والعلماء هم الظالمون (3)






هذه المقالة هي الثالثة في سلسة من المقالات التي تندرج تحت عنوان "والعلماء هم الظالمون"، أي أنهم من يعرفون الحق ولكنهم إما أن يلبسوا الحق بالباطل، أو أنهم يكتمون الحق، وهو بالضبط ما نفهم من النهي الإلهي الذي ورد في قوله تعالى:
          وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ                       البقرة (42)
وكان جلّ الاهتمام ينصبّ على أهمية الفتوى الدينية في توجيه مسيرة حياة الناس إلى جادة الصواب، وهي حق العامة على الخاصة، والعلماء لا شك هم من يتحمل تبعات الفتوى التي يسوّقونها للعامة على أنها مشتقة من أصول الدين. وقد خلصنا في مقالاتنا السابقة من الأمثلة التي قدّمناها أن المشكلة تكمن في الفتاوى المتضاربة التي غالباً ما تبهم ولا تجلّي الحقيقة، فيبيت حتى الحليم حيرانا، وقد خلصنا في نهاية مقالتنا السابقة إلى القول أنه من الخطأ –حسب رأينا- أن يظن البعض أن في عدم خروج العلماء بفتوى موحدة تبيّن للناس الحق من الباطل ربما يقع في باب اختلاف الرأي، ويكأن لسان حالهم يقول أنّ في اختلاف العلماء رحمة للأمة. ولقد رفضنا جملة وتفصيلاً مثل هذا الظن، وزعمنا أن هذا الاختلاف كان ولا زال من أهم الأسباب التي أبعدت الناس عن قبول الدين في حياتهم العملية، وقد كان هذا الشعار على الدوام هو الشعار الزائف (بل الأكذوبة) التي تم من خلالها تسويق وتمرير مئات (بل الآلاف) الأكاذيب على البسطاء من أبناء المسلمين،  فحتى يتم لكل  من يسمي نفسه عالما تسويق فكره (حتى وإن كان منحرفاً كـ فكري هذا مثلاً) كان لا بد أن يتسلح بهذه الفرضية الخاطئة، ونحن نظن أنها خاطئة لأننا نؤمن أن ليس لله طريقان، فالسبيل إلى الله هي سبيل واحدة، مصداقاً لقوله تعالى:
          قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
يوسف (108)
وقد دعونا القارئ في مقالاتنا السابقة إلى البحث عن السبيل الحقيقية، لكي لا توقع نفسك في شرك الذين يسمّون أنفسهم بالعلماء وما هم بأكثر من مرتزقة، يميلون حيث يميل هوى السلطان، فينفّذون له نزعاته وشهواته تحت غطاء الدين. وفي مقالتنا هذه سنحاول تقديم أمثلة جديدة لنبيّن أهمية الفتوى الصحيحة التي تعيد الأمة بأكملها إلى جادة الصواب، والأمثلة هي:
1.     الانضمام إلى الأحزاب
2.     جواز السفر
3.     الحج والعمرة
4.     انضمام الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي
ولكن قبل الخوض في مناقشة هذه القضايا، فإنني أعيد التأكيد على القارئ الكريم أن لا يقتنع بمثل هذه الهراء الذي نزعم، ونحن لا نطلب منه عدم الاقتناع بها فقط، لا بل نطالبه في الوقت ذاته أن يحاول إيجاد الهفوات والزلات لكي لا تكون حجة عليه إن طابق هواه ما جاء فيها، فهذه فتاوى لا تلزم سوى صاحبها (وقليل ممن ظنّ أنّ فيها شيئاً من الحق).

1.     الانضمام إلى الأحزاب
لقد شغل هذا الموضوع حيّزاً كبيراً في الحياة السياسية المعاصرة، وأخذ من النقاش ما لا يمكن تلخيصه أو حتى الوقوف على محطاته الرئيسية، ولمّا كان ما يعنينا هو شرعية مثل هذا الأمر كان الهدف هو تمحيصه من خلال الفتوى الدينية، فالسؤال المشروع الذي يجد الإنسان المسلم أنّ من حقه معرفته هو: هل يجيز الدين الانضمام إلى الأحزاب السياسية أو السياسية الدينية؟
ولمّا أصبحت كثير من الأحزاب السياسية تكتسب صبغة دينية، أصبح من البديهي الاعتقاد بشرعيتها، فها هم أهل الدين (وتجاره) يشكلون الأحزاب السياسية الدينية التي تتراوح بين أقصى اليمين (التطرف) وأقصى الشمال (الاعتدال) – (وبالمناسبة أنا لا أعرف لم توصف أحزاب اليمين بالتشدد والتطرف بينما توصف أحزاب اليسار بالاعتدال، فأنا أستخدم المصطلحات كما أسمعها من الإعلام حتى وإن لم أكن أفهمها، ربما لكي أظهر أني على درجة من الثقافة والمعرفة (حتى وإن كنت في واقع الحال لست أكثر من طبل أجوف أردد بصوت عال ما يدق عليه).
نعود إلى صلب الموضوع بالقول: هل التحزب أو الانضمام إلى الأحزاب أمر مباح في الشرع؟ ما يعنيني هو ليس تقديم فتوى ترشد الناس إلى جادة الصواب (لأنني ببساطة لست أهلاً لذلك)، وإنما جلّ اهتمامي هو وصف واقع الحال كما يمثّله علماء الإسلام والمسلمين، وندع لكل مسلم أن يتخذ السبيل الذي يظن أنها الحق.

