مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ (13): باب التماثيل


حاولنا في الجزء السابق من مقالتنا هذه التعرض لمعنى مفردة الشهر التي ترد في بعض السياقات القرآنية، فأثرنا حولها حينئذ التساؤلات التالية:
(1) هل نحج أشهر؟ وما هي تلك الأشهر؟
          الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ البقرة 197
 (2)     هل فعلاً ينتظر الذين يؤلون من نساءهم فترة أربعة أشهر؟
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ        البقرة (226)
(3)      لم تحتاج من يئست من المحيض (والتي من تحض أصلاً) أن تعتد ثلاثة أشهر؟
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
(4)      لماذا جاء الحديث عن تربص المطلقات بلفظ القروء ولم يأتي بلفظ الأشهر؟
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ                        البقرة 228
(5)      وهل فعلا تحتاج من يتوفي عنها زوجها أن تنتظر أربعة أشهر وعشرا؟
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ            البقرة 234
لم لا تنتظر ثلاثة قروء كالمطلقة مثلاً؟ ولم لا تنتظر كمن يئست من المحيض (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ)؟ أو لم لا تنتظر أن تضع حملها إن كانت من أولي الأحمال كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية؟ 
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
(6)      وما هي المدة الزمنية التي تحتاج أن تتربص بها المرأة بنفسها كما ترد في الآية الكريمة التالية:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ            البقرة (234)
وقد كان الذي أثار هذا النقاش عن مفردة الشهر هو ما جاء في الآية الكريمة التي تتحدث عن قصة ريح سليمان عليه السلام:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ              سبأ (12)
وكان الهدف هو حساب الفترة الزمنية التي كانت تجري بها الريح بأمر من سليمان في الغدو والرواح. وخرجنا من ذلك النقاش بالافتراءين التاليين عن مفردة الشهر، أحدهما نشارك فيه العامة في فهمهم الدارج والآخر هو بلا شك من عند أنفسنا:
1.     مفردة الشهر تدل على الفترة الزمنية المتعارف عليها عند الناس بما يقرب من ثلاثين يوماً، لتشكل أشهر السنة كالسنة الميلادية (كـ كانون ثاني، وشباط، وآذار، الخ). أو كأشهر السنة الهجرية (كـ شوال، ورمضان، وشعبان، الخ).
2.     مفردة الشهر تستخدم في العربية لتدل على الفترة الزمنية التي تكوّن الليل والنهار معاً (أو اليوم والليلة معاً)، أي فترة الأربع والعشرين ساعة كاملة.
ووحاولنا تسويق زعمنا أن ريح سليمان كانت تجري به مدة أربع وعشرين ساعة كاملة (أي شهراً) في الذهاب (الغدو) وأربع وعشرين ساعة (أي شهراً) في الإياب (الرواح)، فسليمان كإنسان يحتاج أن ينام ويأكل ويشرب ويقضي حاجته، وكانت تلك الريح تذهب به بنص الآية الكريمة إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين:
          وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
فالمسافة بين بلاد سليمان (القرى الظاهرة) والأرض التي باركنا فيها للعالمين كانت تقطعها ريح سليمان في شهر (أربع وعشرين ساعة) في رحلة الذهاب (الغدو) وتعود به من هناك في أربع وعشرين ساعة في رحلة الإياب (الرواح)[1]:
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
وافترينا الظن بأن بلاد سليمان لم تكن هي سبأ (فتلك كانت أرض تلك المرأة التي جاء الهدهد إلى سليمان بخبرها):
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
وسليمان ووالده داوود من قبله لم يكونا يسكنان الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، لأن تلك كانت بلاد بني إسرائيل التي ورثوها عن إبراهيم وإسحق ويعقوب:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
فنحن نفتري الظن بأن سليمان لم يكن من سلالة بني إسرائيل التي خرجت من أرض مصر مع موسى، فبنو إسرائيل قد احتجوا أصلاً على ذلك الرجل الذي آتاه الله الملك عليهم وهو طالوت الذي من خلاله وصل الأمر إلى داوود (والد سليمان):
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
(للتفصيل انظر الأجزاء الأولى من هذه المقالة).
وسنحاول (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) تحديد المنطقة الجغرافية التي كان يسكنها سليمان ووالده داوود من قبله ; كما يمكن أن نفهمها من الآية الكريمة التالية:
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
وسنعلق بعد ذلك على مزاعم اليهود حول أحقيتهم التاريخية والدينية في الأرض "التي باركنا فيها للعالمين"، وبحثهم الدءوب عن ما يسمونه بـ "هيكل" سليمان لإثبات أحقيتهم تلك فيها، وسنحاول بحول الله وتوفيقه أن نبحث عن تفاصيل القصة كما نفهمها نحن من السياقات القرآنية، وسيرى الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فالله أسأل أن يهديني صراطه المستقيم وأن يعلمني الحق الذي أقوله فلا أفتري عليه الكذب، والله أسأل أن يرشدنا إلى الحق حيثما كان، وأن يذر الذين ظلموا في طغيانهم يعمهون).

وحاولنا استخدام افتراءنا بأن مفردة الشهر تستخدم في العربية بمعنى "اليوم والليلة" معاً لتسليط الضوء على فترة تربص المرأة التي يتوفي عنها زوجها (انظر الجزء السابق من هذه المقالة) وحاولنا تسويق منطقنا هذا من خلال الحقيقة الثابتة في العربية التي مفادها أن مفردة "شهر" تجمع في العربية على أشهر وعلى شهور (للتفصيل انظر الجزء السابق)، وسنحاول لاحقاً إن أذن الله لنا بشيء من علمه أن نفرد مقالات مستقلة لكل آية من آيات الكتاب الحكيم التي يرد فيها (أو التي لها علاقة) بمفردة الشهر، فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً، إنه هو السميع المجيب.

