لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه 11؟


تنبيه 
                                           تنبيه                                            تنبيه
نجد لزاماً التنبيه في بداية هذه المقالة أن ما سيجده القارئ الكريم في هذا الجزء من المقالة ربما يكون من أخطر الافتراءات التي قدمناها (إن لم يكن أخطرها على الإطلاق)، لما فيها من أكاذيب وأباطيل من عند أنفسنا ظننا أنها صحيحة، وزعمنا أن الدليل عليها ربما يمكن استنباطه من كتاب الله،  لكن بالرغم من الجهد الذي بذلناه في كتابة هذه السطور، إلا أن عقيدتنا لا تخرج عن النطاق التالي: لا نعتقد أن ما نقدمه هنا موجود فعلاً في كتاب الله، بل هو ما كتبناه نحن بأيدينا وظننا أنه مستنبط من كتاب الله، فهو لا يخرج عن نطاق الظن الذي يمكن أن يثبت خطأه، فنحن ندرك حجم المسؤولية إن نحن ظننا غير ذلك:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ                                                                                         البقرة (79)
لذا ندعو (بكل صدق وأمانة) كل من ظن أن حجتنا ضعيفة لا ترقى أن تكون ملزمة (وهم بلا شك على صواب) أن يقوم بإلقاء الملف بأكمله في recycle bin على سطح شاشة جهازه، هذا إن هو أصلاً كلف نفسه عناء القراءة مادام أن عنده من وقت الفراغ الذي قد لا يجد طريقة أكثر نجاعة في تقضيته.


أما بعد،
تحت سلسلة مقلاتنا لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه، سنتابع في هذا الجزء الحادي عشر حديثنا عن آيات موسى المرئية التي عاد بها من لقاءه الأول بربه في الواد المقدس لننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الآيات المتلوّة التي عاد بها من لقاءه الثاني بربه، محاولين في الوقت ذاته ربط ذلك بما حصل مع محمد في رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حيث كان الهدف من الرحلة هو رؤية الآيات:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ                               الإسراء (1)
حيث زعمنا الفهم أن رؤية الآيات تنقسم إلى قسمين:
1.     رؤية قلبية للآيات )مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ)
2.     رؤية بصرية للآيات (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ)
لنخلص إلى نتيجة مفادها أنّ ما حصل مع محمد كان موازياً تماماً لما حصل مع موسى في لقاءه بربه، فلقد رأى كلاهما آيات ربه رؤية قلبية (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) ورؤية بصرية (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ).
أما بعد،
كنّا قد توقفنا في نهاية الجزء السابق عند آية يد موسى اليسرى التي كان يدخلها بجيبه لتخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ                                                                    النمل (12)
وقد زعمنا الفهم أن يد موسى تلك كانت آية لفرعون وملئه ولكنها كانت تقدّم برهانين اثنين في كل مرة يستخدمها الرجل، تمثل البرهان الأول في إحداث الرجز (كالطوفان والجراد والضفادع والقمل والدم) وتمثل البرهان الثاني في كشفه، فكانت يد موسى اليسرى آية واحدة ببرهانين اثنين مصداقاً لقوله تعالى في كتابه الكريم:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
وزعمنا القول أن موسى قد قدّم لهم خمس آيات وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم:
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ                                                               الأعراف (133)
ولكن القوم طلبوا من موسى أن يكشف عنهم أربعة منها وهي الجراد والقمل والضفادع والدم:
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ                                        الأعراف (134)
(للتفصيل انظر مقالتنا السابقة لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه 10؟)
ولو تدبرنا هذه الآيات في سياقها الأوسع لوجدنا أن القوم ما انفكوا ينسبون الخير لأنفسهم والسوء لموسى ومن معه:
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ                                        الأعراف (131)
وما انفكوا أيضاً ينعتون ما جاءهم به موسى على أنه من باب السحر:
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ            الأعراف (132)
وفي الوقت الذي كان هذا هو ديدنهم إلا أنهم طلبوا من موسى أن يكشف عنهم الرجز الذي وقع عليهم:
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)                     الأعراف 133-134
وكعادتهم، ما هي إلا لحظات حتى ينكثوا بوعدهم الذي قطعوه على أنفسهم عندما كان الرجز واقعاً بهم:
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ                الأعراف (135)
فكانت نهايتهم الوخيمة أن أغرقهم الله في اليم لتكذيبهم تلك الآيات المرئية التي كانوا عنها غافلين:
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ   الأعراف (136)
وقد كانت تلك الآيات على الترتيب هي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ولو تدبّرنا السياق القرآني التالي لربما استطعنا أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن الترتيب كان ضرورياً، فقد كان يعكس شدة الرجز الذي يقع بهم:
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ۖ وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ      الزخرف (48)
 فكانت كل آية أكبر من سابقتها، فآية الجراد كانت أكبر من آية الطوفان، وآية القمل كانت أكبر من السابقتين، وهكذا، لذا لما استنفذت كل تلك الآيات المرئية وكان التكذيب هو سمة القوم الذين جاءتهم تلك الآيات كان لا مناص من وقوع الانتقام الرباني المتمثل بإبادتهم جميعاً:
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ             الأعراف (136)
ولو دققنا النظر جيداً في النص القرآني لربما وجدنا أنّ موسى ما استخدم يده اليسرى تلك بعد أن أنجاه الله من فرعون وقومه، فلقد توقفت يد موسى اليسرى عن تقديم الآيات مع نهاية فرعون وقومه، ولم يتبقى مع موسى من الآيات المرئية سوى عصاه التي كانت تلازمه على الدوام، والتي ذكرنا أنها كانت سبباً في تقديم الخير (وليس الرجز)، فلقد شق موسى لقومه طريقاً في البحر بالعصا:
فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ                                                                                               الشعراء (63)
فالعصا كانت سبباً في نجاة بني إسرائيل من فرعون وجنده، ولو دققنا النظر جيداً لوجدنا أن العصا لم تكن سبباً في هلاك فرعون وقومه، فموسى لم يضرب البحر مرة أخرى بالعصا ليعود كما كان فيغرق فرعون وجنده، فلقد حدث الغرق لفرعون ومن معه بأمر من الله وليس بالعصا:
          وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)                                                                                      الشعراء 64-66
كما استسقى موسى لقومه بالعصا:
وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ   البقرة (60)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ                                                                              الأعراف (160)
نتيجة: لقد كانت عصا موسى التي كان يأخذها بيمينه سبباً في جلب الخير لبني إسرائيل بينما كانت اليد اليسرى لموسى سبباً في إيقاع الرجز على فرعون وقومه. فقد أنقذ موسى بني إسرائيل من استعباد فرعون لهم بما أمده الله من قوة بيده اليمنى، وأوقع الرجز على فرعون وقومه بما أمده الله من آيات في يده اليسرى، فقد وقف موسى سداً منيعاً بين فرعون وقومه من جهة وبني إسرائيل من جهة أخرى، كانت يده اليمنى ممتدة جهة بني إسرائيل ويده اليسرى مضمومة جهة فرعون وقومه.                                           
فالمتفحص للنص القرآني ربما يجد أنه في اللحظة التي انقضى فيها أمر فرعون وقومه غابت يد موسى اليسرى عن المشهد كلياً، فخرج موسى من أرض مصر يحمل عصاه بيده اليمنى، وخرج قوم موسى يحملون المتاع من الزينة والأموال التي ورثوها من قوم فرعون بعد أن أهلكهم الله:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ                                                                                 الأعراف (137)
(وسنعود للحديث عن قصة موسى كاملة في مقالات منفصلة بحول الله وتوفيقه، أما الآن فسنتوقف عن الحديث عن آيات موسى المرئية لنتحدث عن الآيات التي عاد بها موسى من لقاء ربه الثاني وهي الآيات المتلوّة)
آيات موسى المتلوّة
إن المتفحص لقصة موسى في لقاءه الأول بربه ربما يجد أن موسى لم يعد من ذلك اللقاء الأول بشيء مكتوب، ولكنه عاد فقد بآيتين اثنين وهما - في رأينا- يده اليمنى ويده اليسرى، فلقد كان موسى يحمل العصا بيده اليمنى (فكانت آية وكانت برهان واحد) ويدخل يده اليسرى في الجيب ويضمها إلى جناحه (فكانت آية وكانت برهانين اثنين)، وهذا ما شكّل جل نقاشنا في الجزء السابق من هذه المقالة، أما ما يهمنا الآن فهو الخروج بالاستنتاج المهم التالي: لم يعد موسى من لقاءه الأول بربه بآيات متلوّة ولكنه عاد من هناك بآيات مرئية يمكن أن ترى بالعين (رؤيا البصر).
فالآيات المرئية كانت موجّهة في الدرجة الأولى لفرعون وقومه (وهم الذين لم يؤمنوا برسالة موسى)، فكانت تلك الآيات دليلاً على صدق رسالة موسى كما طلبها فرعون وملئه:
وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)                                                                    الأعراف 104-108
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)           الشعراء 30-33
وهكذا كانت قصة الآيات المرئية التي جاء بها كل أنبياء الله دليلا على صدق رسالتهم، فها هم قوم نوح مثلاً يطلبون الدليل على صدق رسالة الرجل:
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ۖ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)            الأعراف
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ       هود (32)
وها هم أصحاب الناقة يطلبون الآية على صدق رسالة نبيهم صالح:
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)                                                                                                الشعراء 154-158
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)                          الأعراف 77-78
وها هم أصحاب الأيكة (قوم شعيب) يكذبون رسالة نبيهم ويطلبون العذاب بأنفسهم كدليل على صدق دعوة الرجل:
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)             الشعراء
وهكذا كان ديدن قوم لوط: وقوع العذاب بطلب منهم كدليل على صدق دعوة الرسول:
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)                                                                                    العنكبوت 29-30
وطلبت عاد (قوم هود) نفس الطلب: وقوع العذاب كدليل على صدق دعوة الرسول لهم:
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)                                                            الأحقاف 21-25
نتيجة مهمة جداً: ما أن تأتي الآيات المرئية حتى تكون سبباً لهلاك القوم
سؤال: لماذا لم يأتي محمد بآيات مرئية لقومه كتلك التي جاء بها موسى أو صالح، وهكذا؟
جواب: إننا نظن أن محمداً كان يدرك عواقب المجيء بالآيات المرئية، فهو يعلم بأن الهلاك لا محالة نازل بالأمة التي ترى آيات ربها رؤيا العين وتكذبها، فلقد نزل على محمد قرآن يتلى بذلك:
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا                                                           الإسراء (59)
فمحمد يعلم تماما العلم عاقبة قوم ثمود وعاد وغيرهم من الأمم التي جاءتهم تلك الآيات المرئية وكذبوها، ولا أظن أن محمداً كان يقبل أن تكون عاقبة مكة (البلدة التي كان يمكن أن ترى تلك الآيات) كعاقبة البلاد التي أهلكها الله
كما يجب أن لا ننسى أمراً آخر نظن أنه غاية في الأهمية وهو: عندما تفقدنا السياقات القرآنية لم نجد أن قوم محمد (قريش) قد طلبوا (كما طلبت الأمم السابقة) وقوع العذاب عليهم كدليل على صدق رسالة نبيهم، وكان جل ما طلبوه هو آيات مثل تنزيل الملائكة:
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
ولكن نظن أنه لعلم محمد بعواقب نزول مثل تلك الآيات المرئية (وهي وقوع العذاب لا محالة) اختار أن لا يلجأ إلى تنفيذ رغباتهم تلك بتحقيق تلك الآيات لتثبت صدق دعوته، واكتفى باستخدام الآيات المتلوّة التي جاء بها من عند ربه:
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا                                                                    الإسراء (59)
إننا نظن أن محمداً ما كان ليولي تحدي القوم اهتماماً وهو على علم بعاقبة الأمور:
          وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ۚ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ                                                                                                        الأنعام (37)
مقارنة بين محمد وموسى
ولو حاولنا عقد مقارنة سريعة بين ما جاء به موسى وما جاء به محمد وذلك بالرجوع إلى ميعاد الله موسى في الواد المقدس وإلى حادثة الإسراء لربما خرجنا بالاستنباطات التالي:
موسى                                                            محمد
أولاً، لقد حصل لموسى لقاءين مع ربه 