أما بعد:
فجميعنا يعرف أنّ علماء المسلمين قد انقسموا إلى فسطاطين متضادين في هذا الموضوع: ففي حين أن بعضهم يبيح الأمر لا بل ويشجّع عليه، يجد آخرون أنّ التحزب مخالفة واضحة للشرع، وهنا يقع العامة (من مثلي) في حيص بيص، إلى من ينتمي: إلى من يبيح التحزب أم إلى من يحرّمه؟ والحالة هذه، فإننا نعيد السؤال نفسه الذي كررناه على الدوام في سلسة مقالاتنا هذه: أين يا ترى تكمن الحقيقة؟ هل هذا هو فعلاً ديننا؟ هل أصبح من المتعذر أن نجد في شريعتنا ما يهدينا إلى جادة الصواب ويجمع شمل الأمة على كلمة سواء؟
نحن على يقين أن السواد الأعظم من عامة أبناء المسلمين هم طلاب حقيقة، فهم على استعداد كامل أن يميلوا حيث تميل الحقيقة، ولكن -يا ترى- أين هي؟ هل هي مع الفريق أ أم مع الفريق ب؟ ثم، كيف لي أن أميّز؟
إننا نظن أن المسئول عن هذا التشرذم وهذه الحيرة هم العلماء الذين غالباً ما قسّموا الناس إلى طوائف وفرق بسبب زيف فتواهم. فنحن نظن أنه لو كانت النيّة خالصة لله، باحثة عن الحقيقة المطلقة، مجردة عن الرغبات والأجندة الخفية، لتوصلنا إلى الفتوى الصحيحة التي تسير بالأمة إلى بر الأمان. ولكن لمّا كان الهدف هو البحث عن أدلة تؤيد رأيي وموقف فرقتي وطائفتي، كان التذرع بالحجج الواهية الجانبية تقدم على أولويات الأمة بأكملها، فهمّ علماء طائفة معينة غالباً ما يقدّم على همّ الأمة جمعاء، ومصلحة شرذمة من الناس تسبق مصلحة الأمة كلها، لا لشيء وإنما لظنهم أنهم هم الفئة الناجية.
وسنبدأ من الحديث النبوي الذي غالباً ما يردده علماء المسلمين عن النبوءة في انقسام الأمة إلى بضع وسبعين شعبة كلها هالكة إلاّ واحدة، ففحوى الحديث النبوي هو:
انقسمت اليهود.......وانقسمت النصارى..............وستنقسم أمتي.............
فمن هم الفئة التي كان عليها محمد وصحبه؟
الجواب: كل فرقة وكل حزب من أحزاب الأمة يظنون أنهم هم تلك الفئة، أليس كذلك؟
ولكن -يا ترى- أين أنا وأنت منها؟ فأنا لا أنتمي لأي منها؟ هل يعني ذلك أني هالك لا محالة؟
رب، رب، رب.... أين أذهب؟ ,إلى من أنتسب؟
لا شك أنك ذاهب إلى جهنم وبئس المصير سيرد أهل السنة ما دمت أنك لست منا، وهكذا سيرد أهل التشيع ما دمت أنني لست منهم، وهكذا سيرد أهل التصوّف ..... وأهل.... وأهل.... .
لذا، دعني أصدق بعضكم وأنضمّ أليهم لأنجو، فها أنا أنضمّ لأهل السنّة مثلاً لأنها الكتلة الأكبر بين التكتلات الإسلامية، ولكن لا زال هناك مشكلة: إلى أي من فرق وأحزاب أهل السنّة سأتبع؟ هل كلها على حق؟ هل يسامحني الإخوان المسلمون لو أنني كنت تحريرياً؟ وهل سيغفر لي التحريريون لو كنت سلفياً؟ وهل سيظن بي السلفيون خيراً لو كنت سلفياً جهادياً؟ وهل سيأخذني الصوفيون في رحلتهم إلى الجنة لو لم أحضر في حياتي ندوة من أيام سمرهم الربانية؟!
إنّ هذا التوصيف لا ينطبق فقط على أهل السنّة، وإنما ينطبق كذلك على أهل التشيع، فإلى أي فرقة وإلى أي حزب شيعي يجب أن أنتمي لكي ينتهي بي المطاف إلى جنات الخلد؟ ومن هم الذين يملكون مفتاح الجنة ويخفونه عن غيرهم؟ سيرد الجميع قائلاً (وإن لم ينطقها صراحة): لا شك أنا هو من تبحث عنه. فنحن نتحدى أن يظن أي من هذه الفرق والأحزاب أنه على خطأ، فمن الخطأ أن يظن البعض أن الفريق الآخر يعتقد أنه متمسكاً بفرقته وبحزبه مخطئاً، فلا شك أن كل فريق وكل حزب يظن أنه الفرقة الناجية؟ فأين -يا ترى- تكمن الحقيقة؟
فعلى أقل تقدير، أنا لا أعرف، ولو كنت أعرف لما تأخرت لحظة واحدة عن اللحاق بذاك الركب، ومن يظن أنه يعرف أسأله الله أن يدلّني.
فغالباً ما سوّق أهل العلم مبدأ الحاجة إلى التمسك بالمذهب والطائفة، ووصل الأمر أن ناصب بعضهم العداء بعضا، فها هو عالم جليل وقور ذو عمامة بيضاء يخرج على فضائيات المسلمين ليقول أن اليهود أقل خطراً على الإسلام من أهل التشيع، وها هو ذو عمامة سوداء يخرج على فضائيات الإسلام والمسلمين فلا يتردد في القول أن الجنّة لا يدخلها إلا من اتخذ علياً وليّا. وها هم من يسمّون بالمعتدلين يكفرون الجهاديين، وها هم الجهاديون لا يرون في المعتدلين إلاّ متخاذلين منافقين متخلفين عن الجهاد كالذين تخلفوا عن اللحاق بالنبي في تبوك. فأين -يا ترى- تكمن الحقيقة؟ ومن أوصل الناس إلى هذا المأزق؟ إنهم العلماء ولا أحد غير العلماء الذين فرّقوا الأمة، ولم يجمعوا شملها على كلمة سواء.

الدليل
لقد وجّه الله المسلمين أن يبسطوا أيديهم لليهود والنصارى إلى كلمة سواء، قال تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ    آل عمران (64)
فإذا كانت هذه الدعوة موجّهة لغير المسلمين، ألم يكن الأولى أن يوجه علماء المسلمين مثل هذه الدعوة إلى أبناء المسلمين على كافة فرقهم وأحزابهم؟ لم لا نلبي دعوة الله فنعود جميعاً إلى كلمة سواء بيننا؟ الجواب كلا، لأن الله قد حسم الأمر في قوله تعالى:
          فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ                              المؤمنون (53)
وكانت النتيجة المرعبة تتمثل في قول الحق تعالى:
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)                                            الروم
أليست تلك إذاً هي حال المسلمين؟ ألم نصبح كالمشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون؟ أليس في هذا نهي من الله أن نفرّق ديننا، لا لشيء وإنما لظننا أننا نحن على صواب وغيرنا على خطأ؟
إنني أتحدى أن ينبري من علماء الفرق من يقول أن حزبي أو فرقتي على خطأ، أو أن يحاول إيجاد الخلل في ما يتبنى من أفكار وأطروحات.
لقد كان ظن كثير من علماء المسلمين أن في التحزب توحيد للصف، وطريق لتوحيد الجهود التي يمكن أن تكون عامل ضغط في طريق توجيه المسيرة، فغالباً ما ظن الكثيرون أن اليد الواحدة لا تصفق، ولا بد من تكاتف الأيدي مع بعضها لإحداث التغير، فظنوا أن التحزب هو الطريق إلى ذلك، ولكن ها هي الثورات العربية الحديثة التي بدأت تؤتي أكلها في بداية عام 2011 تثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك بطلان وزيف وكذب دعواهم تلك، فلقد ظن أهل السياسية وكثير من أهل الدين أن الأحزاب هي طريق وسبيل التغيير، ولكننا نرى أن التغيير الذي حصل بسبب تلك الثورات كان ينأ بنفسه عن الأحزاب والتحزب، لا بل فقد كانت الأحزاب عبئاً على تلك الثورات، وكان من أهم أهداف ووسائل الثائرين أن يثبتوا للأنظمة الحاكمة (وللعالم أجمع) أن تلك الثورات لم تكن من صنيعة الأحزاب، وإنما هي ثورات شعبية حقيقية قام بها من ليس لهم صلة بالأحزاب من قريب أو بعيد، وحاولت الأحزاب أن تنأ بنفسها عن تلك الثورات لكي تتيح لها فرصة النجاح، وبكلمات بسيطة لقد أصبحت الأحزاب (التي كان يظن أنها أداة تغيير) عبئاً على التغيير. وحاولت الأنظمة الحاكمة التي تحاول إجهاض تلك الثورات إلصاق التهم بها، وما كان أفضل من تهمة التحزب ليتسلحوا بها ضد كل من ثار ضدهم. فأين يا ترى فائدة تلك الأحزاب؟
وأنا على يقين بأن ألد أعداء تلك الثورات في المستقبل هي الأحزاب نفسها، فنحن نتنبأ أن فشل تلك الثورات ستكون على يد الأحزاب التي ستحاول ركوب الموج بعد نجاح تلك الثورات، لتحاول تسخيرها لمصلحتها، وعندها سينشب الصراع بين تلك الأحزاب، الصراع الذي سيزيد في تفتيت الأمة، ونحن نتنبأ أن الصراع الأكبر سيكون بين الأحزاب التي تتخذ طابعاً دينيا مع الأحزاب ذات الصبغة العلمانية، فسيرفض كل طرف منهم أطروحات وبرامج الطرف الآخر، وسيمتد الصراع بعد ذاك إلى داخل الفريق الواحد، فستتنافس الأحزاب مع بعضها البعض، ولكن المحزن في الأمر أن الذين لا يجيدون اللعبة سيدخلون الملعب بكل عشوائية وفوضى، ولا أخال أن العقل المسلم يستطيع أن يتقن لعبة الأحزاب والتحزب والتي هي في الأساس صنيعة الفكر الغربي الذي رضي أن يضع الدين على الرف في لعبة السياسة.
ثم، ألا ترى بأن انضمامك إلى حزب ما (بغض النظر عن ماهيته وتوجهاته) ستدفع بالآخرين لتشكيل أحزاب منافسة لك؟ فهل تظن أن الآخرين سيرون أنك تتحزب ويقفون صامتين؟ فهل تعتقد أن أهل السنة في العراق مثلاً سيقفون مكتفي الأيدي إن ظهرت التكتلات الشيعية؟ وهل ستظن أن أهل الشيعة سيبقون صامتين أمام الأحزاب السنّيّة المنادية إلى الوقوف صفاً لمواجهة خطر الفرق الأخرى؟


