📢 تابعوا بثوث الدكتور على TikTok، أو اشتركوا في قنوات Telegram وWhatsApp لتصلكم إشعارات البث مباشرة.
Telegram WhatsApp YouTube TikTok

صلاة الاستسقاء 2


نبذة عن المقالة:

يستكمل هذا المقال النقاش حول صلاة الاستسقاء، مبتدئًا بتوضيح المنهجية التي يتبعها الكاتب، والتي ترتكز على القرآن الكريم كمصدر أساسي مع الإيمان الكامل بما قاله النبي محمد، مع التفريق بين قوله وما نُقل عنه. يقدّم مثالًا بحديث "سب الدهر" لإظهار التعارض المحتمل بين بعض المرويات والنص القرآني. ثم يعود لتحليل استجابة الدعاء، مستنتجًا من القرآن أن الله يستجيب للجميع (أنبياء، صالحين، وحتى إبليس) بشكل مباشر دون شرط الإيمان الكامل. ويفترض أن عدم الاستجابة يكمن في "الرسالة" نفسها وليس في الداعي أو المدعو.

تمهيد: توضيح المنهجية وموقفا من الحديث

قبل إكمال الحديث في الموضوع الذي نطرحه هنا وهو صلاة الاستسقاء، لا بد من تجلية أمر واحد أثاره بعض القراء بعد قراءتهم لمقالتنا هذه (وكذلك لبعض مقالاتنا السابقة)، فلقد أثار كلامنا السابق حفيظة عدد من القراء، فظنوا أننا بهذا الطرح الذي نقدمه لا نؤمن بالأحاديث الشريفة التي تتحدث عن المواضيع التي كنا قد تطرقنا لها، وهم ينعتونا – حسب استنتاجاتهم هم من كلامنا نحن- أننا لا نؤمن إلا بما جاء في القرآن الكريم، وهم يعتقدون أن هذا عيب واضح في طرحنا، وكأن لسان حالهم يقول أن مثل هذه الأمور لا يمكن فهمها بمعزل عن السنة (أي ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول).

ونحن في هذا المقام نود أن نلفت انتباه القارئ الكريم إلى أمور أساسية تشكل القاعدة الصلبة في عقيدتنا التي نؤمن بها، وبالتالي فهي القاعدة التي نبني عليها الاستنباطات التي نخرج بها والتي تخالف – في معظم الأحوال- ما ذهب إليه جمهور العلماء، وما هو متداول في الفكر السائد عند أتباع معظم الفرق الإسلامية.

نقاط أساسية في منهجنا

1. نحن لا نلتزم بأي مذهب أو طائفة في ما نذهب فيه وفيما نخلص إليه من استنباطات من كتاب الله، فنحن طلاب علم منهجنا أكاديمي بحت، نبحث عن الحقيقة أينما وجدت وحيثما حلت، فلا نتخذ موقفاً عقائدياً معيناً مسبقاً لنبحث عن أدلة على صدق موقفنا كما تفعل غالبية (وربما كل) الفرق الإسلامية، فعقيدتنا تتمثل بما يلي: ما جاء في كتاب الله هو ديننا وهو عقيدتنا مهما بلغ من الغرابة (كما قد يظن البعض) حتى لو خالفنا في ذلك كل أهل الأرض، فأنا أؤمن أني ذاهب إلى ربي لأقف بين يديه وحجتي هي: لقد جئتك ربي مؤمناً بكل ما قلت أنت، ولم آتيك متسلحاً بآراء مذهب أو طائفة، فإن أنت قبلتني فهي رحمتك وإن أنت طردتني فمن عدلك.

2. كما نود أن نجلب انتباه القارئ إلى حقيقة مفادها أننا لسنا علماء شريعة لنعرض عليكم الآراء العقائدية السائدة حول الموضوع الذي يتم طرحه، فتلك محلها كتب الأحكام، ونحن لسنا أكثر من طلاب "علم اللغة"، نحاول فهم النص اللغوي كما يرد في كتاب الله بالمنهجية التي نظن أنها صحيحة، وهو – على ما نظن- اللبنة الأولى لاتخاذ المواقف العقائدية. فننطلق من المبدأ الثابت المتمثل بأن كلام الله كلام دقيق مقصود بلفظه، فلا يجب ليّ عنق النص ليتكيف مع المواقف العقائدية المسبقة، ولا مبرر للتبديل أو التأويل غير المنضبط بالقواعد الواضحة، لأن ذلك سيجعل كلام الله عرضة للأهواء والأغراض، وسبباً في الاختلاف.

3. ولما كان الهدف الجوهري هو فهم النص القرآني لم يكن هناك داعي في هذا المقام أن نستجلب الأحاديث الشريفة للتأييد أو الرفض، فأهل الشريعة هم من يقومون بمثل هذا العمل. وهنا حصل الخلط في الفهم عند البعض، فلقد ظن البعض أن خلو كلامنا من الأحاديث الشريفة ربما يفهم منه أننا لا نؤمن بالأحاديث النبوية، لذا نجد لزاماً التأكيد على أن خلو كلامنا من الأحاديث الشريفة لا يجب أن يفهم منه أننا لا نؤمن بها.