ثانياً، عاد موسى من اللقاء الأول بالآيات المرئية:
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)

ثالثاً: عاد موسى بالآيات المكتوبة في اللقاء الثاني، فعاد موسى يحمل بين يديه الألواح التي كتب له فيه من كل شيء:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
أولاً، لقد حصل لمحمد لقاءين مع ربه (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ)
ثانياً، عاد محمد من اللقاء الأول بالآيات المتلوّة:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12)
ثالثاً، عاد محمد من اللقاء الثاني بالآيات المرئية:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)



نتيجة: في حين أنّ موسى قد عاد بالآيات المرئية قبل الآيات المتلوّة، حدث العكس تماماً مع محمد، فقد رجع محمد بالآيات المتلوّة (الوحي، والعلم) في اللقاء الأول بينما أتته الآيات المرئية في اللقاء الثاني[1]
عواقب هذا الفهم: لم يستخدم محمد الآيات المرئية لأنه كان قد لجأ إلى الآيات المتلوّة أولاً، وقد آمن نفر من قومه بدعوته، والحالة هذه لم يكن محمد بحاجة أن يستخدم الآيات المرئية – في رأينا- على الأقل لثلاثة أسباب:
1.     كان محمد يعلم عاقبة استخدام الآيات المرئية إن هو قدّمها للقوم وكذّبوا بها
2.     كان محمد يعلم أن ليس من المتوقع أن يؤمن كل الناس بدعوته، فهو يعلم أن سنة الله الكونية تقضي بأنه لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ولكن تكمن مهمته هو في إبلاغ الرسالة، وكفى.
3.     يميل الاعتقاد عندنا إلى الإيمان اليقيني بأن محمدا كان على علم يقيني من ربه أنّ الآيات المرئية (المبصرة) ما كانت يوماً سبباً في هداية قوم من الأقوام. وهذا ما سنحاول تبيانه في الجزء التالي من هذه المقالة.
حكمة محمد
إننا نعتقد أنّ الفرق بين محمد ومن سبقه من الأنبياء والرسل تكمن - في رأينا- في أن محمداً قد استفاد من تجارب الأنبياء السابقين فسخر ذلك في خدمة رسالته[2]، فليس من المتوقع أن يقع النبي (أي نبي) في محظور وقع به من سبقه من الأنبياء والرسل، فلقد ذكرنا في مقالة سابقة أن لوطاً مثلاً قد استفاد من تجربة نوح، ففي حين أن نوحاً قد لجأ إلى ربه ليتعرف على صحة نسب ولده (لعلمه بخيانة امرأته) عندما قال:
          وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ        هود (45)
لم يطلب لوط مثل هذا الطلب من ربه بالرغم من تطابق الحالتين (خيانة المرأة)، فقد أصبح لوط يعلم – في رأينا- أن من سينجو من أهله سيكون من صلبه ومن سيهلك لن يكون من صلبه، فآثر أن ينتظر ليرى النتيجة بأم عينه مادام أن الله قد وعده بنجاة أهله إلا امرأته:
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ                                       العنكبوت (33)
والمنطق نفسه ربما ينطبق في حالة محمد عند الحديث عن الرؤيا المباشرة للذات الإلهية، فلقد ذكرنا أن موسى قد طلب الرؤيا المباشرة لربه في لقاءه الأول فلم تتحصل له لاستحالة القدرة البشرية على تحمل تلك الرؤيا، لذا ما كان محمد ليطلب مثل تلك الرؤية عندما أسري به إلى المسجد الأقصى وهوة قد خبر ما حصل في حالة أخيه موسى.
وها هم قريش يطلبوا من محمد أن ينزّل عليهم ملائكة من السماء أو أن تكون له جنة ... أو ... :
وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ۚ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
إلا أن محمدا لم يفعل مثل هذا، أي لم يتوجه إلى ربه ليطلب منه أن يحقق لهم ما يطلبون، والسبب في ذلك من وجهة نظرنا تتمثل في أن محمداً كان قد استفاد من خبرة أخيه عيسى عندما طلب بنو إسرائيل منه مائدة من السماء:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)                            المائدة 112-115
فمحمد يعلم العاقبة الوخيمة التي ستحل بالقوم لو تحصلت لهم مثل تلك الآيات المبصرة:
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ۚ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ                                                                                                        الأنعام (37)
نتيجة مهمة جداً: لقد آثر محمد الصبر على قومه وعلى أذاهم وعلى تكذيبهم لدعوته فلم يلجأ أن يقدم لهم دليلاً مادّياً (آية مبصرة) تثبت صدق دعوته كما فعل بعض من سبقه من الرسل لخوفه من عاقبة الأمور.[3]
فوجود الآيات المرئية (المبصرة) يتبعها العذاب الذي لا محالة نازل بالقوم إن هم كذبوها، ونحن نظن أن محمداً كان يستطيع أن يقدم لهم مثل هذه الآيات كما فعل بعض الأنبياء الرسل السابقون إلا أنه آثر أن لا يفعل لأنه – برأينا- كان يدرك أن الآيات المرئية ما كانت يوماً سبباً في هداية القوم:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ                                                                    الأنعام (158)
إن السنّة الكونيّة التي تعلمها محمد جيداً تتمثل في أنّ آيات ربه المبصرة لا تنفع القوم ما لم يكونوا مؤمنين من قبل، لذا نجد من الضرورة بمكان التنبيه إلى وجوب التمييز بين طريقتين في تنزيل الآيات المبصرة:
1.     أن تنزل الآيات على قوم لم يؤمنوا بعد، كما حدث مع قوم صالح وثمود وغيرهم، فكان الهلاك نازل بهم لا محالة لأن تلك الآيات لم تشكل دليلاً مقنعاً لمن أراد أن يكفر ويتحدى كما فعل فرعون وملئه، فعندما نزلت عليهم الآيات وهم لا زالوا غير مؤمنين كانت سبباً في هلاكهم ولم تكن سبباً في هدايتهم
2.     أن تنزل بعض الآيات بعد أن تكون أنفسهم قد آمنت وقبلت الدعوة كما حدث مع الحواريين، فها هم يطلبون من نبيهم عيسى بن مريم تنزيل المائدة من السماء، فتنزل عليهم المائدة ولم تكن سبباً في هلاكهم وذلك لأن أنفسهم كانت قد آمنت من قبل:
 يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا
لذا، ولو تدبرنا الحوار الذي جرى بين عيسى بن مريم من جهة والحواريين من جهة أخرى لوجدنا بصريح اللفظ أن إيمانهم كان سابقاً لتلك الآيات:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ                                                           المائدة (112)
وقد كان إيمانهم واضحاً في ردهم:
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ                                                                                           المائدة (113)
عندها فقط أيقن عيسى بن مريم أن العذاب المباشر لن ينزل بهم ماداموا أنهم أصلاً مؤمنين:
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ                                                المائدة (114)
ولكن الله حذرهم من عاقبة الأمور إن هم نكثوا عهدهم وعادوا إلى الكفر:
 قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
والمنطق نفسه ربما ينطبق في حالة طلب بني إسرائيل رؤية ربهم:
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
إن الملحوظ الذي يجب التأكيد عليه هنا هو أنّ بني إسرائيل قد طلبوا الآيات بعد أن كانوا مؤمنين، لذا جاء العفو الرباني عن ذلك نتيجة لإيمانهم، أما الدليل على أنهم كانوا مؤمنين يوم أن طلبوا من موسى رؤية الله مباشرة فقد جاء في بداية طلبهم حيث قالوا:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)               البقرة 55-57
فنحن نزعم الفهم أن مشكلة بني إسرائيل لم تكن في إيمانهم بربهم وإنما بنبيهم موسى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ         )، فالقوم لم يقولوا أننا لن نؤمن بالله أو بربنا أو برب موسى (للتفصيل حول رؤية بني إسرائيل ربهم انظر مقالتنا النظرية العالمية) ولكن مشكلتهم تكمن في الاطمئنان إلى نبيهم.
إن ما يهمنا القول فيه هنا هو التفريق بين تقديم الآيات المبصرة لمن آمن وتقديم الآيات المبصرة لمن لم يؤمن بعد.
افتراء من عند أنفسنا (1): إننا نظن أن تقديم الآيات المبصرة لمن كان قد آمن من قبل لا يزيد ذلك إلا اطمئنان القلوب المؤمنة، فنبي الله إبراهيم نفسه طلب رؤية مثل هذه الآيات ليطمئن قلبه:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ ...
فقدم الله له الآيات المبصرة ليطمئن قلبه:
... قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ                                                    البقرة (260)
وهكذا كان هدف الحواريون عندما طلبوا من عيسى تنزيل المائدة:
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ                                                                                                    (113)
وهكذا كان هدف الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ۖ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ           البقرة (259)
وأظن أنه هو السبب نفسه الذي من أجله طلب بنو إسرائيل من موسى رؤية ربهم:
          وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ                                                                                                                 البقرة (55)
ولا يظنن أحد أن الصاعقة إلي أخذت بني إسرائيل حينئذ كانت عقاباً لهم بل هي نتيجة تحقيق طلبهم برؤية الله مباشرة، فتلك الصاعقة كانت مصاحبة لتجلي الله لبني إسرائيل (للتفصيل انظر مقالتنا النظرية العالمية).
نتيجة: إن تقديم الآيات المبصرة لمن كان قد آمن من قبل تكون من أجل أن تطمئن القلوب، فتزيدها إيماناً وتثبيتاً.
افتراء من عند أنفسنا (2): لكن – بالمقابل- يكون تقديم الآيات المبصرة لمن لم يؤمن بعد سبباً في هلاكهم لأن الآيات المبصرة ما كانت يوماً سبباً في هداية من لم يكن قد اهتدى من قبل وذلك مصداقاً لقوله تعالى:
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)     
نتيجة وافتراء: إننا نزعم القول أنّ الآيات المبصرة ما كانت يوماً سبباً في هداية أحد لم يكن قد اهتدى من قبل، ولما كان محمد – برأينا- على علم يقيني بذلك، لم يكن ليقدم مثل تلك الآيات المبصرة لقومه (وإن كانت عنده) وذلك لسببين اثنين:
1.      لعلمه أنهم لن يؤمنوا حتى لو قدمها لهم، فهم لن يختلفوا في ذلك عن من سبقهم من الأمم.
2.     ليقينه بعاقبة ما ستؤول إليه الأمور وهم لا محالة كالأمم السابقة سيكذّبوا تلك الآيات:
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا                                                           الإسراء (59)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ۚ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ                                                                                     الأنعام (37)
نتيجة: فانحصر ما قدمه محمد لقومه بالآيات المتلوّة وهي التي كان قد عاد بها من لقاءه الأول بربه ليلة أن أسري به من البيت الحرام إلى بيت المقدس. ولم يستخدم الآيات المبصرة التي رءاها بأم عينه في لقاءه الثاني بربه.
لذا سنترك الحديث عن الآيات المبصرة لننتقل الآن للحديث عن الآيات المتلوة، على أن نعود بحول الله وتوفيقه للحديث عن الآيات المبصرة بشيء من التفصيل خاصة آيات موسى المبصرة كالعصا، لظننا أن في تلك العصا أمر عظيم جداً خاصة أن الله قد قال لموسى عندما ألقى عصاه:
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)
محاولين حينئذ التركيز على سؤال واحد وهو: ماذا كانت السيرة الأولى للعصا التي وعد الله نبيه أن يعيدها؟
ومفترين الظن أن لتلك العصا سيرة (قصة) قديمة عادت مرة أخرى يوم التقطها موسى بأمر من ربه بعد أن ألقاها في ذلك الواد المقدس. نسأل الله تعالى أن يأذن لنا بشيء من علمه حتى نستطيع من خلاله الوصول إلى السيرة الأولى لتلك العصا.
دعاء: أسأل الله - ربي وربكم- أن أعلم منه ما لا تعلمون.

