كيف تم خلق عيسى بن مريم؟3





خلصنا في الجزء السابق من هذه المقالة بافتراءات عديدة نذكر منها:
1.     بيض المائدة هو المنّ الذي أنزله الله على بني إسرائيل
2.     الطائر الذي لا يطير بجناحيه (الديك الرومي) هو السلوى التي أنزلها الله على بني إسرائيل
3.     المن (بيض المادة) والمني (ماء الرجل الذي يصبه في رحم المرأة) متشابهان في الشكل والوظيفة، فالبيض (مادة المنّ) يخرج منها الحياة بالضبط كما تخرج الحياة من منيّ الرجل الذي يصبه في رحم المرأة
4.     المن والسلوى صنفان ولكنهما طعام واحد.
5.     الطعام الذي يعد من هذين الصنفين يعتبر مائدة وهي التي أنزلها الله على الحواريين مع نبيهم عيسى بن مريم
6.     الطيور التي تطير بجناحيها هي أمم أمثالنا، لذا لا يؤكل لحمها ولا بيضها
7.     الطيور التي لا تطير بجناحيها ليست أمم مثلنا، لذا يؤكل لحمها وبيضها
8.     الطيور التي لا تطير بجناحيها هي من فصيلة النعم وليست من الأنعام
(للتفصيل انظر الجزأين السابقين من هذه المقالة)
أما بعد،
انتهى الجزء السابق من هذه المقالة عند دعوتنا التمييز بين مفردتين وردتا في كتاب الله نظن أن علماءنا الأجلاء قد أخطأوا فهمهما قروناً من الزمن وهما مفردتا: النعم و الأنعام، ودعونا إلى الحاجة أن نفهم معنى مفردة النعم كما ترد في كتاب الله في الآية الكريمة التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
فزعما القول أن النعم ليست أنعاماً لأن النعم يتم اصطيادها اصطياداً، ولكن الأنعام بالمقابل فهي لا تصطاد لأنها مملوكة:
          أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ                     يس (71)
وهي كائنات قد ذللت ويتم استخدامها في الركوب، فلا تتواجد في البرية:
          وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ                                             يس (72)
وبالإضافة إلى أنها كائنات يؤكل منها، فهي كائنات ننتفع بها ونشرب لبنها (أو حليبها كما يرغب أهل الشام أن يسموه):
          وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ                                           يس (73)
وقد دعانا مثل هذا التفريق للغوص في ماهية تلك الكائنات، طارحين السؤال التالي: ما هي النعم؟
افتراء من عند أنفسنا: لقد زعمنا القول أن النعم هي ما يمكن أن يتم اصطياده، وهي متواجدة في البرية (البر)، لذا تقع الطيور التي لا تطير بجناحيها كالتي أنزلها الله من السماء لتكون طعاماً لأهل الأرض (أي السلوى) ضمن فصيلة النعم.
الدليل
لكي نتمكن من استقصاء الدليل على مثل هذه التحريفات التي هي لا شك من عند أنفسنا حاولنا التعرض لمفردة "نعمة" التي جاءت في الآية الكريمة التالية الموجه إلى بني إسرائيل في بداية الحديث عن تنزيل المنّ والسلوى حيث قال:
          يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ       البقرة (47)
وحاولنا إرباك القارئ الكريم بالسؤال التالي: هل يستطيع (هل يقدر) بنو إسرائيل أن يذكروا نعمة التي عليهم بعد تدبر ما جاء في كتاب الله في الآيتين التاليتين؟
          وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ                                                                                                              إبراهيم (34)
          وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ                     النحل (18)
فكان التساؤل الذي طرحناه على النحو التالي: كيف بالله الذي يقرر أنه لا نستطيع أن نعد نعمته مهما حاولنا يطلب من بني إسرائيل أن يذكروا نعمته عليهم؟
فزعمنا الظن أننا لا نستطيع أن نخرج من مثل هذا المأزق – الذي تخيلناه نحن فقط- ما لم نخرج أنفسنا من بوتقة القواعد القديمة التقليدية التي نظن أنها أضلتنا قروناً من الزمن، وأبعدتنا عن فهم كلام الله كما يجب. ولكن كيف؟[1]
أما بعد،
لو طرحنا التساؤل التالي: هل كلمة نعمة (أو نعمت) مفرد أم جمع؟ أي هل هي كلمة تدل على شيء واحد أم على أكثر من شيء؟
جواب: ربما لو وجهنا هذا السؤال إلى الغالبية الساحقة من أبناء العربية (الفصيح وغير الفصيح منهم) لوجدنا أنهم لا يترددون بالقول أن كلمة نعمة هي مفرد؟
ولو اتبعنا السؤال بالسؤال لربما حصل الإرباك: فما جمع كلمة نعمة إن كانت هي مفرد؟ أي كيف تجمع كلمة نعمة؟
رأينا: نحن نظن أن مفردة نعمة تجمع على نعمة أيضاً، فكلمة نعمة حسب النص القرآني – كما نزعم- هي مفرد وهي جمع في الوقت نفسه. فالنعمة الواحدة هي نعمة، وأكثر من نعمة هي أيضاً نعمة وليست نِعَم، لأن النِعَم هي كائنات حية يمكن أن يتم اصطيادها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
بينما جاء قول الحق مطالباً بني إسرائيل بأن يذكروا نعمة واحدها خاصة بهم (دون العالمين):
          يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ       البقرة (47)
نتيجة مفتراة: لا شك أن النعمة التي يطلب الله من بني إسرائيل أن يذكروها يمكن أن تعد، وإلا لما طلب منهم أن يذكروها.