4. ولكن يجب التنبيه إلى أمر غاية في الأهمية ربما يلخّص موقفنا فيما يخص موضوع الأحاديث الشريفة، فموقفنا يتلخص بالعبارة التالية: أقسم بالله العظيم أنني أؤمن إيماناً مطلقاً بكل ما صدر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قول، كيف لا وهو الذي قال الله في حقه:

وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٣﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴿٤﴾ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ﴿٥﴾
(سورة النجم)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿٨٠﴾
(سورة النساء)

فبعد هذا الكلام الفصل، كيف لأحد (كائن من كان) أن يخرج ليقول أنني لا أؤمن بما قال صلى الله عليه وسلم؟ إن إيماني مطلق بكل ما قال صلى الله عليه وسلم، لا بل فإن لي موقفاً عقائدياً يذهب إلى أبعد من هذا بكثير بخصوص قول النبي ربما لا أستطيع أن أبوح به أو أن أدخل بتفصيله هنا، وسأفرد له مقالة خاصة بحول الله وتوفيقه، وذلك لأهميته من منظور عقيدتي التي أؤمن بها، ومفاد القول هو عدم الفصل بين قول الله وقول نبيه الكريم، لذا فالإيمان بأحدهما لا يمكن فصله عن الإيمان بالآخر.

5. ولكن في المقام ذاته يجب التنبيه إلى ما يلي: ففي حين أن إيماني مطلق بكل كلمة (لا بل وبكل حرف) قالها صلى الله عليه وسلم، إلا إنني لا أؤمن إيماناً مطلقاً بكل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن ندعو إلى التفريق بين الإيمان بما قال صلى الله عليه وسلم والإيمان بما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا فرق كبير، ففي حين أن ما قاله النبي صحيح صادق ليس فيه ما يشوبه، لم يكن ما نقل عن النبي كذلك على كليته، فأهل الحديث أنفسهم قد وضعوا تصنيفات لما نقل عن النبي، فأوردوا الصحيح والحسن والضعيف وحتى المدسوس، لذا كان لا بد من التيقن والحذر عند التطرق لما نقل عن النبي، وللأسف فإن العامة (وبعض أهل الاختصاص) يستشهدوا بكل ما نقل عن النبي وكأنه صحيح لا شائبة فيه، فكم من الخطب والدروس وحتى بعض الأحكام بنيت على أحاديث لا ترقى إلى درجة حتى الضعيف من القول، وسأقدم مثالاً واحد هنا للتنبيه إلى هذا الأمر (هذا وقد قدمت أمثلة أخرى في مقالاتي السابقة حول هذا الموضوع، فالقارئ المهتم يستطيع الرجوع مثلاً إلى مقالة جدلية عذاب القبر ليقف عند مثل هذه الأمثلة)، أما المثال الذي أقدمه هنا فيتلخص بفحوى ما نقل عن النبي عن مسألة سب الدهر، فلقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن سب الدهر في حديث قدسي، حيث نقل عنه أنه قال:

مثال تطبيقي: إشكالية حديث "سب الدهر"

جاء الحديث بألفاظ مختلفة منها

رواية مسلم : قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم يقول : يا خيبة الدهر ، فلا يقولن أحدكم : يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما .

الحديث كذلك أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر.

ورواه البخاري بلفظ: يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار.

ومنها رواية للإمام أحمد : لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل قال : أنا الدهر الأيام والليالي لي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك ) وصححه الألباني)

وسؤالنا هنا يتمركز حول الاستفسار التالي: هل من الممكن أن يكون النبي قد قال مثل هذا الكلام؟ هل فعلاً نهى النبي عن سب الدهر؟

إننا نفهم أنه من الاستحالة بمكان أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال مثل هذا الكلام، وقد يرد البعض بالقول: ولم لا؟ لم لا يكون الرسول قد قال هذا الكلام فعلاً؟ نقول أن هذا مستحيل لأن مثل هذا القول يتناقض بشكل صارخ مع ما ورد في كتاب الله، ولكن كيف ذاك؟

نقول: دعنا ندقق أولا بفحوى الحديث نفسه بصيغه المختلفة، النبي ينهى الناس عن سب الدهر، أليس كذلك؟ نعم، لأن الحديث نفسه يبين أن الإله (الله نفسه) هو الدهر (انظر صيغ الحديث المختلفة). والآن، إن كان هذا الكلام صحيحاً، ما الذي سنفعله إذن بما ورد في كتاب الله في الآيات الكريمة التالية:

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٢٣﴾ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴿٢٤﴾ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿٢٥﴾ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٢٦﴾
(سورة الجاثية)

فسؤالنا هو: إذا كان الدهر هو الله كما جاء في الحديث المنقول، فما هي مشكلة الكافرين الذين ظنوا أن الذي يهلكهم هو الدهر كما جاء في الآية الكريمة (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)؟ ولم يحتاج الله أن يذكّر في الموقف نفسه بقوله "قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ"؟!!

إن أهل الحديث مطالبون أن يبيّنوا لنا كيف يكون ذلك إن كان ما نقل عن النبي هو فعلاً قول صحيح يحتج به، ولا أخال أنهم يستطيعون ذلك دون التحليق في سماء المجازات (انظر تأويلات هذا الحديث عند النووي، وابن عثيمين، الخ.)، وهو ما نرفضه رفضاً قاطعاً لأن هذا سيجعل كل يغني على ليلى آه (للخوض في هذا الافتراض نطلب من القارئ الكريم مراجعة ما ورد في مقالتنا تحت عنوان: جدلية الحقيقة والمجاز).