أما في هذا الجزء من المقالة فسنتابع حديثنا بحول الله وتوفيقه عن قصة سليمان السابقة، ولكن طارحين هذه المرة تساؤلاً غريباً يثيره السياق القرآني التالي:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
السؤال: لماذا كانت الجنّ مسخرة لسليمان لتعمل له ما يشاء من تماثيل؟ فلربما نستطيع أن نتفهم أن تعمل الجنّ لسليمان المحاريب وجفون كالجواب وقدور راسيات (وإن كنّا لا نفهم المعاني الدقيقة لهذه الأشياء)، ولكنّه يصعب علينا (وأقصد على العامة من مثلي) أن نتفهم أن تقوم الجنّ بأمر من سليمان فتعمل له التماثيل؟ فما حاجة سليمان بتلك التماثيل؟
نحن نثير هذا التساؤل في ضوء العقيدة التي نعرفها في ديننا بأن بناء التماثيل (كما أخبرنا سادتنا العلماء) أمر غير محبب خصوصاً إذا ما استذكرنا ما فعل إبراهيم عليه السلام بتماثيل القوم:
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
وفي ضوء العقيدة التي ورثناها والمتمثلة بأن أول ما قام به محمد عندما عاد فاتحاً مكة هو تطهير البيت من تلك الكينونات التي أضلت كثير من الناس قروناً من الزمن كما جاء على لسان إبراهيم في كتاب الله:
          رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ                                                                                                 إبراهيم (36)
السؤال المربك لي: لماذا قام محمد (لنقل تجاوزا) بالاعتداء على تماثيل القوم وكذلك فعل إبراهيم من قبله ما دام أن سليمان يأمر الجن بأن تعمل له التماثيل؟ أو بالمقابل نقول: لماذا يظلم سليمان نفسه (إن صح القول) عندما يأمر الجن بأن تعمل له تلك التماثيل ما دام أن إبراهيم من قبله ومحمدا من بعده يعمدون إلى التخلص منها؟ ألا يخشى سليمان أن يحل بالقوم بسبب تلك التماثيل ما حل بمن قبلهم (كقوم إبراهيم) أو بما حل بمن بعدهم (كقوم محمد)؟
وها هم أتباع الديانة الإسلامية (على مر العصور) لا يجدون تمثالاً على وجه الأرض إلا ويناصبوه العداء، ويحاولون تدميره والتخلص منه إن هم استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فها هم طالبان والقاعدة مثلاً يعتدون على تماثيل بوذا في أفغانستان فيدمّرونها بحجة أنهم يطبقون (حسب فهمهم) تعاليم ربهم كما جاءت في سنة نبيهم.
وها هم أهل الكنانة وبلاد الشام وأرض الرافدين (بلاد الحضارة والتاريخ) لا يجدون تمثالاً في باطن الأرض أو على ظاهرها إلا ويقوموا بواحدة من اثنتين:
1.     أن يقع ذلك التمثال بيد سماسرة الآثار فيشروه إلى متاحف الآثار العالمية بثمن بخس دراهم معدودة وهم فيها من الزاهدين، وتقوم تلك المتاحف العالمية بجني الملايين من وراء تماثيل القوم التي اشتروها منهم بذلك الثمن البخس، أو
2.     أن تقع بأيدي أصحاب العمائم البيضاء أو السوداء منهم فينقضوا عليها بفؤوسهم وربما بعصيهم ليدمّروها لأنها تذكّرهم بأيام الشرك والإلحاد التي - لا شك- لا يرغبون أن يعودوا إليها. ولينظر من أراد أن يجادل إلى ما حل بالتماثيل التي لا تزال قائمة في بلاد الإسلام في مصر والشام والعراق وأجزاء من جزيرة العرب. فنادرا ما تجد تمثالاً ليس مجدوع الأنف أو مفقوع العينين أو حتى مقطوع الرأس، أليس كذلك؟
ولكن فعلتهم هذه لن تثنينا عن طرح السؤال نفسه: إذا كانت التماثيل تمثل كل هذا الشر الذي يروّنه بها، فلم يقوم سليمان (الذي لا شك يعرفونه جميعاً) بإصدار أوامره للجن فتعمل له التماثيل؟ ونحن على يقين أن أهل العلم لن يستطيعوا رد سؤالنا هذا مادام أن صريح اللفظ القرآني يشير إلى ذلك، فنحن لا نفتري شيئاً من عند أنفسنا لنكذبه على سليمان (كعادتنا)، ولكننا فقط نذكرهم أن يقرءوا قول الحق في الآية الكريمة التالية من هذه الزاوية:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
فما قصة تماثيل سليمان؟
أولاً، لا بد من الإشارة (كما فعلنا دائماً) إلى أن أهل الدراية من سادتنا العلماء غالباً ما يستخدمون أسلوب الكتمان في أطروحاتهم، فهم يبدون للناس ما يريدون ويخفون كثيراً مما لا يريدون العامة (من مثلي) أن يقع في خاطرهم، لذا تخلو شروحاتهم في مجملها من مثل هذه القضايا، وحتى لا نتهم الناس بما ليس فيهم فنكون من الظالمين، فإننا ندعو القارئ الكريم أن يرى بأم عينه كيف تجنب ابن كثير الذي ينقل عن أهل الدراية التعرض لهذه الجزئية التي لا أظن أنها قد فاتتهم جميعاً عند تفسير الآية الكريمة التي تتحدث عن تماثيل سليمان:
وقوله تعالى : " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل " أما المحاريب فهي البناء الحسن وهو أشرف شيء في المسكن وصدره وقال مجاهد المحاريب بنيان دون القصور وقال الضحاك هي المساجد وقال قتادة هي القصور والمساجد وقال ابن زيد هي المساكن وأما التماثل فقال عطية العوفي والضحاك والسدي التماثيل الصور قال مجاهد وكانت من نحاس وقال قتادة من طين وزجاج وقوله تعالى : " وجفان كالجواب وقدور راسيات " الجواب جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء كما قال الأعشى ميمون بن قيس : تروح على آل المحلق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما كالجواب أي كالجوبة من الأرض وقال العوفي عنه كالحياض وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم والقدور الراسيات أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها كذا قال مجاهد والضحاك وغيرهما وقال عكرمة أثافيها منها وقوله تعالى : " اعملوا آل داود شكرا " أي وقلنا لهم اعملوا شكرا على ما أنعم به عليكم في الدين والدنيا وشكرا مصدر من غير الفعل أو أنه مفعول له وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول والنية كما قال الشاعر : أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا قال أبو عبد الرحمن السلمي الصلاة شكر والصيام شكر وكل خير تعمله لله عز وجل شكر وأفضل الشكر الحمد رواه ابن جرير وروى هو وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح وهذا يقال لمن هو متلبس بالفعل . وقد كان آل داود عليهم السلام كذلك قائمين بشكر الله تعالى قولا وعملا قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي بكر حدثنا جعفر يعني ابن سليمان عن ثابت البناني قال كان داود عليه السلام قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي فغمرتهم هذه الآية " اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور " وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وقد روى أبو عبد الله بن ماجه من حديث سعيد بن داود حدثنا يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قالت أم سليمان بن داود عليهم السلام لسليمان يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرا يوم القيامة وروى ابن أبي حاتم عن داود عليه الصلاة والسلام ههنا أثرا غريبا مطولا جدا وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا عمران بن موسى حدثنا أبو زيد قبيصة بن إسحاق الرقي قال : قال فضيل في قوله تعالى : " اعملوا آل داود شكرا " قال داود يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة منك ؟ قال الآن شكرتني حين قلت إن النعمة مني وقوله تعالى : " وقليل من عبادي الشكور " إخبار عن الواقع
وانظر عزيزي القارئ ما جاء في تفسير الجلالين حول الآية نفسها:
يعملون له ما يشاء من محاريب" أبنية مرتفعة يصعد إليها بدرج "وتماثيل" جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء أي صور من نحاس وزجاج ورخام ولم يكن اتخاذ الصور حراما في شريعته "وجفان" جمع جفنة "كالجواب" كالجوابي جمع جابية وهو حوض كبير يجتمع على الجفنة ألف رجل يأكلون منها "وقدور راسيات" ثابتات لها قوائم لا تتحرك عن أماكنها تتخذ من الجبال باليمن يصعد إليها بالسلالم وقلنا "اعملوا" يا "آل داود" بطاعة الله "شكرا" له على ما آتاكم "وقليل من عبادي الشكور" العامل بطاعتي شكرا لنعم.
وانظر ما جاء في تفسير الطبري:
القول في تأويل قوله تعالى : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات } يعني تعالى ذكره : يعمل الجن لسليمان ما يشاء من محاريب , وهي جمع محراب , والمحراب : مقدم كل مسجد وبيت ومصلى , ومنه قول عدي بن زيد : كدمى العاج في المحاريب أو كال بيض في الروض زهره مستنير وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 21952 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , جميعا عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قوله : { ما يشاء من محاريب } قال : بنيان دون القصور . 21953 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { يعملون له ما يشاء من محاريب } وقصور ومساجد . 21954 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله : { يعملون له ما يشاء من محاريب } قال : المحاريب : المساكن , وقرأ قول الله : { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } 3 39 . 21955 -حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي , قال : ثنا مروان بن معاوية , عن جويبر , عن الضحاك : { يعملون له ما يشاء من محاريب } قال : المحاريب : المساجد . وقوله : { وتماثيل } يعني أنهم يعملون له تماثيل من نحاس وزجاج , كما : 21956 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , جميعا عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد { وتماثيل } قال : من نحاس . 21957 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { وتماثيل } قال : من زجاج وشبه . 21958 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد , قال : ثنا مروان , عن جويبر , عن الضحاك في قول الله { وتماثيل } قال : الصور . وقوله : { وجفان كالجواب } يقول : وينحتون له ما شاء من جفان كالجواب ; وهي جمع جابية , والجابية : الحوض الذي يجبى فيه الماء , كما قال الأعشى ميمون بن قيس : تروح على نادي المحلق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق وكما قال الآخر : فصبحت جابية صهارجا كأنها جلد السماء خارجا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 21959 - حدثني علي , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله : { وجفان كالجواب } يقول : كالجوبة من الأرض . * - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قوله { وجفان كالجواب } يعني بالجواب : الحياض . 21960 - وحدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن أبي رجاء , عن الحسن { وجفان كالجواب } قال : كالحياض . 21961 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , جميعا عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قوله : { وجفان كالجواب } قال : حياض الإبل . 21962 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { وجفان كالجواب } قال : جفان كجوبة الأرض من العظم , والجوبة من الأرض : يستنقع فيها الماء . 21963 - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ , يقول : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وجفان كالجواب } كالحياض. * - حدثنا عمرو , قال : ثنا مروان بن معاوية , قال : ثنا جويبر , عن الضحاك : { وجفان كالجواب } قال : كحياض الإبل من العظم . وقوله : { وقدور راسيات } يقول : وقدور ثابتات لا يحركن عن أماكنهن , ولا تحول لعظمهن. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 21964 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , جميعا عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قوله : { وقدور راسيات } قال : عظام . 21965 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { وقدور راسيات } قال : عظام ثابتات الأرض لا يزلن عن أمكنتهن . 21966 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله : { وقدور راسيات } قال : مثال الجبال من عظمها , يعمل فيها الطعام من الكبر والعظم , لا تحرك , ولا تنقل , كما قال للجبال : راسيات
وانظر ما جاء في تفسير القرطبي:
جمع تمثال . وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان . وقيل : كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان . وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء , وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا , قال صلى الله عليه وسلم : ( إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور ) . أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة . وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان , ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " نوح " عليه السلام . وقيل : التماثيل طلسمات كان يعملها , ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها فلا يتجاوزها , فيعمل تمثالا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان , ويأمرهم ألا يتجاوزوه فلا يتجاوزه واحد أبدا ما دام ذلك التمثال قائما . وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء . قال : ويا رب يوم قد لهوت وليلة بآنسة كأنها خط تمثال وقيل : إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يحيك فيهم السلاح . ويقال : إن اسفنديار كان منهم ; والله أعلم . وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه , فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما , وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما .
حكى مكي في الهداية له : أن فرقة تجوز التصوير , وتحتج بهذه الآية . قال ابن عطية : وذلك خطأ , وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه . قلت : ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله , قال النحاس : قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية , ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح . وقال قوم : قد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها والتوعد لمن عملها أو اتخذها , فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحا قبله , وكانت الحكمة في ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد , فكان الأصلح إزالتها .
التمثال على قسمين : حيوان وموات . والموات على قسمين : جماد ونام ; وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه ; لعموم قوله : " وتماثيل " . وفي الإسرائيليات : أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان . فإن قيل : لا عموم لقوله : " وتماثيل " فإنه إثبات في نكرة , والإثبات في النكرة لا عموم له , إنما العموم في النفي في النكرة . قلنا : كذلك هو , بيد أنه قد اقترن بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم , وهو قوله : " ما يشاء " فاقتران المشية به يقتضي العموم له . فإن قيل : كيف استجاز الصور المنهي عنها ؟ قلنا : كان ذلك جائزا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا , والله أعلم . وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما . مقتضى الأحاديث يدل أن الصور ممنوعة , ثم جاء ( إلا ما كان رقما في ثوب ) فخص من جملة الصور , ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب : ( أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا ) . ثم بهتكه الثوب المصور على عائشة منع منه , ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها , فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة , ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز , لقولها في النمرقة المصورة : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها , فمنع منه وتوعد عليه . وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه . فهكذا استقر الأمر فيه والله أعلم ; قال ابن العربي .
روى مسلم عن عائشة قالت : كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا ) . قالت : وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير , فكنا نلبسها . وعنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة , فتلون وجهه , ثم تناول الستر فهتكه , ثم قال : ( إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل ) . وعنها : أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة , فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال : ( أخريه عني ) قالت : فأخرته فجعلته وسادتين . قال بعض العلماء : ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره بتأخيره ورعا ; لأن محل النبوة والرسالة الكمال . فتأمله .
قال المزني عن الشافعي : إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح , لم يدخل إن كانت منصوبة . وإن كانت توطأ فلا بأس , وإن كانت صور الشجر . ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة . وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء . واستثنى بعضهم ( ما كان رقما في ثوب ) , لحديث سهل بن حنيف . قلت : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن . وقوله : ( إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم ) ولم يستثن . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاث : بكل جبار عنيد , وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح . وفي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود . قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون ) . يدل على المنع من تصوير شيء , أي شيء كان . وقد قال جل وعز : " ما كان لكم أن تنبتوا شجرها " [ النمل : 60 ] على ما تقدم بيانه فاعلمه .
وقد استثني من هذا الباب لعب البنات , لما ثبت , عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين , وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبها معها , ومات عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة . وعنها أيضا قالت : كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي , فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي خرجهما مسلم . قال العلماء : وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن . ثم إنه لا بقاء لذلك , وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له , فرخص في ذلك , والله أعلم .
السؤال: هل تجد (عزيزي القارئ) أن أهل العلم قد قدّموا إجابة على هذا السؤال الذي لا أظن أن طالب علم في صفوفه الدراسية الأولى يمكن أن يغفل عن طرحه ناهيك أن يكون المتحدثون هنا هم من أمثال هؤلاء العلماء الأفذاذ؟
رأينا: إنّ الهدف من عرض ما جاء في أمهات كتب التفاسير عن هذه القضية ليس التعرض لآرائهم بالانتقاد أو التفنيد لأننا نعتقد أن ليس في أقوالهم من الآراء ما يستحق أن يفند أو أن يرد عليه، فهي (في ظننا الكاذب) ليست أكثر من خرافات لا تسمن ولا تغني من جوع يناقض بعضها بعضاً، وأحسن ما فيها – كما جاء عند أحدهم- حديث حسن غريب. فلعلهم أجمعوا على أن بناء التماثيل كان من شريعة سليمان وتم نسخه في شريعة محمد. ولكننا نثير هنا التساؤل عن شريعة إبراهيم الذي سبق سليمان، فهل كان في شرع إبراهيم منسوخاً ثم تمت إباحته في شريعة سليمان ثم تم نسخه مرة جديدة في شريعة محمد؟ هل هذا هو الدين يا أهل العلم؟ من يدري!!!
أقول إن الهدف الرئيس من تقديم ما جاء في أمهات كتب التفسير هنا هو تبيان أسلوب الكتمان الذي يتبعه أهل العلم عندما لا يجدون في جعبتهم ما يقولونه للناس، فهم يبدون ما يريدون ويخفون كثيراً بحجة أن هذا من العلم الذي قد لا يفيد، وأنا (والله) أستغرب وأتعجب كيف ينفقون وقتهم (الثمين طبعاً) في جدال عن المادة التي صنعت منها تلك التماثيل، أهي الطين أم الزجاج (انظر التفاسير السابقة)، ويغفلون في الوقت ذاته عن السؤال الأكبر وهو: لماذا كان سليمان أصلاً يأمر الجن أن يعملوا له ما يشاء من تماثيل؟ فهل يا ترى كان ذلك من باب الهواية التي  كان سليمان يقضي فيها وقت فراغه مثلاً؟ من يدري!!!
رأينا: إن أخشى ما أخشاه (كما أقول على الدوام) أن في سلوك علمائنا هذا نسخة لصورة طبق الأصل عمّا كان يعمل أهل الكتاب من قبلهم:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
نعم لقد جعل علماء أهل الكتاب كتاب موسى الذي جاء به نورا وهدى جعلوه قراطيس يبدون منها ما يشاءون ويخفون كثيراً منها.
رأينا: لقد كان الأولى بعلماء الأمة أن يثيروا السؤال للناس حتى وإن لم يكن عندهم الإجابة عليه وذلك لكي تتفتح عقول الناس وتتهيأ للتفكر فيه، فلا أظن أن إنساناً على وجه الأرض يمكن أن يحيط بكتاب الله علما، ولكن تبقى المهمة عند التصدي لأي جزئية في كتاب الله أن تثيرها من جميع جوانبها، فلا تتّبع أسلوب الانتقاء ثم الكتمان، فتثير منها ما تريد وتترك ما لا تريد أن تثيره لا لشيء وإنما لظنك أنه من الأمور غير المهمة، والحقيقة أنك لا تملك إجابة عليه. فمن - يا ترى- يستطيع أن يقرر أن هذا الشيء أو ذاك الشيء مهم أو غير مهم؟! فإن وجد، فإني من هنا أطلق الدعوة لعلمائنا الأجلاء أن يقدّموا لنا قائمة بالأمور التي يسمح لنا أن نتفكر بها (كالمادة التي صنعت منها تماثيل سليمان مثلاً) وقائمة أخرى بالأمور التي لا يسمح لنا التفكر بها (كالسؤال عن سبب أن تعمل الجن لسليمان التماثيل مثلاً). وسنكون لهم من الشاكرين.
رأينا: إننا نعتقد جازمين أن الأهم من ذلك كله هو أن نذكّر أنفسنا قبل أن نذكّر غيرنا بالآيات الكريمة التالية:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)                                                                        البقرة
(دعاء: اللهم إني أسألك أن لا أكون من  الذين يكتمون ما أنزلت من البينات والهدى، وأتوب إليك من سوء ما كسبت يدي إن أنا فعلت هذا)
إن العقيدة الصحيحة – في ظننا- يجب أن تبنى على الاعتقاد اليقيني بأن كل ما في كتاب الله مهم ويجب التعرض له بالتفصيل ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. والحالة هذه كان لابد لنا من إثارة الموضوع مرة أخرى سائلين الله وحده أن يأذن لنا بشيء من علمه فلا نقول عليه إلا الحق ولا نفتري عليه الكذب، ولا نكتم ما أنزل الله من البينات والهدى، إنه هو السميع المجيب). ونطلب من القارئ الكريم أن يثير ما يشاء من تساؤلات عن كل ما يمكن أن نفتريه في كتاباتنا كلها، فإن كان عندنا علم أفدناه به، وإن لم يأذن الله لنا بعلمه نصحناه صادقين إن شاء الله.