وفي الوقت ذاته جاء التأكيد الإلهي في كتابه الكريم أننا لا نستطيع أن نحصي نعمة الله مهما حاولنا:
          وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ                                                                                                              إبراهيم (34)
          وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ                     النحل (18)
إن هذا الكلام يدعونا إلى أن نستخرج القواعد (إن كان هناك أصلاً ما يسمى قواعد بالمفهوم البشري) من كتاب الله لا أن نضع القواعد التي هي بلا شك من عند أنفسنا في كتاب الله، لنجبر النص (وإن كان كتاب الله) أن يلتزم بما قدمناه من عند أنفسنا.
مثال
لقد كانت هذه الجزئية على الدوام من أهم النقاط التي أحاول إثارتها في قاعة الدرس خاصة في مساقات تحليل الخطاب، وكنت أجد العناء الشديد (لا بل والمقاومة الشرسة أحياناً) في تمرير هذا الظن لـ أناس شربوا تلك القواعد مع حليب أمهاتهم (كما نقول نحن في عاميتنا الأردنية وإن كان هو أصلاً لبنا)، فهم تربوا على أن قواعد أبائهم وأجدادهم لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولكن ما هي إلا أمثلة قليلة حتى يبدأ من أراد العلم منهم بالنظر إلى الأمور من زاوية جديدة، وها هو أحد طلبة تلك المساقات يعود إليّ يوماً بالتساؤل التالي حول الحركة الإعرابية في الآيات الكريمة التالية
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22)
المشكلة كما راءاها: في حين أن كلمة فاكهة جاءت مجرورة (وَفَاكِهَةٍ) وجاءت كلمة لحم مجرورة كذلك (وَلَحْمِ)، كان الرفع من نصيب كلمة وحور (وَحُورٌ)، وقد أكد لي بأنه غير راض عن ما قاله الأقدمون بأن وَحُورٌ مرفوعة على الابتداء، لأن ما كان يقلقه هو: لم ترفع "وَحُورٌ" على وجه التحديد على الابتداء هنا في هذا السياق القرآني على وجه التحديد؟ ما المغزى من ذلك؟ لم لا يبدأ الابتداء عند مفردة اللحم مثلاً ليبدأ الرفع من هناك؟ وقد كان بذلك يردد ما أحاول أن أقوله لطلابي على الدوام هو: مادام أن هناك اختلافا في الشكل، فلابد أن يصاحبه اختلاف في المعنى، فلابد من وجود غرض في النص يبرر اختلاف الحركة الإعرابية (من الجر إلى الرفع). وقد كان يتساءل عن السبب في هذا الاختلاف في الحركة الإعرابية في هذه الآيات الكريمة.
وقد كان ردي له على النحو التالي: قلت له لا أعرف السبب، ولكني متأكد أن هناك سبب وجيه دعا إلى أن يكون الجر (الكسر) من نصيب "الفاكهة واللحم" في هذه الآية الكريمة بينما يكون الرفع خاصاً بالحور.
وقد كان ما أثلج صدري في تلك اللحظة، فلقد فاجأني ذلك الطالب نفسه في المجلس ذاته بالقول أنه ربما يعرف السبب من وراء ذلك، فحاول أن يشرح لي ما فتح الله عليه به من علم على النحو التالي:
قال: لو تدبرنا الآيات نفسها لوجدنا أنها تبين لنا السبب بشكل جلي، فلننظر إلى كل آية منفردة، فعند الحديث عن الفاكهة جاء قول الحق:
          وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
وجاء قول الحق عند الحديث عن الطير على النحو التالي:
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
ولو تدبرنا هاتين الآيتين معاً (حيث اشتركا في الحركة الإعرابية وهي الجر) لوجدنا أن الحصول على الفاكهة يتم بالتخيير، فهي (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ)، وكذلك يكون الحصول على اللحم (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)، فالإنسان في الجنة يستطيع أن يختار الفاكهة التي يريدها وهو يستطيع الحصول على اللحم الذي يشتهيه من كميات كثيرة ومتنوعة معروضة هناك. ولكن لنتدبر الآن ما جاء حول الحور العين:
وَحُورٌ عِينٌ (22)
فالمدقق في هذه الآية الكريمة يجد أن الحصول على الحور العين لا يبني في الجنة على مبدأ الاختيار أو الشهوة، فأنت في الجنة لا تختار الحور التي تريد من كثير من الحور المعروضات لأن الحصول على الحور العين يتم بالتزويج:
          يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)       الدخان
          كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ۖ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)                                                                                الطور
نعم، هذا ما نقصد باشتقاق ما يرغب أهل اللغة بتسميته بالقواعد من النص القرآني وليس إسقاط القواعد التي نريد على كتاب الله. فكم هناك من الأمثلة في كتاب الله على ما يعتبر خروجاً على قواعد أبائنا وأجدادنا!
لذا، نحن نستميح الآباء والأجداد العذر لنقول لهم بأننا لا نثق "بقواعدكم"، لأننا نصدّق ما في كتاب ربنا أكثر من ما جاء في كتبكم ومؤلفاتكم.