الآيات المتلوة
آيات موسى المتلوّة: الألواح
ربما لا نحتاج إلى كثير عناء لإثبات زعمنا التالي: إن الآيات المتلوّة التي عاد بها موسى من لقاءه الثاني بربه قد جاءت جملة واحدة. فعندما حصل اللقاء الثاني لموسى بربه كانت الجائزة الكبرى التي عاد بها موسى إلى قومه من ذلك اللقاء هي ما كان يحمل بين يديه من الألواح التي كتب الله لموسى فيها من كل شيء:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
وهنا سنحاول إمعان التفكير في هذه الآيات الكريمة، علّنا نستطيع من خلال هذه الآيات الكريمة الخروج باستنباطات عديدة ستسعفنا عند الحديث عن الآيات المتلوّة التي عاد بها محمد من لقاءه الأول بربه، ومن هذه الاستنباطات يمكننا أن نذكر ما يلي:
1.     عدم قدرة موسى على الرؤيا المباشرة للذات الإلهية بالرغم من أنه هو نفسه من طلبها وبالرغم أن الله لم يكن يعاقب موسى نتيجة طلبه الرؤيا الإلهية عندما تجلى للجبل. ونحن نستغرب من علمائنا الأجلاء أن ينظروا بعين الشك والريبة لطلب بني إسرائيل رؤية الله جهرة، فينعتون ذلك بكل عبارات الاتهام والريبة (وربما التوبيخ)، بينما ينظرون – بالمقابل- بعين الوقار والإجلال لطلب موسى الرؤيا المباشرة للذات الإلهية، هذا على الرغم أنه هو الطلب نفسه (الرؤيا المباشرة للذات الإلهية)، فبنو إسرائيل لم يطلبوا إلا ما كان نبيهم قد طلبه من ذي قبل.[4]
2.     رجع موسى إلى قومه من ذلك اللقاء يحمل بين يديه الألواح
3.     كتب الله لموسى في تلك الألواح من كل شي (وليس كل شيء)- الرجاء الانتباه جيداً لهذه الجزئية المهمة، وفي هذا حكمة عظيمة نظن أننا بحاجة أن نتدبرها جيداً لأننا سنتعرض لها بشيء من التفصيل عند الحديث عن الآيات المتلوة التي عاد بها محمد، فنحن نزعم الظن أن تلك الألواح لم يكن مكتوب فيها كل شيء (أي لم يذكر فيها كل شيء) ولكن كتب فيها من كل شيء (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)، ولكن بالرغم من محدوديتها تلك كانت في الوقت ذاته مفصلة لكل شي (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ)  أي لم يفرط الله في الكتاب من شيء.
للتفصيل حول هذا الموضوع، أي ضرورة التفريق بين عدم الذكر (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وعدم التفريط (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) نرجو مراجعة ما جاء في مقالتنا تحت عنوان "مصادر التشريع في الإسلام" حيث زعمنا الظن أن القرآن الكريم بالرغم أنه لم يذكر كل شي:
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
إلا أنه في الوقت ذاته لم يفرط بشيء:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
4.     جاءت آيات موسى المتلوة مكتوبة كتابة "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ"
5.     جاءت الألواح المكتوب فيها من كل شي والمفصلة لكل شيء جملة واحدة، فلم يعد موسى من ذلك اللقاء بجزء من الآيات المتلوة لتتبعها الأجزاء الأخرى بعد حين، كلا، لقد جاءت جملة واحدة، وكفى.
6.     كان التفاوت في ماهية ما جاء في تلك الألواح واضحاً بصريح اللفظ، فلم تكن كلها – إن صح القول- بنفس "الجودة"، ومصداق ذلك قول الحق: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا.

آيات محمد المتلوّة
إن العناء الأكبر الذي سنحاول أن نقحم أنفسنا فيه هنا هو إثبات ماهية الآيات المتلوة التي عاد بها محمد من لقاءه الأول بربه ليلة أن أسري به، وسيكون جزء من ذلك العناء متمثلاً في محاولة إثبات افتراءات من عند أنفسنا تخالف جل ما ألفه الناس من أقوال معظم أهل العلم والدراية، فنحن ندرك حجم الصعوبة التي قد يواجهها من يحاول تقديم فكرة جديدة، ولكننا ندرك أكثر أن الصعوبة ستكون مضاعفة عندما يحاول تقديم فكرة تخالف ما ألفه الناس وقبلوه لفترة طويلة من الزمن. لذا فنحن نرى أن من الضروري بداية أن نقدم النصيحة لمن ظن أن أهل العلم قد جاءوا بالقول اليقين الفصل من ذي قبل ولا مجال للتشكيك بآرائهم خاصة ما دام أن تلك الأفكار المقترحة للبحث قادمة من أناس لا علاقة لهم بأصول العلم من أمثالنا، فنحن ننصح من كانت هذه عقيدته أن لا يتابع القراءة بعد هذه الفقرة وذلك لأننا نظن أننا سنفتري ما لم يفترى من قبل، وسنخالف معظم (إن لم يكن كل) أهل العلم مخالفة جذرية ربما تضعنا في مواجهة غير محسوبة النتائج، ربما يكون أقلها أن تنصب لنا المحاكم الدينية (كما فعلوا من قبل) حيث لا تتعدى التهمة المنسوبة لنا أكثر من مخالفة ما ألفنا عليه أباءنا وأجدادنا. لكن الذي يمكن أن يشفع لنا ويخفف وطء المواجهة قد يتمثل - في رأينا - بأمرين اثنين وهما:
1.     أننا نتحدث عن عقيدة، لذا لا مجال للتهاون بها مهما كلّف الأمر، فنحن نظن أن عقيدتنا صحيحة حتى يأتي من أراد ردها بالدليل الدامغ من كتاب الله، عندها نكون على استعداد أن نعود إلى جادة الصواب، وحتى يأتي ذلك الدليل ستبقى هذه هي عقيدتنا حتى لو كلف الأمر ضرب رقابنا.
2.     أننا لا نقول ذلك لظننا أننا أهل علم ودراية، ولكننا نقول ذلك متيقنين أننا أهل تخريف وتحريف. فنحن لن نعدم الظن أن تتسع صدور أمثالكم من أهل العلم والدراية لمن هو مثلنا من أهل الجهالة والظلالة، فعقيدتنا تتمثل في قول الحق:
          قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ                          سبأ (25) 
فنحن أهل إجرام وأنتم أهل علم، ولا يمكن أن يفصل بين طرفين هذه هي صفتهم إلا الله الواحد الأحد مصداقاً لقوله تعالى:
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
دعاء: اللهم ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين
أما بعد،
سنحاول في الصفحات التالية مناقشة ماهية الآيات المتلوة التي نظن أن محمداً قد عاد بها من لقاءه الأول بربه ليلة أن أسري به من المسجد الحرام الذي ببكة إلى المسجد الأقصى في الأرض المباركة، مفترين الظن أنه:
1.     عاد محمد بالآيات المتلوّة من ذلك اللقاء الأول ولم يعد بالآيات المبصرة، فلم يقدّم لقومه بعد عودته من الآيات ما يمكن لهم أن يشاهدوه بأم أعينهم (كما فعل موسى مع فرعون وقومه):
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)                                                                                                    العنكبوت 50-51
وهنا يجب الملاحظة أن موسى عندما عاد بالآيات المبصرة عاد بها وهي موجهة أصلاً إلى فرعون وملئه وفرعون وقومه وليس لبني إسرائيل، فلا أظن أن موسى كان يقدّم تلك الآيات المبصرة لبني إسرائيل ليصدّقوا دعوته، لذا فنحن نجزم الظن أنه لو كانت تلك الآيات المبصرة التي عاب ها موسى موجهة لبني إسرائيل لوقع بهم الهلاك كما حل بفرعون وقومه.
2.     عاد محمد بالآيات المتلوّة غير مكتوبة (كما كان الحال بالنسبة لموسى)، وإنما محفوظة في الصدور (وليست منقوشة في سطور):
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)            العنكبوت 48-49
(انظر مقالتنا "هل للغة العربية قدسية خاصة: جدلية القرآن والكتاب)
3.     عاد محمد بعلم القرآن (أي الكتاب) كاملاً من ذلك اللقاء، فعلم القرآن لم ينزل على فترات وإنما نزل جملة واحدة (بالضبط كالذي حصل في حالة ألواح موسى).
4.     أنزل الله ذلك الكتاب (علم القرآن) في قلب محمد جملة واحدة
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)                الدخان
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)                                                                  القدر
نتيجة 1: الكتاب نزل جملة واحدة
5.     جاء وحي القرآن على مراحل:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا                          الإسراء (106)
نتيجة 2: القرآن نزل مفرقاً
افتراء من عند أنفسنا 1: نحن نزعم الظن بأن الفرق الأول بين الكتاب والقرآن يكمن في طريقة التنزيل، ففي حين أن الكتاب نزل جملة واحدة في ليلة مباركة جاء تنزيل القرآن مفرقاً
6.     علّم الله محمدا تفصيل ما أنزل على قلبه في تلك الليلة:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7)
7.     القرآن الذي نتلوه هو تصديق الذي بين يديه:
وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
8.     القرآن الذي نتلو هو تفصيل الكتاب الذي نزل في تلك الليلة المباركة:
وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
نتيجة 3: الله نفسه هو من علم محمدا تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب قرآناً عربياً
9.     لم يذكر في القرآن كل شيء، فالله قد كتب لمحمد في القرآن من كل شيء وليس كل شيء:
 إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ      النمل (76)
فمادام أن القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه مختلفون فهو إذاً لا يقص عليهم كل الذي هم فيه مختلفون.
10. ولكن، بالرغم أن القرآن لم يذكر به كل شيء إلا أن الله قد صرّف (ضرب) فيه للناس من كل مثل:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا         الإسراء (89)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ                                                                                   الروم (58)
11. أما الكتاب، فإن الله لم يفرط فيه من شيء:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ                                                           الأنعام (38)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
افتراء من عند أنفسنا 2: نحن نزعم أن الفرق الثاني بين الكتاب والقرآن يتمثل في الشمولية، ففي حين أن القرآن لم يكتب فيه كل شيء، كان الكتاب شاملاً لا يفرط في شيء، لذا نحن نفتري الظن أن الله قد كتب لمحمد في القرآن من كل شيء  (كما كان قد كتب لموسى في الألواح من كل شيء) ولكن بالرغم من ذلك فالكتاب (علم القرآن كما الألواح) جاء مفصلاً لكل شيء:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ                                                           الأنعام (38)
12. جاءت نسبة الكتاب إلى الله مباشرة:
هَٰذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ                       الجاثية (29)
13. جاءت نسبة القرآن إلى محمد:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)                             الحاقة
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)      التكوير
الافتراء الأخطر 3: نحن نفتري الظن أن الكتاب هو كلام الله الأزلي بينما القرآن هو قول محمد بوحي من الله
الكتاب
القرآن
1.     مادة مكتوبة
2.     نزل دفعة واحدة
3.     مذكور فيه كل شيء