أما بعد
-        ما هي التماثيل التي كانت الجن تؤمر من قبل سليمان نفسه أن تعملها له؟
-        لماذا كان سليمان يأمر الجن أن تعمل له تلك التماثيل؟
-        ومتى أمر سليمان الجن أن تبني له تلك التماثيل؟
-        وأين كانت الجن تعمل تلك التماثيل لسليمان؟
-        وكيف كانت الجن تعمل تلك التماثيل؟
-        وأين ذهبت تماثيل سليمان التي عملتها الجن له؟
-        الخ.

القضية الأولى: ما هي التماثيل؟
للإجابة على هذا التساؤل لابد من تفقد السياق القرآني الذي جاءت فيه هذه المفردة ونحاول أن نفهمها في سياقها المباشر (local context)، ثم نحاول بعد ذلك ربطها مع السياقات القرآنية الأخرى في القرآن كله (global context). فالسياق المباشر يسعفنا بالخروج باستنباطات محليه تخص السياق نفسه (local intuitions) بينما نستطيع من خلال السياقات الأخرى أن نخرج بحول الله وتوفيقه باستنباطات كليّة تخص العقيدة برمتها (glocal intuitions)، وحتى لا ندخل مع أهل الدراية بجدال مفردات النظريات البشرية، فإننا سننتقل مباشرة إلى التطبيق لهذه الطريقة في تحليل النص.
أولاً: تحليل السياق المباشر
جاء الحديث عن تماثيل سليمان في الآية الكريمة التالي:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
لنطرح عندها السؤال التالي على الفور: ما علاقة التماثيل بما حولها من مفردات؟ وبكلمات أكثر دقة نقول: لماذا جاءت التماثيل في سياق الحديث عن المحاريب وجفان كالجواب وقدور راسيات؟
رأينا: نحن نظن أن فهمنا لهذه الأشياء سيسعفنا في فهم مفردة التماثيل نفسها، فالعلاقة بين المفردات في الآية الواحدة (أو ما نسميه بـ cohesive tie باللسان الأعجمي) يجب أن تكون جليّة، فالمفردات لا تتراكم مع بعضها البعض في السياق القرآني الواحد بشكل اعتباطي. لذا لابد من طرح السؤال على النحو التالي: كيف يمكن أن نربط مفردة التماثيل بما جاء قبلها مباشرة (أي مَحَارِيبَ) وما جاء بعدها مباشرة (أي وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ).
رأينا: لو دققنا في النص جيداً لما عدمنا الفهم بأن الأمر من سليمان قد صدر للجن بأن تعمل له مَا يَشَاءُ مِنْ:
1.     مَحَارِيبَ
2.     وَتَمَاثِيلَ
3.     وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ
4.     وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ
السؤال: ما هي هذه الأشياء؟ ولماذا أمر سليمانُ الجنَ بأن تعمل له هذه الأشياء على وجه التحديد؟
افتراء خطير جداً جداً من عند أنفسنا نظن أنه غير مسبوق: هذه هي أركان الإسلام الأربعة، فالإسلام كبناء يبنى على أربعة أركان فقط (وليس خمسة كما يحب أهل الإسلام أن يروجوا له)، فالبناء يقوم على قواعد أربعة وليس على خمس قواعد كما في الشكل التوضيحي التالي:


         
فنحن نظن أن المقولة الشائعة بأن الإسلام قد بني على خمسة أركان هي  مقولة غير صحيحة لأنه يستحيل أن يكون هناك إسلام أصلاً ما لم يكن هناك إقرار بوحدانية الله:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
فلا بد من وجود الإسلام أولاً، ويكون ذلك بأن ينطق الإنسان شهادة التوحيد المتمثلة بالإقرار أن الله هو الإله الأحد الصمد، عندها يصبح الإنسان مسلماً يستطيع أن يقيم بناء الإسلام، وهذا لا شك ينطبق على من كان مسلماً قبل محمد كإبراهيم مثلاً:
          مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ    آل عمران (67)
وإسماعيل وإسحق ويعقوب:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ                            البقرة (133)
ويوسف:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ                                               يوسف (101)
وجميع أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين وذلك لأن الدين عند الله هو الإسلام منذ أن خلق البشرية وحتى يرث الله الأرض ومن عليها:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ                                       آل عمران (19)
ومنذ ذلك الوقت الذي كان فيه الإسلام هو الدين عند الله كان هناك شعائر لابد من تطبيقها، فكانت الصلاة والصيام والزكاة والحج. لذا فإن قواعد الإسلام – في ظننا- هي: الصلاة والحج والصدقة والصيام، وهذه هي – في رأينا المفترى- ما دعا سليمان أن يأمر الجنَ أن يعملوا له هذه الأشياء وهي (مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) ليتمكن من خلالها أداء هذه الشعائر الأربعة بالطريقة التي يجب أن تطبق فيها على أرض الواقع كما أرادها الله، ولكن كيف؟
إن هذا الافتراء يجبرنا على النبش في هذه الأشياء واحدة تلو الأخرى، ولنبدأ بالمحاريب سائلين الله أن يهدينا رشدنا فلا نفتري عليه الكذب.