(وسنفرد لما نعتقد أنه "تخاريف قواعدية قديمة" مقالات مستقلة بحول الله وتوفيقه، وقد تعرضنا للعديد منها في مقالاتنا السابقة)
عودة على بدء: علاقة النعمة بالنعم
ما هي النعمة (الواحدة) التي طلب الله من بني إسرائيل أن يذكروها:
          يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ       البقرة (47)
فهي بلا شك ليست تفضيلهم على العالمين لأن ذلك جاء مصاحباً لتلك النعمة (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ). فلربما تكون تلك النعمة سبباً لتفضيلهم على العالمين، لكن المهم بالأمر هو فصل تلك النعمة عن قضية التفضيل، فالنعمة شيء والتفضيل شيء آخر.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري القول أن واحدة من "النعمة" هي ما أنزل الله عليهم "من النعم"
الدليل
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
فالمنّ والسلوى كانت "نعمة" من الله خاصة ببني إسرائيل فقط، ولم ينزلها الله على أحد من العالمين قبلهم، وكذلك كانت المائدة:
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
فهذه المائدة كانت خاصة ببني إسرائيل (الحواريين الذين كانوا أنصار الله).
نتيجة مفتراة: لم ينزل طعام من السماء إلى الأرض إلا على بني إسرائيل، فكانت تلك النعمة على وجه التحديد خاصة ببني إسرائيل دون غيرهم من العالمين، لذا نحن نفهم أن الله يطلب من بني إسرائيل أن يذكروا نعمته التي أنعمها عليهم (في الوقت الذي جاء التأكيد الرباني أننا مهما حاولنا أن نعد نعمة الله فلن نحصيها) على أنها إنزال طعام من السماء إلى الأرض، وكان ذلك إنزال المن والسلوى (على أنه طعام واحد) في زمن موسى، وكان ذلك عبارة عن مائدة في زمن عيسى بن مريم.

من أين جاءت المائدة التي نزلت على نفر من بني إسرائيل زمن عيسى؟
لو تدبرنا كلام عيسى بن مريم نفسه لوجدنا أن المائدة قد جاءت بصريح اللفظ من السماء:
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
 فكانت الاستجابة الربانية فورية لطلب المسيح عيسى بن مريم:
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
نتيجة: المائدة نزلت من السماء
من أين جاء المنّ والسلوى على بني إسرائيل زمن موسى؟
رأينا: من السماء
الدليل: نحن نظن أن الدليل على ذلك موجود في كلمة "أنزل":
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
فالحركة من السماء إلى الأرض (كما ذكرنا في أكثر من مقالة سابقة لنا) هي حركة نزول مصداقاً لقوله تعالى:
          يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ                                                                                                     سبأ (2)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ                                                                                      الحديد (4)
افتراء من عند أنفسنا: عندما ينزل شيء ما نزولا فهو – برأينا- يكون قادما من السماء.
فما الذي أنزله الله من السماء كطعام على بني إسرائيل؟
افتراء من عند أنفسنا: مادام أن الطعام الذي نزل على بني إسرائيل قد جاء من السماء فهو ليس من الطيور التي تطير بجناحيها، لأن تلك الطيور ليست موجودة في السماء وإنما موجودة في جو السماء (وهناك فرق كبير بين ما هو موجود في السماء وما هو موجود في جو السماء).
الدليل
لنمعن التفكير في الآية الكريمة التالية:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
ما الذي يمكن أن تستنبطه- عزيزي القارئ- من هذه الآية الكريم بالنسبة للطير؟ هل الطير موجودة في السماء؟ هل الطير موجودة في الأرض؟
رأينا، كلا وألف كلا، لو كانت الطير من مخلوقات الأرض أو من مخلوقات السماء لما كان هناك حاجة أن يكون هناك تكملة للآية الكريمة ولربما جاءت على النحو التالي:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
ولكن لمّا كانت الطير مخلوقات ليست أرضية وليست سماوية كان لزاماً أن يأتي ذكرها في الآية الكريمة لتكون مشمولة بخطاب التسبيح:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
فالمسبحون لـ لله هم (1) من في السموات و (2) من في الأرض و(3) الطير
سؤال: مادام أن الطير– كما تزعم- ليست من مخلوقات الأرض، ومادام أنها ليست من مخلوقات السماء، فأين هي إذن؟
جواب: هي مخلوقات متواجدة في جو السماء:
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ                                                                                 النحل (79)
نتيجة: لابد من التفريق بين ثلاث كينونات حسب مكان تواجدها:
1.     مخلوقات متواجدة على الأرض
2.     مخلوقات متواجدة في السماء
3.     مخلوقات متواجدة في "جو السماء" وهي الطير موضوع حديثنا هنا.
وهذا الزعم يعيدنا مرة أخرى إلى الآية الكريمة التالية:
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ                                                          الأنعام 38
فنحن البشر متواجدون على الأرض وكل ما هو موجود على الأرض هو أمم أمثالنا، ولكن هناك أمة أخرى مثلنا ولكنها غير متواجدة على الأرض: إنها الطير التي تطير بجناحيها.
وهذا يدعونا مرة أخرى للتفريق بين الطير التي تطير بجناحيها وهي موجودة في جو السماء والطير التي لا تطير بجناحيها وهي موجودة على الأرض.
فالطير التي لا تطير بجناحيها ومتواجدة على الأرض تقع في –حسب ظننا- ضمن فئة الدواب، وبشكل أكثر دقة فهي من فصيلة النعم التي يمكن أن تصطاد اصطياداً:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ[2] المائدة 95
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن الطير المتواجدة في جو السماء ليست من النعم وبالتالي لا يجوز اصطيادها وأكلها.