4.     جاء فيه كل مثل
5.     صاغه الله بكلماته الأزلية
6.      
1.     مادة مقروءة
2.     أنزل مفرقاً
3.     لم يذكر فيه كل شيء، وإنما ذكر فيه من كل شيء
4.     جاء فيه من كل مثل
5.     صاغه محمد بلسان قومه

نتيجة كبيرة وافتراء من عند أنفسنا خطير جداً: إننا نزعم الفهم أن الكتاب هو ما أنزل الله على قلب نبيه في تلك الليلة جملة واحدة، أما القرآن الذي نتلوه الآن فهو تفصيل لذاك الكتاب بلسان قوم محمد (بعلم من الله جاء وحيه على مراحل).
هذه – لا شك- افتراءات كبيرة وكبيرة جداً ربما تغيّر فكر الأمة وللأبد إن ثبت أنّ فيها شيء من الحق، وسنحاول في الصفحات التالية الدفاع عن عقيدتنا هذه سألين الله سبحانه أن يهدينا سواء السبيل فلا نفتري عليه الكذب، وأن يهدينا فلا نقول عليه غير الحق، إنه نعم المجيب.
الدليل
أما بعد،
لنعود إلى سورة النجم متسلحين بالظن أن تلك السورة المباركة تصوّر ما حدث فعلاً لمحمد في لقاءه بربه ليلة أن أسري به من المسجد الحرام الذي ببكة إلى المسجد الأقصى في الأرض المباركة، مركزين هذه المرة على ما تلقى محمد من ربه من علم في ذلك اللقاء العظيم:
 وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1)
 مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)
 وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)
 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)
 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)
 ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6)
 وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7)
 ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8)
 فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)
 فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10)
 مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11)
 أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12)
 وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13)
 عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ (14)
 عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15)
 إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16)
 مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17)
 لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)
الافتراء الأول: نظن أن هذه السورة الكريمة تخبرنا بأن محمدا قد لقي ربه مرتين، ويمكن أن نثبت ذلك إن نحن قرأنا الآيات السابقة على مرحلتين على النحو التالي:
المرحلة الأولى:
  وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1)
 مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)
 وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)
 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)
 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)
 ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6)
 وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7)
 ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8)
 فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)
 فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10)
 مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11)
 أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12)
المرحلة الثانية:
 وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13)
 عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ (14)
 عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15)
 إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16)
 مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17)
 لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)
وربما يثبت زعمنا هذا ما جاء في موضع آخر من كتاب الله مخاطباً نبيه الكريم على وجه التحديد:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ                                                                 القصص (85)
(للتفصيل حول هذا الموضوع انظر الجزء السابق من هذه المقالة)
الافتراء الثاني: حصل محمد على الآيات المتلوّة (الكتاب) في لقاءه الأول الذي تصوره المرحلة الأولى
الافتراء الثالث: حصل محمد على الآيات المبصرة في لقاءه الثاني الذي تصوره المرحلة الثانية
نتيجة: ما دام أننا نتحدث عن الآيات المتلوّة، لذا ينحصر التركيز على الآيات الكريمة التي جاءت في المرحلة الأولى والتي نعيدها هنا للتدبر:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1)
 مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)
 وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)
 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)
 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)
 ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6)
 وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7)
 ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8)
 فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)
 فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10)
 مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11)
 أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12)
إنّ جل النقاش يتمحور حول تدبّر الآيات التي وضعنا تحتها خط، مركزين على ما يمكن أن نخرج به من استنباطات ستسعفنا (إن كانت صحيحة طبعاً) في فهم ماهية العلم الذي حصل عليه محمد من ذلك اللقاء.
افتراءات من عند أنفسنا: ربما تثبت هذا الآيات الكريمة ما يلي:
1.     حصول الوحي (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)
2.     حصول العلم (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ)
3.     حصول الرؤيا (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ)
4.     وجود الفؤاد (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ)
لذا سنتعرض للإجابة على الأسئلة التالية:
ما هو الوحي؟
ما هو العلم؟
ما هي الرؤيا؟
ما هو الفؤاد؟
ما هو الوحي؟
جاءت آيات كثيرة في كتاب الله تتحدث عن الوحي، وذهب أهل العلم إلى أفهام متباينة تخص الوحي الذي ذكر في كتاب الله، ومن أراد جزء من الحقيقة فعليه أن يراجع مؤلفات أهل العلم، أما نحن فسنحاول في السطور التالية الإجابة على سؤال واحد وهو: ما هي ماهية الوحي المذكور في كتاب الله؟
جواب مقترح: إننا نزعم الظن أن الآية الكريمة التالية تشكل القاعدة الأساسية التي تمثل سنة الله الكونية في تكليمه البشر:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ                                                        الشورى (51)
فيكون هناك – بما يمكن لنا أن نفهمه حتى الساعة من هذه الآية الكريمة- ثلاث طرق يمكن أن يكلم الله فيها البشر، وهي:
1.     وحياً، أو
2.     من وراء حجاب، أو
3.     يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء
ولو دققنا النظر جيداً لوجدنا أن الوحي يكون في الطريقة الأولى (إِلَّا وَحْيًا) وفي الطريقة الثالثة (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)، فيكون الوحي – برأينا- على نوعين[5]:
1.     الوحي المباشر من الذات الإلهية:
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10)                   النجم 9-10
2.     الوحي غير المباشر عن طريق الرسول:
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (164)                                                                                             النساء 163-164
نتيجة وافتراء: الوحي المباشر فهو يمثل العلاقة التي لا وسيط فيها، فيكون الموحي هو الله نفسه والموحى إليه هو واحد من البشر، لكن الوحي غير المباشر لا يتم إلا عن طريق الواسطة بين الموحي الله والموحى إليه وهو البشر ويكون الوسيط هو الرسول.
سؤال: من هو الرسول الذي يكون واسطة بين الموحي الله والموحى إليه البشر في طريقة الوحي غير المباشر (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)؟
جواب: غالباً ما درج الناس على أن الرسول هو النبي الرسول، فنقول كلا، لأن هذا النبي الرسول هو في النهاية بشر والله لا يكلم البشر أساساً (كما تنص الآية القاعدة) إلا وحياً (مباشرا) أو من خلال الرسول، فهناك العديد من الآيات الكريمة التي تبين أن هؤلاء الأنبياء الرسل هم في نهاية المطاف بشر:
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا                                             الإسراء (93)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا     الإسراء (94)
نتيجة مهمة: إننا نظن أن علاقة الله مع الرسول البشر بطريقة الوحي لا تكون إلا مباشرة (وحياً) أو من خلال رسول آخر ليس من البشر، لكن أين الدليل على ذلك؟[6]
ربما نقرأ الدليل على أن الرسول الذي يكون واسطة بين الله والبشر (سواء كانوا بشراً عادين أو رسلاً بشرا) لا يكون من البشر من قصة مريم بنت عمران:
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)                                                                                         مريم 18-19
 إن عقيدتنا تتمثل في استحالة أن يكون هذا الرسول الذي جاء مريم من عند ربها بشراً، لأنّ ذلك يعني أن عيسى بن مريم يكون كغيره من البشر قد ولد من أب وأم من البشر (وهو ما لا يمكن أن نقبله)، لكننا نؤمن أن جل ما كان من أمر ذلك الرسول هو أن يتمثل لها بشراً، لأنه هو ليس أصلاً من البشر:
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)                                          مريم 17-20
نتيجة: لقد كان التواصل بين الله ومريم بنت عمران (كامرأة من البشر) عن طريق الرسول الذي لم يكن أصلاً من البشر.
نتيجة وافتراء من عند أنفسنا: إن الخطاب الذي يجري بين الله (الموحي) والبشر (الموحى إليه) بطريقة الوحي يكون على شكلين:
1.     الوحي المباشر
2.     الوحي غير المباشر عن طريق الرسول الذي ليس من البشر
وربما نحتاج أن نذكّر من يظن أن الله قد أوحى إلينا نحن البشر كافة عن طريق الأنبياء الرسل كمحمد وعيسى وموسى وإبراهيم ونوح مثلاً بالسؤال التالي: كيف أوحى الله لهؤلاء الرسل ما نقلوه لنا من عند ربنا؟)، إننا نظن أن طرحنا السابق لا تناقض فيه، لأنه يعيدنا إلى السؤال الأول وهو: كيف أوحى الله إلى محمد وعيسى وموسى وإبراهيم ونوح أصلاً مادام أنهم من البشر؟
جواب: إما أن يكون ذلك وحياً مباشراً من الله إلى رسوله (كما حصل مع محمد في ليلة الإسراء) أو أن يكون وحياً غير مباشر عن طريق رسول من غير البشر (كجبريل الذي كان يأتي محمد بخبر من رب محمد).
تساؤلات: لكن لماذا؟ لماذا لا يوحي الله لبشر إلا بهاتين الطريقتين؟ ومتى يحدث الوحي المباشر؟ ومتى يحدث الوحي غير المباشر؟
جواب: إننا نظن أن التواصل المباشر من الله مع البشر لم يحدث إلا مرتين فقط:
1.     عندما كلم الله موسى تكليما (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا)
2.     عندما أوحى الله إلى عبده محمد في ليلة الإسراء (فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ)
وما حصل تواصل مباشر من الله لبشر قبل ذلك ولا بعده إلا بالوحي غير المباشر، فحتى محمد وموسى كان الله يوحي إليهم في غير هاتين الحادثتين بطريقة الوحي غير المباشر، أي عن طريق الرسول الذي ليس من البشر كجبريل مثلاً.
سؤال: لكن لماذا؟ لماذا حصل التواصل المباشر في هاتين الحادثتين فقط؟ ولماذا حصل الاتصال المباشر للذات الإلهية مع هذين النبيين الكريمين فقط؟  لماذا لم يحصل في غيرهما؟ لماذا لم يحصل ذلك لإبراهيم أو لعيسى بن مريم أو لنوح أو... الخ؟
إننا نظن أن الإجابة على هذا السؤال المحوري ربما يتطلب الخوض في سؤال آخر وهو "ما هي ماهية الوحي؟ وكيف يحصل الوحي المباشر؟
لفهم هذه الجزئية لابد من الخوض في معنى الوحي اللغوي، لنجيب بعدها على سؤال واحد وهو: كيف يحصل الوحي؟
للإجابة على مثل هذا التساؤل نجد لزاماً علينا أن نجلب سياقات قرآنية عديدة تتحدث عن الوحي، نحاول أن نربطها معاً علّنا نستطيع الخروج بتصور لكيفية حدوثه، والحالة هذه فإننا نظن أننا بحاجة في هذه اللحظة أن نركز على موقفين قرآنيين مهمين وهما (1) ما فعل زكريا و (2) ما فعلت مريم بنت عمران، لنجد أن الوحي قد يحصل من البشر، أي يمكن للبشر أن يقوموا بفعل الوحي، ولكن كيف؟
ماذا فعل زكريا؟
لنتذكر ما فعل زكريا بعد أن جاءته بشرى ربه بيحيى، فها هو زكريا يطلب من ربه أن يجعل له آية ربما تكفّ ألسنة الناس عن التخريص في حمل زوجته غير المتوقع:
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا                   مريم (10)
إذن، كانت آية زكريا التي جاءته من ربه أن لا يكلم الناس ثلاث ليال سويا، أليس كذلك؟ وهنا تكمن المفارقة العظيمة فيما فعل زكريا بعد ذلك، فها هو يخرج على قومه فيوحي إليهم:
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا               مريم (11)
السؤال: كيف أوحى زكريا إلى قومه؟ إي كيف حصل الخطاب بين زكريا وقومه وهو أصلاً ممنوع من الكلام معهم؟
جواب: بطريقة الوحي "فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ
نتيجة: زكريا يوحي إلى قومه.
السؤال: كيف أوحى زكريا إلى قومه؟
جواب: لا يكون ذلك بالكلام المألوف، فزكريا موقوف عن مخاطبة قومه كلاماً ثلاث ليال سوياً "قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا"
سؤال: إذن، كيف تم وحي زكريا إلى قومه إن لم يكن بالكلام؟
جواب: إننا نزعم الظن أننا قد وجدنا الإجابة على هذا السؤال فيما يمكننا أن نفهمه من قول الحق:
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)[7]
افتراء عظيم من عند أنفسنا: نعم الوحي يكون بالرمز، فلقد كلّم زكريا الناس بالرمز عندما أوحى إليهم. وهكذا – في نظرنا- يكون الوحي.
نتيجة: الوحي هو توصيل المراد من الكلام بالرمز (كما فعل زكريا عندما أوحى إلى قومه)
ماذا فعلت مريم؟
ولكن – بالمقابل- ها هي مريم تتحسّر (إن صح القول) على ما حلّ بها بعد أن أجاءها المخاض إلى جذع النخلة:
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)                                                          مريم 22-23
لأنها ربما كانت تظن أنها لن تستطيع أن تبرر ما حل بها لقومها. لكن يأتيها النداء الذي من تحتها على النحو التالي:
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)[8]                                       مريم 24-26
فعادت حاملةً طفلها لينهال عليها الجميع سألين مستغربين ما فعلت:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)                                          مريم 27-28
فما يكون منها إلا أن تدافع عن نفسها بالإشارة إلى الطفل:
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا                              مريم (29)
نتيجة مهمة جداً: لو دققنا في النص جيداً لما وجدنا أن مريم تقوم بفعل الوحي (كما فعل زكريا)، ولكنها قامت بفعل الإشارة وليس الرمز (كما فعل زكريا)، فمريم لم تكن بنص القرآن توحي إلى قومها كما فعل زكريا. لذا نحن نظن أنه لو جاء اللفظ عند مريم على أنه وحي، لفعلت ذلك بالرمز وليس بالإشارة، فالخطاب بالإشارة ليس وحياً لكن الخطاب بالرمز هو – في رأينا- ما يقع في باب الوحي.
نتيجة: لا يكون الوحي إلا بالرمز
سؤال: ما هو الوحي بالرمز؟ أي كيف يتم الوحي بالرمز؟
جواب: ربما تتعزز فكرة الوحي بالرمز (وقد تفهم بشكل أكثر دقة) إن نحن علمنا أن الخطاب بين الله والمخلوقات الأخرى ربما تكون أيضاً بالرمز:
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ    النحل (68)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
فالخطاب بين الله والنحل أو بين الله والملائكة أو بين الله والأرض يتم عن طريق الوحي، أليس كذلك؟
سؤال: كيف يخاطب الله النحل مثلاً؟
جواب: لا أظن أن ذلك يكون بكلام كالذي نستخدمه نحن البشر، ولا يتم بالإشارة كما فعلت مريم، وإنما بالوحي. وما دام أن الوحي يتم بالرمز، فهناك طريقة خطاب تستخدم الرمز يتم من خلالها الخطاب بين الله (الموحي) والنحل (الموحى إليه).
نتيجة مهمة جداً: عندما يحدث الوحي بين الله (الموحي) والبشر (الموحى إليهم) يكون ذلك بالرمز، فنحن لا نعتقد أن الله يتحدث العربية أو العبرية أو الفارسية أو الإغريقية أو السنسكريتية، الخ. حتى يستخدمها في خطابه مع البشر، فالله لا يكتسب جنسية من لغة البشر، لأن الله – في رأينا- لم يكن عبرانياً عندما تحدث مع موسى وتحول ليصبح عربياً عندما خاطب محمد، أو ربما كان سنسكريتياً عندما أوحى إلى نوح، وأصبح كلدانياً عندما أوحى إلى إبراهيم:
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
فلو تدبرنا هذه الآية الكريمة جيداً لوجدنا حقيقة صارخة وهي أن الله قد أوحى إلى محمد كما أوحى إلى جميع أنبياءه (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)، فلقد كانت طريقة الوحي التي جاءت محمد هي نفسها التي جاءت إلى نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق وموسى وعيسى وجميع رسل الله الذين قصّهم علينا والذين لم يقصّهم علينا، ونحن نظن أن الطريقة كان طريقة الوحي بالرمز. لكن أين الدليل على ذلك؟
يوصلنا هذا السؤال إلى ذروة ما نودّ طرحه من افتراءات هنا، فربما نستطيع أن نقدم الدليل على زعمنا بأن طريقة الوحي من الله إلى البشر تكون باستخدام الرمز فقط، وهذا الافتراء الذي هو لا شك من عند أنفسنا ربما يمكن أن يستنبط عندما نقرأ بشيء من التدبر الآيات الكريمة التالية في بداية سورة الشورى:
          حم (1)
          عسق (2)
كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
تدبر – عزيزي القارئ- هذه الآيات الكريمة جيداً، وتدبر بداية الآية الثالثة على وجه التحديد " كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ" لنسأل: ما المقصود ب كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ... ؟.
ألا تعود "كذلك" هنا على ما جاء في الآيتين السابقتين وهما:
حم (1)
عسق (2)
سؤال: ما الذي يمكن أن تستنبطه من ذلك؟
جواب: ألا تدلنا هذه الآيات الكريمة على أن هذه هي لغة الرمز التي استخدمها الله في وحيه لنبيه محمد ولكل الذين جاءوا من قبله (حم (1) عسق (2)
نعم، هذه عقيدتنا التي لا يمكن أن نحيد عنها قيد أنملة إلا بالبرهان الصادق من عند الله: إنها العقيدة التي تتمثل في أن الله لا يتحدث لغة قوم من البشر، لكن للإله لغته الخاصة التي يجب على من أن أراد مخاطبة الله أن يتقنها، ولا شك أن الحديث بين الله والبشر يكون بالوحي، لذا لابد للبشر من أن يفهموا تلك الرموز لمخاطبة ربهم.
نتيجة خطيرة جداً: لم يأتي محمدا والنبيين من قبله من ربهم من آيات ربه المتلوة إلا بطريقة الوحي بالرمز، لذا فإننا نزعم أن توصيل مراد الكلام بين الله (الموحي) والبشر (الموحى إليهم) لا يكون إلا باستخدام الرمز. لذا فإننا نظن أن كل ما نزل من الله من وحي إلى نبيه محمد (وكل النبيين من قبله) كان رمزا.
افتراء خطير جداً: إن ما نزل إلى محمد من قرآن بطريقة الوحي وصله رمزا، فكانت مهمة محمد كرسول تكمن في أن يفك تلك الرموز لتصبح ميسرة للفهم عند الناس. وهذا – في رأينا- هو علم محمد الذي تعلمه مباشرة من ربه في تلك الليلة المباركة.