أولاً: باب المحاريب
ما هي المحاريب؟
رأينا: لم ترد مفردة المحاريب في كتاب الله إلا في هذه الآية الكريمة التي تتحدث عن محاريب سليمان التي كانت الجن تؤمر من قبل سليمان ببنائها له:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
لذا لم نجد بدّاً أن نظن بأن المحاريب هي جمع مفردة "محراب" التي وردت في السياقات القرآنية التالية من كتاب الله:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ                                                                                         آل عمران (37)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ                                                           آل عمران (39)
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا                   مريم (11)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ                                            ص (21)

ولو دققنا في هذه السياقات القرآنية جميعاً لربما خرجنا بالاستنباط بأن المحراب هو – في زعمنا- مكان خاص (كالخلوة) يقيم فيه الإنسان صلاته ودعائه منفرداً، وليس أدل على ذلك – في ظننا- مما كانت تفعل مريم في محرابها:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ                                                                                         آل عمران (37)
فالمحراب هو مكان خلوة مريم حيث كانت تقيم صلاتها، فمريم كانت مأمورة أن تقنت لربها وتسجد وتركع مع الراكعين:
          يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ                                   آل عمران (43)
فأين - يا ترى- كانت مريم تقوم بكل ذلك؟ هل كانت تخرج للصلاة مع الرجال، فتسجد وتركع معهم؟
رأينا: كلا وألف كلا، لقد كانت تقيم صلاتها مع الجماعة ولكن في مكان خاص بها منفصل عنهم، وهو ما نفهم على أنه المحراب، ودليلنا على ذلك يأتي من نص الآية الكريمة نفسها، حيث أن مريم لم تكن تخرج عليهم من ذلك المكان، وكان زكريا فقط هو من يستطيع أن يدخل عليها في ذلك المحراب:
          كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
ولو دققنا النظر فيما فعل زكريا نفسه في موطن آخر من كتاب الله لربما تأكدت لدينا الفكرة بأن المحراب هو مكان خلوة خاصة حيث ينفرد الشخص فيه ليصلي ويدعو ربه، وليس أدل على ذلك – في ظننا- مما فعل زكريا نفسه:
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ                                                           آل عمران (39)
فلقد كان زكريا قائماً يصلي لوحده في المحراب لحظة أن نادته الملائكة وبشروه بيحيى نبياً من الصالحين، وليس أدل على معنى الخلوة التي يمكن أن نستنبطها من الآية الكريمة مما فعل زكريا نفسه بعد ذلك، فلقد خرج بنفسه على القوم وأشار إليهم (بالرمز) بأن يقيموا صلاتهم من دونه:
          فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا         مريم (11)
فالرجل قد دعا ربه هناك (عندما رأى ما رأى من أمر مريم)[2] وصلّى منفرداً في المحراب ، فاستجاب الله دعاءه، فنادته الملائكة هناك بأن الله يبشره بيحيى، وهناك أيضاً جاءه الأمر الإلهي بأن لا يكلم الناس (إلا رمزا) ثلاثة أيام وثلاث ليال سويا[3]:
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ                                                           آل عمران (41)
          قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا                  (10)
 ولو دققنا في الآية الكريمة التالية لوجدنا أن داوود (والد سليمان) كان أيضاً يتخذ لنفسه محراباً، فعندما حصلت الفتنة لداوود تسوّر القوم محرابه:
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
السؤال: فلماذا فزع داوود من القوم عندما دخلوا عليه في المحراب؟
رأينا: لمّا كان المحراب هو – في ظننا- مكان خلوة خاصة للعبادة الفردية (وليس كالمسجد حيث تقام صلاة الجماعة[4]) جاء فزع داوود من ظنه بأن أمراً جلل قد حصل، وإلاّ لما اضطر القوم أن يدخلوا عليه المحراب. فهم يعلمون أن هذا مكان خاص بعبادة داوود لا يدخل عليه أحد فيه، فذاك مكان يتخذه الشخص لصلاته الفردية وربما لدعاء ربه كما فعل زكريا مثلاً.
نتيجة مفتراة: لم يكن المحراب (كمكان خلوة للعبادة الفردية) غريباً على سليمان (موضوع حديثنا) لأن والده داوود كان من ذي قبل يقفل نفسه في ذلك المحراب ليؤدي طقوس العبادة الخاصة به كالصلاة (كما فعل زكريا وكما فعلت مريم). فكان لداوود – بنص الآية الكريمة- محراب واحد، أليس كذلك؟
السؤال: إن صح ما تقول، فلم أمر سليمان الجن بأن تعمل له محاريب (أي أكثر من محراب)؟ ألا يحتاج الشخص لمحراب واحد وكفى؟
جواب: لو تفقدنا السياقات القرآنية التي جاءت في مفردة المحراب لوجدناها خاصة بداوود (والد سليمان) وبزكريا وبمريم، أليس كذلك؟
افتراء من عند أنفسنا: لو حاولنا أن نمعن التفكر في الفرق بين هؤلاء الثلاثة من جهة وسليمان من جهة أخرى لوجدنا أن سليمان هو من كان دائم الترحال والتنقل. فمريم اتخذت محراباً واحداً طوال حياتها ولم تغادره إلاّ يوم أن ذهبت لتضع المسيح عيسى بن مريم وعادت إليه بعد أن وضعته. فهي كانت مستقرة في منطقة جغرافية محددة بذاتها، وكذلك كان زكريا الذي كفّله الله مريم، وكذلك كان داوود والد سليمان، فلا نجد في السياقات القرآنية أن داوود قد أتخذ من الأرض مواطن كثيرة له فيها، وإنما اتخذ موطناً واحداً واستقر فيه ليحكم بين الناس بالحق:
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ        ص (26)
فبنى محرابه هناك، وقضى حياته كلها في تلك البقعة الجغرافية. ولكن الأمر بالنسبة لسيلمان فهو مختلف قليلاً، فما أن ورث سليمانُ داوودَ حتى حشر له جنوده:
          وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ                        النمل (17)
وسار بهم في الأرض فاتحاً، وليس أدل على ذلك من وجوده في واد النمل:
حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ                                                                           النمل (18)
افتراء من عند أنفسنا: لقد كان سليمان دائم الترحال، فكان بحاجة على الدوام إلى مكان يخصصه لعبادته الفردية للصلاة فيه، لذا نحن نتخيل الأمر على النحو التالي: لقد كان سليمان يأمر الجن أن تعمل له محراباً في كل أرض تطأها قدماه، وما دام أن الدين عند الله الإسلام وأن سليمان مقر لله بالوحدانية، فلا أخال أن الدنيا ستحجزه عن إقامة ركن الإسلام الأول وهو الصلاة: فكانت المحاريب هي مكانه الخاص الذي يقيم فيه صلاته.
نتيجة مفتراة: المحراب هو مكان مخصص لإقامة الصلاة الفردية حيث يدعو الإنسان ربه بما شاء أن يدعوه.[5]

والآن لنرجع إلى الآية الكريمة التي نحن بصدد التعرض لها وفي جعبتنا هذا الفهم المفترى من عند رشيد الجراح:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
فكيف يمكن أن نفهمها؟
رأينا: نحن نعتقد جازمين أن سليمان كان يصدر أوامره للجن بأن تعمل له تلك المحاريب ليتمكن من أن ينفرد بها بنفسه في خلوة ليقيم فيها صلاته فيدعو ربه بالضبط كما كان يفعل والده داوود من قبله وكما فعل زكريا وفعلت مريم من بعده[6].
سؤال: إذا كان هذا معنى مفردة المحراب التي سبقت في النص نفسه مفردة التماثيل (موضوع حديثنا)، فماذا عن وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اللتان وردتا بعد مفردة التماثيل في الآية نفسها:
          يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ

ثانياً: وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ
السؤال: ما هي الجفان؟
الجواب: كالجواب؟
نحن نظن أن مفردة جفان هي كلمة تدل على الجمع. فبحثنا في النص القرآني فلم نجد أن مفردة "جفان" (كمفردة محاريب) قد وردت في النص القرآني إلاّ في الآية التي تتحدث عن ما كانت تعمل الشياطين لسليمان بأمر منه:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
فحاولنا أن نبحث عن الكلمة التي تدل على المفرد منها (كمفردة جفن مثلاً) فلم نجد أنها قد وجدت في السياقات القرآنية. لنصل من خلال ذلك إلى الافتراء الخطير التالي: مفردة جفان لم تفصل بنفسها في كتاب الله.
السؤال: فما العمل إذن؟
جواب: لنرجع إلى الآية نفسها لنجد أن الله قد عقد تشبيهاً بين الجفان والجواب فقال:
          وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ
إذن، صحيح أننا لا نستطيع أن نفهم مفردة جفان من خلال المفردة نفسها (أو من خلال مشتقاتها) كما فعلنا في حالة المحاريب مثلاً، لكننا نستطيع أن نفهمها من خلال ما شبّهت الجفان به، إنه الجواب بناء على المعادلة التشبيهية التالية:
                             وَجِفَانٍ             كَـ                  الْجَوَابِ
فلو استطعنا أن نفهم ماهية الجواب لأسعفنا ذلك بكل تأكيد أن نخرج بتصورات عن ماهية تلك الجفون التي كانت تعملها الجن لسليمان بأمر منه، فالجفان هي ما يشبه الجواب، أليس كذلك؟
السؤال: ما هي الْجَوَابِ؟
بحثنا عن مفردة الجواب فلم نجد أنها قد وردت في كتاب الله إلا في الآية الكريمة نفسها التي تتحدث عن الجفون:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
لذا كان لزاماً أن نعمد للبحث عن مشتقاتها، فظننا أن جواب تفرد على "جب" كما جاء في قصة يوسف:
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
لو أمعنا التفكر في مفردة الجب التي ترد في هذه الآية الكريمة لربما خرجنا باستنباطات نظن أنها ذات علاقة وطيدة بقصة سليمان، ولكن شريطة أن نفهم الآية بحرفيتها وليس كما تدور في مخيلتنا بسبب ما نخر في عقولنا من تفسيرات سابقة، لذا كان لزاماً علينا أن نطرح التساؤل المثير التالي: أين ألقى إخوة يوسف أخاهم يوسف بعد أن ذهبوا به؟
جواب: في غيابت الجب.
سؤال: وما هي غيابت الجب؟
رأينا: لابد من الاستدراك بأن أخوة يوسف لم يلقوا أخاهم في الجب وإنما ألقوه في غيابت الجب، وفي هذا – في ظننا- فرق عظيم، ولكن لماذا؟
تصورات شعبية سائدة: غالباً ما تبادر لأذهان العامة (ربما بسبب مستوردات أهل العلم من تحريفات أهل الكتاب) بأن المكان الذي ألقي فيه يوسف هو ما يشبه بئر الماء، وهذا في ظننا غير صحيح على الإطلاق. ولكن لماذا؟
رأينا: أولاً، نحن نظن أنه لو كان الأمر على تلك الشاكلة لربما صُوّرت القصة لنا في كتاب الله بنفس الطريقة (أو ما يشبهها) كما حصل مع موسى يوم أن سقى للامرأتين عندما وصل إلى أرض مدين:
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
فلو تم إلقاء يوسف في شيء يشبه "بئر الماء" (أو ربما بركة ماء) لربما جاء تصوير "وارد القوم" الذي أرسلوه وهو يقوم بفعل السقاية كما كان في حالة موسى مثلاً.
ثانياً، والأهم مما سبق - في نظرنا- هو أنه لو كان الأمر على مثل تلك الصورة التي تدور في أذهان العامة لربما ما كان القوم (أي السيّارة) مضطرين أصلاً أن يرسلوا واردهم إلى غيابت الجب:
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)   
نتيجة مفتراة: لو كان ما أُلقي فيه يوسف يشبه بئر الماء في طبيعته لكان ذلك واقع على طريق القوم، ولربما لم يضطروا أن يرسلوا إليه شخصاً بعينه ليحضر لهم منه الماء، ولربما توقفت القافلة (أي السيارة) بأكملها عند ذلك البئر أو حوض الماء المزعوم وشربوا منه جميعاً.
ثالثاً، نحن نقرأ في النص القرآني أن السيارة قد أرسلوا واردهم، أليس كذلك؟ إن هذا يدعونا على الفور إلى طرح السؤال التالي: كم هي كمية الماء التي يستطيع ذلك الوارد أن يأتي القوم بها بنفسه؟ هل يستطيع أن يحضر الماء الذي يمكن أن يسقي دوابهم مثلاً؟ ولماذا لم تذهب الدواب بنفسها لترد حوض الماء ذلك؟ هل السيارة مضطرين أن ينقلوا لها الماء من خلال الوارد؟ أم هل كانت مهمة الوارد فقط أن يستكشف وجود الماء من عدم وجوده في ذلك المكان وكفى؟ من يدري!!!
السؤال: ما هو إذن غيابت الجب؟
رأينا: مهما تكن الإجابة على التساؤلات السابقة فإننا نزعم الظن بأن غيابت الجب هو عبارة مكان لا يمكن أن تشق فيه طريق، وهو –لا شك- يقع بعيداً بعض الشيء عن طريق السيارة، لذا فهو مكان يصعب أن يكون متواجداً على حافة طريق، وهو مكان بحاجة أن يبذل الشخص جهداً ووقتاً للوصول إليه بالضبط كما فعل وارد القوم الذي جاء بخبر يوسف. فكيف يمكن أن نتخيله؟
جواب: لو راقبنا النص القرآني الذي يتحدث عن قصة يوسف مع إخوته لوجدنا أن الأمر قد صوّره القرآن الكريم بلفظتين، فلقد جاء بلفظ الإلقاء في بداية القصة عندما خطط الأخوة مكيدتهم للتخلص من أخيهم:
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
وجاء بلفظ "الجعل" عندما عمدوا إلى تنفيذها:
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
السؤال: كيف سيتم الإلقاء والجعل في آن واحد؟ أي كيف سيقوم الأخوة بجعل أخاهم وإلقاءه في غيابت الجب؟
رأينا: انظر معنى الجعل في الشيء كما يرد في الآية الكريمة التالية التي تتحدث عن قصة يوسف نفسها:
          فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
ألا يدل ذلك - عزيزي القارئ- أن من أراد أن يجعل شيئاً في شيء عليه أن يدخله إلى داخله أولاً، فالسقاية عندما جعلت في رحل أحدهم، قام أحد رجال العزيز بإدخالها في رحل ذلك الرحل، وبالمنطق نفسه فإننا نفتري القول بأن إخوة يوسف قد قاموا بإدخال يوسف إلى غيابت الجب أولاً، فكان ذلك هو – في ظننا – جزء من معنى الْجُبِّ
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
ويمكن أن تتعزز تلك الصورة بما يمكن أن يرسم في الأذهان من كيفية جعل الأصابع في الآذان كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية:
          وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا                                                                                                  نوح (7)
نتيجة: الجعل في الشيء ينطوي على عملية يتم فيها إدخال شيء صغير في شيء أكبر منه.
افتراء من عند أنفسنا: يقوم إخوة يوسف بإدخال أخيهم في مكان وذلك بدلالة فعل الجعل:
          فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ
وكان ذلك هو - في ظننا - ما يمكن أن نفهمه على أنه الجب.
وما أن دخل يوسف في ذلك المكان (الجب) حتى قاموا بفعل آخر وهو إلقائه من هناك في مكان عميق، وتم ذلك بإنزاله من أعلى إلى أسفل بدلالة فعل الإلقاء،
          وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
وكان ذلك - في ظننا - هو معنى غَيَابَتِ 
افتراء من عند أنفسنا: بعد أن قام إخوة يوسف بإدخال أخيهم في الجب وقاموا بإلقائه في غيابته، فكان ذلك كله هو – في زعمنا- غَيَابَتِ الْجُبِّ.
فكيف يمكن أن نتخيل غيابت الجب إذن؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نتخيل المكان على أنه ما يشبه المغارة الواسعة ذات المنافذ العديدة وذات الارتفاعات والانخفاضات التي عادة ما تكون واقعة ومتصلة بالجبال المحاذية لطريق القوافل التجارية (السيارة). ويجري بها الماء في مناطقها المنخفضة، ويحتاج من أراد أن يصل إلى الماء الموجود في داخلها أن يدلي دلوه، فيدخل الشخص إلى داخلها أولاً (فيجعل فيها) ثم يقوم بورود ماءها بأن يدلي دلوه في غيابتها.
لذا نحن نتصور أن غيابت الجب هو مكان معروف بالنسبة ليوسف وإخوته، وهو لا شك مكان يكتنفه الغموض والسريّة، فيخططوا للأمر ليس فقط بأن يجعلوه فيها ولكن بأن يلقوه فيها:
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
وما أن يصلوا إلى المكان ويهموا بأن يجعلوه فيها حتى يأتي الوحي من الله ليوسف بما سيكون عليه تدبير أخوته له في المستقبل:
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
فنحن نفهم أن الوحي جاء ليوسف بحضور إخوته قبل أن يتم جعله ومن ثم إلقاءه في غيابت الجب بدليل (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) في قوله تعالى:
          وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
لذا نحن نتخيل أن الوحي جاء ليوسف على باب تلك المغارة قبل أن يتم إدخال يوسف إلى داخلها ليتم بعد ذلك إلقائه في غيابتها.
نتيجة مفتراة: الجب هو ما يمكن أن يجعل الشيء فيه جعلاً (كالمغارة مثلاً) وغيابت هو ما يمكن أن يتم إلقاء الشيء فيه إلقاء داخل ذلك الجب.
عودة على بدء
ما علاقة ذلك بقصة سليمان؟
نحن نزعم الفهم أن جفان سليمان التي كانت كالجواب كما في المعادلة التشبيهية السابقة:
          وَجِفَانٍ             كَـ                  الْجَوَابِ
تبيّن أن "جفان" سليمان كانت فقط كالجواب (جمع جب: وهي المغارة) ولم تكن كالغيابت. فالجن كانت مأمورة من قبل سليمان أن تعمل له جفان (أكثر من جفن) ولكن لم تكن مأمورة أن تجعل فيها غيابت كما في حالة يوسف.
ولو دققنا في مفردة الجفان لربما أسعفنا التفكير السطحي (من مثل تفكيري هذا) أن نفتري الظن (كاذبين بالطبع) بأنه ربما يكون لمفردة الجفان علاقة بمفردة "جفاء" التي ترد في الآية الكريمة التالية:
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
ولو أمعنا التفكر في الجُفاء لوجدنا أنه ما يحصل للزبد (وهو ما يتراكم من رغوة وفقاعات – بالكلام الأردني أو foam باللسان الأعجمي) فوق سطح الماء الذي يكون من تحتها. فما على سطح الماء فيذهب جفاء، أي لربما لا أحد يعلم أن يذهب أو لا تستطيع تعقبه أو حتى جمعه، ففي نهاية المطاف هو ليس أكثر من غطاء لما تحته. فالجفاء (وهو بلا شك عديم الأهمية) يغطي تحته الماء الذي هو بلا شك شيء ثمين جداً للناس (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
لذا تتراءى لنا الصورة على نحو أن هناك شيئاً ربما لا قيمة له يستخدم كغطاء لشيء بالغ الأهمية والفائدة.
كما أننا نظن أن عنصر الخفاء موجود في مفردة الجفان لظننا (كاذبين بالطبع) أن لها علاقة بما جاء في الآية الكريمة التالية:
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
فهناك في المدينة:
1.     المنافقون (الْمُنَافِقُونَ)
2.     الذين في قلوبهم مرض (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)
3.     المرجفون في المدينة (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ)
السؤال: من هم المرجفون في المدينة؟
رأينا: نحن نظن أن المرجفين في المدينة هم الذين يعملون في السر للحصول على معلومات عنها (أو secret agents باللسان الأعجمي)، فهم في نهاية المطاف أشخاص عديمي الأهمية بأجسادهم ولكنهم يحملون معلومات ثمينة وقيمة.
افتراء خطير من عند أنفسنا: نحن نشعر أن مفردة "جفان" تحمل في ثناياها معنى الغطاء الذي لا قيمة له بحد ذاته ولكنه يخفي تحته الشيء الثمين جداً كما الزبد الذي يذهب جفاء وكما المرجفون في المدينة، ولا ننسى أن نتخيل طبيعة حركة كل منهما، فزبد الماء الذي يذهب جفاء يبقى يروح ويجيء في حركة مستمرة، وكذلك هم المرجفون في المدينة، فهم ينقلون الأخبار ومن وإلى بشكل متكرر.
ولعلي أظن (وإن كنت لا أجزم القول) بأن ما نسميه بـ  "جفن العين" (وتجمع على جفون) ربما جاءت من هذا الباب: فجفن العين بحد ذاته ليس أكثر من غطاء لما هو فعلاً ثمين بالنسبة للإنسان وهو العين (أي البصر).
ولو دققنا النظر جيداً في هذه المفردات مجتمعة لوجدنا أنها تتحرك بشكل دائم، فالزبد يذهب جفاء لأنه يروح تارة ويجيء تارة أخرى (راقب حركة زبد الماء)، والمرجفون في المدينة يتحركون على الدوام، وكذلك هو جفن العين، فهو يفتح ويغلق في حركة دائمة. فلا يمكن أن يفتح ويبقى مفتوحاً على الدوام ولا يمكن أن يغلق ويبقى مغلقاً على الدوام، لأن في كلتا الحالتين يكون الموت قد قضى عليه.[7]
افتراء خطير جداً جداً من عند أنفسنا: نحن نتخيل جفان سليمان التي كانت تعملها الجن له بأمر منه هي عبارة عن ما يشبه المغارات الجبلية التي يمكن أن يكون لها أبواب تفتح وتغلق، وهي تشبه في شكلها وفي حركتها عين الإنسان التي تغطيها الجفون (من الأسفل ومن الأعلى) لتحفظ ما تحتها (البصر) من أي خطر خارجي. فتلك الجفون (أو ما يشبه الجفان) هي بحد ذاته ليست ذات قيمة ولكنها لا شك كانت تخفي شيئاً ثميناً داخلها، فما هو؟
رأينا: إنها كنوز سليمان
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
 ولو دققنا في قصة سليمان لوجدنا أن سليمان قد آتاه الله ملكاً عظيماً:
          قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
وهو بذلك صاحب ثراء كبير، فعندما حاولت تلك المرأة التي جاءه الهدهد بخبرها من سبأ أن تقدم "الرشوة" لسليمان بالمال ليدعها وقومها وشأنهم، رد عليها سليمان بأنه لا يرغب في المال لأن الله أعطاه منه الكثير:
          فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ                                                                                                    النمل (36)
ومع ذلك، فلقد جاءته تلك المرأة في نهاية المطاف وأسلمت معه لرب العالمين، فلا شك عندنا إذن أنها أضافت مالها كله إلى ما عند سليمان أصلاً من المال الكثير، فأين كان يخزّن سليمان ماله كله؟
جواب: في الجفان التي كالجواب (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)
سؤال: وماذا يتوجب على من عنده المال الكثير أن يفعل به؟
رأينا: أن يؤتي حق الله فيه، وذلك هو ركن من أركان الإسلام كان يعمد سليمان على القيام به، وهو أن يدفع الصدقات من ماله الكثير المخزن في تلك الجفان التي تشبه الجواب.