جواز السفر
لقد برز جواز السفر في القرن العشرين كوثيقة عالمية تتيح التنقل بين الكينونات السياسية، وأخذت كل دولة تصدر جواز السفر لرعاياها الراغبين بالتنقل من دولة إلى أخرى، وأصبح جواز السفر هو الوثيقة الرسمية التي تثبت للشخص حق مواطنته في أي دولة من دول العالم، فمن يحمل جواز السفر الأردني فهو مواطن أردني يتمتع بكامل حقوق وواجبات المواطنة لهذا البلد، ومن حمل جواز السفر الفرنسي، فهو بلا شك ملتزم لتلك الدولة بالمواطنة، وهكذا.
وقد سمحت قوانين بعض الكينونات السياسية بازدواج الجنسية ومنعتها كينونات أخرى، فمن يحمل جواز السفر الأمريكي مثلاً يستطيع أن يحمل غيره، ولكن لا يستطيع من كان نمساوياً حسب جواز سفره أن يكون مصرياً في الوقت ذاته، وهكذا
ولمّا كانت بلاد الإسلام والمسلمين كيانات سياسية متعددة أصدرت كل دولة من تلك الدول جواز سفر خاص بها، فالعراقي يحمل جواز سفر عراقي، والمغربي يحمل جواز سفر المغرب، والقطري يحمل جواز سفر قطري، وهكذا، وغالباً ما منعت كثير من هذه الدول ازدواج الجنسية بين بعضها البعض.
وفي خضم هذا التنوع الكبير برزت مشكلة خاصة بمجموعة من الناس وهم الفلسطينيون، الذين لم تتولد لهم إلى هذه اللحظة دولة خاصة بهم تصدر لهم وثيقة تسمى بجواز السفر الفلسطيني، وهنا أخذ الفلسطينيون الذين شرّدوا من ديارهم إلى البلدان الأخرى البحث عن تلك الهوية المتمثلة بتلك الوثيقة التي تسمى جواز السفر. وكان الهدف على الدوام هو البحث عن مخرج لهم يسهّل عليهم عملية التنقل بين الدول، فمن غير الممكن الدخول والخروج من وإلى كينونات سياسية مختلفة (أو ما يسمى بالدول) دون تلك الوثيقة، فبرزت الحاجة ملحّة أن يبحث فلسطينيو الشتات عن وثيقة تمكنهم من الانتقال بين البلدان المختلفة، فحاول كل منهم الحصول على جواز سفر الدولة التي استقر به الأمر فيها. فمن يسكن منهم في الأردن حصل على الجواز الأردني ومن سكن منهم في لبنان حصل على الجواز اللبناني ومن ذهب إلى الأرجنتين حصل على جواز سفر تلك الدولة، ولكن الأمر لم يكن على الدوام بتلك السهولة، ولم تحل مشكلة جميع الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم خارج حدود فلسطين، فلا زال الكثيرون منهم لا يحملون ذلك الجواز، وكثير منهم يحمل وثيقة مؤقتة، وهكذا.
السؤال: هل يجوز شرعاً للفلسطيني الحصول على جواز سفر الدولة التي استقر بها؟
الجواب: لا.
لقد كانت حجة الفلسطينيين الكبرى ضد اليهود الذين احتلوا أرضهم واستولوا عليها بالقوة هي أن أولئك اليهود هم مواطنون جاءوا من دول أخرى ويحملون جنسيات تلك الدول متمثلة بجوازات سفرهم، فمنهم الروسي والبولندي والألماني والفرنسي والأمريكي والعراقي والإيراني واليمني والسوري وغيرهم، قدموا إلى تلك الأرض واحتلوها بالقوة، وأخرجوا أصحاب الأرض من ديارهم، وها هم اليهود يماطلون في المفاوضات وخاصة فيما يتعلق بحق العودة –على ما أظن- إلى اليوم الذي لا يبقى فيه فلسطيني واحد ممن هجّر من أرضه على قيد الحياة، ويكون كل فلسطيني على وجه المعمورة قد ولد على تراب دولة أخرى ويحمل جواز سفرها، عندها سينبري اليهود للقول للعالم أن هؤلاء الفلسطينيين هم مواطنون أردنيون وسوريون ولبنانيون وكويتيون وأرجنتينيون وألمان وفرنسيين وكنديين، ...الخ، ونحن هذا الجيل من اليهود من ولد على تراب هذه الأرض ومن يحمل جواز سفرها، فأي يحق يدعيه هذا الفلسطيني الذي لم يعش يوماً واحدا على تراب هذه الأرض؟ عندها ستتساوى حجة الطرفين، ليعود كل منهم إلا حجة الإرث التاريخي، وعندها ستكون حجة اليهود أقوى من حجة الفلسطينيين ما داموا أنهم (أي الفلسطينيون) لم يولدوا على تراب تلك الأرض ومادام أنهم يحملون جوازات سفر بلدان أخرى.
إن نقطة القوة التي كانت تدافع عن الحق الفلسطيني ستنقلب مع مرور الزمن إلى نقطة ضعف لهم ونقطة قوة لعدوهم الذي اغتصب أرضهم، لقد كان الأولى بكل فلسطيني يعيش في أي مكان على وجه المعمورة أن لا يرضى بجواز سفر غير جواز السفر الفلسطيني، إن في قبوله لجواز سفر إي دولة أخرى إهدار لحقه في مواطنته الفلسطينية.
وقد يرد البعض بالقول على الفور: لقد كان الفلسطينيون بحاجة إلى جواز سفر للتنقل، فذاك مما أملته الظروف وواقع الحال، فنقول لا ريب في ذلك، ولكن كان الأجدر بجامعة الدول العربية، والأجدر بالحكومات العربية، والأجدر بمن فرض نفسه ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني أن يدرك الحاجة إلى إصدار وثيقة خاصة بالشعب الفلسطيني تبيّن هويته وانتماءه، وعندها لن يستطيع العالم بأكمله أن يمنع شعباً كاملاً من التنقل، ولكنه سيقبل بتلك الوثيقة كواقع حال. وستبقى القضية الفلسطينية والمواطنة الفلسطينية على وجه التحديد حيّة غير قابلة للمساومة، ولكن لما قبل الكثير الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني هوية وجنسية غير جنسيته الفلسطينية، سيطلب منه العالم بعد ذلك تحمل تبعات هذا الخيار، ولا أظن أن أي مفاوضات للسلام -كما يزعموا- ستفضي إلى حق العودة لمن يحمل جنسية غير الجنسية الفلسطينية، ويستطيع المفاوض اليهودي والأمريكي والغربي القيام بذلك بكل سهولة ويسر على النحو التالي: القبول بالدولة الفلسطينية التي لا تسمح قوانينها ودستورها بحق ازدواج الجنسية، ولو راقبنا ما يعمل الكيان الصهيوني لوجدنا أن ذلك واضح في أجندته، فهو يحاول بكل الوسائل وشتى الطرق إصدار التشريعات التي تتيح نزع الجنسية عن العدد الأكبر من الفلسطينيين، لتكون تلك نقطة مساومة مع الطرف الآخر.
فأنت كفلسطيني لا يحق لك أن تحوز كل شيء مرة واحدة، فسيأتي اليوم الذي ترى فيه كيف أن حيازتك على هوية غيرك قد أضاعت حقك (وربما حق أبناءك من بعدك) في فلسطينيتك، ألم يكن الأجدر بك أن تتمسك بهويتك بدلاً من المطالبة بهوية غيرك؟ وما دمت أنك قد قبلت أنت بهوية غيرك، فهل تعتقد أن أبناءك سيتنازلون عن هويتهم الجديدة؟ وهل سيقبل العالم بعد ذلك أن تجتمع كل تلك الهويات على أرض فلسطين مرة أخرى كما فعل مع اليهود من ذي قبل؟!
 