الدليل
لقد أحل الله لنا صيد البحر وحرم علينا صيد البر ما دمنا حرما؟
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[3]                                                                   المائدة 96
إذا كنا نعرف صيد البحر، فما هو صيد البر؟
رأينا: البر هي الأرض اليابسة التي تقابل البحر ولا تشمل جو السماء:
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ           الأنعام 59
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ                                                                              الأنعام 63
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ                                                                                                      الأنعام 97
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ                               يونس 22
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا                                                                       الإسراء 67
أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا    الإسراء 68
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا                                                                                الإسراء 70
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ                                                                      النمل 63
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ                                                                                                                 العنكبوت 65
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ                                                                                                         الروم 41
وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ                                                          لقمان 32
لاحظ كيف أن الله  ينجينا من البحر إلى البر، وهو الذي يسيّرنا في البر، وهكذا، لذا لا أظن أن البر يشمل جو السماء.
نتيجة مفتراة: مادام أن البر لا يشمل جو السماء، لذا نحن نفتري القول أن صيد البر لا يكون إلا للكائنات التي تتواجد في البر (اليابسة) ولا تشمل بذلك الطيور التي تطير بجناحيها في جو السماء، لأن تلك الطيور هي أمم أمثالنا لا يجب أن نعتدي عليها.
باب الطيور التي تطير بجناحيها
سؤال: ما هي صفات تلك الطيور التي تطير بجناحيها في جو السماء؟
قال تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ                                                                                             الملك (19)
نتيجة: فالطير متواجدة فوقنا، وهي من الصافات، وهي ممن يقبضن، وهن ممن لا يمسكهن إلا الله (الرحمن). وهي بلا شك ممن قد علم صلاته وتسبيحه:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
وهي بلا شك تقع ضمن نطاق الكائنات المسخرة:
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
لذا لابد من الخوص في كل هذه الصفات للخروج باستنباطات (نسأل الله أن تكون) صحيحة حول ماهية هذه الكائنات.
أما بعد،
1. الطير فوقنا
سؤال هل كل الطير متواجد فوقنا؟
جواب: لا، ليس كل الطير متواجد فوقنا، فهناك ما نسميه بالطيور الدّاجنة كالدجاج والديك الرومي التي لا تطير بجناحيها
سؤال: أين تتواجد الطيور التي فوقنا؟
رأينا: هي ليست في السماء وهي ليست في الأرض وإنما في جو السماء:
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
أي ما بين السماء والأرض. فالله أكد في أكثر من موضع على ما بين السماء والأرض:
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ                                               المائدة 17
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ                                                                                            المائدة 18
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ                                                                                                     الحجر 85       
رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا    مريم 65
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ                     طه 6
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ                                         الأنبياء 16
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا                                                                                     الفرقان 59
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ                           الشعراء 24
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ                                                 الروم 8
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ                                                 السجدة 4
رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ                                    الصافات 5
أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ                   ص 10
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ                                                                                                    ص 27
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ                                     ص 66
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ                                                                                                                   الزخرف 85
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ                                الدخان 7
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ                                      الدخان 38
مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ                                                                                                  الأحقاف 3
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ق 38
رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا                 النبأ 37
2. الطيور التي في السماء ما يمسكهن إلا الرحمن
نحن نفتري الظن أن الإمساك هو عكس الحرية، فعندما تمسك بشيء فأنت تحد من حريته، ولابد للإمساك أن يحدث في مكان معين مصداقاً لقوله تعالى:
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
فإمساك المرأة التي جاءت بفاحشة مبيّنة يكون في البيت، فلا يسمح لها بالخروج منه، ولو حاولنا ربط ذلك بقضية الطيور (والطعام بشكل عام) لوجدنا الآية الكريمة التالية:
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ۖ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ                                                                             المائدة 4
فالله يأمرنا في هذه الآية الكريمة أن نأكل مما أمسك علينا (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، فكيف يمكن أن نفهم أن الله قد أمسك علينا نوعاً من الطعام في الوقت الذي يقول عن الطيور التي تطير في جو السماء أنه ما يمسكهن إلا الرحمن؟
رأينا: إذا كان الإمساك كما نعتقد هو الحبس في مكان محدد، فإننا نظن أنه بالإمكان تقسيم الطيور إلى قسمين هما:
  1. الطيور التي تطير بجناحيها وهي الطيور التي ما يمسكهن إلا الرحمن، لذا لا يمكن أن تدجّن (أي أن تكون طيوراً بيتيه محبوسة في مكان بذاته) لتربتها والاستفادة منها بالأكل
  2. الطيور التي أمسكها الله علينا، فكان تدجينها من الله لنا، فأصبحت طيوراً بيتيه يمكن أن تحبس في مكان محدد بذاته لتربيتها والاستفادة منها بالأكل، وهي التي لا تطير بجناحيها في جو السماء.