ثالثاً: وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ
نعود إلى الآية الكريمة التي تتحدث عن تماثيل سليمان لنثير تساؤلاتنا هذه المرة حول عبارة "وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ" التي كانت تعملها الجن لسليمان:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
التساؤلات
-        ما هي القدور الراسيات التي كانت الجن تعملها لسليمان بأمر منه؟
-        ولماذا كانت الجن مأمورة أن تعملها؟
-        فماذا كان سليمان يعمل بتلك القدور؟
-        وما علاقة ذلك بقصة التماثيل التي هي محور النقاش في هذا الجزء من المقالة؟
ما هي القدور؟
بحثنا في القرآن الكريم عن مفردة "قدور" فلم نجدها قد وردت بلفظتها إلاّ في الآية التي تتحدث عن تماثيل سليمان:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
ولما ظننا أن مفردة "قدور" هي كلمة تدل على الجمع حاولنا البحث عن المفرد منها وهو ما نظن أنه مثل "قدر" مثلا، فلم نجد لها ذكر في كتاب الله، فاجتهدنا القول أن مفردات مثل "قدور وقدر"  تدل على الاسم (أي الشيء) وظننا أن بالإمكان اشتقاق الفعل منها، فزعمنا أن الفعل من "القدر والقدور" هو – برأينا– ما يرد في الآيات الكريمة التالية:
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ                                                                                                         الشورى (12)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ                                                                                                            الزمر (52)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ العنكبوت (62)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ              سبأ (36)
وصيغة الفعل الماضي (كما يجب أهل اللغة أن يسمونه) ترد في الآية الكريمة التالية:
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا ۖ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)                                                                                       الفجر
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ۖ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
وصيغة فعل الطلب (أو الأمر بكلمات النحويين) وردت في الآية الكريمة التالية:
          أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ               سبأ (11)
السؤال: كيف يمكن أن نفهم المفردة بناء على ما هو متوافر حتى الساعة عندنا من ألفاظ الكتاب الكريم نفسه؟
رأينا: لو دققنا بجميع صيغ هذا الفعل لوجدنا أنه ملازماً على الدوام للرزق:
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)                                                                       سبأ
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)                                                                                        الروم
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)                             القصص
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: إن مفردة "قدر" ومشتقاتها لها علاقة مباشرة بالرزق.

ولو راقبنا المفردة في السياق القرآني لوجدنا أن من بسط الله له في الرزق فعليه أن لا يجعل يده مغلولة إلى عنقه وعليه أيضاً أن لا يبسطها كل البسط:
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)                                     الإسراء
ومن رزقه الله رزقاً حسناً فعليه – حسب الآية الكريمة التالية- أن ينفق منه في سره وفي جهره:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ۖ هَلْ يَسْتَوُونَ ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ                              النحل (75)
والقاعدة في الإنفاق – حسب الآية الكريمة التالية- تكون على النحو التالي:
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
فالله جعل لكل منا "قَدَرُهُ" في الإنفاق، فمن وسع الله عليه في رزقه فله قَدَرُهُ، ومن قدر الله عليه رزقه فله قَدَرُهُ كذلك.
السؤال: ما علاقة ذلك كله بقصة قدور سليمان الراسيات؟
افتراء من عند أنفسنا: لمّا كان سليمان قد وسّع الله عليه في رزقه فلا شك أنه لم يجعل يده مغلولة إلى عنقه وقد كان يبسطها (ولكن ليس كل البسط حتى لا يقعد ملوما محسورا). فنحن نعلم أن الله يبتلي الإنسان ليعلم ما يصدر عن الإنسان نفسه:
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
وقد حصل مثل هذا الابتلاء لسليمان:
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
فلا شك أن سليمان قد اختار طريق الشكر، أليس كذلك؟
ولو رجعنا إلى آية التماثيل التي ورد فيها ذكر القدور الراسيات لوجدنا أن آل داوود قد كانوا يعملون شكرا:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
و لو ربطنا ذلك بما كان عند والده داوود من قبل لوجدنا الآية الكريمة التالية:
          أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ               سبأ (11)
فكيف كان آل داوود يعملون شكرا؟
رأينا: نحن نظن أن سليمان لم يكن يجعل يده مغلولة إلى عنقه بل كان يبسطها لينفق – حسب قدره- مما رزقه الله، ولكن كيف كان يفعل سليمان ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن هناك حاجة أن نميز بين الشكر (كما كان يفعل نوح مثلاً) من جهة:
          ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
ومن يعمل شكراً (كما كان يعمل آل داوود) من جهة أخرى:
          اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
ولكن كيف يكون عمل الشكر؟
جواب: لننظر في الآية الكريمة التالية:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
السؤال: كيف يكون شكر الله؟ وكيف يكون شكر الوالدين؟
فهل يكتفي الإنسان أن يشكر لوالديه بالقول فقط؟ أي هل ما هو مطلوب من الإنسان لكي يشكر لوالديه أن يعبر لهم عن امتنانه وتقديره لهم بالكلام فقط كأن يقول لهم "شكراً" مثلاً؟ وماذا لو كان الوالدان بحاجة إلى مساعدة؟ وماذا لو كان الوالدان فقيران مثلاً؟ هل يطلب من الإنسان أن يعبر لهم بالكلام عن خالص تقديره لهم وامتنانه؟
رأينا: كلا وألف كلا، فلابد أن يقوم الإنسان بعمل شيء ما ليعبر لوالديه عن شكره لهم.

وماذا عن شكر الله؟ كيف يمكن للإنسان أن يشكر الله أصلاً؟
رأينا: لا شك كذلك أن الشكر بالكلام يكون على نعم الله التي أنعمها على الإنسان:
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
فعندما تأكل من رزق الله (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) وتعبر عن ذلك اعترافك بأن هذا من رزق الله بالكلام فأنت تشكر الله إذن (وَاشْكُرُوا لَهُ)، ولكن هل يتوقف الأمر عند ذلك الحد؟
رأينا: كلا وألف كلا، فلابد أن تقوم بفعل تعبر فيه كذلك عن شكرك لله لتكون ليس فقط ممن يشكر الله ولكن لتكون ممن يعمل شكراً لله، كأن تتصدق على الناس ببعض ما بسط الله لك من الرزق خاصة على من قدر الله عليه رزقه:
          اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ                                                                                                         الرعد (26)
وعندما تقوم بذلك ويكون غرضك فقط طاعة الله، وليس الحصول منهم على جزاء أو شكورا، فإنك تكون بذلك ممن يعملون شكرا:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
نتيجة مفتراة: لمّا كان سليمان ممن بسط الله له في الرزق، واختار سليمان أن يكون عبدا شكور، كان يترتب عليه أيضاً أن يعمل شكرا، فينفق مما بسط الله عليه من الرزق على من قدر الله عليه رزقه. ولا شك أن سليمان يعلم أن ما ينفق من شيء فالله يخلفه:
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)                                                     سبأ
وسليمان يعلم أيضاً أن الأموال بحد ذاتها (ما لم يؤتى حق الله فيها) وأن الأولاد أنفسهم (ما لم يكونوا صالحين) لا تقرب الناس إلى الله زلفى:
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
ولكن لو بحثنا في كتاب الله عن آل داوود لوجدنا أن لهم عند الله زلفى، فكان ذلك من نصيب داوود:
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (25)                       ص
وكان ذلك أيضاً من نصيب ولده سليمان:
هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
نتيجة: لا يذكر القرآن الكريم أن لأحد من الناس عند الله زلفى إلا آل داوود (داوود وولده سليمان من بعده). ولكن لماذا؟
رأينا: للإجابة على هذا التساؤل فلابد أن ننتقل مباشرة إلى الحديث عن التماثيل التي كانت تعملها الجن لسليمان بأمر منه، وهو محور النقاش في هذه الجزء من المقالة منذ بدايتها، فنحن تعرض للحديث عن جانب من المفردات الأخرى وهي المحاريب وجفون كالجواب وقدور راسيات لأنها فقط جاءت في سياق الحديث عن التماثيل