ولكن يبقى هناك سؤال آخر يخص المسلمين بشكل عام وليس فقط الفلسطينيين الذين هجّروا من أوطانهم، والسؤال هو: هل يجوز للمسلم استخدام جواز السفر في التنقل من بلد إلى آخر؟
إننا نظن أن الجواب هو: نعم ولا
لذا يجب تفصيل السؤال بشكل أكثر دقة على النحو التالي:
هل يجوز للمسلم استخدام جواز السفر للتنقل بين الدول العربية الإسلامية؟
الجواب: لا
هل يجوز للمسلم استخدام جواز السفر للتنقل بين الدولة المسلمة والدولة غير المسلمة؟
الجواب: نعم

إننا نظن أن الجواب على السؤال الأول (هل يجوز للمسلم استخدام جواز السفر للتنقل بين الدول الإسلامية؟) هو النفي قطعاً. إننا نؤمن إيمانا راسخاً أن التنقل بين الدول العربية والإسلامية باستخدام وثيقة جواز السفر أمر لا يقبله الشرع، وفي هذا كلام غاية في الغرابة والخطورة، لما يترتّب عليه من عواقب قد تصل إلى درجة الكارثية في بعض الأحيان. ولكن قبل التسرع للحكم على مثل هذا الزعم، فإننا نطلب منحنا فسحة من الوقت لتبيان الأصل العقائدي لمثل هذا الظن.

أما بعد:
لعل الجميع يدرك أن للشريعة مقاصد، وقد أفرد العلماء فصولاً في مؤلفاتهم وفي فقهم لموضوع مقاصد الشريعة، وبكلمات بسيطة جداً فإن هذا الفرع من العلم الشرعي يبحث في ماهية التحليل والتحريم: لم يحرم هذا ويحلّ ذاك، وتبيان أثر ذلك على حياة المسلم أولاً، وحياة الناس كافة من بعد ذلك.
وللعامة حق ودين في أعناق العلماء أن يبينوا لهم مقاصد الشرع فيما حرم عليهم وأحل لهم، فإن أنت تحدثت عن تعدد الزوجات كان لزاماً أن يفهم الناس مقاصد الشريعة في ذلك، وإن أنت تحدثت عن ما يؤكل وما لا يؤكل كان لزاماً أن يفهم الناس الغاية والهدف من وراء ذلك، وهكذا.
والخوف كل الخوف أن كثيراً من الناس ظن أن الحلال والحرام يكمن فقط في العبادات وطريقة تأديتها وفي المعاملات البسيطة، ونسوا أن هذا الدين هو منهج حياة, وحتمية أن يعرض كل أمر في حياة المسلم على الدين، فإن أجازه الدين فله ذلك، وإن منعه فعليه أن يحذر منه ويبتعد عنه، فالحرام والحلال لا يقتصر على أحكام الحيض والنفاس والمسح على الخفين فقط، , ولكنه يخص أمور المسلمين جميعاً دون استثناء، وإن صحّ هذا الزعم، فلا ضير إذاً أن نطرح أسئلة مثل:
ما رأي الدين في إصدار وثيقة تسمى بجواز السفر؟
الجواب: لا ضير في ذلك
ثم، هل نستخدم جواز السفر للتنقل بين دول الإسلامية وغير الإسلامية؟
الجواب: نعم
لكن، هل يجوز استخدام جواز السفر للتنقل بين الدول الإسلامية؟
الجواب: لا
ولكن لماذا؟
الرأي: ما دام أن جواز السفر هو وثيقة للتنقل بين الدول، فإن ذلك مما ينظم حياة الناس، ويسهل عليهم، ويضبط حركة الانتقال لتكون سلسة مرنة، ينتج عنها المصلحة للبشرية جمعاء، فبغير تلك الوثيقة ربما تعم الفوضى ويكثر الخراب، وتصعب حياة الناس، لذا فمقصد الشريعة واضح لا لبس فيه، أليس كذلك؟
- ولكن لما لا يجوز استخدام جواز السفر في التنقل بين الدول الإسلامية؟ ألا ينظم ذلك حركة الانتقال ويسهل حياة الناس؟
- بلى، هو كذلك،
- إذاً، أين تكمن المشكلة؟
إننا نعتقد أنه في الوقت الذي ينظم استخدام جواز السفر حركة الناس  بين الدول العربية والإسلامية ويضبطها ويحقق مقصد من مقاصد الشريعة ألاّ أنه يحدث ضرراً أكبر من ذلك بكثير، ولا شك أنّ القاعدة الشرعية التي أختطها العلماء منهجاً في فتواهم تتلخص بالمقولة التالية:
در المفاسد أولى من جلب المصالح
وبكلمات بسيطة فإننا نزعم القول أنه إذا كان استخدام جواز السفر بين الدول الإسلامية يحقق مصلحة، فهو في الوقت ذاته يجلب مفسدة أكبر من المصلحة التي يحققها.
- ولكن كيف؟
لعل الجميع يجزم أن حيازتك جواز السفر الأردني أو السوري أو اللبناني أو المصري يعني أنك تنتمي إلى ذاك الكيان السياسي، وتقبل به كواقع حال، أليس كذلك؟
فأنت عندما تسافر من مصر إلى أمريكا مثلاً فأنت – بلا شك- بحاجة أن تستخدم جواز سفرك المصري، وعندما تدخل حدود تلك الدولة الأجنبية يقوم الموظف المسئول على الحدود في تلك الدولة بختم جواز سفرك بالختم الأمريكي، لتقر بأنك قد دخلت كياناً سياسياً جديداً، أليس كذلك؟
إذاً فأنت بهذه الطريقة تقبل أن تتعامل مع الدولة المضيفة لك ككيان سياسي يتمتع بمواصفات الدولة، التي يجب الاعتراف بها والتعامل معها على تلك الشاكلة.
والآن لنتخيل نفس الموقف بين الدول العربية والإسلامية على النحو التالي: فلو كنت تحمل جواز السفر المصري ودخلت الحدود الأردنية، ألا يقوم موظف الحدود الأردني بختم جواز سفرك المصري بالختم الأردني كما فعل موظف الحدود الأمريكي من ذي قبل؟ إذاً أنت (كحامل لجواز السفر المصري) تتعامل مع الكيان الأردني كتعاملك مع الكيان الأمريكي، وقبولك بالختم الأردني يعني اعترافك بهذا الكيان السياسي كدولة تتمتع بمواصفات الدولة التي يجب الاعتراف بها والتعامل معها على تلك الشاكلة، أليس كذلك؟
والحالة هذه، دعني أسأل من يقبل بالفكر الإسلامي كدستور حياة سؤالاً واحداً فقط وهو: هل فعلاً تعترف بالأردن كدولة تتمتع بكامل مواصفات الدولة التي يجب الاعتراف بها والتعامل معها على تلك الشاكلة؟ هل تقر بأن الدولة الأردنية هي دولة مستقلة يجب أن تعاملك كما يعملك الأمريكان أو الأوربيون أو الصينيون أو الهنود؟ وهذا السؤال يطرح بخصوص جميع الكيانات السياسية من شرق العالم الإسلامي إلى غربه، هل فعلاً تشكل هذه الحارات والمزارع التي اقتطعتها عائلات حاكمة وأورثتها لأبنائها، وثبّتت حدودها اتفاقيات سيكس بيكو ومعاهدات سان لوران ووعود بلفور وغيره كدول ذات سيادة واستقلال؟
إن في قبولك أن يختم جواز سفرك بالختم الأردني أو اللبناني أو العراقي أو اليمني أو البحريني أو السعودي، الخ. هو إقرار منك باستقلالية تلك الكيانات السياسية؟
لذا فإنني أدعو علماء المسلمين جميعاً للإجابة على سؤال واحد وهو: هل تضفون الشرعية الدينية على هذه الكيانات السياسية؟ هل تقر كمسلم باستقلالية هذه الدول كل على حدوده التي رسمت له؟ هل تقر بالتقسيم السياسي لبلاد الإسلام كما هو عليه الآن؟
والآن لنتخيل ما كانت ستعمل فتوى شرعية مثل هذه بحال وواقع الأمة الإسلامية السياسي، إن أقل ما كان لمثل هذه الفتاوى أن تحدث في العالم الإسلامي هو إيصال رسالة إلى هذه العائلات والأنظمة الحاكمة التي نهبت البلاد وأذلت العباد أننا كمسلمين –وإن كنا مجبرين أن نتعامل مع ظرف واقع فإننا في الوقت ذاته- لا نؤمن به ولا نقره في شرعنا، وقد كان بإمكان أبناء المسلمين تطبيق ذاك بكل يسر وسهوله، فمن أراد من أبناء الثراء الذهاب في النزهات والرحلات فلا يحتاج إلى جبال لبنان وخضراء تونس وحسناوات الشام والمغرب، فهناك البديل في اليونان وقبرص ورومانيا وروسيا، ومن أراد من أصحاب العلم والاختصاص حضور المؤتمرات العلمية، فلا حاجة له بالأردن والعراق ومصر، فهناك الكثير منها في بريطانيا وكندا وأمريكيا، ومن أراد التجارة فلا حاجة له بدبي والدوحة، فهناك الفرص الأكبر في بانكوك وبكين وسيؤول، وليفهم المحتل الأجنبي والغاصب المحلي أن هذه الأرض ليست مزرعة أبيه يدخل فيها من يشاء ويحرمها على من يشاء.
ولعلنا نزعم أن لمثل هذه الفتوى تبعاتها التي ربما تصل إلى درجة الكارثية منها مثل أحكام تتعلق بالعمرة والحج والجهاد وسنتناولها بالتفصيل واحدة بعد الأخرى.