ولا شك عندنا أن من يمسك بشي هو من يستطيع أن يتصرف به:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا

  1. الطيور التي في السماء مسخرة (وليست مذلّلة)
والنوع الأول من الطيور التي لا تدجن والتي تطير بجناحيها هي طيور مسخرة بنص الآية الكريمة التالية:
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
فما معنى أن تكون تلك الطيور كائنات مسخرة؟
جواب: لو استعرضنا التسخير في كتاب الله لوجدنا أن الله قد سخّر لنا ما في السموات والأرض؟
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ  عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ              لقمان 20
سؤال: إذا كان الله قد سخر لنا ما في السموات والأرض، فهل نأكل كل ذلك؟
الجواب: لا يمكن أن نأكل ما هو مسخر لنا، فالله قد سخّر لنا الشمس والقمر والنجوم:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
وسخر لنا الليل والنهار:
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ                                                                                       النحل 12
وسخر لنا البحر:
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ                                                                                                                   الجاثية 12
وبنفس المنطق، يمكننا أن نقول أن الله قد سخر تلك الطيور التي في جو السماء:
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ                                                                                                    النحل 79
فالتسخير- نحن نفتري القول- لا يعني الأكل، وإنما القيام بوظيفة ما يستفيد منها الإنسان، وليس أدل على ذلك من هدهد سليمان، فالله قد علم سليمان ووالده داود من قبله منطق الطير:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ
فكان الطير واحد من الأركان الأساسية الثلاث في جيش سليمان وهي الجن والإنس والطير:
          وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
وقام سليمان بتفقد ذلك الجزء على وجه التحديد، فلم يجد الهدهد حاضراً حينئذ:
          وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ
وذلك لأن ذلك الهدهد كان يقوم بوظيفته في الوقت الذي لم يكن حاضراً في الطابور التفقدي عند سليمان:
          فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
نتيجة مفتراة: لم يكن الهدهد (كواحد من الطير) متواجداً في جيش سليمان من أجل أن يكون طعاماً للجن والإنس، ولكنه كان من أمة (كما الجن والإنس) مثلنا، يقوم بوظيفة تؤكل إليه من القائد سليمان. (وسنتعرض لتفاصيل هذا الطائر عند الحديث عن سليمان في مقالات منفصلة بحول الله وتوفيقه، فنسأل الله أن ينفذ أمره  بإرادته ومشيئته لنا الإحاطة بشيء من علمه)
النتيجة: إن الطرح السابق يوصلنا إلى الافتراء التالي: الطيور التي تطير بجناحيها هي كائنات  مسخرة وليست كائنات مذلّلة لانّ الكائنات المذلّلة هي – نحن نفتري الظن- الكائنات التي تقوم بوظيفة ولكنها في الوقت ذاته يمكن الاستفادة من لحومها كطعام ويمكن أن تقدم لنا الشراب والمنافع أخرى، ولننظر إلى الدقة المتناهية كيف يصور الله لنا الأنعام في سورة يس:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ  يس 71
          وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ       يس 72
          وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ     يس 73
فالأنعام قد ذللت لأنها لا تقوم فقط بوظيفة كحمل الأثقال، ولكنّنا نستفيد منها بحد ذاتها، ولكن بالمقابل يمكن القول  أن ما سخره الله لنا لا نستهلكه بحد ذاته، فالبحر مثلاً قد سُخِر لنا لأننا نستفيد منه في وظيفة ما يؤديها لنا، وكذلك الشمس والقمر والشمس والنجوم، فكلها كائنات مسخرة لنا ولكن الله لم يذلّلها لنا كما الأنعام. وهذا يدعونا إلى أن نفهم أن الطيور المسخرة في جو السماء يمكن أن تقوم لنا بوظيفة ما، لكننا لا نأكلها نفسها.
الطيور التي في السماء صافات ويقبضن
عند الحديث عن الطيور التي في جو السماء، جاءت صفة الصافات ملازمة لتلك الكائنات كما في الآيات الكريمة التالية:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ                                                                                                         الملك 19
سؤال: ما معنى أن تكون تلك الكائنات صافات؟
جواب: لا بد أن نميز بين لفظين متشابهين وردا في كتاب الله وهما:
1.     صفاً
2.     صفاً صفاً
فعند الحديث عنا نحن البشر جاء الخطاب على نحو "صفاً" وكفى، كما في قوله تعالى:
          وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ۚ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ                 طه  64
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
بينما جاء الحديث عن الملائكة والملكة على نحو صفاً وعلى نحو صفاً صفاً
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا                                       الفجر 22
سؤال: فما الفرق بين صفاً من جهة وصفاً صفا من جهة أخرى
رأينا: نحن نفتري القول أن صفاً تعني الاصطفاف بطريقة أفقية، فالجيش عندما يقاتل صفاً يكون هناك أكثر من صف ولكنهم وراء بعضهم البعض، بغض النظر عن عدد الصفوف التي يكوّنها، وعندما أتذكر الغرفة الصفية التي ندرس وندرس فيها، نجدها عبارة عن عدة صفوف وراء بعضها البعض ولكنها جميعها تشكل صفا واحد كالصف الخامس ب أو السادس ج، وهكذا.
ولكن عندما يكون الاصطفاف صفاً صفا فيكون ذلك- في رأينا- بطريقة أفقية و عامودية معاً، فهناك اصطفاف وراء بعضهم البعض ليكوّنوا "صفاً" وهناك اصطفاف فوق بعضهم بعضاً ليكونوا أيضاً "صفاً"، ولو تفقدنا آية الطير جيداً لوجدنا أنها تتحدث عن الاصطفاف فوقنا:
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ                                                                                                         الملك 19
لذا يميل الاعتقاد إلى اليقين عندنا أن الطير والملائكة (على وجه التحديد) هم مقصود الآية الكريمة التالية:
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا                                          الصافات 1
والسبب في رأينا يتمثل في أن الملائكة كما الطير هي كائنات أولي أجنحة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
نتيجة مفتراة: من يكون في هيئة الصافات صفاً (أو صفاً صفاً) هو من يملك أجنحة تمكنه من أن يكون على تلك الهيئة في الترتيب الأفقي و العمودي، أما من لا يكون أولي أجنحة مثلنا نحن البشر فهو لا يستطيع أن يصطف صفاً صفا ويكفيه أن يكون صفاً فقط.