ما هو العلم؟
بعد أن تحدثنا عن معنى الوحي وماهيته التي يمكن لنا أن نستنبطه من السياقات القرآنية الخاصة بالوحي، وخلصنا إلى افتراء من عند أنفسنا مفاده أن الوحي هو توصيل المراد من الكلام بالرمز. لننتقل الآن لنتحدث عن العلم الذي تلقاه محمد في تلك الليلة المباركة عندما أسري به إلى الأرض المقدسة:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)                                 النجم 4-5
إن هذه الآيات الكريمة تطرح سؤالاً كبيراً جداً وهو: إذا كانت مهمة الرسول تكمن فقط في نقل الرسالة التي تأتيه من ربه إلى الناس (كما فهم العامة عن طريق أهل العلم والدراية)، فما هو إذاً علم ذلك الرسول؟ هل يحتاج الرسول أن يتعلم؟ ألا يكون الرسول فقط ناقل للرسالة؟ ألا يكون إذاً " وَحْيٌ يُوحَىٰ"؟ فما الحاجة أن يتعلم " عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ"؟
ربما توصلنا مثل هذه التساؤلات إلى سؤال كبير جداً ألا وهو: ما هي مهمة الرسول؟
جواب: نحن نعتقد جازمين أن للرسول (أي رسول) مهمتان أساسيتان وهما:
(1)  الوحي (أي نقل رسالة الله إلى الناس)
(2)  التبيان (تبيان تلك الرسالة)
أما بعد،
إننا نظن أن مهمة الرسول (أي رسول) تكمن أولاً في نقل الرسالة (الوحي) من الله إلى الناس بكل أمانة كما جاء في قوله تعالى:
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ                                 الأنعام (50)
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ                                                                                 يونس (15)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ                                                                      الأحقاف (9)
ولكن هناك أيضاً مهمة أخرى غالباً ما غفل عنها أهل العلم لصالح المهمة الأولى (نقل الوحي) ألا وهي مهمة التبيان، قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
تناقضات
عند قراءة الآية الكريمة السابقة قد يقع القارئ البسيط مثلي في تناقض هائل يصعب الخروج منه بسهوله وهو: كيف تكون مهمة الرسول التبيان والله هو نفسه من يبين للناس آياته كما في الآيات الكريمة التالية:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ                                                                                             البقرة (187)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ               البقرة (219)
كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ                                                البقرة (242)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ                                                                          البقرة (266)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ                                                                                      آل عمران (103)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ         المائدة (89)
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ                                               النور (18)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ                                                                             النور (58)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ                                                                             النور (59)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ                                         النور (61)
لذا، قد لا يصعب علينا (بالرغم من ركاكة منطقنا) تسويق التناقض الظاهري التالي: تفيد هذه الآيات جميعها أن الله هو من يبين للناس آياته، أليس كذلك؟ والحالة هذه، كيف بنا سنفهم إذن قول الحق حول مهمة الرسول بأنه يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
          بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ    النحل (44)
تساؤلات: إن كانت مهمة النبي تتمثل (كما تشير هاتان الآيتان الكريمتان) في أن  يبين للناس ما نزّل إليهم من ربهم " لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" و "لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ"، فستثار التساؤلات التالية:
-         ما هو التبيان الذي سيقوم الرسول بفعله؟
-         وكيف سيبين الرسول للناس ما نزّل إليهم من ربهم؟
-         أليس ما نزل من ربنا أصلاً مبينا؟
-         وهل يحتاج المبين إلى إبانه؟
-         وهل محمد مثلاً أكثر قدرة على التبيان من ربه ليبين لنا ما نزّل إلينا من ربنا؟!
-         وكم مرة ذكر الله أن ما أنزل على نبيه هو أصلاً مبين؟
          الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ                                               يوسف (1)
          طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)                                    الشعراء 1-2
          طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)                                    القصص 1-2
          حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)                                               الزخرف 1-2
          حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)      الدخان
            الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)                                  الحجر
          وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ             يس (69)
ألا تدل هذه الآيات الكريمة على أن الكتاب الذي نزل من ربنا هو أصلاً مبين؟ ألا تدل هذه الآيات الكريمة على أن القرآن مبين؟ فكيف إذاً بمحمد سيبين لنا ما هو أصلاً مبين؟
جواب مقترح: لن نخوض هنا في أقوال العلماء التي غالباً ما ركّزت على أن ما نزل إلينا من ربنا يحتاج إلى رسول ليبينه ويشرحه للناس، لأننا نظن أن في ذلك مخالفة عقائدية هائلة فحواها أن هناك من البشر ما يمكن أن ينوب عن الإله في إيضاح المراد من كلامه، ويكأننا في قاعة محكمة يقوم المحامي بإيضاح الرسالة عن موكله، فحاشا لله أن يكون هذا هو تصورنا للأمر.
إن عقيدتنا هنا تتمثل في أمرين اثنين وهما:
1.     أن كلام الله مبين لا يحتاج إلى من يوضحه (إن كانت الإبانة تعني الشرح والتوضيح).
2.     لكننا في الوقت ذاته نجرؤ على طرح افتراء من عند أنفسنا وهو أن الإبانة تحمل معنى غير معنى التوضيح والشرح، إنها التفصيل.
افتراء: نحن نظن أن الإبانة التي يقوم بها النبي لا تعني الشرح والتوضيح والتفسير ولكنّها تعني التفصيل، فما الفرق؟
فما هو التفصيل؟
جواب: إننا نظن أن التفصيل هو نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى (ولنقل تجاوزاً أنها الترجمة)، وهذا ما يمكننا أن نفهم من معنى التفصيل (أو تفصيل آيات الله)، إنها ترجمة كلام الله الموحى إلى نبيه رمزاً إلى كلام يفهمه قوم النبي نفسه:
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
نعم، يميل الظن عندنا إلى الاعتقاد اليقيني أن الذي نزل من الكتاب على نوح وإبراهيم وموسى وداوود وعيسى هو نفسه الذي نزل على محمد باستثناء شيء واحد وهو تفصيله عربياً بلسان محمد:
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
لذا تكمن مهمة النبي ليس فقط في الوحي (أي نقل الخبر من الله إلى البشر) ولكن أيضاً في التبيان "أي تفصيل الخبر بلسان قومه"، لأن ما نزل إلى الرسول جاءه وحياً بالرمز فيحتاج إلى من يفصل الكلام المبين (رمزاً) إلى كلام مبين لغة بشرية، وهذه بالضبط ما يمكن أن نفهمه من معنى التبيان الذي يقوم به الرسول.
سؤال: كيف كان محمد يبيّن (يفصل) للناس ما نزل إليهم من ربهم؟
جواب: نحن نعتقد أن الجواب يمكن أن يستنبط من الآية الكريمة التالية:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
نعم، إنه الذكر، فلقد تعلم محمد الذكر، أي العلم الذي من خلاله كان يستطيع أن ينقل كلام الله المبين الذي نزل إليه رمزاً إلى قرآن عربي مبين:
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)                                                                                                    فصلت 1-3
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ    فصلت (44)
الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ                                       هود (1)
ويمكن توضيح الفكرة بالتصور التالي (ولله المثل الأعلى):
المصدر                                        الوسيلة                               النتيجة
الكتاب المبين                                  الذكر                                 القرآن المبين



