِ تدل على المثنى، أليس كذلك؟ ولكن السؤال المطروح هنا هو: من كانا هذان الشخصان؟ هل فعلاً كانا أم يوسف وأبوه (كما ظن أهل الدراية من قبلنا)؟ أم كانا شخصين آخرين (كما نظن نحن)؟
رأينا المفترى: إننا نرى أنه بالإضافة إلى أن معنى مفردة "أَبَوَيْهِ" في النص القرآني يمكن أن يكون الأب (مذكر) والأم (مؤنث) كما ظن من سبقنا، يمكن كذلك أن تحمل المعنى بأن يكون الأبوان الاثنان مذكر (أي أب و أب) وليس فقط مذكر مع مؤنث (أب و أم)، ولكن لماذا؟
رأينا المفترى: نحن نظن أنه لو جاء النص القرآني على نحو أن يوسف قد رفع والديه على العرش، لربما سلّمنا بصحة ما قاله مشايخنا وذلك لأن مفردة "والديه" – كما سنبين بعد قليل- لا تحمل في النص القرآني إلا على معنى الأب والأم معاً، ولكن لما كان يوسف قد رفع أبويه (وليس والديه) على العرش، ربما تبقى لنا ما يمكن أن ندلوا بدلونا فيه.
تحليل استخدام "الوالدين" في القرآن
الدليل
عند دراستنا للسياقات القرآنية الكثيرة التالية وجدنا أن الحديث عن الأب والأم معاً يرد في النص القرآني بصيغة "الوالدين":
(سورة البقرة)
(سورة البقرة)
(سورة البقرة)
(سورة النساء)
(سورة النساء)
(سورة النساء)
(سورة النساء)
(سورة الأنعام)
(سورة إبراهيم)
(سورة الإسراء)
(سورة النمل)
(سورة نوح)
لذا، فإننا نرى أن الخلط جاء واضحاً عند كثير من أهل العلم بين مفردة أبويه عند الحديث عن يوسف:
(سورة يوسف)
(سورة يوسف)
مع مفردة أخرى في النص القرآني تتحدث بصريح اللفظ عن الأم والأب معاً، وهي مفردة والديه، فها هو يحيى يتحدث عن والديه:
(سورة مريم)
وكذلك جاءت الوصيّة من الله للإنسان خيراً بوالديه:
(سورة العنكبوت)
ونهى الله الإنسان عن الإساءة إلى والديه:
(سورة الأحقاف)
وغالباً ما جاء الحديث عن الأم مفصلاً عند الحديث عن الوالدين:
(سورة لقمان)
(سورة الأحقاف)
فالأم هي والدة:
(سورة البقرة)
لذا جاء حديث عيسى بن مريم عن والدته:
(سورة المائدة)
(سورة مريم)
والأب هو كذلك والد:
(سورة لقمان)
(سورة البلد)
تحليل استخدام "الأبوين": دلالة الرجلين
(سورة يوسف)
فيعقوب إذاً يتحدث مع يوسف عن إبراهيم وإسحق على أنهما أبويه (وليس والديه)، أليس كذلك؟
أما أنا، فلا أدري!!!
النتيجة: من هما الأبوان اللذان رفعهما يوسف على العرش؟
(سورة يوسف)
نعم، ذلك هو أب يوسف الآخر الذي رفعه على العرش مع أبيه يعقوب. فلقد كان ليوسف أبوان: أب بالولادة وهو يعقوب، وأب بالتبني وهو الذي اتخذه ولدا بعد أن اشتراه من الذين أحضروه من بلاده البعيدة.
تداعيات وجود أب آخر ليوسف
تصور جديد: يعقوب هو الشمس والأب المتبني هو القمر
تصور جديد: لقد كان ليوسف أبوان يسكن كل منهما بلاد تبعد عن الأخرى، فكان أحدهما يسكن في الشرق بعيدا عن أرض مصر وهو يعقوب (حيث تطلع الشمس) وكان الآخر يسكن قريبا من مصر حيث تغرب (فيظهر القمر). فكان يعقوب هو الشمس بينما كان هذا الأب الآخر ليوسف هو القمر الذي راءهما يوسف في رؤياه التي قصّها على أبيه يعقوب.