باب التماثيل
سننطلق من هنا في نقاشنا عن مفردة التماثيل متعرضين للآية الكريمة التالية:
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
إن الهدف الذي يرجوه من يعبدون شيئاً من دون الله (كعبادة الشياطين والأصنام وحتى الناس العاديين) هو أن يقربوهم إلى الله زلفى، وذلك لأن هؤلاء هم أولياءهم. (للتفصيل بمعنى مفردة زلفى انظر مقالتنا تحت عنوان: لماذا نصلي خمس مرات في اليوم والليلة؟)
فالولاية المطلقة لله وحده:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ ...
ولكن الطاغوت هو ولي الذين كفروا:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ                                                                              البقرة  (257)
إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ             آل عمران (175)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ                                                          الأنعام (121)
وهناك أولياء للكافرين من الإنس:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ۖ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ                                                                           الأنعام (128)
فالظالمين هم أولياء بعضهم بعضا:
          وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ                               الأنعام (129)
ولكن الله هو من يتولى الصالحين:
          إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ                             الأعراف (196)
والولي هو من له حق التصرف بمن له الولاية عليه:
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
فأنت عندما تتخذ الشيطان وليا
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)                                                                                   النساء
فإنك تمنحه حق التصرف فيك.
وفي الوقت الذي نجد فيه أن الله هو ولي المتقين، فإن المتقين أنفسهم هم أولياء المسجد الحرام على وجه التحديد:
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ                                                                    الأنفال (34)
وهو من استن الله علينا سنته بأن نحج إليه:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
ولكن الذين اتخذوا من دون الله أولياء فإن بيوتهم لا تتعدى أن تكون أكثر من بيت العنكبوت من شدة وهنها:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ                                                                    العنكبوت (41)
نتيجة مفتراة: المسجد الحرام الذي ببكة هو مكان شعيرة الحج التي أمرنا الله بأدائها. فهو المكان الذي رفع فيه إبراهيم القواعد من البيت وولده إسماعيل:
          وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
وهناك دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
السؤال المربك لنا: لماذا أمرنا الله بحج البيت بالرغم أنه نهانا عن عبادة الأصنام؟ فما الفرق بين أن يذهب الإنسان إلى ذلك البيت ليطوف به وفي الوقت ذاته لا يجوز له أن يفعل ذلك للأصنام؟ فما الفرق بين البيت الحرام نفسه والأصنام التي كانت متواجدة فيه ومن حوله؟ أليست هي جميعها حجارة في نهاية المطاف؟

ما الفرق البيت الحرام والأصنام؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن البيت الحرام هو تمثال يعكف الناس له (وهذا من الدين) بينما الأصنام هي ما يعكف الناس عليها (وهذا ليس من الدين). ولكن كيف؟
جواب: لو راقبنا قصة العبادة في القرآن الكريم لوجدنا أن عبادة الأصنام كانت من الركائز الأساسية في ديانات أقوام كثيرين بمن فيهم قوم إبراهيم مثلاً:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)                إبراهيم
ولو رجعنا إلى قصة أصنام إبراهيم لوجدنا فيها شيئاً – نظن أنه- غاية في الغرابة:
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
ولوجدنا القوم يردون عليه بالقول:
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
فيرد عليهم إبراهيم قائلا:
قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
وهنا يحدث حوار جدّي بين إبراهيم وقومه عندما يحاول القوم أن يستفسروا منه عن ما جاءهم به:
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
فما يكون من إبراهيم إلا أن يدعوهم إلى ربهم الحقيقي:
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
ولا يتوقف إبراهيم عند هذا الحد بل يتوعد أصنامهم بالمكيدة:
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
وهنا نتوقف مع أول سؤال نود أن نلفت انتباه القارئ له ليشكل حيّزاً كبيراً في نقاشنا عن مفردة التماثيل، والسؤال هنا هو: لماذا تغير اللفظ هنا إلى مفردة الأصنام بعد أن كان الكلام قد ابتدأ بالحديث عن التماثيل؟ فالمراقب للفظ يجد أن إبراهيم في البداية يستفسر عن عكوف القوم للتماثيل:
          إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
ولكنه في نهاية الحديث يتوعد الأصنام بالمكيدة:
          وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)[8]
فيقوم بتجذيذ الأصنام:
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
السؤال: ما الفرق بين التماثيل والأصنام؟ ولماذا بدأ إبراهيم حديثه عن التماثيل؟ ولماذا انتهى إلى الحديث عن الأصنام؟
رأينا: للإجابة على هذا السؤال لابد من مراقبة قول إبراهيم أولاً كما جاء في الآية الكريمة التالية:
          إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
رأينا: نحن نظن أن القراءة الصحيحة للآية الكريمة تدل على أن إبراهيم كان يستفسر فقط عن ما يعمل القوم بالتماثيل، ونظن أن إبراهيم لم يكن يجد ضيراً في أن يعكف القوم للتماثيل. وبكلمات أخرى فإننا نقول أن إبراهيم ربما لم يكن يجد مشكلة مازال القوم متخذين التماثيل للاعتكاف. ونحن نفتري الظن بأنه لو جاء رد القوم على نحو أنهم فعلاً يعكفون لتلك التماثيل لمّا كان هناك مشكلة عند إبراهيم في فعل القوم، فإبراهيم – نحن نفتري الظن- ربما لم يكن يرى ضيراً في الاعتكاف للتماثيل، ولكن لما جاء رد القوم على أن فعلهم لم يكن مجرد اعتكاف للتماثيل ولكنه كان أيضاً عبادة:
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
عندها فقط ثارت ثائرة إبراهيم وأنكر عليهم فعلتهم تلك:
قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن بأن إبراهيم يرى المشكلة في عبادة تلك التماثيل ولم يكن يرى مشكلة في اعتكاف القوم لها. ولكن لماذا؟
افتراء خطير جداً جداً من عند أنفسنا: نحن نرى أن إبراهيم لم يكن يرى مشكله في الاعتكاف للتماثيل لأن ذلك من شرعة كل الديانات السماوية، فاليهود يعكفون للتماثيل والنصارى يعكفون للتماثيل ونحن المسلمين لا شك نعكف للتماثيل. كلام خطير، أليس كذلك؟
عودة على بدء
حاولنا البحث في كتاب الله عن مفردة تماثيل فما وجدنا أنها قد وردت في كتاب الله إلاّ في موقعين وهما:
1.     التماثيل التي كانت تعملها الجن لسليمان:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ                                                   سبأ (13)
2.     التماثيل التي كان يظن إبراهيم أن القوم يعكفون لها:     
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)                                                                  الأنبياء
ولو حاولنا أن نربط بين الآيتين لوجدنا أن الهدف من وجود التماثيل هو الاعتكاف، فإبراهيم كان يظن أن القوم كانوا يقومون بفعل الاعتكاف للتماثيل، ولكن لما تبين له أنهم لا يتوقفون عند ذلك الحد، وإنما يقوم بما هو أكثر من ذلك وهو عبادتها، انقلبت لتصبح تلك التماثيل أصناماً تعبد من دون الله، كما جاء على لسان القوم:
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
عندها لم يتردد إبراهيم في إظهار عداوته لها، فيتوعدها بالمكيدة:
          وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
فيقوم بتجذيذ تلك الأصنام:
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
لأنها أصبحت تضل كثير من الناس:
          رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: مادامت تلك الكينونات متخذة للاعتكاف فهي تسمى تماثيل، ولكن عندما تصبح تلك الكينونات تعبد من دون الله تنقلب إلى أصنام، فالفرق بين التماثيل والأصنام هو – هو في ظننا- فرق في الوظيفة وليس في الشكل. ولكن كيف؟