عودة على بدء: ما قصة الطيور في كتاب الله؟
لا شك أن حديثنا في هذه السلسة من المقالات كان يتركز على عيسى بن مريم، لذا لا نتردد أن نطرح السؤال على النحو التالي: ما قصة الطير مع عيسى بن مريم؟ فلم كان عيسى يعمل من الطين كهيئة الطير على وجه الخصوص لينفخ فيه؟ لِم لَم يكن يعمل من الطين كهيئة الكائنات الأخرى كالأنعام والدواب والوحوش والسبع والجوارح، إلخ؟
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ                                     المائدة 110
فلا شك أن الخالق هنا هو عيسى بن مريم، أليس كذلك؟
السؤال: هل يعقل- يا ترى- أن يخلق عيسى كائنات لتعبده وتسبحه؟ ألا يعبد المخلوق خالقه؟
فها هو إبراهيم نفسه يتوجه إلى خالقه ليقر له بكل نعمة هو عليها:
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
          الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
          وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
          وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
          وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
          وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
          رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
فهل -يا ترى- كان عيسى (خالق ذلك الطير) هو من يهديه؟
          الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
رأينا: لا شك أن عيسى بن مريم لم يكن يخلق من الطير المكلفة التي تطير في جو السماء والتي هي أمم أمثالنا، ولكنه كان –نحن نظن- يخلق من الطير غير المكلفة التي لا تطير في جو السماء
منطق قولنا: لو كان عيسى يخلق من تلك الطيور التي تطير في جو السماء التي ما يمسكهن إلا الرحمن، فكيف به سيمسكهن هو نفسه، وكيف بالقوم سيتعرفون عليها (مادام أنها ستطير في جو السماء) وكيف بهم سيقرون له بذلك الخلق (مادام أن تلك الطيور ما يمسكهن إلا الرحمن).
رأينا: لا شك عندنا أن ما كان يقوم عيسى بخلقه كان يمكث مع القوم وليس فوقهم، فهي من الطيور التي يمكن أن تتعايش مع الناس، وهي كائنات مذلّلة للأكل وغير مكلفة بالعبادة، وهي ليست أمم أمثالنا، لذا لم تكن تدين لعيسى بن مريم بالربوبية. ولا تتوقف قصة الطير عند عيسى بن مريم، فها هو إبراهيم نفسه يتعامل مع الطير أيضاً. فما هو الطير الذي وقع في يدي إبراهيم؟
إبراهيم: يصر إليه أربعة من الطير
ربما لا تخفى قصة إبراهيم مع الطير على أحد، فإبراهيم يطلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى وذلك ليطمئن قلبه:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
تساؤلات حول طير إبراهيم: كيف استطاع إبراهيم أن يأخذ بتلك الطيور إن كانت أصلاً من النوع الذي ما يمسكهن إلا الرحمن؟ أي كيف صرّهن إبراهيم إليه؟ وكيف جعل إبراهيم على كل جبل منهن جزءا؟ وكيف عرف إبراهيم أن تلك الطيور التي وضع على كل جبل جزءاً منها هي نفسها التي جاءت إليه تسعى؟ وكيف دعاهن إبراهيم وهو الذي لم يعلّم منطق الطير كما كان الحال بالنسبة لداوود وسليمان؟ ولم كانت تلك أربعة طيور على وجه التحديد؟ لِم لَم تكن خمسة أو ثلاثة مثلاً؟ ولماذا جاءت تلك الطيور إبراهيم ساعية ولم تأتيه طائرة بجناحيها؟
هذه أسئلة سنحاول أن نتناولها جميعاً بشيء من التفصيل بحول الله وتوفيقه، لكننا سنبدأ بالتساؤل الأخير أولاً مادام أن النقاش يتحدث عن تميز أنواع الطير.
أولاً، لماذا جاءت تلك الطيور إلى إبراهيم تسعى عندما دعاها؟
ألا يجب أن تأتي الطيور إلى إبراهيم طائرة بجناحيها ما دام أنها أصلاً من الطير؟ لم جاءته تسعى ولم تأتي إليه طائرة بجناحيها؟
رأينا: لم تكن طيور إبراهيم من النوع الذي يطير بجناحيه (وإلا لجاءته طائرة) ولكنها كانت من الطيور التي لا تطير بجناحيه فجاءته ساعية، وهذا يدعونا إلى النبش في معنى مفردة السعي، لنفتري بعدها القول بأن السعي لا يكون إلا على الأرض.
الدليل
فها هي عصا موسى حية تسعى:
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ
وهي هي حبال السحرة يخيّل للناس من سحرهم أنها تسعى:
قَالَ بَلْ أَلْقُوا ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ
وهذا رجل يأتي من أقصى المدينة يسعى ليحذر موسى من خطر مؤامرة ملأ فرعون:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ
وهذا ولد إبراهيم يبلغ مع والده السعي:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
وها هم المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم:
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ                                                                                   التحريم 8
وها هو فرعون نفسه يولي ظهره لموسى سعياً بعد أن أراه الآية الكبرى:
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ (20) فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ (22)
وها هو الأعمى يأتي النبي محمد وهو يسعى:
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَىٰ (8) وَهُوَ يَخْشَىٰ (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ (10)
مراد القول: لا أظن أن كل هؤلاء جاءوا بطريقة الطيران، ولكني أظنهم قد جاءوا يمشون على الأرض بطريقة السعي، وهي - في رأينا- الحركة على الأرض التي تكون أسرع من المشي العادي ولكنها أقل من الركض[4]، وأتخيل بالضبط طريقة مشي الطيور البيتية الداجنة التي تحاول السير بطريقة سريعة، فلا تصل إلى درجة أن تكون راكضة، ولكنها أكثر سرعة من المشي العادي. ففيها حث للخطى.