رحلة العمرة والحج
إذا كانت عقيدة السادة العلماء أصحاب الفكر الديني الإسلامي تتمثل في الظن أن بلاد الإسلام هي بلاد واحدة كما تغنوا بذلك صباح مساء على كل منبر للخطابة وعلى كل شاشة في فضاء هذا الكون الفسيح، وأن التقسيم الحاصل على أرض الواقع هو صنيعة غربية بامتياز لا يجب أن نقر بها، فإنني أظن أن من أبسط تبعات هذا الظن هو أن الله قد أسقط عني فريضة الحج والعمرة والجهاد.
- ولكن كيف؟
أما بالنسبة للعمرة، فغالباً ما دعاني أصحابي إلى الذهاب معهم في رحلة عمرة إلى بيت الله الحرام، وألحّ عليّ الأهل في ذلك، وأنكروا عليّ موقفي الثابت منذ سنين بأني لا أنوي العمرة إطلاقا، وظنوا أنما اسقط بهذا الفعل سنّة من سنن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الوقت الذي لا أحاول الدفاع عن موقفي معهم، ولا أحاول أن أثنيهم عن عملهم (لاحتمال خطأ ظني وصدق فعلهم)، إلاّ أنني لم أستطع الاقتناع بصحة القيام بأداء سنة العمرة كلما حاولت إقناع نفسي بذلك. أما السبب الذي دائماً ما كان يثنيني عن القيام بمثل هذا العمل الديني (مع توافر القدرة المادية والجسمية لدي) يتمثل في أنني إذا ما ذهبت في رحلة العمرة فإنني سأضطر للوقوف على الحدود الأردنية السعودية أو في واحدة من المطارات السعودية، وسيطلب مني الموظف المسئول إبراز جواز سفري (الذي استخدمه في الترحال بين الكينونات السياسية المستقلة) ليختمه بالختم السعودي، وعندها سيكون ذلك بمثابة إقرار مني باستقلالية تلك المنطقة الجغرافية تحت المسمى المتعارف عليه بين الناس بالمملكة العربية السعودية. وما دمت أنني أظن أن من واجبي الديني هو عدم الاعتراف بذاك الكيان (ولا بغيره من الكيانات الأخرى من بلاد الإسلام والمسلمين وعلى رأسهم البلد الذي أنتمي إليه وهو الأردن) كدولة مستقلة، فإنني عندها سأرفض أن يدمغ جواز سفري بذاك الختم السعودي، وعندها لا أظن أنهم سيخلّون سبيلي إلى العمرة. وهنا سأقع في هذا المفترق: أيهما أولى الالتزام به: أداء مناسك العمرة وقبول الاعتراف بالدولة السعودية أم الكف عن أداء مناسك العمرة وعدم الاعتراف بالدولة السعودية؟
- أما أنا فقد اخترت الطريق الثانية ما دام أن العمرة ليست فرضاً على المسلم!!!