لقد كان ليوسف في بلاد الشمس (الشرق) - موطنه الأصلي أب (وهو يعقوب)، وكان له في بلاد القمر (إلى الغرب)– أرض مصر- أب آخر (وهو الذي اتخذه ولدا). فالمسافة بين أبيه في موطنه الأصلي (يعقوب) وأبيه في أرض مصر تمثلها المسافة بين الشمس والقمر في كبد السماء، فما أن تغيب الشمس حتى يظهر القمر.
عقاب يعقوب وحكمة شطر محبة الأب
تبعات هذا الظن المفترى من عند أنفسنا:
أولا، نحن نظن أن يعقوب النبي قد فهم الرسالة، فعلم أن الله مبدل يوسف والده يعقوب (في بلاد الشرق) بوالد آخر له في بلاد الغرب، أي إلى الغرب من موطنه. فكان في هذا – نحن نزعم القول- عقابا ليعقوب نفسه جزاء بما قدمت يداه. ولكن كيف ذلك؟
رأينا المفترى: عندما اختص يعقوب النبي أحد أبناءه بمعاملة تميّزه عن بقية إخوته حتى أصبح سلوك يعقوب ذاك واضحاً للقاصي والداني، ولم يعد إخفاءه ممكناً (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، فهو نفسه لم ينكر ذلك، كان ذلك سبباً في أن يكيدوا أخوة يوسف لأخيهم، لذا جاء العقاب – في نظرنا- ليعقوب النبي من نفس الفعل، لقد اشتغل قلب يعقوب بيوسف أكثر مما يجب على حساب إخوته، لذا نرى أن الله قد شطر حب الأب في قلب يوسف بين أبوين اثنين، وفي هذا – نحن نفتري القول- حكمة عظيمة لكل أب، فلا يعطي حبه لأحد من أبناءه على حساب الآخرين لأن ذاك الابن ربما يجد في قلبه متسعاً من المكان لأكثر من أب. ففي حين أن لهفة يعقوب على يوسف قد بدت على محيّاه، فضعف جسمه وابيضت عيناه من الحزن فأصبح كظيما، لا نجد مثل ذلك عند يوسف بنفس الدرجة والمقدار. وربما يدلنا على مثل هذا الظن ما فعله يوسف تجاه والده، فبالرغم أن يوسف هو الولد وأن يعقوب هو الوالد إلا أن الوالد هو من جاء يسعى من الأرض البعيدة ليلتقى بالولد. لقد كنا نتصور أن من آداب حقوق الآباء على الأبناء (كما صدعت رؤؤسنا بها من فوق منابر أهل الدراية) هي أن يسعى الولد إلى الوالد، فلم - يا ترى- سعى يعقوب الوالد إلى يوسف الولد؟ ألم يكن من الواجب أن يحدث العكس. ثم لو دققنا في المشهد كما يجب لوجدنا أن يوسف لم يكلّف نفسه عناء الخروج على والده، فانتظر في الداخل حتى دخلوا عليه جميعا:
(سورة يوسف)
ألم يكن حريّ بالابن (نحن نتساءل فقط) أن يخرج لملاقاة والده بدل أن ينتظر في مكانه حتى يدخل عليه والده؟
أما أنا فلا أظن ذلك.
(سورة يوسف)
رأينا المفترى: لما دخل أبوه (الشمس) يعقوب أرض مصر لم ينسى يوسف أباه الذي أشراه في أرض مصر فأحسن إليه واتخذه ولدا، فما كان من يوسف إلا أن يرفع كلاهما (أي أبويه) على العرش، ولكن يوسف توجه بالخطاب إلى أبيه يعقوب الذي يعلم خبر الرؤيا من قبل بالقول:
(سورة يوسف)
أسباب ابتعاد يوسف عن يعقوب
السبب الأول: تصحيح فكر يعقوب بشأن فعل جده إبراهيم
أولا، رحيل يوسف فيه تصحيح لفكر يعقوب الخاطئ
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن يعقوب كان يشك في أن ما فعله جده إبراهيم بابنه إسماعيل لم يكن عين الصواب. فلربما كان يظن يعقوب (كما نتخيله مخطئين لا شك) أنه ما كان لجده إبراهيم أن يبعد ولده إسماعيل عن ولده الآخر إسحق. فلربما رأى في ذلك فصلا غير مبرر بين الإخوة، وربما لم يدرك يعقوب في بداية الأمر الحكمة من فعل جده إبراهيم هذا، وما أدرك حكمة ما فعله جده إبراهيم بولديه إلا متأخرا. ففي حين أن إبراهيم كان قد نقل إسماعيل طواعية فأبعده بنفسه عن المكان الذي كان يتواجد فيه ولده الآخر إسحق، أُجبِر يعقوب على فعل ذلك على غير رغبة منه.