الاعتكاف
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أنه يجب علينا أن نميز بين الاعتكاف للتماثيل و الاعتكاف على الأصنام، ونحن نظن أن لا ضير في الاعتكاف للتماثيل ولكن تكمن المشكلة في الاعتكاف على الأصنام.
الدليل
ربما نستطيع أن نتذكر ما حصل ببني إسرائيل عندما جاوز الله بهم البحر ونجّاهم من فرعون وقومه، وما أن يأتوا على قوم حتى يجدوهم يعكفون على أصنام لهم، فيطلبوا من نبيهم موسى أن يجعل لهم آلهة كما لهؤلاء القوم آلهة، فما يكون من موسى إلا أن ينكر عليهم مثل هذا الطلب:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
والسبب في ذلك حسب ما يقول لهم نبيهم أن ما يقوم به هؤلاء القوم هو عمل باطل لأنهم اتخذوا آلهة غير الله:
إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
نتيجة: عندما يعكف الناس على الأصنام فإنهم يتخذوها آلهة من دون الله وهذا بلا شك ما لا يجب أن يحصل.
ولكن لو راقبنا ما جاء في الآية الكريمة التالية لوجدنا أن الله يطلب من إبراهيم وولده إسماعيل أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
ولكن إبراهيم لا يغفل عن دعاء ربه أن يجنبه وبنيه من عبادة الأصنام
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
فعباد الله مأمورون أن يعكفوا إلى البيت بالإضافة إلى أن يطوفوا به وأن يركعوا ويسجدوا فيه. وهذا برأينا ما جعل محمدا يعمد إلى تكسير تلك الأصنام التي عكف عليها القوم، فعبدوها من دون الله عندما عاد فاتحاً مكة، فدمّر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ولكن المفارقة تكمن في أن محمداً في الوقت ذاته لم يدمر البيت الحرام نفسه الذي كانت ترقد تلك التماثيل فيه وحوله، فلماذا؟
السؤال: لماذا لم يقم محمد بتدمير البيت واكتفى بتدمير الأصنام الموجودة عنده؟
رأينا: لأن البيت هو عبارة عن تمثال يتم الاعتكاف له ولكنه ليس صنماً يعكف عليه ليعبد من دون الله مصداقا لقوله تعالى:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
السؤال: ما هو الاعتكاف؟
نحن نفهم من الآية الكريمة السابقة نفسها أن هناك طوافاً وركوعاً وسجوداً بالإضافة إلى الاعتكاف:
          لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
فالطواف هو مما يقوم به من حج البيت أو اعتمر:
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
ويكون ذلك بالانتقال من مكان إلى مكان بالحركة ذهاباً وإياباً:
          وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)    
          يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
          وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
          فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
ويتم ذلك بطريقة الإحاطة من جميع جوانبها واتجاهاتها كما حصل في حالة الجنة التي طاف عليها طائف من ربك:
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
أما الركوع والسجود فهما من الأعمال التي يقوم به من أراد الصلاة كما كانت تفعل مريم في محرابها:
          يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وأظن أن الفرق بين الركوع والسجود يكمن – كما ذكرنا في مقالات سابقة لنا- في المكان والهيئة، ففي حين أن السجود لا يتطلب الاغتسال (الوضوء) كسجود الشكر مثلاً، فإن الركوع يتطلب ذلك لأنه يكون في مكان صلاة الجماعة (للتفصيل انظر سلسلة مقالاتنا: كيف تم خلق عيسى بن مريم؟)
ويبقى السؤال الرئيس وهو: ما هو الاعتكاف؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم الفهم أن الاعتكاف هو المكوث في مكان محدد بعينه كالمساجد مثلاً بغية أداء شعائر العبادة:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
ولا شك أن الإنسان مادام معتكفاً في المسجد فلا يحق له معاشرة النساء (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، والاعتكاف الأكبر يكون عند بيت الله الحرام:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
لذا نحن نفتري الظن بأن الناس ممنوعون من معاشرة النساء في الحج وذلك لأن منطقة الحج بأكملها تصبح كالمسجد، وأظن أنها المنطقة التي يسميها القرآن بكة (بالباء) :
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
وهي تختلف عن مكة (بالميم) التي هي في ظننا المدينة بأكملها:
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
فمعاشرة النساء في ذلك المكان يعتبر كأنه معاشرة للنساء أثناء الاعتكاف في المساجد:
... وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
فكيف يكون الاعتكاف؟
جواب: لا شك أن الاعتكاف عند بيت الله الحرام يحصل عندما يلبس الحاج ملابس الإحرام ولا ينتهي إلا عند التحلل منها لأنها هي الفترة التي لا يحق للحاج مباشرة النساء فيها. فالإنسان يستطيع أن يطوف بالبيت دون ملابس الإحرام، ويستطيع أن يركع وأن يسجد دون ملابس الإحرام، فقبل أن يلبس الحاج ملابس الإحرام وبعد أن يتحلل منها يستطيع الطواف بالبيت كما يستطيع أن يسجد وأن يركع مع الراكعين، ولكن الاعتكاف (المكوث في مكان واحد بقصد أداء فريضة كفريضة الحج) لا يتم إلا بملابس الإحرام. وفيه يمنع على الحاج من فعل صيد البر ما دام محرما:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
فالثمرات تجبى إلى ذلك المكان الذي هو لا شك حرماً آمنا:
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
ويمنع على الحاج المعتكف مباشرة النساء:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
فالاعتكاف يحصل بأن يقضي الإنسان جزءاً من وقته في مكان محدد بعينه بغية أداء فريضة كالصلاة والحج، ويكون الاعتكاف في المسجد (أي مسجد لأداء فريضة الصلاة) أما الاعتكاف في الحج فيكون عند البيت الحرام بغية أداء فريضة الحج:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
نتيجة مفتراة: عندما يذهب المؤمن إلى البيت الحرام بغية أداء فريضة الحج فهو يبقى في حالة اعتكاف متى لبس ملابس الإحرام ويمنع عليه صيد البر والرفث إلى النساء مادام معتكفاً (أي لابساً ملابس الإحرام) بغية أداء فريضة الحج، وما أن يتحلل من إحرامه حتى ينهي حالة الاعتكاف تلك فيصبح قادراً على معاشرة النساء.
عودة على بدء
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
السؤال: لماذا كانت الجن تعمل لسليمان التماثيل إذن؟
رأينا: أولاً، لما كان سليمان مسلماً (مادام أن الدين عند الله الإسلام) فإنه كان على الدوام مواظبا على أداء شعائر العبادات الأربعة وهي الصلاة والحج والزكاة والصوم. فكانت التماثيل هي المكان الذي يؤدي فيه سليمان شعيرة الحج بالاعتكاف. ولما كان سليمان دائم التنقل بجنده كان يأمر الجن بأن تبني له من تلك التماثيل (كما البيت الحرام مثلاً) ليتمكن من أداء شعيرة الحج.
ثانياً، لما كان سليمان من آل داوود لم يكن يتخذ من الأرض المقدسة مسكناً له ولم يكن يتخذ من البيت الحرام مسكناً له، لذا كان على الدوام بحاجة إلى تمثال يجعله قبلة له ليوجه وجهه إليه في صلاته، وليحج إليه، فلا ننسى أن المؤمنين من عباد الله دائماً يتخذون من مكان محدد بعينه قبلة لهم. فلا شك أن قوم إبراهيم قد اتخذوا من المسجد الأقصى قبلة لهم فوجهوا وجوههم إليه في صلاتهم، وذهبوا إليه لأداء فريضة حجهم هناك، وقد وجه محمد وجهه قِبَلَ المسجد الأقصى قسطا من الزمن في بداية دعوته، ولكن ذلك لم يكن ليرضيه فقلب وجهه في السماء باحثاً عن قبلة جديدة، فمن الله عليه بتغيير القبلة الأولى (المسجد الأقصى) إلى القبلة الجديدة (البيت الحرام):
قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
فأخذ يوجه وجهه إليه في صلاته، ويذهب إليه لأداء فريضة الحج هناك. ولو رجعنا إلى آية تماثيل سليمان لوجدنا أن الترابط وثيق بين المحاريب من جهة والتماثيل من جهة أخرى:
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
فلماذا – يا ترى- جاءت مفردة التماثيل مباشرة بعد مفردة المحاريب؟
رأينا: نحن نفتري الظن أن السبب في ذلك هو الترابط بين المحراب (مكان إقامة الصلاة) والتماثيل (المكان الذي يولي المصلي وجهه إليه). فمن أراد أن يقيم الصلاة (في أي محراب) فعليه أن يولي وجهه جهة تمثال (كالبيت الحرام مثلاً عند المسلمين) وكالمسجد الأقصى عند النصارى واليهود.
الدليل
لو رجعنا إلى قصة موسى يوم أن كانوا مستعبدين في أرض مصر لوجدنا أن موسى يأمرهم أن يجعلوا بيوتهم قبلة:
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
فالبيوت التي تبوءها موسى وأخوه هارون كانت هي قبلة بني إسرائيل حتى خرجوا من هناك وعادوا إلى الأرض التي كتب الله لهم.
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن أن سليمان كان دائم الترحال ولما كان عليه أن يقيم صلاته كان لابد له من أن يوجه وجهه شطر بيت (تمثال) ليكون له قبلة في صلاته (في محرابه)، وليكون المكان الذي يحج إليه ليعتكف له، لذا كان يأمر الجن بأن تعمل له ما يشاء من تلك المحاريب التي يصلي فيها كما يأمرها أن تعمل له ما يشاء من تلك التماثيل التي يولي وجهه شطرها في صلاته، ويقيم فيها شعيرة الاعتكاف إذا ما أراد أداء فريضة الحج.
ولكن يبقى السؤال: أين هي تلك التماثيل التي عملتها الجن لسليمان؟
هذا ما سنناقشه في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيقه تحت عنوان:
مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ (14): وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ                       سبأ (12)

فالله اسأل أن يهدينا سواء السبيل لنقول عليه الحق فلا نفتري عليه الكذب، والله وحده أسأل أن يؤتيني وعلياً رحمة من عنده وأن يعلمنا من لدنه علماً لا ينبغي لأحد من بعدنا إنه هو السميع العليم.


المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح






[1] سنحاول لاحقاً أن نحاول الإجابة على التساؤل التالي: لماذا كان سليمان يذهب أصلاً إلى هناك؟
[2] وسنتعرض لاحقاً بحول الله وتوفيقه إلى السؤال التالي: لماذا دعا زكريا ربه هناك عندما رأى ما كان يحصل لمريم؟
[3] فنحن نظن أن زكريا كان مأموراً أن لا يكلم الناس بالليل أو باليوم (أي ثلاثة أشهر). انظر الجزء السابق من هذه المقالة للتفريق بين اليوم والليلة والنهار والليل.
[4]  انظر الآيات الكريمة التالية لترى أن المسجد هو مكان إقامة صلاة جماعية:
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ                  الأعراف (31)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)                                                             التوبة
وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ۖ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
[5] انظر إلى الفرق بين تصرف داوود وتصرف سليمان بعد الفتنة التي حصلت لكل منهما:
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ (24)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
السؤال: لماذا لم يخر سليمان راكعاً مباشرة بعد أن حصلت له الفتنة كما فعل والده داوود؟
رأينا: لما حصلت الفتنة لداوود وهو في داخل المحراب لم يتردد داوود أن يخر راكعاً على الفور فهو متواجد في المكان المخصص أصلاً للركوع. ولكن بالمقابل لما حصلت الفتنة لسليمان وهو متواجد في مكان غير المحراب لم يخر راكعاً على الفور لأنه لا يتواجد في مكان خاص بالركوع أصلاً. وسنتعرض لاحقاً للحديث عن الفرق بين الركوع والسجود عندما نتحدث عن ما كانت تفعل مريم في المحراب كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية:
            يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
لنطرح عندها السؤال التالي: كيف يستقيم المعنى بأن تؤمر مريم بالسجود قبل الركوع؟ فالله أسأل أن يأذن لنا بشيء من علمه إنه هو السميع العليم.
[6] ولا أظن أن فكرة الخلوة في الدين المسيحي أو اليهودي قد جاءت عبثاً أو من فراغ، إنها برأينا تقليداً لفكرة المحراب. فهناك مكان خاص بخلوة النساء (nuns) ويسمى في اللغة الإنجليزية convent وتسمى القائمة عليه abbess بينما يسمى مكان خلوة الرجال (monks) بـ monastery ويسمى القائم عليه abbot، بينما يسمى المكان الذي يجتمع فيه الرجال والنساء معاً بـ .abbey
[7] نحن نظن أن فكرة تلك المغارة التي تفتح وتغلق بالكلمة (التي ترد في قصص الخيال العلمي وكتب الأساطير كمغارة افتح يا سمسم مثلاً) هي في نهاية المطاف فكرة مستوحاة من جفان سليمان هذه. فالمغارة تفتح بأمر من يملك سر الكلمة التي تفتحها، وما أن تفتح حتى يظهر ما تخفي تلك المغارة من الكنوز العظيمة.
[8] سنحاول في مقالة لاحقة بحول الله وتوفيقه الحديث عن طبيعة المكيدة التي دبرها إبراهيم بالأصنام حتى قال في نهاية الأمر أن الذي فعل الفعلة هو كبيرهم هذا:
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
وقد حاول بعض علمائنا الأجلاء تسويق الأمر من خلال حديث – لا أدري درجة صحته- بأن هذه كانت "كذبة" من إبراهيم، فهم قد روجوا للمقولة بأن نبي الله وخليله إبراهيم قد وقع في فعل الكذب في حياته ثلاث مرات (انظر أمهات كتب التفاسير) وأنا والله لا أعلم كيف يطلب منا أن نتبع سنة إبراهيم وهو يكذب، فما الذي يدريني أن ما جاء به إبراهيم كله يقع في باب الكذب أصلاً ما دام أن الرجل قد فعلها ثلاث مرات حسب ما قاله علماؤنا الأجلاء. والأهم من ذلك أنه في الوقت الذي ينقلون مثل هذا الحديث الذي يصور نبي الله وخليه إبراهيم يقع في فعل الكذب ثلاث مرات لا ينفكوا أن يقرؤوا على الناس حديثاً آخر يبين أن المؤمن قد يزني وقد يقتل وقد ... وقد... ولكن عندما سئل النبي "هل يكذب المؤمن" جاء رده بالنفي لأن المؤمن حسب حديثهم الثاني لا يكذب، وهنا نطرح سؤالنا نحن على الشكل التالي: هل فعلاً كان إبراهيم مؤمناً عندما وقع في فعل الكذب ثلاث مرات يا سادتنا من أهل الدراية والرواية؟ من يدري!!!