عودة على بدء: صلاة الاستسقاء

لقد وقفنا في مقالتنا السابقة حول موضوع صلاة الاستسقاء عند زعمنا أن استجابة الدعاء غير مشروطة بالامتثال الكامل لأمر الله، وقد استشهدنا على هذا الزعم بما كان من الاستجابة الربانية للطلب الذي توجه به إبليس إلى ربه بعد أن كان قد عصى أمر ربه بالسجود لآدم. وقد قفلنا الجزء السابق من المقالة بالتساؤل التالي: إذا كنت أنا أفضل من إبليس، فلم استجاب الله لإبليس على الفور ولا يستجيب لي على الفور؟

وللإجابة على هذا التساؤل طلبنا إمعان التفكير بكيفية استجابة الله طلب إبليس بقراءة الآيات الكريمة التالية:

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴿١٣﴾ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿١٤﴾ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴿١٥﴾
(سورة الأعراف)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٣٦﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴿٣٧﴾ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٣٨﴾
(سورة الحجر)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٧٩﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴿٨٠﴾ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٨١﴾
(سورة ص)

تحليل استجابة دعاء إبليس

تدل هذه الآيات الكريمات أن الله قد استجاب طلب إبليس على الفور بالرغم من عظم الذنب الذي ارتكبه بحق الله، وهو عدم الامتثال لأمره بالسجود لآدم، إن الاستجابة الربانية لطلب إبليس تقودنا إلى الاستنتاج الخطير الذي مفاده أن تقبل الله للدعاء لا يمكن أن يكون مشروطاً بالامتثال الكامل لأمره، وإلاّ لما كان طلب إبليس مجاب، فبالرغم من عدم امتثال إبليس لأمر ربه إلا أن ذلك لم يحرمه من نعمة ربه قبول طلبه عندما توجه إليه بالقول:

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿١٤﴾
(سورة الأعراف)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٣٦﴾
(سورة الحجر)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٧٩﴾
(سورة ص)

والمدقق في الآيات الثلاثة السابقة يجد أن اثنتين منهما متطابقتين تماماً في اللفظ، وهما آيتا الحجر و ص، ولكنه يجد اختلافاً طفيفاً في آية الأعراف يتمثل في عدم وجود مفردة "ربِّ" كما هو الحال في الآيتين الأخريين (الحجر و ص)، ولو أمعنا التفكير في هذا الاختلاف لربما خلصنا إلى أنه سواءً كانت الصيغة بوجود هذه المفردة أو عدم وجودها كانت الاستجابة الربانية حاصلة لا محالة، وخلاصة القول هي سواء كان التوجه بالإقرار بالربوبية في قول إبليس ( قال رب فأنظرني) أو جاءت دون ذلك الإقرار على نحو ( قال انظرني) جاء الرد الإلهي إيجابياً. فإبليس توجه إلى الله بطلب ولم يرد الله له طلبه، وهنا نعود لنسأل نفس السؤال الذي كررناه أكثر من مرة: لم لا يقبل الله طلبنا في الحال كما كان من أمر إبليس؟

استجابة دعاء الناس العاديين والمشروط

ولا ننسى كذلك أن الله قد تقبّل طلبات الناس العاديين الذين لم يصلوا إلى درجة الإيمان الذي عليه الرسل والأنبياء، وليسوا بدرجة الكفر والجحود الذي أصرّ عليها إبليس، فها هي امرأة عمران – مثلاً- تنذر ما في بطنها خالصاً لربها:

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿٣٥﴾ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿٣٦﴾
(سورة آل عمران)

فما كانت النتيجة خلاف ما دعت، فكان طلبها مستجاب في الحال (لا بل) وزيادة، فكفّلها زكريا ورزقها طيبات من عنده:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿٣٧﴾
(سورة آل عمران)

وها هو رجل لا نعرف من هو أصلاً يسأل ربه بصيغة المتشكك المتردد كيف سيحيي قرية كانت خاوية على عروشها:

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ۖ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٥٩﴾
(سورة البقرة)

فكانت النتيجة على النحو الذي نعلم.

وها هم أهل الكهف يتوجهوا بالطلب التالي من ربهم:

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴿٩﴾ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴿١٠﴾
(سورة الكهف)

فكان التقدير الرباني لهم على نحو ما نعلم:

فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴿١١﴾
(سورة الكهف)

ويبين القرآن الكريم أن دعاء العبد ربه مجاب لا محالة حتى لو كان مشروطاً، فها هم في عرض البحر يتوجهوا إلى ربهم بالدعاء التالي:

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿٦٣﴾
(سورة الأنعام)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿٢٢﴾
(سورة يونس)

فكانت النتيجة على النحو التالي:

فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ ۖ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٢٣﴾
(سورة يونس)

وها هم يشترطوا الصلاح بعد أن يتحصل لهم عطاء ربهم:

وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٧٥﴾
(سورة التوبة)

وانظر ماذا كان من أمرهم بعد أن آتاهم الله من فضله:

فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿٧٦﴾
(سورة التوبة)