فلقد ظننا في مقالة سابقة لنا أن واحدة من الأسباب التي دفعت بإبراهيم إلى فعل ذلك هو حتى لا تتكرر قصة ابني آدم مرة أخرى، فلا يتقاتل الإخوة فيما بينهم على ميراث النبوة، فيكون لأحدهما ولا يكون للآخر. ولمّا كان الله هو من آتى إبراهيم رشده (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)، ولمّا كان الله هو من آتى إبراهيم حجته على قومه من قبل (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ)، فهم إبراهيم (نحن نفتري القول) أن في بقاء الإخوة في نفس المكان معا مهلكة لأحدهما دون الآخر، وربما تكون الغلبة للقاتل على المقتول كما حصل في حالة ابني آدم. فاختار إبراهيم طواعية أن يفصل بينهما، ففي حين أبقى إسحق وأمه في بيت المقدس، اختار لإسماعيل وأمه مكانا لا يقل قدسية عن سابقة، فأسكنهما في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، ودعا اللهَ لهما ولذريتهما بإقامة الصلاة:
(سورة إبراهيم)
فكان ميراث النبوة في كليهما مادام أن كل منهما أصبح له قومه، فكان إسحق نبيا من الصالحين في بني إسرائيل، وكان له بيته، وكان إسماعيل كذلك نبيا من الصالحين في تلك الأفئدة التي أواها ربهما إليهم، وكان له بيته، ولم تدب الخصومة بينهما. فكان جميع أبناء إبراهيم من الشاكرين. (للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان لماذا قدم نبي الله لوط بناته بدلا من ضيوفه؟)2
أما يعقوب الذي لم يدرك (نحن نهذي القول) هذه الحكمة في البداية، فقد آثر أن لا يفترق الإخوة، فاختار أن يجمعهم جميعا في بيت واحد ظانا أن باستطاعته التوفيق بينهم. وما هي إلا سنوات قليلة حتى ثبت له بالدليل أنه لا يستطيع ذلك، فنشب الخلاف بين الإخوة، وبدل أن يختار بنفسه أن يفرق بينهما كان قرار الفراق رغما عنه.
السبب الثاني: طلب علم "تأويل الأحاديث"
وهناك - في رأينا- سبب آخر كان (حسب ظننا) كافيا أن يُبعَد يوسف عن أبيه لأجله، ألا وهو طلب العلم الذي لم يكن متوافرا عند والده يعقوب، ولكن كيف ذلك؟
(سورة يوسف)
لنجد أن يعقوب يقول بملء فيه أن الله سيعلم يوسف من تأويل الأحاديث، أليس كذلك؟
والآن انظر إلى السياق القرآني التالي جيدا:
(سورة يوسف)
لتجد أن يوسف يعترف لربه بذلك الفضل في نهاية القصة. فلقد تعلم يوسف تأويل الأحاديث،أليس كذلك؟
رأينا المفترى: كلا، فنحن نظن أن الله قد سخّر ليوسف من البشر من يقوم بمهمة تعليمه ذلك العلم (مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). ومادام أن والده يعقوب لم يقم بتلك المهمة بدليل أن يوسف قد ابتعد عن يعقوب طيلة سنين عمره بعد تلك الرؤيا، فمن - يا ترى- تولى من البشر تلك المهمة؟
رأينا: إنه أب يوسف الذي اشتراه من مصر فأحسن إليه.