رحلة الحج
-        ولكن ماذا بالنسبة لرحلة الحج؟ أليس الحج فرض وركن من أركان الدين؟
-        أيهما أولى القيام بالحج مع الاعتراف بالدولة السعودية أم الكف عن الحج مع عدم الاعتراف بالدولة السعودية؟
الجواب: لا زال أمامي متسع من الوقت لاتخاذ القرار، فانا لازلت في العقد الرابع من العمر، ولست ملزماً بالحج – كمواطن أحمل جواز السفر الأردني- إلا بعد انقضاء النصف الأول من العقد السادس من العمر على أقل تقدير. فالحج في الأردن (على غير ذلك في كثير من بقاع الأرض الأخرى) يتم على الدور، ففي كل عام يتقدم من يريد الحج إلى وزارة الأوقاف الأردنية، ليتم التنافس الشريف بين المتقدمين، ويفوز بالجائزة من ينتمي إلى واحد من فريقين:
-        الفريق الأقدم في العمر
-        الفريق الأقدر على سلوك الطرق الملتوية.
أما بالنسبة للفريق الأول وهو الأقدم في العمر، فذاك أمر واضح من شهادة الولادة، ولا أعتقد أن الذي لم يتجاوز بداية العقد السادس من العمر يمكن أن يقع عليه الاختيار، فعادة ما يكون ذلك معلناً للجميع، فتخرج الوزارة بالقرار التالي: وقع الاختيار على من ولد قبل عام 1943 لهذا العام، وهكذا.
ولكن هناك طريقة أخرى غالباً ما يسلكها أهل النفوذ في البلاد، وهي الفوز بـ فيزة الحج بطرق أخرى، كالواسطة أو المنحة أو الهبة، وهكذا، فيذهب هؤلاء النفر للحج (لأداء ركن من أركان الدين) وهم مطمئنون أنهم لم يأكلوا حق غيرهم، ويعودوا وقد اغتسلوا من ذنوبهم كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، والحمد لله!
ولكن، ألم يسأل هؤلاء النفر أنفسهم السؤال التالي: كيف لي أن أقوم بتأدية ركن من أركان هذا الدين بطريقة ملتوية؟ هل يجوز لي ذلك؟ هل يجوز أن اغتصب حق غيري لأتعجل بأداء هذه الفريضة؟ ألم تكن تلك الفيزا التي حصلت عليها من حق شخص آخر ممن بلغ من العمر ما بلغ وربما تسبقه المنية ولا يشهد العام القادم ليتقدم للمنافسة من جديد على تلك الجائزة؟
ثم، هل لو لم تكن وزيراً أو نائباً في البرلمان أو صاحب نفوذ أو واسطة، هل كنت ستتمكن من الحصول على تلك الفيزا، فهل كانت تلك الفيزا ستصلك لو جلست في بيت أبيك ولم تستغل منصبك وموقعك؟!
ثم ألم يسأل من يسمي نفسه وزير الأوقاف وطاقم وزارته أنفسهم السؤال التالي: لم يذهبون في كل عام لأداء مناسك الحج مع بعثة الحج الأردنية؟ ألم يكن الأولى بهم أن يتركوا تلك المقاعد لمن هرم وهو ينتظر دوره؟ ولم يأخذوا البدلات والمكافآت على رفقتهم لقافلة الحج؟ وعلى حساب من كل ذلك؟ أليست العمرة بمئتين من الدنانير الأردنية؟ لم يصبح الحج بألفين؟! أليس ذلك من جيوب المساكين والفقراء الذين أمضوا العمر يوفرون لهذا الرحلة؟ وما هي إلا أيام لتنتقل تلك الثروة العظيمة (في نظر الفقير) إلى فتات من المال (في جيوب المرتزقة ممن يرافقون بعثت الحج كمسئولين).
- لا لا لا، الأمر ليس كذلك، فهؤلاء الموظفون يقومون بواجب عظيم في تسهيل أمر الحجاج
- آه لقد غفلت عن ذلك، ولكن الجميع مدعوين لسؤال من حظي بشرف صحبة الوزير في السنوات السابقة عن التسهيلات العظيمة التي وفرتها لهم رفقة معاليه وصحبه.
نعود إلى صلب الموضوع بالقول أني لن أختار الطرق الملتوية للقيام بأداء ركن من أركان الدين، ولو عرضت عليّ فيزة الحج في كل عام لما قبلتها وسأنتظر دوري على القائمة، فإن أبقاني الله حياً حتى ذلك التاريخ (أي يوم أن يتم اختياري بناءً على عمري) فسأتقدم بالاستدعاء التالية لسفارة السعودية معلناً عن رغبتي في أداء فريضة الحج كركن من أركان الدين:

نص الاستدعاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على من اتبع الهدى،
أما بعد،
الموضوع: طلب أداء فريضة الحج
فلما كنت أنا المدعو رشيد سليم الجراح لا اعترف بكم ككيان سياسي مستقل ولا أؤمن بجواز تقديم جواز سفري لكم لكي يختم بإذن الدخول من حكومتكم إلى أرض الحجاز لدواع شرعيّة، فإنني أتقدم بطلبي هذا لتخلوا سبيلي إلى ذلك دون تقديم هذه الوثائق، فان رفضتم فإني أحملّكم المسؤولية المترتبة على عدم قيامي بأداء هذا الواجب الديني أمام الله يوم الحساب الأكبر، وإن أخليتم سبيلي وما أنا مقدم عليه فتلك ليست منّة منكم بل هو حقي أنتزعه بحق الله وحق رسوله وحق هذا الدين.
                                                          تحريراً بتاريخ --------------
                                                                   الموافق --------------

أما لمن أراد أن يفهم الدافع الشرعي من وراء ذلك، فأقول أن الله قد جعل البيت الحرام قياماً للناس، وليس لأحد حق فيه يمارسه علينا كمسلمين، فالمسلم لا يطلب من مسلم إذن في حق له، فلِمَ نطلب نحن منكم الأذن بالحج بينما لا تطلبوه أنتم منّا؟ هل لأنّ بعير أجدادكم قد ناخ واستراح في تلك الأرض يجعل لكم الفضل به علينا؟ ولكن ألم يستهم بعير أجدادنا فمضى في طريقه إلى الجهاد والفتح؟ هل من الدين أن يُمنَع من خرج أجداده في طريق الفتح أداء فريضة الحج إلا بإذن من ناخ بعير أجداده وتقاعص عن الجهاد؟!