نتيجة مفتراة: إن الطيور التي ذبحها إبراهيم ووضع على كل جبل منهن جزءاً لم تكن من النوع الذي يطير بجناحية وإلا لجاءته تطير بجناحيها، ولكنها كانت من الطيور المدجّنة التي تسعى في الأرض فجاءته على تلك الشاكلة.
ثالثاً، لماذا كانت أربعة من الطير؟ لِم لَم تكن خمسة أو ثلاثة من الطير؟
رأينا: ولو تدبرنا السياق القرآني نفسه لربما خلصنا إلى إجابة على مثل هذا التساؤل:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ                                        البقرة (260)
لو تأملنا النص القرآني جيداً لوجدنا أن إبراهيم كان مأمورا أن يضع على كل جبل منهن جزءا، أليس كذلك؟
لهذا نحن نفتري القول أن عدد الطيور التي كان إبراهيم مأمور أن يصرهن إليه ويجعل على كل جبل منهن جزءاً كان أربعة جبال. فالمنطقة التي كان يتواجد فيها إبراهيم آنذاك هي منطقة محاطة بجبال أربعة، وهذا ينقلنا على الفور إلى دراسة جغرافية تلك المنطقة بالتفصيل، مبتدئين النقاش بالافتراء الخطير التالي:
افتراء من عند أنفسنا: إن المنطقة التي كان يتواجد فيها إبراهيم حينئذ هي المنطقة نفسها التي تواجد بها موسى من بعده، وهي نفسها المنطقة التي وضعت فيها مريم عيسى بن مريم، وهي نفسها التي أسري بمحمد ليلاً من المسجد الحرام إليها: إنها منطقة المسجد الأقصى.
وهذا الافتراء هو ما سنبدأ به الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيقه.
دعاء: فنسأل الله جلّ وعلى أن ينفذ كلمته بإرادته ومشيئته لي ولعلي الإحاطة بما لم يحط به غيرنا من علم، وأن يصطفينا بعلم من عنده لا يكون لغيرنا، فنسأله تعالى أن نعلم منه ما لا تعلمون، ونسأله أن يعلمنا الحق فلا نفتري عليه الكذب. إنه هو العليم الحكيم.

المدّكرون:        رشيد سليم الجراح
                   علي محمود سالم الشرمان
5 أيلول 2012
بقلم: د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن
 للتواصل مع الكاتب أرسل على بريده الإلكتروني التالي:
أو أنقر على صفحته الإلكترونية على العنوان التالي:







[1] انظر إلى تهجئة الكلمة قيد الدراسة في الآيتين السابقتين، ففي حين أن أحداهما جاءت بتاء مفتوحة (نِعْمَتَ) جاءت الأخرى بتاء مربوطة (نِعْمَةَ):
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ                  إبراهيم (34)
                وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ                                                                            النحل (18)
للتفصيل في هذه الجزئية انظر مقالاتنا تحت عنوان "علم اللغة" و "هل للغة العربية قدسية خاصة؟

[2] ونحن إذ نقرأ هذه الآية الكريمة لنستغرب أن تكون فتوى علماء المسلمين لمن قام بفعل الصيد وهو في حالة الإحرام أن يقوم بذبح شيء من الأنعام كالماعز أو الضأن أو البقر أو الإبل ككفارة عن ما فعل، فالآية الكريمة تدل بما لا لبس فيه أن الجزاء هو من مثل ما قتل من "النعم" (فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) وليس من الأنعام، فمادام أن النعم هي المقتولة التي تم اصطيادها، فكيف تكون الكفارة من الأنعام التي تكون مملوكة؟ أليست الكفارة من مثل ما قتل من النعم؟ فهل يمكن أن يعود الحاج المعتمر ببقرة أو ماعز أو شيء من الضأن أو الإبل ليدعي أنه قام باصطياده؟ فهل تصطاد تلك الكائنات اصطياداً؟
جواب: كلا وألف كلا، إننا نعتقد أن الإنعام هي كائنات مملوكة لا يمكن أن يتم اصطيادها، أما النعم فهي كائنات برية يمكن أن يتم اصطيادها، لذا فالكفارة تكون بمثل ما قتل من النعم، فأنت إن اصطدت أرنباً فكفارته بـ "مثل الأرنب"، وإن أنت اصطدت غزالاً فكفارته بـ "مثل الغزال"، وإن أنت اصطدت حماراً وحشياً، فكفارته بـ "مثل الحمار الوحشي، وهكذا، فكيف يتم ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الكفارة تكون على نحول "مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ"، وهذا – بكل تأكيد- لا يكون باصطياد نعم أخرى مثل التي قتلها المحرم لأن الحاج لا زال في مرحلة الإحرام، فكيف به أن يقوم بفعل القتل مرة أخرى، فإن هو فعل، فهذا يعني أنه يقوم بالاصطياد مرة أخرى وبالتالي الوقوع في المحظور من جديد، وهكذا. لذا نحن نفتري الظن أن الكفارة تكون بدفع قيمة المثل كما يحكم به ذوا عدل "فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ"، أي إن قام الحاج المحرم باصطياد أرنب بري مثلاً، فإن كفارة ذلك – في رأينا- لا تكون بأن يقوم باصطياد أرنب مثله، ولكن تكون بأن يقدر ذوا العدل قيمة ذلك الأرنب تقديرا (ويكون ذلك بالنقد أو بالطعام) يتم دفعه هدياً بالغ الكعبة أو لإطعام المساكين (أو الصيام إن تعذر دفع المثل).