(سورة يوسف)
دقق – عزيزي القارئ -في لفظ التعليم في الآيات القرآنية الثلاث التي تتحدث عن تعليم يوسف من تأويل الأحاديث، لتجد أن اللفظ في بداية الأمر جاء بصيغة المفرد "وَيُعَلِّمُكَ" في حديث يعقوب الموجّه لولده، فنأى يعقوب بنفسه عن تلك المهمة. وجاء على صيغة المفرد "وَعَلَّمْتَنِي" عندما تحدث يوسف عن نفسه في نهاية القصة، فنسبها إلى ربه. بينما جاء على صيغة الجمع "وَلِنُعَلِّمَهُ " عندما أخبرنا الله نفسه عن ما حصل ليوسف بالفعل بعد أن اشتراه ذلك الرجل من مصر. فماذا يمكن أن نستنبط من هذا الاختلاف في اللفظ؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن التعليم الفعلي ليوسف مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ قد حصل في بيت هذا الرجل الذي اشتراه من مصر.
عقيدتنا: نحن نؤمن يقينا أن العلم الذي جاء ليوسف هو من عند الله، ولكننا نؤمن أيضا بأن ذلك العلمي لم يأتي من الله إلى يوسف مباشرة، فلم يكن الله هو من علم يوسف بنفسه. وبكلمات أكثر دقة نقول أنه في حين أن علم يوسف كان من عند الله إلا أنه لم يكن من الله. وهذا يعني في ظننا أن الله (نحن نفتري القول) قد يسّر ليوسف من يقوم بتلك المهمة، فتولى ذلك الرجل مهمة تعليم يوسف المباشر مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ. ونحن نفتري القول أن يكون هذا هو (برأينا) السبب الذي من أجله جاء فعل تعليم يوسف من تأويل الأحاديث على صيغة الجمع (وَلِنُعَلِّمَهُ) في بيت هذا الرجل:
(سورة يوسف)
إعادة بناء رحلة يوسف: من الجب إلى بيت التبني
نظرة جديدة في أحداث قصة يوسف
أما بعد،
من البضاعة المبخوسة إلى التمكين الأول
نحن نعلم من مجمل القصة أن إخوة يوسف قد جعلوا أخاهم في غيابت الجب بهدف أن يلتقطه بعض السيارة، فيأخذوه بعيدا عن أرضهم، ليخلو للأبناء جميعا وجه أبيهم بعد أن يكونوا قد طرحوا يوسف أرضا:
(سورة يوسف)
وقد افترينا الظن سابقا بأن إخوة يوسف ما قفلوا عائدين إلى أبيهم عشاءً يبكون إلا بعد أن تأكد لهم أن يوسف قد أصبح بضاعة في أيدي السيارة:
(سورة يوسف)
وهنا نتوقف لنلفت الانتباه إلى جزئية لم يغفل عنها من يقرأ القصة على عجل ألا وهي فرحة السيارة العارمة بهذا الغلام، بدليل البشرى التي زفّها لهم من وجد يوسف في غيابة الجب (قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ)، فما كان من السيارة جميعا إلا أن اتخذوا قرارهم بأن يسروه بضاعة (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً).
(سورة يوسف)
وقد استخدم إخوة يوسف البضاعة المزجاة ليتبادلوا بها من خيرات مصر بعد سنين القحط:
(سورة يوسف)
ثانيا، نحن نفتري الظن أيضا بأن إخوة يوسف لم يأخذوا مالا من السيارة لقاء يوسف (كما جاء في تفاسير بعض أهل الدراية)، لأنهم لو أرادوا ذلك لما كانوا أصلا بحاجة أن يضعوا أخيهم في غيابة الجب، ولربما تمت المبادلة مباشرة مع السيارة دون الحاجة إلى جعل أخاهم في غيابة الجب، وذلك لأننا نحمل العقيدة أن ما قام به إخوة يوسف كان من باب الكيد. ومادام أنه كيد، فإنهم لن يتركوا دليلاً على تورطهم في القصة إن انكشف أمرهم. ولكن كيف يمكن أن ينكشف الأمر؟
رأينا المفترى: لو أن إخوة يوسف قاموا ببيع يوسف للسيارة لقاء شيء من المال لربما ما تردد السيّارة في أن يبيعوا يوسف في نفس الأرض التي وجدوه فيها، لأن بيع يوسف يصبح حينها من باب بيع الرقيق، أو لربما باعوه في بلاد قريبة، مادام أنه قد أصبح عبدا مملوكا يباع ويشترى به على الملأ. ولكن لمّا كان يوسف هو "لقيّة"، كان لابد للسيارة من الابتعاد به عن تلك الأرض التي وجدوه فيها إلى أرض بعيده لكي يبيعوه هناك، فلا يستطيع أحد أن يدّعي ملكيته لهذا الغلام هناك. ولكن أين الدليل على ذلك؟
لذا، نحن نظن أن يوسف لم يظهر على الملأ من جديد إلا بعد أن ابتعد السيارة به عن الأرض التي وجدوه فيها. وهناك تم بيع يوسف من قبل السيارة ولكن بثمن بخس.