خلاصة الأدلة القرآنية

وبعد هذا السرد الطويل فإننا نعود إلى الافتراض الذي بدأنا به وهو أننا لا نجد في كتاب الله رسولاً أو نبياً أو إنساناً عادياً أو حتى شيطاناً رجيماً يطلب من الله شيئاً بصيغة الدعاء إلاّ ويستجيب الله طلبه على نحو ما أراد (لا بل) وزيادة، دون مقايضة ولا تأجيل، وهذا - لا شك- هو الكرم الإلهي، وهذا ما نظن أنه المنطق الإلهي الذي لن يجعل للناس على الله حجة، فلا نجد مثالاً واحداً يبين لنا أنّ الله لم يستجب طلباً لأي إنسان بغض النظر عن درجة الإيمان الذي يتمتع بها ذاك الطالب، ولم نجد أن الله يؤجل له أجر دعاءه حتى يوم القيامة، ولم نجد أن الله يقايض شيئاً طلبه الإنسان بشيء آخر لم يطلبه حتى لو كان أفضل مما طلب. ولو استطاع علماؤنا الأجلاء أن يرشدوننا إلى مثال واحد فقط من كتاب الله على غير ما نزعم فنحن على استعداد للتخلي عن موقفنا هذا على الفور.

متى يستجيب الله الدعاء؟

إن هذه الخلاصة تنقلنا إلى السؤال الأكبر وهو: متى يستجيب الله الدعاء؟ أو ما هو الدعاء المستجاب وما هو الدعاء غير المستجاب؟

افتراء من عند أنفسنا: إننا نؤمن أنك إذا دعوت الله شيئاً ولم يستجب الله دعاءك فإن لك بذلك حجة على ربك، فأنت لا شك ستكون في موقف قوي يوم القيامة تطالب ربك بذاك الدعاء الذي لم يستجبه لك، وأنت -لا شك- لن تقبل بدلاً منه ملء الأرض ذهباً بالضبط كما لا يرضى الله بملء الأرض ذهباً لتفتدي به نفسك. فهل يضع الإله نفسه في مثل هذا الموقف؟ الجواب كلا، لأن ذلك يعني أن الكافر ستكون له حجة على ربه، فلو لم يتقبل الله طلب إبليس بأن أخره إلى يوم الوقت المعلوم لكان لإبليس حجة على ربه سيطالبه بها يوم القيامة، ولن تكون خاتمته - بكل تأكيد- على نحو ما يصورها القرآن الكريم وهي أن إبليس ومن تبعه في النار يتحاجون فيها. فكيف المخرج من مثل هذا الموقف؟

رأينا: إنّ المخرج في تصورنا بسيط للغاية وهو على النحو التالي: إذا كان يوم القيامة وطالبت ربك بذاك الدعاء الذي لم يستجبه لك في الدنيا سيكون رد رب العالمين على النحو التالي: لا إنك لم تدعوني ولو دعوتني لاستجبت لك لأني قد اتخذت على نفسي عهداً على نحو:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿١٨٦﴾
(سورة البقرة)

- كيف ذاك ونحن ندعو الله؟ سيرد البعض بالقول.

نعم، هذا هو – في نظرنا- ما سيحصل، إننا نفهم موقفنا هذا من الآية الكريمة نفسها وبالتحديد من قول الحق:

مفتاح الإجابة في قوله: "إذا دعان"

أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ

دقق – عزيزي القارئ- في هذا الجزء من الآية الكريمة جيداً، فالله سبحانه لم يقل "أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ" وكفى، وإنما قال "أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"، ولو دققنا النظر جيداً فيما قد يبدو للوهلة الأولى أنه تكرار لفظي وحشو في الكلام لخرجنا بعبرة عظيمة، وهي أن ذاك أبعد ما يكون عن التكرار أو الحشو وإنما هو المعنى المقصود بلفظه، فالله عندما يقول "أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" نستطيع أن نخلص من هذا القول إلى حقيقة بسيطة جداً مفادها أنه هناك داع ولكنه لا يدعو، وهناك بالمقابل داع يدعو، والله – بنص الآية الكريمة- لا يتقبل من الداع إلا إذا دعاه:

أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ

وبتطبيق ذلك على واقعنا، فإننا نقول أنه عندما نرفع نحن أيدينا فيما نظن أنه دعاء، فإن كل واحد منا يسمى داع ولكنه لا يكون يدعو، فحتى يستجيب الله دعاءك لا يكفي أن تكون داع ولكن يجب أن تدعو، فلو كان الشرط فقط وجود الداع لجاءت الآية الكريمة على نحو:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ... ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ

ولما كان هناك حاجة لعبارة "إِذَا دَعَانِ"، صحيح أنك تظن أنك تدعو الله ولكنك في الحقيقة لم تفعل، وكيف يكون ذلك؟ نقول إن هذا بالضبط ما سنحاول تبيانه – بحول الله وتوفيقه- في الجزء التالي من هذه المقالة.

الدعاء كرسالة: البحث عن مواطن الخلل

أما بعد،

إننا نفهم أنّ الدعاء هو عبارة عن رسالة من الداع إلى المدعو، ولا شك أن الرسالة يمكن أن لا تصل إذا حدث خلل في ركن من أركانها، وأركان الرسالة هي المرسل إليه والمرسل والرسالة والناقل.