                       



       









([9]source
فالكتاب هو المصدر والقرآن هو النتيجة والأداة المستخدمة لتفصيل الكتاب قرآن عربي هو الذكر، والتطابق بينهما يستحيل أن يتم دون علم بالذكر، ولا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة إلا من امتلك هذا العلم.                                        

استراحة قصيرة: الإنجيل والقرآن
غالباً ما تغنى أهل الإسلام بأن القرآن نسخة واحدة، بينما الكتب الأخرى كالإنجيل مثلاً هو أكثر من نسخة، وقد ثارت تساؤلات عديدة حول هذه القضية: هل الإنجيل كالقرآن؟ هل قام عيسى بن مريم بتفصيل الكتاب بلسان قومه؟ لماذا نحن المسلمين نملك نسخة واحدة من القرآن بينما لدى أهل الديانة المسيحية أكثر من نسخة من الإنجيل؟ وهكذا.
جواب: لا أريد أن أدخل في جدلية صحّة الكتب المقدسة، ولكني سأقصر الإجابة هنا على سؤال واحد وهو: لماذا يوجد نسخة واحدة من القرآن بينما يوجد أكثر من نسخة من الإنجيل؟
للاجابة على مثل هذا التساؤل نرى وجوب رد التهمة التي يلقيها أهل الإسلام جزافاً على الأمم الأخرى أولاً، ولكن لماذا؟
رأينا: غالباً ما ظن أهل الإسلام أن أتباع الديانات السماوية الأخرى قاموا بتحريف كتبهم بطريقة تبديل الكلمات، وقد حاولنا في مقالات سابقة لنا تبيان استحالة أن يقوم بشر بتبديل كلمات الله:
          لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ                                                                                                           يونس (64)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ                                                          الأنعام (34)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ               الأنعام (115)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا    الكهف (27)
لذا، نحن نظن أن أهل الديانات الأخرى قد حرفوا كلمات الله ولكنهم لم يبدلوها لأنهم ببساطة لا يستطيعون القيام بذلك وقد تكفل الله نفسه بأن لا تبدّل كلماته (انظر سلسلة مقالاتنا ماذا كتب في الزبور؟ لمعرفة رأينا بمعنى التحريف الذي قاموا به). لكننا نعود إلى رد التهمة التي يلقيها أهل الإسلام على غيرهم بطرح السؤال التالي: إذا كان هؤلاء القوم (كما يظن أهل الإسلام) يحرفون كلام الله (بمعنى التبديل الذي يفهمه أهل الإسلام) فلماذا فعلوا ذلك بالإنجيل ولم يفعلوا ذلك بالتوراة؟ أي لماذا هناك أكثر من نسخة من الإنجيل بينما لا يوجد إلا نسخة واحدة من التوراة؟
لو كان كلام أهل الإسلام صحيحاً في أن ديدن تلك الأقوام هو تحريف كلام الله بمعنى تبديله، لفعلوا بالتوراة ما فعلوه بالإنجيل، ولربما كان هناك نسخ عديدة من التوراة كما أن هناك نسخ عديدة من الإنجيل. ولا ننسى أن التوراة كان بين أيديهم فترة أطول من الزمن، فلو قام القوم بتبديل كلمات الله (بالمعنى الذي يفهمه أهل الإسلام)، لكان الأحرى أن يفعلوا ذلك على مدى الآف السنين والتوراة بين أيديهم؟
نتيجة: إننا نظن أن ما يقوله أهل الإسلام عن الكتب السماوية الأخرى في هذه الجزئية بالذات ليس أكثر من محض هراء لا حجة عليه من كتاب الله، ولكن هذه النتيجة تعيدنا مرة أخرى إلى السؤال نفسه ولكن بطريقة جديدة: لماذا يوجد هناك أكثر من نسخة من الإنجيل على وجه التحديد بينما لا يوجد إلاّ نسخة واحدة من التوراة ونسخة واحدة من القرآن؟
رأينا: إننا نظن أنه يمكن تقديم إجابة جديدة لهذا السؤال مبنيّة على التصور الذي نقدمه هنا والمتمثل بالاعتقاد اليقيني بأن جميع كتب الله جاءت من المصدر نفسه بلغته الأصلية (من الكتاب)، وتم تفصيل ما جاء من عند الله إلى توراة وإنجيل وقرآن بلسان الرسول الذي بعث بتلك الرسالة شريطة امتلاكه الذكر (أي العلم الذي من خلاله يمكن للرسول أن يبين لقومه ما نزّل إليهم من ربهم)، فمحمد تلقى كلمات الله كما هي موجودة أصلاً في الكتاب المبين فقام بتبيانها (أي تفصيلها) للناس بلسان عربي مبين لامتلاكه علم الذكر الذي يستطيع من خلاله أن يبين للناس ما نزّل إليهم من ربهم (انظر الشكل السابق)، وهكذا فعل موسى عليه وعلى جميع رسل الله أفضل السلام.
نعم، هذا هو زعمنا، لكن ما حقيقة الإنجيل؟ لماذا يوجد أكثر من نسخة للإنجيل إن كان ما تقوله صحيحاً؟ ألم يقم عيسى بن مريم بتبيان ما نزّل للناس من ربهم كما فعل موسى من قبله وكما فعل محمد من بعده؟  
جواب: كلا، لم يفعل عيسى بن مريم ذلك. لذا فإننا نقدّم الافتراء التالي: لم يكن عيسى بن مريم هو من بيّن (فصل) الإنجيل. وهذا - في رأينا- هو السبب الذي جعل الإنجيل (على عكس التوراة والقرآن) أكثر من نسخة واحدة، ولكن كيف؟
هذا التصور المفترى من عند أنفسنا يثير مباشرة السؤال التالي: من الذي فصّل كتاب الله إنجيلا للناس؟
افتراء من عند أنفسنا: لم يكن لعيسى بن مريم قوم حتى يفصّل لهم ما نزّل إليهم بلسانهم وذلك لأنّ مهمة الرسول أن يبين للناس ما نزّل إليهم بلسان قومه:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ                                                                            إبراهيم (4)
فبعد تفقد السياقات القرآنية وجدنا أن جميع رسل الله يخاطبون أقوامهم بصيغة " يَا قَوْمِ":
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ                                                                                            الأنعام 78
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ                                                                                   الأعراف 59
وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ                                                                                                               الأعراف 65
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ                                                                                                       الأعراف 73
وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ                                                                           الأعراف 85
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ                          هود 78
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي                                                                                              طه (90)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ                  يس (20)
بينما جاء عيسى بن مريم موجهاً الخطاب إلى بني إسرائيل، ولم يتوجه لهم بالخطاب على أساس أنهم قومه:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ         الصف (6)
وعندما توجه الله بالخطاب إلى عيسى ابن مريم، جاء كلامه على نحو أن من كان حوله هم الناس (وليس قومه):
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ                                                                 المائدة (116)
نتيجة وافتراء: لم يكن لعيسى بن مريم قوم حتى يبين لهم ما نزّل إليهم من ربهم بلسانهم.
سؤال: من الذي بيّن لبني إسرائيل ما نزّل إليهم من ربهم إن لم يكن فعلاً هو عيسى بن مريم؟
جواب: إننا نظن أن القرآن الكريم يقدّم لنا إجابة قد تستنبط من قوله تعالى:
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ                                                           آل عمران (52)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ                                                                    الصف (14)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
فالوحي جاء للحواريين من الله، لذا فهم من كانوا يملكون ما جاءهم الوحي به (وهو – في رأينا- الذكر)[10]، الأمر الذي مكنهم من القيام بنقل كتاب الله كما آتاه الله لعيسى بن مريم:
وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ               المائدة (46)
إلى كتب يفهمها قوم عيسى بن مريم، ولما كان هناك أكثر من واحد من الحواريين الذين جاءهم الوحي من ربهم، كان من الطبيعي أن يخرج كل واحد منهم بنسخته من الإنجيل الذي آتاه الله عيسى بن مريم (وسنتعرض لهذ الجزئية بالتفصيل عند الحديث عن عيسى من مريم إن أذن الله لنا بشيء من علمه).
أما ما يهمنا من ذلك فهو العودة إلى موضوع نقاشنا الرئيس بالافتراء التالي: الوحي هو  -في نظرنا- "العلم اللّدني (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) الذي يؤتيه الله نفر من عباده يمكنهم من تحويل كلام الله إلى قول يفهمه أقوامهم.
فالكتاب فصل على علم من لدن حكيم خبير، وقد فصل القرآن عربياً ولم يفصل أعجمياً، والآيات التالية لربما تثبت مثل هذا الزعم:
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)                                                                                          فصلت 1-3
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ                                                                               فصلت (44)
الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ                    هود (1)
ويمكن تبسيط التصور للأفكار باستذكار ذلك العلم الذي تحصل لذاك العبد الصالح الذي ذهب موسى طالباً صحبته ليتعلم منه:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
(وسنتعرض بحول الله وتوفيقه لعلم ذلك الرجل في مقالات منفصلة خاصة بقصة موسى)
لكن الذي يهمنا هنا هو العلم الذي تعلمه محمد في تلك الليلة مباشرة من ربه، إنه العلم أللّدني، أي علم الذكر الذي كان من خلاله يستطيع محمد أن يبين للناس ما نزّل إليهم من ربهم بلسان قومه:
          وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
ما هو العلم أللدني؟
إننا نزعم الفهم أن العلم أللدني هو ما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ                                                           يونس (37)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أن العلم أللدني هو ذلك العلم الذي بين يديه. ولكن أين الدليل على ذلك؟
جواب: لو أمعنا التفكير بما جاء في آية يونس (37) السابقة لوجدنا أن القرآن الكريم يحتمل حقيقتين لا يمكن المجادلة فيهما وهما:
1.     القرآن الكريم هو تصديق الذي بين يديه (وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)
2.     تفصيل الكتاب الذي لا ريب فيه (وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
تحدثنا سابقاً كيف كان القرآن الكريم تفصيلاً للكتاب وزعمنا الظن أن القرآن الكريم والكتاب مكتوبان بلغتين مختلفتين، فالكتاب هو كلام الله الأزلي والقرآن هو تفصيل لذاك الكتاب بلسان محمد، ولكننا هنا نحاول أن نفهم كيف يكون الكتاب تصديقاً للذي بين يديه؟ أي، كيف يمكن أن نفهم أن القرآن الكريم هو تصديق الذي بين يديه؟
إننا نظن أن عبارة " مِنْ لَدُنْ" التي ترد في كثير من آيات الكتاب هي صفة لعبارة " الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ":
الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
فيكون بذلك كل ما يأتي من لدن الله الخبير العليم قادم من الذي بين يديه، وهي كما ذكرنا سابقاً الذكر.
ولو حاولنا جلب الأمور مع بعضها البعض لربما خرجنا ببعض الاستنباطات المهمة جداً نذكر منها:
1.     إن لله كتاب:
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنْكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
2.     لا نجد موضعاً واحداً في القرآن الكريم يصور ذلك الكتاب على أنه موجود بين يدي الله
3.     نجد أن هناك شئ متوافر بين يديه، فالقرآن الكريم مثلاً هو تصديق للذي بين يديه:
وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ                                                                              يونس (37)
4.     نجد أن هناك شيء متوافر بين يديه لأن الكتاب هو أيضاً مصدقاً للذي بين يديه:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ             آل عمران (3)
وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ                                                                                                   فاطر (31)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ                                                                               الأحقاف (30)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ                           يوسف (111)
5.     نجد الفصل واضحاً بين القرآن من جهة وبين الذي بين يديه من جهة أخرى:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ                                                                              سبأ (31)
6.     إن الذي بين يديه لا شك سابق في الزمان للكتاب وللقرآن، فها هو عيسى بن مريم يصدق ما هو بين يديه:
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