(سورة يوسف)
ثانيا، نحن نظن أن هناك دليلا آخر ربما يصدق ظننا في أن إخوة يوسف لم يبيعوا يوسف للسيارة لقاء شيء من المال، وهذا الدليل يظهر عندنا من فهمنا لمفردة وَشَرَوْهُ في هذه الآية الكريمة نفسها. ولتجلية هذا الدليل، فلابد من التعرض لمعنى هذه المفردة بمقارنتها بمفردة قريبة جدا وردت في سياقات قرآنية أخرى وهي مفردة اشْتَرَاهُ، ولكن كيف ذلك؟
الفرق بين "شَرَوْهُ" و "اشْتَرَاهُ"
الفرق بين شرى (وَشَرَوْهُ) واشترى (اشْتَرَاهُ) في النص القرآني
افتراء من عند أنفسنا: غالبا ما خلط الناس بين مفردتي شرى واشترى اللتان تردان في النص القرآني، ونحن نظن أن الفرق بين المفردتين هو فرق جوهري يترتب عليه إعادة صياغة بعض الأفهام العامة، ففي حين أن شرى تعني – حسب ظننا- باع بالمفردات الدارجة (أي إعطاء السلعة مقابل قبض الثمن)، فإن اشترى تعني العكس تماما (أي أخذ السلعة مقابل دفع الثمن). لذا نحن نفهم أن السيارة هم من شروا يوسف بثمن بخس، أي إعطاء يوسف (السلعة) مقابل الثمن (المال)، فكان ثمنه دراهم معدودة:
(سورة يوسف)
ولكن ذلك الرجل الذي أخذ يوسف مقابل الدراهم المعدودة التي دفعها من جيبه هو من اشتراه من مصر، أي هو من دفع الثمن ليصبح يوسف ملكا له:
(سورة يوسف)
ولكن هذا الطرح (كما فهمه نحن من هذه الآيات الكريمة) تتطلب منا محاولة إزالة لبس آخر يخص ذلك الرجل الذي اشترى يوسف، لنطرح التساؤل التالي على الفور: من هو ذلك الرجل؟
هوية المشتري: هل كان من مصر؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن النص القرآني الذي يتحدث عن ذلك الرجل ربما يحتمل معنيين اثنين وهما:
- أن الرجل مصري الجنسية ولكنه اشترى يوسف في مكان بعيد عن مصر (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ)، كأن تكون أنت مصري الجنسية ولكن الصفقة التجارية تمت في غير أرض مصر، أو
- أن ذلك الرجل ليس مصري الجنسية ولكن عملية شراء يوسف من قبل هذا الرجل تمت في أرض مصر. فأنت ربما تقول اشتريت السلعة من عمان (عاصمة الأردن)، فهذا يعني أنك لست من أهلها، ولكنك تواجدت فيها لفترة من الزمن واشتريت السلعة منها. ولا أظن أن من يسكن عمان يقول اشتريت السلعة من عمان مادام أنه ساكن فيها، لأن ذلك يصبح من باب حشو الكلام الذي لا فائدة فيه، ولكن يمكن أن تقول أنك اشتريت السلعة من عمان مادام أنك لست من أهلها.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الخيار الثاني ربما أجدر بالتبني، فنحن نفتري القول (ربما مخطئين) أن ذلك الرجل لم يكن مصريا، وما كان وجوده في أرض مصر (مصادفة أو عن قصد) إلا في مكان حيث يباع الرقيق فيه، فقام بعملية شراء يوسف، ومن ثم عاد به إلى بلاده (أي أرض غير أرض مصر)
لغز التمكين المزدوج: أين كانت أرض يوسف الأولى؟
الدليل
رأينا المفترى: نحن نظن أن باستطاعتنا جلب الدليل على هذا الظن من فهمنا المفترى للآية الكريمة نفسها التي تتحدث عن شراء ذلك الرجل ليوسف:
(سورة يوسف)
التمكين الأول مقابل التمكين الثاني
رأينا المفترى: نحن نظن أنه ما أن تم شراء يوسف من قبل ذلك الرجل، وما أن تواجد يوسف في بيت ذلك الرجل، حتى كان ذلك تمكينا له في الأرض، أليس كذلك؟
ولكن المدقق في السياق القرآني التالي يجد أن تمكينا آخر في الأرض قد حصل ليوسف عندما استخلصه الملك لنفسه في نهاية القصة:
(سورة يوسف)
رأينا المفترى: نحن نظن أن التمكين حصل ليوسف في الأرض مرتين لأن يوسف قد سكن في المرة الأولى أرضا غير أرض مصر، وما سكن أرض مصر إلا بعد أن بلغ أشده، وما حصل التمكين ليوسف في أرض مصر إلا بعد أن انكشفت الحقيقة واستخلصه الملك لنفسه.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نعلم من مجمل القصة أنه بالرغم من التمكين الأول ليوسف في الأرض إلا أن السجن كان مأواه فترة من الزمن، أليس كذلك؟ لذا نحن لا نتردد عن إثارة التساؤل التالي: كيف يحصل التمكين ليوسف في الأرض من الله ثم ما يلبث أن يسجن يوسف بضع سنين؟
رأينا المفترى: لقد حصل التمكين الأول ليوسف في أرض غير أرض مصر، ونحن نفتري الظن أنه لو كان يوسف في ذلك الوقت في أرض مصر لما حصل وأن سجن الرجل فيها، مادام أن الله قد مكّن له فيها.
الدليل: مجيء الأهل من "البدو"
الدليل
تحدثنا في مقالات عديدة سابقة عن معنى مفردة الأرض في النص القرآني، وزعمنا القول بأن مفردة الأرض لا تعني الكرة الأرضية كلها، وإنما أي بقعة محددة منها تسمى أرضا، فبنو إسرائيل قد سكنوا الأرض:
(سورة الإسراء)
فلا يعني ذلك – حسب فهمنا المفترى لمنطوق الآية الكريمة- أن بني إسرائيل قد سكنوا في جميع أنحاء الكرة الأرضية وإنما في تلك الأرض التي كتب الله لهم.
كما أن يوسف قد طلب بنفسه أن يكون على خزائن الأرض:
(سورة يوسف)
فلا يعقل - حسب فهمنا المفترى لمنطوق الآية الكريمة- أن يكون يوسف على خزائن الأرض جميعها، وهكذا. (للتفصيل انظر مقالتنا السابقة تحت عنوان: ماذا كتب في الزبور؟)
(سورة يوسف)
الدليل
نحن نجد الدليل الأول على هذا الكلام المفترى من عند أنفسنا في الآية الكريمة التالية:
(سورة يوسف)
لنخلص إلى ملاحظة نظن أنها مهمة جدا في هذا السياق، ألا وهي أن يوسف يطلب من إخوته أن يأتوه بأهلهم جميعا الذين كانوا متواجدين في البدو، فهم قد جاءوه جميعا من البدو (وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ)، لذا أصبح لزاما – نحن نظن- أن نعيد النظر في الفكر الشعبي السائد الذي أشاع بين العامة (ربما بسبب موروثات يهود المحرّفة) بأن يعقوب كان يسكن مع أبناءه ونفر من بني إسرائيل في الأرض المقدسة، ولكنهم حسب النص القرآني – كما نفهمه- كانوا يسكنون البدو (وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ)، لنثير التساؤل التالي: هل من كان يسكن البدو كان متواجدا في الأرض المقدسة؟ من يدري!!!