  1. المرسل إليه (المدعو أو recepient باللسان الأعجمي): فهل لو قمت بإرسال رسالة إلى شخص ما، وقام هذا الشخص قبل أن تصله رسالتك بتغير مكان سكنه أو مكان عمله الذي كتبته أنت على الرسالة، فهل كانت تلك الرسالة ستصل إلى المرسل إليه؟ وهل كنت ستتلقى في يوم من الأيام رداً على رسالتك التي لم تصل المرسل إليه أصلاً بسبب تغيير العنوان؟ كلا، لأن هناك خلل حصل عند طرف المرسل إليه؟
  2. المرسل (الداع" sender): فهل لو قام المرسل بكتابة رسالة إلى شخص ما، ولكن هذا المرسل لم يكتب على الرسالة نفسها اسمه أو عنوانه فهل يستطيع المرسل إليه أن يرد على رسالته؟ الجواب كلا، لأن هناك خلل حصل عند طرف المرسل.
  3. الرسالة (message): هل لو قمت بكتابة رسالة وكتبت عليها عنوانك وعنوان المرسل إليه بشكل صحيح، ولكنك لم تضع عليها الطوابع البريدية التي يطلبها الموصل، هل كانت الرسالة ستصل المرسل إليه؟ وهل كان الرد على رسالتك سيأتيك في يوم من الأيام؟ الجواب لا، لأن هناك خلل حصل في طرف الرسالة نفسها.
  4. الموصل (carrier): هل لو قمت بكتابة رسالة وكتبت عليها عنوانك وعنوان المرسل إليه ووضعت عليها الطوابع البريدية اللازمة ولكنك قمت بعد ذلك بوضع تلك الرسالة في درج مكتبك، ولم تودعها إلى خدمة البريد (الموصل)، فهل كانت تلك الرسالة ستصل إلى المرسل إليه؟ وهل كنت ستتلقى جواباً على رسالتك تلك؟ الجواب: كلا، لأن هناك خلل حصل في طريقة إرسال الرسالة أو الجهة الحاملة للرسالة، وهكذا.

ولمّا كان الدعاء هو عبارة عن رسالة من العبد (المرسل) إلى ربه (المرسل إليه)، كان لا بد من تفقد مواطن الخلل الذي نجم عنها عدم الإجابة الربانية على رسالتك تلك. في الجزء التالي من المقالة سنقحم أنفسنا في البحث عن ذاك الخلل، سائلين الله –عز وجل – أن يهدينا سواء السبيل.

أركان الرسالة الأرضية ورسالة الدعاء

أما بعد،

ما هي أطراف رسالة الدعاء؟

لو أمعنا النظر في الدعاء كرسالة من العبد إلى ربه لوجدنا أن أركان هذه الرسالة –على خلاف الرسائل الأرضية- ثلاثة فقط وليست أربعة، ففي رسالة الدعاء من العبد إلى ربه لا نجد إلا المرسل وهو العبد (أو الداع) والمرسل إليه وهو الإله نفسه (المدعو) والرسالة (أي الدعاء)، ويغيب طرف الناقل للرسالة، فالقراءة الدقيقة للآية الكريمة السابقة تبين عدم وجود الوسيط أو الناقل للرسالة بين العبد وربه وذلك بسب قرب المرسل إليه من المرسل، ولنعيد الآية نفسها لإمعان التفكير فيها من هذا الزاوية:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿١٨٦﴾
(سورة البقرة)

فالإله – بنص الآية- قريب من العبد، لذا تنتفي الحاجة لوجود الناقل (أو الموصل)، فأنت لا تبعث برسالة بريدية لمن يسكن بجوارك في الحي، أو يعمل معك في نفس المكان (إلاّ إذا كان الخطاب بينك وبينه مفقوداً لسبب ما أو بسبب روتين وظيفي معين)، وهذه أسباب بمجملها منتفية الحصول في حالة الدعاء بين العبد وربه. فخط الاتصال بين العبد وربه مفتوح على الدوام وليس هناك تكلّف في التواصل بين العبد مع ربه، وذلك لأن الإله –كما تشير الآية السابقة قريب:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ

ما هو القرب الإلهي؟

نتوقف هنا للحظة للحديث عن "القرب الإلهي"، الذي نظن أنه السبب لانتفاء الحاجة إلى وجود الناقل (أو الموصل) لرسالة العبد إلى ربه، ولكن لا يظنن أحد أن القرب الإلهي تعني الملاصقة كما ربما يعني مفهوم القرب المكاني بالنسبة للناس، فلا بد من وجود المسافة الزمنية والمكانية بين الإله والعبد، فمفردة القرب بالمعنى القرآني تفيد وجود فاصل مكاني بين الطرفين، ولكن لمّا كانت فكرة القرب والبعد مسألة نسبية بحد ذاتها، كان لابد من تجليتها، فبالنسبة للبشر أنفسهم يكون أحياناً ما تراه أنت قريب بعيداً بالنسبة لي أنا، والعكس صحيح، وهذه النسبية موجودة بين الإله والعبيد، وهو ما يمكن أن نخلص إليه من قول الحق:

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴿٤﴾ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴿٥﴾ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ﴿٦﴾ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴿٧﴾
(سورة المعارج)

فاليوم الذي يبعد خمسين ألف سنه هو بالنسبة لنا يوم بعيد إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا، ولكنه بالنسبة للإله فهو – بلا شك- يوم قريب وَنَرَاهُ قَرِيبًا، فخمسين ألف سنة بالنسبة للإله يعتبر قرباً، نستنتج إذاً أنّ المسافة الزمنية لنا لا تتطابق في بعدها وقربها مع المسافة الزمنية للإله، فحتى يوم القيامة هو بالنسبة للإله يوم قريب:

إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴿٤٠﴾
(سورة النبأ)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ﴿٥١﴾
(سورة الإسراء)

ولكن بالنسبة للإنسان فالقرب هو ما لا يتجاوز نطاق حياته الدنيا:

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ﴿٤٤﴾
(سورة إبراهيم)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿١٠﴾
(سورة المنافقون)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴿٦٣﴾
(سورة الأحزاب)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴿١٧﴾
(سورة الشورى)

وربما يكون أدنى من أجله كالتوبة

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿١٧﴾
(سورة النساء)

أو كالنصر

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿١٨﴾
(سورة الفتح)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿٢٧﴾
(سورة الفتح)
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٣﴾
(سورة الصف)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرُ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴿٢١٤﴾
(سورة البقرة)

أو ربما كليلة واحدة:

قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴿٨١﴾
(سورة هود)

وكذلك هو القرب المكاني:

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿٣١﴾
(سورة الرعد)
وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ﴿٥١﴾
(سورة سبأ)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ﴿٤١﴾
(سورة ق)

فالمكان نفسه بالنسبة للناس بعيد ولكنه بالنسبة للإله قريب، ويبدو هذا جلياً عند عقد مقارنة ما جاء في الآيتين الكريمتين التاليتين:

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ﴿٥١﴾ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴿٥٢﴾
(سورة سبأ)

إن السرد السابق يوضح الفصل المكاني بين الإله والناس، ويتعزز هذا الفصل بوجود فكرة المقربين من الإله، فبالرغم من القرب المكاني بين الإله والناس كافة (فالله قريب من الناس جميعاً) إلاّ أنّ هناك من هم من المقربين:

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴿١٧٢﴾
(سورة النساء)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿١٠﴾ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴿١١﴾ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿١٢﴾
(سورة الواقعة)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴿١٨﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴿١٩﴾ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴿٢٠﴾ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴿٢١﴾
(سورة المطففين)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ﴿٢٥﴾ خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴿٢٦﴾ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ﴿٢٧﴾ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴿٢٨﴾
(سورة المطففين)

وقد قرّب الله إليه بعض أنبياءه ورسله:

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿٤٥﴾
(سورة آل عمران)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴿٥٢﴾
(سورة مريم)

فحتى فرعون نفسه كان له مقربين:

قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿١١٤﴾
(سورة الأعراف)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿٤٢﴾
(سورة الشعراء)

فالقرآن إذاً يميز بين القريب والمقرّب، وخلاصة القول أنه في حين أنّ الله قريب من العباد جميعاً إلاّ أن هناك من عباده من هم من المقربين عنده، وبالتالي فالقرب من الإله هي درجات، ولكن لا يمكن أن يكون هناك التصاق بالإله في أي درجة منها، فحتى الملائكة المقربون ليسوا ملتصقين بالإله. لهذا نجد الفاصل المكاني بين الطرفين، فالله طلب من آدم وزوجه عدم الاقتراب من الشجرة، وطلب من عبادة أن لا يقربوا الزنا ولا يقربوا مال اليتيم وأن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، وهكذا.

لذا يجب أن يستحضر الإنسان في نفسه فكرة القرب الإلهي منه، ولكن ذلك لا يعني وجود الإله ملتصقاً مكانياً معه (كأن يتصور الإنسان الداع أنّ الله موجود عنده في نفس الغرفة التي يدعو فيها في جنح الظلام مثلاً)، ولكن بالرغم من هذا البعد المكاني بالنسبة لنا إلاّ أن تلك المسافة المكانية الشاسعة لا تمثل بعداً بالنسبة للإله نفسه، بالضبط كما لا يمثل بعد اليوم الذي مقداره خمسين ألف سنة (والذي نراه نحن بعيدا) بعداً زمنياً بالنسبة للإله.

النتيجة: هناك فاصل مكاني بين الإنسان وربه إلاّ أن هذا الفاصل المكاني بالرغم من بعده بالنسبة لنا نحن البشر إلا أنه غير بعيد بالنسبة للإله نفسه لذا قال عن نفسه:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿١٨٦﴾
(سورة البقرة)

صحيح أننا قد نكون نحن بعيدين عن الإله ولكن الإله قريب منا. ولو أمعنا التفكير بالآية نفسها لوجدنا أن الله لا يقر بأننا قريبين منه ولكنه يؤكد حقيقة ثابتة وهي أنه هو قريب منا، وفي هذا فرق كبير، هذا بالرغم أن المسافة المكانية بين الطرفين هي نفس المسافة. ولو استخدمنا التشبيه لتقريب الصورة إلى الذهن (ولله المثل الأعلى) لقلنا: تخيل أنك تسكن في مدينة ما وصديقك يسكن في مدينة أخرى تبعد عن مدينتك 1000 كم وتريدان أن تتزاورا، ولكنك أنت ستذهب إليه ماشياً وهو سيأتيك بقطار تصل سرعته 500كم/س، فبالرغم أن المسافة بينك وبينه هي نفس المسافة لكن صديقك بالنسبة إليك بعيد إن أردت أن تزوره ماشياً على الأقدام أما أنت بالنسبة له فإنك قريب مادام أنه سيقله القطار السريع.