افتراء عظيم: الكتاب ليس موجود بين يدي الرحمن ولكنه مكنون لا يمسه إلا المطهرون نزل منه ما نزل ليصدق الذي بين يديه، فتم تفصيله قرآناً عربياً وبقي مصدقاً الذي بين يديه، فما هو الذي بين يديه؟
افتراء عظيم: إنه الذكر، وهو موجود بين يدي الرحمن وقد سبق الكتاب وسبق القرآن وسبق التوراة وسبق الإنجيل لأنهم جميعاً يصدقون.
وبمثل هذا الافتراء، ربما يمكننا تسليط الضوء على بعض آيات القرآن الكريم مرة أخرى، كالآية التالية:
          إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ                                                الحجر (9)
فالله لم يتكفل بحفظ الكتاب أو القرآن أو التوراة أو الإنجيل (كما يحب البعض أن يتغنى)، لكنه –بكل تأكيد -تكفل بحفظ الذكر فقط (انظر مقالاتنا السابقة تحت عنوان ماذا كتب في الزبور؟)
ويمكننا إعادة التفكر بالآية الكريمة التالية:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ          (105)
فالذكر تقدّم على الزبور كما تقدم على جميع كتب الله كالقرآن والإنجيل والتوراة وحتى الكتاب المكنون نفسه، لأنهم جميعاً جاءوا ليصدقوا الذي بين يديه:
          وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ                       الأنبياء (69)
فالذي جاء به محمد من ربه ليس فقط قرآناً ولكنه ذكر أولاً وقرآناً بعد ذلك.

وهنا نظن أن علينا التوقف قليلاً لنشير إلى نقطة غاية في الأهمية غالباً ما أشكل على الناس فهمها وهي الفرق بين الذكر من جهة والحكمة من جهة أخرى كما جاء في الآيتين التاليتين:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ    النحل (44)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ                                                                         الزخرف (63)
فلو تدبرنا هذه الآيات الكريمة جيداً لربما استطعنا الخروج بتصور عن الفرق بين الذكر من جهة والحكمة من جهة أخرى، ففي حين أن الذكر يستخدم ليبيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم، تأتي الحكمة لتبين للناس ما هم مختلفون فيه، وفي هذا فرق عظيم. فمن أراد أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم فهو بحاجة أن يمتلك الذكر لا سيما أن الذي نزل من ربنا – كما ذكرنا- آنفاً هو أصلاً مبين (انظر النقاش السابق)، أما من أراد أن يبين للناس ما هم مختلفون فيه، فيكفي أن يكون ممن يملكون الحكمة.
وربما لن نأتي بالعجيب إن نحن زعمنا أن الذكر لا يمكن أن يتوافر بسهوله فهناك أهل للذكر من المصطفين الأخيار:
ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ                                          آل عمران (58)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ                                    الحجر (6)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا               الفرقان (29)
إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ                 يس 11
ص ۚ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ                                                                       ص 1
أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي ۖ بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ                ص 8
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ                                        فصلت 41
أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ                                           الزخرف 5
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ                                                  القمر 25
وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ            القلم  51
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ       النحل (43)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ            الأنبياء (7)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ               الأنبياء (105)
ولا شك أن العاقبة وخيمة على من نسي الذكر الذي جاءهم من ربهم:
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا                                                                     الفرقان (18)
أما الحكمة فهي متوافرة بشكل أكبر للناس، يستطيع كثير من الناس الحصول عليهم لأنه يمكن تعليمها:
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ                                                                                 البقرة 129
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ                                                                                      البقرة 151
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  البقرة 231
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ              البقرة 251
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ                                                                                                          البقرة 269
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ                                          آل عمران 48
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ                                             آل عمران  164
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا                                                                                 النساء 54
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا                                                                                             النساء  113
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ                                                                                                                    المائدة 110
ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ                                                          النحل 125
ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا                                                                                                    الإسراء  39
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ                                                                                                     لقمان 12
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا        الأحزاب 34
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ                                        ص 20
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ                                                                         الزخرف 63
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ                                                               الجمعة 2        
خاتمة
لنحاول إنهاء هذا الجزء من المقالة بالافتراء العظيم التالي: الكتاب صناعة الله والقرآن صناعة محمد والذكر هو العلم الذي من خلاله استطاع محمد تبيان آيات الكريم المبين قرآناً عربياً مبيناً.
وقبل أن تقوم الدنيا ولا تقعد فوق رؤوسنا عندما يقتبس هذا الافتراء خارج سياقه ليتم من خلاله تسويق حجم الضلالة التي وقع بها رشيد الجراح وتبرير المحاكمات الدينية التي نصبت وستنصب له من الذين يدافعون عن الله ودينه، نطلب فقد قراءة الدليل في الأسطر التالية:
لقد أنزل الله الكتاب على قلب محمد مبيناً وكان ذلك بالوحي (أي بالرمز) فقام محمد بما علمه الله من تفصيل الكتاب (الذكر الذي من خلاله يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم) بتحويل ذلك الكتاب من لغته الأم إلى قرآن بلسان عربي مبين، واقرأ – يرحمك الله- قول الحق التالي بشيء من التدبر:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
نعم، تبدأ الآية الكريمة بالرمز (حم) تم تنتقل في الآية الثانية لتؤكد أنه كان هناك الكتاب (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ)، تم جعله (أي تحويله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ)، فتملت له عملية جعل إلى قرآن عربي (قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، وكانت الغاية من عملية التحويل تلك حتى يمكننا أن نعقله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، لذا يمكن الاستنباط أنه لو لم تتم عملية الجعل تلك لما استطعنا نحن البشر أن نعقله، فكيف يمكن أن نعقل ذاك الكتاب لو نزل إلينا وبقي بصيغته الرمزية الأول؟ (وهذا ما سنتعرض له بعد قليل)، ولكن يجب أن لا ننسى أنه كان موجود أصلاً في أم الكتاب لدى الرحمن (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا)، فكان العلو والحكمة من أهم خصائصه هناك (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)، وبكلمات بسيطة يمكننا تقديم الافتراء مرة أخرى على النحو التالي: لقد تمت عملية "جعل" للكتاب قرآناً عربياً، أي تحول من الصيغة التي كان عليها في أم الكتاب (حم، الم، الر، طس، طسم، المص، طه، ن، ق، الخ) إلى الصيغة التي نقرأها الآن باللسان العربي، فأصبح بذلك قرآناً مبين، فتحول الكتاب المبين إلى قرآن مبين، وقد كان الذكر الذي نزل مع القرآن الأداة التي من خلالها تمت عملية التحول بالدقة المطلوبة.
ولا يفوتنا أن نعيد الافتراء القديم الذي قدمناه سابقاً وهو أن الكتاب قد نزل بصيغته الرمزية على قلب محمد جملة واحدة في ليلة الإسراء، وتم تفصليه قرآنا عربياً بوحي من الله على مراحل.
سؤال: كيف كان محمد يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم؟
جواب مفترى: لقد كانت مهمة محمد تكمن في أن يفصل للناس تلك الرموز المبينة قرآناً مبيناً بلسان قومه متى جاءه الأمر الرباني بذلك.
الدليل
لنتدبر الآيات الكريمة التالية:
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
سنحاول من خلال هذه الآيات الكريمة أن نثبت افتراءنا الخطير جداً وهو: عندما نزل الروح الأمين بما نزل به على قلب محمد لم يكن ذلك الشيء عربيا، والذي فصله قرآناً عربياً هو محمد نفسه.
الدليل
إننا نظن أن الدليل على هذا الافتراء قد يكون ميسراً إن نحن تأملنا مكان وجود عبارة "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" في سياقها القرآني، فهذه العبارة جاءت بعد أن دخل محمد في سياق الحديث:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