كما نظن أننا نجد دليلا آخر على صحة زعمنا هذا يمكن استنباطه من النص القرآني من الحديث عن المكان الذي يتواجد به غيابة الجب (أي المكان الذي جعل إخوة يوسف أخيهم فيه)، فنحن نعتقد أن غيابة الجب ذاك كان واقعا عند تقاطع طريق التجارة، بدليل أن المكان يأتيه السيارة ليدلوا بدلوهم للتزود بالماء منه. لذا لم يكن المكان –كما نتخيله- حاضرة المنطقة (كبيت المقدس مثلا)، وإنما يقع على طريق السيّارة (أهل التجارة بين الأمصار – حواضر البلدان حينئذ). وهذا يستدعينا أن نعيد بعض تفاصيل القصة من جديد.
فرضية جديدة لمسار الأحداث
الفهم البديل المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن القصة قد حصلت على النحو التالي: ما أن يجعل الإخوة أخاهم في غيابة الجب حتى تأتي السيّارة، فيرسلوا واردهم، فيدل دلوه، وتأتيه البشرى بالعثور على ذاك الغلام في غيابة الجب، وهنا يسرّوه بضاعة، فيذهبوا به بعيدا عن المنطقة حتى لا يطلب أحد ملكية الغلام، وما يظهروه إلا في أرض مصر حيث يباع الرقيق هناك. وهنا يحصل أن يكون ذلك الرجل الذي اشترى يوسف من مصر متواجدا هناك. وما أن يشتري يوسف من مصر حتى يعود به إلى أرضه التي جاء منها، يصحبه ذلك الغلام. وما أن يدخل يوسف ذلك البيت حتى يعامل معاملة كريمة بطلب من الرجل لامرأته:
(سورة يوسف)
فيحصل التمكين الأول ليوسف في الأرض هناك (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ)، وهناك يبدأ تعليم يوسف من تأويل الأحاديث على أيدي هذا الرجل الكريم الذي تكفل يوسف (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ).
تفنيد الفكر السائد: هل كان المشتري هو عزيز مصر؟
لا شك عندنا بدايةً أن الذي اشترى يوسف من مصر لم يكن عزيز مصر (كما روّجت لذلك معظم تفاسير أهل الدراية من قبلنا)، وذلك للسبب البسيط التالي: هل يحتاج عزيز مصر أن يشتري غلاما بثمن بخس دراهم معدودة من قوم كانوا فيه من الزاهدين؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن من هو من عِليَة القوم (كعزيز مصر مثلا) لا يذهب إلى السوق ليبحث فيه عن ما هو قليل الثمن، فلا نشك قيد أنملة أن عزيز مصر لديه من المال ما يكفي لشراء أغلى البضاعة، فلم يبحث – نحن نتساءل فقط-عن بضاعة كيوسف ليشتريه بثمن بخس دراهم معدودة؟
رأينا المفترى: إذا كان الأمر كذلك (أي أن يوسف كان بضاعة ثمينة حينئذ)، فلم يشروه (أي يبيعوه) بثمن بخس؟ ولم كانوا فيه من الزاهدين؟ ألم يستبشروا به عندما أخرجوه من غيابة الجب؟
لماذا بِيع يوسف بثمن بخس؟
رأينا المفترى: كلا، نحن نظن أن يوسف لم يصل إلى أرض مصر مع السيارة الذين وجدوه في غيابت الجب وهو في أحسن حالاته. لذا لابد أنه قد حصل ليوسف – نحن نفتري القول- ما جعل السيّارة يزهدون به ويشروه بثمن بخس دراهم معدودة ويكونوا فيه من الزاهدين بالرغم من فرحتهم العارمة به عندما أخرجوه من غيابة الجب.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن التعب (وربما المرض) قد أصاب من الغلام مبلغا. فالغلام مكث في غيابة الجب بعض الوقت، وما أن خرج منه حتى وجد نفسه بين أيدي السيّارة الذين عملوا بيوسف ما لا يعلمه إلا الله:
(سورة يوسف)
وكانت الرحلة من المنطقة التي وُجِد بها الغلام (غيابة الجب) إلى أرض مصر رحلة طويلة وشاقة لم يستطيع الغلام أن يتحمل أعباءها الجسدية، فالغلام لا زال طري العود لم يستوي على سوقه بعد. لذا أصاب منه التعب والإعياء – نحن نتخيل- ما جعل السيّارة يزهدون فيه، ويشروه بثمن بخس دراهم معدودة.