هل الخلل في المرسل إليه؟

ولما كان المرسل إليه هو الله نفسه، فإننا نستبعد - بكل إيمان يقيني- أن يكون الخلل في ذاك الطرف، فالله على استعداد لاستجابة دعوة الداع إذا دعاه، فذاك لا يعجزه ولا ينقص من ملكه شيئاً. ولكن لا بد من بعض الوقفات لإثارة جملة من التصورات التي غالباً ما يسوّقها الفكر الإسلامي، سنتعرض لبعضها لنتيقن من صحة مثل هذه التصورات.

أولاً، وقت الدعاء

غالباً ما سمعنا من أهل العلم أن هناك أوقاتاً يكون الدعاء فيها أنفع وتكون فرص الاستجابة فيها أكبر، مثل أوقات السحر وشهر رمضان وليلة القدر، وغيرها. فهل فعلاً لمثل هذا التصور أساس في العقيدة التي تتمحور حول التأكيد الرباني

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ؟ ﴿١٨٦﴾
(سورة البقرة)

ثانياً، مكان الدعاء

وقد سمعنا كذلك أن هناك أماكن يستحب فيها الدعاء، مثل المساجد والبيت الحرام وعند مشاهدة الكعبة للوهلة الأولى وجبل عرفات وغيرها. فهل فعلاً لمثل هذا التصور أساس في العقيدة التي تتمحور حول التأكيد الرباني:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿١٨٦﴾
(سورة البقرة)

إن تتبع المواقف التي استجاب الله فيها دعاء عباده الصالح منهم والطالح لا يشير بأي شكل من الأشكال إلى توافر عنصر زماني أو مكاني محدد بعينه، فإبليس طلب من ربه أن ينظره إلى يوم البعث في ذاك المكان الأول للخلق، وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه في تلك الجنة، ودعا إبراهيم ربه في مكان وزمان غير محددين وكذلك فعل جميع الأنبياء والعابدين، وجاء طلب بعضهم في البر وبعضهم في البحر، فتم لكل واحد منهم طلبه في زمانه ومكانه اللذين كانا يتواجد فيهما، فلم يرتبط الدعاء بعنصر المكان أو الزمان في أي دعوة من العبد لربه. وهناك لفتة طريفة في قصة دعاء زكريا ربه لابد من التنويه لها في هذا المقام:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿٣٧﴾ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿٣٨﴾ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٣٩﴾
(سورة آل عمران)

فقد يستدل البعض من هذا الموقف أن زكريا كان يصلى في المحراب عندما نادته الملائكة بأن الله يستجيب طلبه، فيروجوا لنظرية ارتباط الدعاء بالمكان، ولكننا نرفض مثل هذا التصور لسبب بسيط وهو ما سبق هذا الكلام في السياق القرآني نفسه، فالآيات السابقة تدل على أن زكريا دعا ربه أن يهب له الذرية لحظة ما رءا من أمر مريم التي كفلها الله إياه، ولو تتبعنا ما فعل زكريا بعد ما وجد من أمر رزق مريم الذي كان يأتيها من ربها لوجدنا السياق القرآني على النحو التالي:

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ

إن هذه الآية الكريمة ربما تشير إلى ما ذهبنا إليه سابقاً وهو احتمالية أن يكون هناك داع ولا يكون هناك دعاء، فحتى يستجيب الله الدعاء لابد للداع أن يدعو، فلربما كانت فكرة الذرية الطيبة تسيطر على زكريا قبل هذه الحادثة، فمن غير المنطقي أن يكون زكريا قد فكر بالأمر للمرة الأولى في ذلك الموقف، ولكن الملفت للانتباه هو أن القرآن الكريم يثبت أن الدعاء إن كان بدر من زكريا قبل ذلك الموقف لم يكن يسمى دعاء، فلقد كان زكريا داع ولكنه لم يكن يدعو، فالآية الكريمة تؤكد أنه لم يحصل من زكريا فعل الدعاء إلا في تلك اللحظة وفي ذلك المكان، لذا جاء قول الحق على نحو "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ"، فلو كان زكريا قد دعا ربه قبل تلك الحادثة فهو من باب ما يحصل معنا نحن الذين نظن أننا ندعو الله ولكننا في الحقيقة لا نفعل. فكل ما بدر من زكريا قبل هذا الموقف (إن وجد) لم يكن ليحتسب من باب الدعاء، وما كان زكريا أكثر من داع ولكنه أصبح داع يدعو في ذلك الموقف فقط.

فالاستجابة الربانية لطلب زكريا لا علاقة له بعامل الزمان أو المكان، ولكنه كان النتيجة الحتمية لما فعل زكريا في ذلك الموقف وهو "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ"، فأصبح فعله من باب "أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ".

الخلاصة: سأكون ممتناً لأي شخص يقدم لنا مثالاً واحدا من كتاب الله يبين أن الدعاء كان مرتبطاً بعنصر الزمان أو المكان.