سؤال: ما الذي يمكننا أن نستنبطه من مكان وجود هذه العبارة في موقعها من النص القرآني؟
جواب: إننا نظن أنه لو نزل الروح الأمين بذلك الشيء الذي نزل به على قلب محمد بنسخته الأصلية عربياً لجاءت الآيات القرآنية مقلوبة على النحو التالي:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
ولأصبح المعنى على نحو أن الروح الأمين قد نزل به على قلب محمد عربياً في نسخته الأصلية، وعندها لا تتعدى مهمة محمد من أن تكون أكثر من ناقل للخبر كما جاءه، لكننا نظن أن الروح الأمين قد نزل به كما كان في نسخته الأصلية في أم الكتاب، فألقاه في قلب محمد لتصبح لمحمد مهمتان رئيستان وهما (1) أن يقوم محمد (لامتلاكه الذكر) بتحويل تلك الرسالة من نسختها الأصلية المبينة أصلاً إلى نسختها العربية الجديدة المبينة أيضاً، وهذا ما فهمناه من معنى أن يقوم محمد بتبيان ما نزّل إلى الناس من ربهم:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ    النحل (44)
و(2) أن يقوم محمد بعد ذلك بإبلاغ تلك الرسالة إلى قومه بكل صدق وإخلاص:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)    التكوير
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)    الحاقة
لذا ندعو القارئ الكريم أن يراجع الآيات الكريمة التي تتحدث عن تنزيل الكتاب على قلب محمد مرة أخرى لكن ليقرأها هذه المرة على ثلاث مراحل، فتكون المرحلة الأولى ما قام به الروح الأمين
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
وتكون المرحلة الثانية ما قام به محمد،
عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

وتكون المرحلة الثالثة حقيقة تخص كل ما نزل من الله إلى البشر عن طريق الوحي:
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
إن أكثر ما يهمنا هنا هو المرحلة الثانية حيث يتم ربط الآية 194 مع الآية 195 معاً وخاصة عبارة "لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ" مع عبارة "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ":
          لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
عندها ربما يمكننا أن نفهم أن محمد هو من كان منذراً بلسان قومه وليس الوحي الذي جاء بالنسخة الأصلية.

إن هذه النتيجة الكبيرة والخطيرة جداً ربما تسعفنا في تسليط الضوء على قضايا عديدة أعيت الفكر الديني لقرون، مثل آلية اصطفاء الرسل، وقضية النسخ والاستنساخ، الخ. وهو ما سنتعرض له في الجزء القادم من هذه المقالة إنْ أذن الله لنا بشيء من علمه، أنه هو السميع العليم.
دعاء: أسأل الله نفاذ قوله بمشيئته لي خاصة (دون خلقه أجمعين) الإحاطة بشيء من علمه الذي بين يديه:
          فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)

وللحديث بقية
1 أيار 2012

المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان

بقلم د. رشيد الجراح







[1] لو حاولنا ربط هذا الأمر بدعوة إبراهيم لهذه الأمة وكيفية استجابة الله لتلك الدعوة لربما وجدنا ما يجب التوقف عنده ملياً، فها هو إبراهيم يدعو لهذه الأمة على النحو التالي:
            رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ البقرة (129)
لكن الاستجابة الربانية تأتي معكوسة:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ                                                                                   آل عمران (164)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ                                                                                                      الجمعة (2)
إن أبسط ما يمكن أن نستنبطه هنا هو أن المنة على أمة محمد (على غير الأمم السابقة) سبقت فيها الزكوة على علم الكتاب والحكمة (انظر مقالتنا تحت عنوان النظرية العالمية)
[2] وهنا يجب التنبيه إلى عقيدة عندنا نخالف فيها معظم أهل العلم تتعلق بأفضلية محمد على سائر الرسل، فغالباً ما تغنى أهل الإسلام بأفضلية محمد على بقية أنبياء الله ورسله حتى ذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن الكون ما كان ليكون لولا محمد. هذه  في نظرنا مغالاة لا أساس لها في النص الديني، ولا تعدو – في نظرنا- أكثر من تحريف للعقيدة الصحيحة، فمحمد ليس أكثر من رسول كما كان من سبقه من الرسل:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ                                                                           آل عمران (144)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا                الأحزاب (40)
أنا أعي مقدار خطورة مثل هذا الافتراء الذي لن يتقبله كثير من أهل الإسلام بصدر رحب، لذا سنحاول بحول الله أن نفرد له مقالات مستقلة نحاول فيها – إن أذن الله لنا بشيء من علمه- إثبات زعمنا ونتعرض فيها لتبعات هذا الظن. 
[3] إننا نعتقد أن محمد يتقاطع مع جده إبراهيم في هذا الفهم، فنحن لم نجد في كتاب الله دليلاً على أن إبراهيم قد قدّم لقومه آيات مبصرة ربما للسبب نفسه، ولا نجد أن قوم إبراهيم قد طلبوا بأنفسهم العذاب كدليل على صدق دعوة إبراهيم (كما فعلت بعض الأقوام السابقة).
[4] سنحاول تباين كيف أن هذا الطلب سيحل إشكالية عظيمة بخصوص عيسى بن مريم عندما نتعرض له في مقالات منفصلة، وقد يقول قائل وما دخل عيسى بن مريم هنا ونحن نتحدث عن موسى وعن محمد؟ فنرد بالقول أننا سنحاول أن نبين لم طلب الحواريون من عيسى تنزيل المائدة على وجه الخصوص؟ لم لم يطلبوا رؤية الله مباشرة كما فعل أجدادهم من بني إسرائيل عندما طلبوا من موسى رؤية الله مباشرة؟ إن مثل هذا التساؤل ستقودنا – إن أذن الله لنا بشيء من علمه- إلى نتيجة هائلة ربما تحل إشكالية عظيمة تخص عيسى بن مريم.
[5] أما الطريقة الثانية وهي من وراء حجاب (كما حصل لموسى) فلا تكون بالوحي وإنما بالكلام المباشر لقول الحق:
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (164)
فموسى هو الرسول الوحيد الذي حظي بالكلام المباشر من الله، ومحمد وهو الرسول الوحيد الذي حظي بوحي الله المباشر (وحياً)، ولو تدبرنا الآية الكريمة نفسها لوجدنا أن الله قد قدّم طريقة الوحي المباشر على الكلام من وراء حجاب:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ                                                                                                                               الشورى (51)


[6] أما إذا كانت العلاقة ليست علاقة وحي فيكون ذلك من وراء حجاب كما حصل مع موسى، ففي حالة لقاء موسى ربه لم يكن هناك وحياً مباشراً أو غير مباشر، فكان الحجاب فقط بينهم، وهو الحجاب الذي طلب موسى كشفه، فما استطاع تحمل الرؤيا. لذا نزعم الظن أنه في حين أن اللقاء الذي حصل لمحمد مع ربه في حادثة الإسراء كان وحياً مباشراً، كان اللقاء الذي حصل لموسى مع ربه في الواد المقدس خطاباً من وراء حجاب.
[7] لابد من جلب انتباه القارئ إلى الفرق بين اليوم والليلة، فاليوم هو النهار والليلة هي انقضاء النهار وحلول الليل، وهما معاً يشكلان الفترة الزمنية التي مدتها أربعة وعشرين ساعة، لذا جاء الخطاب عن زكريا مرة بلفظ الليلة  (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ) ومرة أخرى بلفظ اليوم (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) ربما لنفهم أن زكريا كان ممنوعاً عن الخطاب بالكلام مع الناس طوال الأربعة وعشرين ساعة (ليلاً ونهاراً)، فلا نظن أن هناك مفردة في العربية تستخدم لتدل على الفترة كلها (أي الليل والنهار معاً)، فالله يقول عن عذاب عاد:
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ             الحاقة (7)

[8] لابد من جلب انتباه القارئ إلى تفاوت آخر بين ما جاء بخصوص زكريا وما جاء بخصوص مريم وهو الفرق بين مفردة الناس في حالة زكريا (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) ومفردة انسيا (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) في حالة مريم. وهذا التفاوت ربما يدعم ما ذهبنا إليه في مقالات سابقة لنا بخصوص معنى مفردة الناس، فزعمنا الظن أن الناس لا تعني إلا البالغين من الرجال (أي القوم) بينما مفردة إنسيا فتشمل الجميع من الذكور والإناث البالغين وغير البالغين، لذا نحن نظن أن الكلام الذي منع عنه زكريا كان مع الناس (أي الرجال فقط) فلا ننسى أن زكريا كان يكفل الأيتام، فمن غير المتوقع أن لا يكلم هؤلاء لأنهم لم يكونوا يشكون بما حل بالرجل وزوجته، ولا أظن أن زكريا كان ممنوعاً عن الكلام مع زوجته، فحاله هي حالها. لكن مريم قد اتخذت القرار بأن لا تكلم أحداً سواء كان من الرجال أو النساء أو حتى الأطفال لأن مشكلة مريم كانت مع الجميع، فالنساء ربما كن أكثر حيرة من الرجال بما حل بمريم. ولو دققنا النظر في سياق قرآني آخر لربما تعزز مثل هذا الظن:
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
 وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
ففي حين أن السقاء سيكون للجميع (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) كان التكذيب سمة المكلفين من البشر وهم الناس (فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)
[9]http://www.google.jo/search?hl=en&cp=7&gs_id=18&xhr=t&q=book+images&bav=on.2,or.r_gc.r_pw.r_qf.,cf.osb&biw=1614&bih=870&wrapid=tljp1335433026201018&safe=images&um=1&ie=UTF-8&tbm=isch&source=og&sa=N&tab=wi&ei=BxaZT9W4OMSyhAfgz7X3BQ#um=1&hl=en&tbm=isch&sa=1&q=tool+images&oq=tool+image&aq=0&aqi=g3g-m7&aql=&gs_nf=1&gs_l=img.1.0.0l3j0i5l7.79336.83499.0.85839.12.12.1.0.0.0.205.1743.2j8j1.11.0.52FioSOFBjw&bav=on.2,or.r_gc.r_pw.r_qf.,cf.osb&fp=9905f5a8904a1648&biw=1614&bih=870
http://www.google.jo/search?hl=en&cp=7&gs_id=18&xhr=t&q=book+images&bav=on.2,or.r_gc.r_pw.r_qf.,cf.osb&biw=1614&bih=870&wrapid=tljp1335433026201018&safe=images&um=1&ie=UTF-8&tbm=isch&source=og&sa=N&tab=wi&ei=BxaZT9W4OMSyhAfgz7X3BQ#um=1&hl=en&tbm=isch&sa=1&q=book+images&oq=book+images&aq=f&aqi=g9g-m1&aql=&gs_nf=1&gs_l=img.12..0l9j0i5.1220479.1224253.2.1226357.11.11.0.1.1.0.181.1439.2j8.10.0.zYEHLq53_vI&bav=on.2,or.r_gc.r_pw.r_qf.,cf.osb&fp=9905f5a8904a1648&biw=1614&bih=870

[10] وسنرى لاحقاً كيف يكن لم يملك الذكر أن يفسر الحقائق، فها هو صاحب موسى يقول:
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا                                 الكهف 70
فالرجل سيحدث لموسى مما فعل ذكرا (بالألف الممدودة)، أي سيفسر له حقيقة ما فعل.