رأينا المفترى: ذلك من تقدير العزيز العليم، ولكن كيف ذلك؟
نحن نظن أن ذاك دليل علم هذا الرجل (الذي لا زلنا لا نعرفه). لذا نحن نفتري القول أن الذي اشترى يوسف من مصر كان رجلا صالحا على قدر من العلم مكّنه من معرفة قدر هذا الغلام منذ أن راءه في السوق. فكان من تقدير العزيز العليم أن يتواجد يوسف في السوق في حالة بدنية كانت تصرف عنه عيون من كانوا يبحثون لهم عن عبيد يتمتعون بقوة بدنيّة، فما وقعت – في ظننا- عين أحد من المشترين على يوسف في ذلك السوق سوى هذا الرجل الذي نظن أنه صاحب العلم الذي سيتولى تعليم يوسف من تأويل الأحاديث في بيته. فكان وجود يوسف في بيت هذا الرجل –حسب منطقنا المفترى هذا- مرحلة ضرورية لكي يتم الله نعمته عليه كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحق. وكان ذلك – كما زعمنا في بداية هذه المقالة- سببا مهما في أن يترك يوسف أباه يعقوب الذي لم يكن يمتلك مثل هذا العلم، وليحط به المقام في بيت هذا الرجل الذي يملك علما من نوع آخر وهو تأويل الأحاديث، وهناك تعلم يوسف من تأويل الأحاديث حتى بلغ أشده واستوى:
(سورة يوسف)
فمكث يوسف في بيت هذا الرجل الذي اتخذه ولدا، فكان ليوسف أب بالولادة (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ)، وكان ليوسف أب بالتبني (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا).
(سورة البلد)
من هو كافل يوسف الحقيقي؟
فكان هذا الرجل بمثابة من كفل يوسف تماما كما حصل لموسى من بعده في بلاط فرعون مصر يوم أن وقع حب موسى في قلب امرأة فرعون، فكفت عنه القتل واتخذته ولدا:
(سورة القصص)
ولو دققنا في اللفظ لوجدنا أن امرأة فرعون قد استخدمت المفردات نفسها التي استخدمها هذا الرجل الذي اشترى يوسف من مصر لتبرير تواجد يوسف في بيته (عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا):
(سورة يوسف)
وقد زعمنا القول في سلسلة مقالاتنا عن موسى أن موسى قد وقع في كفالة أهل بيت، وكان كافله آنذاك نبي من أنبياء الله الصالحين وهو في ظننا نبي الله ذو الكفل. انظر (قصة موسى: باب الطفولة)
هذا ما سنحاول النبش فيه في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيقه، فالله وحده أسأل أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع البصير، واسأله وحده أن يهديني إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمّه ولو كره الكافرين. والله أسأل أن يهدينا رشدنا فلا نفتري عليه الكذب ولا نقول عليه ما ليس لنا بحق، إنه هو العليم الحكيم.
خاتمة وتساؤل للمستقبل
وللحديث بقية
المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
4 تشرين ثاني 2013
د. رشيد الجراح مركز اللغات
جامعة اليرموك
الهوامش
- نحن لا نستثني أن يكون الأبوين رجل وامرأة ولكن هذا لا يمنع أن يكونا رجلين كما في حالة يوسف: كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ↩
- هذا نداء للآباء جميعا: لا تسكنوا الإخوة معا في نفس المكان. لا تدعو حبكم لأبناءكم يكون غشارة على أبصاركم. افصلوا بين أبناءكم طواعية قبل أن ينفصلوا عن بعض كرها. ↩