هل الخلل في المرسل؟

إذا كنا قد خلصنا إلى أن الخلل ليس في المرسل إليه (وهو الله نفسه) لأن الله على استعداد لاستجابة الدعاء فذاك لا يعجزه ولا ينقص من ملكه شيئاً، وهو من استن سنته على نحو "أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"، وإذا كنا قد وصلنا إلى أن الخلل ليس في الموصل لأنه أصلاً غير موجود في حالة الدعاء، فليس هناك ناقل للرسالة التي يبعثها الإنسان إلى ربه لأن الإله (وليس الإنسان) قريب من العباد، فلربما يكون الخلل في الطرف المقابل وهو المرسل (أنا وأنت) الذي يمد يده إلى ربه ليلبي له الدعاء. فهل يمكن أن يكون الخلل في هذا الطرف؟

لقد ركّز جل الفكر الإسلامي على أن الداع هو ركيزة أساسية في الدعاء، وقد صوّروا لنا الأمر على نحو أن هناك من يستجيب الله له الدعاء وهناك من لا يستجيب الله له الدعاء، وعزوا ذلك إلى الوازع الإيماني عند الإنسان، ويكأن لسان حالهم يقول: أن الله يستجيب طلب الإنسان المؤمن فقط، ولكننا نرد على مثل هذا الزعم بما ذكرناه سابقاً من موقف إبليس نفسه؟ وهل هناك أكبر شراً من إبليس نفسه؟ فكيف بالله يستجيب له طلبه؟ وماذا عن الذين ركبوا البحر فدعوا الله مخلصين له الدين ثم انقلبوا على أنفسهم؟ وماذا عن الذين دعوا الله لئن آتاهما صالحاً ليصدقن وليكوناً من الصالحين ثم ما أن آتاهم الله ما طلبوا حتى نكسوا على رؤوسهم؟ هل كانوا إذاً يستغفلون الإله؟ ألم يكن الله يعلم ما ستؤول إليه الأمور؟ فكيف به يستجيب لطلبهم لينقلبوا بعد ذلك ويرتدوا على أعقابهم بعد أن حصلوا على مطلبهم؟

إننا نخلص إلى نتيجة مفادها أن استجابة الدعاء لا علاقة لها بالوازع الديني، وإلاّ لما استجاب الله دعاء غير المؤمن، والأمثلة وافرة في كتاب الله على استجابته لدعاء المنافقين والكفار وعلى رأسهم زعيمهم إبليس الذي كان من الكافرين، إن تدبر الآيات الكريمات التالية من سورة ص مرة أخرى من هذا المنظور تؤكد استجابة الله لدعاء وطلب أشد الناس عداوة له وهو إبليس المطرود الخارج من رحمة ربه:

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴿٧٣﴾ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿٧٤﴾ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴿٧٥﴾ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴿٧٦﴾ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴿٧٧﴾ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ﴿٧٨﴾ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٧٩﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴿٨٠﴾ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٨١﴾
(سورة ص)

ومما لا شك فيه أنه لو كان الأمر مرتبطاً بالامتثال الكامل لأمر الله لوجدنا التباين جلياً واضحاً، فكيف بإبليس يرفض الامتثال لأمر الله وبالمقابل يكون طلبه مستجاب فوراً؟ وكيف بآدم لا يقف عند الأمر الإلهي بعدم الاقتراب من الشجرة ويتقلى من ربه كلمات فيتوب عليه؟ وكيف بذي النون يخرج مغاضباً فيظن أن لن نقدر عليه وما هي إلا سويعات فيناجي ربه في بطن الحوت، فيتقبل الله منه الدعاء؟ وكيف بموسى يكز الرجل فيقضي عليه فيعود إلى ربه فيستغفره، فيغفر له؟ فهل أمتثل هؤلاء لأمر ربهم بشكل كامل حتى يتحقق لهم ما أرادوا؟ كلا، وألف كلا.

وبنفس المنطق فإننا نقول: ربما لا يستجيب الله طلبي لضعف وازعي الديني، ولكن لم لا يستجيب الله لطلبك وأنت تملك ذلك الوازع الكبير؟ ثم لنعود إلى مشهد صلاة الاستسقاء الذي صورناه في المقدمة، فلقد احتشد الألوف من البشر للصلاة في نفس الموقف، فإن كان الله لم يستجب لطلب الغالبية العظمى منهم الذين ينقصهم الوازع الإيماني اللازم لقبول الدعاء كما يظن البعض، ألم يكن في ذاك الجمع عدد قليل من الذين لديهم فعلاً وازع إيماني كبير؟ هل من المعقول أن كل ذاك الحشد خلا ولو من شخص واحد لا يرد الله له طلباً؟ ثم، ما بال صاحبنا الذي كان يجهش في البكاء طوال تلك الصلاة؟ وما بال شيخنا الذي...؟ وما بال النسوة الذين حضروا الصلاة؟ وما بال الغلمان والأطفال الذين تكبدوا مشقة السفر بكل سذاجة وصدق؟ وقبل هذا وذاك، ما ذنب تلك الدواب التي كانت تأكل من بقايا النفايات التي لم تكن تُكنَس جيداً؟ ألا تستحق شيئا من خضرة الأرض وأعشاب الطبيعة الطازجة؟!

الخلاصة والتمهيد للجزء التالي

إن صح ما نزعم، فإننا نصل إلى النتيجة التي مفادها أن خلل الدعاء لا يكمن في الداع (كما لم يكن في المدعو وفي الناقل)، ويبقى طرف واحد هو محط الخلل: إنها الرسالة نفسها.

وهذا ما سنحاول التعرض له في الجزء الثالث من المقالة، لذا فللحديث بقية – بحول الله وتوفيقه.................................................


بقلم د. رشيد الجراح

د. رشيد الجراح مركز اللغات
 جامعة اليرموك

أحدث أقدم