والحكمة من ذلك - كما نظنها- تتمثل في أن تلك الثروة البرية (النعم) وإن لم تكن ملكية فردية لشخص بعينه إلا أنها ملكية خاصة لأهل تلك الديار التي يمر بها الحاج المحرم، ومادام أن الحجاج يأتون من كل فج عميق، فليس لهم الحق في التعدي على ممتلكات الآخرين، لذا إن قام الحاج المحرم بقتل شيء من تلك النعم، فعليه أن يدفع تعويضاً لأهل تلك المنطقة لأنه تعدّى على ممتلكاتهم، وخاصة لفقرائهم الذين غالباً ما يعتاشون على ما تجني أيديهم ورماحهم لتوفير قوتهم وقوت عيالهم.
ولكن - بالمقابل- نجد الرخصة بالنسبة لصيد البحر مفتوحة (حتى وقت الإحرام) وذلك لأن البحر في رأينا- ليس ملكية فردية لأحد وهو ليس ملكية خاصة لأهل منطقة معينة وإنما هو ملكية عامة للجميع، لذا عندما تقوم أنت باصطياد شيء من البحر، فأنت لا تعتدي على ملكية الآخرين، والله أعلم.

[3] فلقد استوقفتنا هذه الآية الكريمة طويلاً لأنها أثارت تساؤلاً كبيراً جداً يتعلق بعبارة "صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ"، فما هو صيد البحر وما هو طعامه؟ والأهم من ذلك في رأينا هو لِم لَم تأتي مفردة وَطَعَامُهُ مع صيد البر، فهناك صيد البر ولكن ليس هناك طعامه (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) كما الحال بالنسبة للبحر (صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ)؟ فما المقصود بعبارة وَطَعَامُهُ التي جاءت في سياق الحديث عن صيد البحر ولم تأتي في سياق الحديث عن صيد البر؟
رأينا: نحن نظن أن فهماً صحيحاً لهذا التركيب غير المتوازن بين سياق الحديث عن صيد البر من جهة وصيد البحر من جهة أخرى ربما تحل إشكالية عظيمة في الفكر الديني تخص كل ما يؤكل وما لا يؤكل من الكائنات الحية، ولكن كيف؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري القول أن كلمة الصيد التي وردت في هذه الآية هي المفتاح في هذا السياق القرآني الكريم، لأنها تدل على الفعل الذي نقوم به في البر والبحر، ففعل الصيد يقع في الحالتين في البحر وفي البر، ولكن في حين أنه يقع في البحر على كل ما فيه من كائنات حية، لا يقع فعل الصيد على كل الكائنات الحية المتواجدة في البر، فالصيد يقع على الفريسة التي يتم اصطيادها، لذا نحن نفتري الظن أن كل ما في البحر يمكن أن يكون فريسة، ولكن ليس كل ما في البر يمكن أن يكون فريسة، ولكن كيف؟
رأينا: لو تأملنا ما يجري في البحر لوجدنا أن الكائنات الموجودة في البحر تتغذى على بعضها البعض، فهناك الكائن المفترس (كالحوت مثلاً) وهناك الفريسة (كبقية الأسماك)، فالأسماك في البحر هي – دون أدنى شك- طعام للحيتان، ولكن العكس ليس صحيحاً، فالحيتان (مادامت حية) ليست طعاماً للأسماك الصغيرة، أليس كذلك؟ وهنا يأتي منطقنا الذي نحاول تسويقه على النحو التالي: لقد أحل الله لنا الفريسة والمفترس في البحر، وهو ما يمكن أن نفهمه نحن من عبارة (صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ)، فالآكل والمأكول من كائنات البحر يمكن أن نأكله.
ولكن الصورة ليست كذلك في البرية، حيث تكون بعض الكائنات الحية فريسة لغيرها ولكنها لا تفترس غيرها، فالغزال لا يفترس الأسد، ولكن الأسد يفترس الغزال، وهنا يأتي القانون الإلهي –كما نزعم- على نحو أن الله قد أحل لنا صيد البر فقط (أي الفريسة التي يمكن اصطيادها) ولكنّه لم يحل لنا طعامه، فالفريسة تكون طعاماً لحيوان مفترس (يقوم هو أيضاً كما نقوم نحن بفعل الصيد في البرية)، فنحن البشر وتلك الكائنات الحية المفترسة نبحث في البرية عن فريسة لنصطادها، لتكون طعام لنا وطعام لهم، والفائز بالجائزة هو من يسبق إليها، فالله لم يحل لنا من تكون تلك الفريسة طعاماً له (أي الحيوان المفترس كالأسد والنمر ونحوها)، ولكنه أحل لنا فريستها التي يمكن اصطيادها فقط، لذا جاء قول الحق على نحو (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا)، فما أن نفرغ من الإحرام حتى يصبح الصيد (أي الفريسة من تلك الكائنات) حلال أكلها، ولكن لا يجوز أن نأكل ما كانت تلك الفريسة طعام له. ولهذا ربما تصبح الصورة على نحو الافتراء التالي: لا يجوز أكل المفترس من الكائنات البرية لأنها ليست من النعم.
فنحن لا نأكل الكلب مثلاً لأنه ليس صيداً ولكن الصيد طعام له، فهو يقوم بفعل الصيد، وكذلك الحال بالنسبة للقطة (الهرة)، والأسد، والنمر، ونحوها. ولكن هذا لا ينطبق على الأرنب أو الغزال أو الحمار الوحشي ونحوها، فهذه كائنات يمكن أن تصطاد ولكنها لا تفترس غيرها، فغيرها من الكائنات الحية ليست طعاما لها. والله أعلم.
[4] وأظن أنها طريقة الحركة التي يقوم بها الحاج أو المعتمر بين الصفا والمروة.