الجهاد
يطربنا أهل الفضائيات صباح مساء بخطبهم عن الأمة الإسلامية كأمة واحدة ذات رسالة خالدة كما أطربنا بها القوميون في شعاراتهم على مدار قرن من الزمن.
ولكن المفارقة أن الإسلاميين يستندون إلى مرجعية عقائدية في تصوراتهم، فهم يعتقدوا أن في هذا الظن سلوكاّ دينياً يتلخص بما جاء في قول الله تعالى:
          إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
لذا، فعندما يطرق موضوع الجهاد، ينبري أصحاب العمامات البيضاء والسوداء جميعاً للاستشهاد بالحديث النبوي التالي الذي فحواه:
          إذا احتل شبر من أرض المسلمين، بات الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة
فيلبي كثير من المسلمين النداء ظانين أن هذا واجب ديني تفرضه الشريعة، فقد خرجوا للجهاد متسلحين بهذا الحديث حتى لو كان ذلك في بلاد الشيشان أو أفغانستان أو فلسطين أو البوسنة أو الهرسك، وهكذا.
أما أنا فأظن أن موقفي يتلخص بما يلي: لا بد من تعطيل هذا الحديث في الوقت الراهن حتى يتم تصويب الأمر، وإن استمر الحال على ما هو عليه فلا أظن أني ملزم أن أجاهد في أي معركة من هذه المعارك.
-        ولكن لماذا؟
- الجواب: غالباً ما تسلح العلماء بالدين للدفاع عن مواقفهم، وهم لا شك ممن يدعون إلى تحكيم شرع الله والاحتكام إليه في كل صغيرة وكبيرة، وهاديهم في هذا قول الحق:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا                                النساء (65)
والعلماء لا يختلفوا في أن شرع الله هو الفيصل في كل شيء، وعندما يتبين لهم أن هذا الطريق أو ذاك هو سبيل الحق فلا شك أنهم متبعوه لا محالة، وهم على استعداد على الدوام أن يميلوا إلى الحق حيثما ما كان، وأن يتراجعوا عن مواقفهم إن ثبت لهم أنها غير سبيل الحق، فهم يقرؤون في كتاب الله قوله تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا     الأحزاب (36)
فقضاء الله لا محالة هو الحق، وما دونه فهو الباطل، ونحن كمسلمين لا نقبل بأقل من الحق سبيلا، أليس كذلك؟
إن من اتخذ سبيل الإسلام منهاج حياة، لا بد أن يمتثله في كل صغيرة وكبيرة، فلا يحق لي كمسلم أن آخذ من الإسلام ما أريد وأترك ما لا أريد، فهذا طريق النفاق ولا شيء غير النفاق، فنحن كمسلمين نؤمن بالكتاب على كليّته، ولا نتخذ – كما فعل اليهود والنصارى من قبلنا- منهاجاً منحرفاً يتلخص في أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعضه، مصداقاً لقوله تعالى::
ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ                                                                  البقرة (85)
إذاً فالخزي هو العقاب في الدنيا، والعذاب الشديد هو المرد في يوم القيامة لمن كان هذا هو سلوكه، إذاً فنحن مطالبون كمسلمين أن نتمسك بهذا الكتاب على كليّته، وأن نذهب معه حيثما يأخذنا دون تردد ولا وجل.
وما دام الأمر على هذا النحو فنحن نلتزم بما في هذا الكتاب حتى ولو كلّفنا ذاك الالتزام الكثير الكثير كما قد يبدو لنا من الوهلة الأولى.
إن خلاصة المراد تتمثل في الاعتقاد بأننا كمسلمين نستفيد من الدين بقدر ما يتيح لنا الدين الاستفادة ومكلفين بالواجبات بقدر ما يطلب منك هذا الدين من الواجبات، ولتبسيط الأمر نقول: هل يقبل علمائنا الأجلاء أن نقيم الصلاة ونترك الزكاة؟ أم هل يتقبل علمائنا الإجلاء أن نأخذ من غنائم الحرب ولكن دون أن نجاهد؟ وهكذا. الجواب كلا بكل تأكيد، فمن يريد الغنيمة من الحرب لابد أن يكون قد استل سيفه ومضى في طريق الجهاد، ولكن لا تستطيع أن تطلب مني حصتك في الغنائم ما دام أنك تقاعست ولم تخرج في طريق الجهاد، أليس هذا منطق مقبول عند علمائنا الإجلاء؟
إذاً، فالإسلام الذي يطلب منك الجهاد لا يحرمك حقك في الغنيمة، والمسلم الذي لا يخرج للجهاد لا يحق له أن يطالب بحصته في الغنائم، فكما يطلب منك الإسلام القيام بالواجبات فهو في الوقت ذاته لا يحرمك الحقوق، فالإسلام يعترف للمسلمين بحقوقهم وواجباتهم، فهو لا يطلب من الناس واجبات ويحرمهم الحقوق، وهو لا يعطيهم حقوقاً ما داموا لم يقوموا بواجباتهم.
ولنعد الآن بعد هذه المقدمة الطللية إلى موضوع الحديث عن الجهاد في الحديث الذي ذكرناه سابقاً وهو:
          إذا احتل شبر من أرض الإسلام بات الجهاد............
والآن لنتخيل أن أعز أرض الإسلام (مكة المكرمة)- لا قدّر الله- قد اُحتلت، ألا يصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة في بقاع الأرض حسب رأي المنظرين للحديث السابق الذكر؟
الجواب- حسب رأي علماء المسلمين قاطبة وحسب رأي عامة المسلمين (باستثنائي أنا بالطبع)- نعم، هو كذلك، يصبح من الواجب على كل مسلم الدفاع عن حرم الإسلام والمسلمين الأول مكة.
أما أنا فلا، فوالله الذي لا إله سواه- ليس عليّ جهاد، ولست مكلفاً شرعاً ن أدافع عن مكة.
وقد يستغرب البعض مثل هذا القول ويتساءلون عن السبب في هذا الموقف الشاذ (كشذوذ صاحبه)، وربما يقتبس البعض هذا القول معزولاً عن النص الكلي –كما فعلوا أكثر من مرة- ليتم التشهير ببدع رشيد الجراح، ولكن مهما يظن ويفعل الآخرون، فإن هذا الرأي يمثل الدين الذي أؤمن به، ولا يهمني ولو ضلّ الناس جميعاً.
أما السبب الذي دفعني إلى اتخاذ هذا الموقف العقائدي فهو ما ذكرنا في مقدمة هذا الكلام سابقاً، وملخّصه أن هذا الدين يقر بالحقوق والواجبات، فهو ليس حق دون واجب وهو ليس واجب دون حق، ولنوضّح الصورة على النحو التالي:
أليس من واجبي إذا احتلت مكة أن أدافع عنها؟ نعم هذا واجب شرعي.
ولكنّ مكة الآن غير محتلة وهناك خيرات كثيرة وفيرة في مكة، أليس لي من حق في خيرات مكة اليوم حتى إذا ما احتلت غداً خرجت مدافعاً عنها؟ أم أنّ من واجبي كمسلم الدفاع عن مكة يوم أن تحتل، وليس لي من حق في خيراتها قبل أن تحتل؟
هل أنا –كمسلم- مكلّف بواجباتي الدينية في الشدائد ولا حقوق لي في الرخاء؟ هل يناديني علماء المسلمين للخروج في الجهاد للدفاع عن مكة في وجه المحتل ولكنهم يمنعوني عنها الآن ليرفلوا هم في دمقسها وحريرها أيام الرخاء؟ هل أنا – كمسلم- مطلوب في وقت الشدة ومطرود في وقت الرخاء؟ أي إسلام هذا الذي تتحدثون عنه؟! وأي إسلام هذا الذي يدعوني في الشدائد وينساني في الرخاء؟! إذا كان الدين على هذه الشاكلة (أن يطلب الناس في الشدة ويطردهم في الرخاء) فوالله الذي لا إله سواه ليس هذا هو الدين الذي أؤمن به. إنّ ديني الذي أؤمن به هو الدين الذي لا ينساني في وقت الرخاء فلا أتردد عن نصرته في وقت الشدائد والمحن. وهذا الكلام ينطبق على كل بلاد الإسلام والمسلمين؟
ولنتصور السيناريو نفسه حقيقة واقعة على الأرض، فها هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين (القدس الشريف) واقع تحت قبضة يهود منذ عقود من الزمن، فهل مطلوب مني –كمسلم- أن أنصر الأقصى حتى لو كنت من سكان الصين أو اندونيسيا، ثم إذا ما تحرر الأقصى وحاولت أن أشد الرحال إليه، لا أستطيع ذلك إلا بتأشيرة من عباس وصحبه؟!
إذاً أنا كمسلم مطلوب مني شرعاً أن أهبّ لنجدت أقصى عباس وصحبه، ليقيم هو دولته، ويصدر جواز سفره، وتأشيراته، فلا يستطيع المسلم التمتع بخير الأقصى إلا إذا أذن له من ناخ بعير جده في تلك الديار، أليس هذا هو منطقكم يا ساده؟!
كلا وألف كلا، والله لن أقبل أن يسألني الله عن واجبي في الدفاع عن الأقصى مادام أنكم قد جعلتموها حقيقة على أرض الواقع أن ليس لي حق في الأقصى يواز حق من يسكن أرض الأقصى، كما لا يطلب مني الدفاع عن مكة مادام أني لا أتمتع بخير مكة، وليس مطلوب مني الدفاع عن بلاد الرافدين مادام أن خيرات الرافدين لا تتجاوز حدود التي رسمتها سيكس بيكو، وهكذا.
ولكم يا علماء الفضائيات والمنبرين لفقه الجهاد نقول: إنكم لا تستطيعوا أن تلزموا الناس بواجباتهم مادام أنكم حرمتموهم من حقوقهم، فالدين ليس سيفاً يسلط على رقاب الناس متى شئتم وكيفما رغبتم، فمن يطلب من الناس الواجبات عليه أن يعترف لهم بحقوقهم. فهذا هو منطق الدين، فمن لبس عباءة الدين لا يحق له أن يفصّلها على مقاسه!
فهل يحق –مثلاً- لكل من يتخذ من الدين منهاجاً في بلاد الخليج أن يطالب كافة المسلمين بحق الجهاد عن الخليج إن تم الاعتداء عليه وهو الذي تمتع بخير الخليج وحده ومنع ذلك عن كل المسلمين؟
وهل يحق – مثلاً- لكل من سكن الشام أن يطالب عامة المسلمين بحق الدفاع عن الشام مادام أنه يمنع كل من أراد الاصطياف في الشام إلا بإذن الدخول؟
وهل يحق –مثلاً- لمن سكن مصر أن يطالب كافة المسلمين الدفاع عن أرض الكنانة ما دام أنه لا يعترف بالمصرية إلا لمن ولد على أرضها؟!
وهل......؟
وهل......؟
إنني أفهم أنك تطلب من المسلمين حق الجهاد عن بلد مسلم إذا كان خير ذلك البلد يعود على كل الإسلام والمسلمين، أما إذا كان خير تلك الديار مقتصراً على من يسكن تلك الديار فهم وحدهم من يقع عليهم شرعاً حق الدفاع والذود عن ديارهم، ولا يظنون أن من واجب غيرهم من أبناء المسلمين نجدتهم في أوقات المحن ماداموا أنهم قد نسوهم في وقت الرخاء، ولا يحق لأهل العمامات أن يمثلوا ذلك ويكأنه واجب شرعي على كل المسلمين في كل مكان، فهذه والله ليست بأكثر من أكذوبة للدعاية الإعلامية.
فيا من تتخذ من الإسلام منهجاً ادفع للمسلمين حقهم قبل أن تطلب منهم الواجب الشرعي المفروض عليهم.
ألا تستحق كل هذه الثروة المتوافرة في بلاد المسلمين من كبار علماء المسلمين فتوى شرعية تتعلق بمن يملك هذه الثروة، ومن هم الذين يحق لهم التمتع بها، فليخرج مثلاً علماء الخليج ويقولوا لنا أن الثروة التي وجدت في بلاد الخليج هي حق لأهل الخليج فقط، ونحن على استعداد لقبول هذه الفتوى بكل صدر رحب، لأننا عندها سنكون في حل من كل التبعات المترتبة على هذه الفتوى.
لكننا لن نقبل من علماء الخليج – لأننا لسنا ساذجين لهذا الحد- أن يصدروا الفتوى بأن هذه الثروة خاصة بأهل الخليج ولكن الجهاد عن كل شبر من أرض المسلمين (حتى لو كانت مكة نفسها) هي واجب على كل مسلم ومسلمة.
ونحن لن ننبري للدفاع عن الأقصى لنقاتل في سبيل تحريره إذا كان الأقصى حق للفلسطينيين وحدهم، فلا يدخله ولا يخرج منه أحد من المسلمين إلا بإذنهم، فإن كان كذلك، فليذهب الفلسطينيون أنفسهم لتحرير أرضهم وأقصاهم، (والمثل الشعبي الأردني يقول- كل واحد يقلّع شوكه بيديه).
أما إذا اعترف لي الفلسطينيون بحقي في الأقصى وأن هذا ليس حكراً لهم، ولن يمنعوني عنه، وأنّ حقي فيه كمسلم لا يزيد ولا ينقص عن حق أي فلسطيني يسكن أرضه، عندها سيقع عليّ واجب شرعي بالدفاع عنه والموت في سبيل الذود عنه وتحريره.
فإذا كان عباس ومنظمته هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وهو المفاوض الوحيد الذي له حق التصرف بالأقصى (يتنازل عن نصفه ويقبل بنصفه الآخر تحت سيادة دوليه) فإنني في حل من كل واجب شرعي تجاه الأقصى وكل مقدسات فلسطين، فأرض الإسلام الذي يحثني الحديث الشريف الدفاع عنها ويحمّلني المسؤولية الشرعية في الجهاد فيها وعنها هي أرض لكل الإسلام والمسلمين، وحق المسلمين فيها لا ينقص منه شيئاً إذا كانوا لا يسكنوها، فأنت تدافع عن أرضي وأنا أدافع عن أرضك ليس لأنّ هذه حق لي وتلك حق لك، بل لأنها كلها أرض الإسلام والمسلمين، يتمتعون بخيراتها في الرفاهة ويدافعون عنها جميعاً في أوقات الشدة والأزمات.

انضمام الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي
والآن وقد جاء اختبار حقيقي لهذه المعادلة بطلب الأردن الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، تتعالى الصرخات من هنا وهناك بين من يؤيد ومن يعارض، ويكأن الأمر يجب أن يتماشى حسب هوا هذا أو مراد ذاك، ولكنهم لم يحتكموا جميعاً (ولم ينبري علماء الأمة) إلى شرع الله، ليكون هو الحكم الفيصل في هذا الأمر.
أما أنا فيتمثل موقفي بما يلي: أرجو من الله العلي القدير أن لا ييسر انضمام الأردن إلى ذاك المجلس لأننا عندها سنكون شركاء في الجريمة.
- ولكن كيف؟ ولماذا؟
إن في انضمام الأردن إلى ذاك المجلس يعني أن يترتب على المجلس تبعات مالية للأردن – البلد الفقير بمقدراته الاقتصادية وبفكر حكوماته المعاقة المتعاقبة.
فغالباً ما برزت الصورة لدى الآخرين (وهم محقون بالطبع بسبب سلوكيات قيادات هذا البلد) أن هذا شعب متسول يعيش على فتات الهبات من الغرب (الكافر) والجنوب (المسلم الغني)، وغابت صورة بسيطة (على قلتها) أن يكون في هذا الجزء من العالم الإسلامي كما في كل زاوية من بلاد الإسلام والمسلمين صورة ناصعة لبعض أبناءه الذين لا زال عندهم شيء من العزة بدينهم وعقيدتهم، الذين لا يقبلون بغير دينهم ثروة الأرض بأكملها، فهم لا يستبدلون ثروات الأرض بأكملها بشيء من دينهم، لأنهم ببساطة لا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
المهم في الموضوع هو التبعات الاقتصادية المترتبة على المجلس الخليجي في حالة انضمام الأردن إليه، فمن هذا المنبر غير المعروف أتوجه إلى شعوب الخليج بأكملها – سائلاً الله تعالى أن يسمع صوتي هذا كل ذي بصيرة ورأي في بلاد الإسلام- أن لا يرضى أهل الخليج بانضمام الأردن إلى ناديهم، فهم لديهم خبرة سابقة كافية بما حصل للمساعدات التي قدّموها للأردن في السابق، واستقر جلّها في بنوك سويسرا وبورصات وول ستريت، ولا أظن أن المساعدات التي ستقدم لهذا البلد في المستقبل سيكون مآلها أفضل من سابقاتها (ولما كان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فأرجو أن لا يصار إلى هذا الغلط مرة أخرى).
وأما بالنسبة للشعب الأردني فأقول: ألم تكن عقيدتكم على الدوام أن ثروة الخليج هي حق لكل بلاد الإسلام والمسلمين، فما لكم اليوم تنكصون على أعقابكم وترغبون أن تشاركوا أهل الخليج تلك الثروة، ولا يهمكم إن منعت عن جيرانكم في سوريا ومصر وفلسطين ولبنان والسودان وغيرهم؟ هل ترضون بفتات من تلك الثروة لتتنازلوا عن عقيدتكم التي حملتموها في صدوركم عقوداً من الزمان؟ أم أن المال يغيّر العقائد ويشتري الذمم؟ هل تبيعون عقيدتكم بمتاع من الدنيا زهيد، أما أنا فوالله لست بحاجة لثروة الخليج بأكملها ولو وضعت على طبق واحد.
ولا يظنن أحد من أهل الخليج أننا نحسدهم على ثروتهم تلك، بل على العكس، فوالله الذي لا إله سواه أنني أسرّ كلما ازددتم غنى، و والله الذي لا إله سواه أنني أفرح عندما تزيد أسعار النفط حتى لو كان ذلك يكلفني المزيد من جيبي، وأحزن عندما تنخفض أسعار النفط حتى لو كان هذا ينقض شيئاً مما تبقى في جيبي، ولكني أعلم أن في زيادة أسعار النفط هذه خير لكثير من أبناء الإسلام والمسلمين، واللهَ أدعو أن يزيدكم ويزيدكم ويزيدكم، فخزائن الله ممتلئة لا ينقصها شيء. وأدعو الله العلي القدير أن يكون هذا الغنى غير مقطوع عن بلادكم ما دامت السموات والأرض، ولكني أخشى ما أخشاه أن يكون في كلامي السابق شيء من الحق، في أن تكون تلك الثروة ليست من حقكم وحدكم، بل هي ثروة لكل بلاد الإسلام والمسلمين، وعندها ستكونون كمن يتمتع بخيرات غيره، وكمن يأكل حق غيره، فتكونون مطالبين بها يوم الحساب الأكبر. والله أعلم، قال تعالى:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ                        آل عمران (61)

                                                                                      30/05/ 2011
وللحديث بقية