باب السامري (2): أين ذهبت عصا موسى؟






باب السامري (2):
أين ذهبت عصا موسى؟
سألني "أبو أيهم" (أحد المحاربين القدامى في المدرسة التي تلقيت فيها تعليمي الثانوي) قائلاً: إن صحّ كلامك عن عصا موسى، وعن فعلة السامري، فأين هي عصا موسى؟ أين ذهبت تلك العصا؟ لِمَ لمْ يستخدمها السامري أكثر من مرة يوم أن وقعت في يديه؟


فأرد عليه بالظن أن لدي تصوراً عن المكان الذي ذهبت إليه عصا موسى، ولكن الجواب على هذا السؤال يتطلب بعض الاستنباطات من الآيات الكريمة التي تحدثت عن عصا موسى وقصة السامري. ولنبدأ بطرح هذه الاستنباطات لنربطها مع بعضها البعض للخروج بتصور عن ما آلت إليه العصا بعد أن وقعت في يد السامري (كما زعمنا في مقالتنا السابقة).
أما بعد،
ذكر السامري بلسانه أنه قد قبض قبضة من أثر الرسول:
          قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي                                                                                                          طه (96)
فالسامري – حسب صريح اللفظ- لم تتح له فرصة استخدام عصا موسى أكثر من مرة وذلك بدليل " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً"، فكما تدل صيغة على الهيئة فهي تدل كذلك على المرة، ويكأنه يقول لقد استخدمت العصا مرة واحدة، ولكن سيرد صاحبنا بالسؤال المعهود وهو: لماذا؟ لماذا لم يستخدم السامري العصا أكثر من مرة في غياب موسى؟ ما الذي منعه أن يفعل ذلك وهي بين يديه؟
إن هذا السؤال يعيدنا إلى أصل الحكاية، وبداية قصة العصا، فنحن بحاجة أن نفهم ماهية تلك العصا التي صاحبت موسى خلال رحلة حياته التي اظهرت ثورته ضد الكفر ممثلاً بفرعون وقومه قبل الخروج من أرض مصر، وقصته مع السامري ونفر من بني إسرائيل (خصوصاً الذين رفضوا دخول القرية) بعد الخروج من أرض مصر.

ما هي العصا؟
لقد ورد أول ذكر صريح للعصا في اللقاء الأول لموسى مع ربه في الواد المقدس، فبعد أن وصل موسى إلى المكان طالباً جذوة من النار أو الهدى:
إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
 فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11)                                                     طه
إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ                                                                                                           النمل (7)
فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ                      القصص (29)
ناداه ربه في الواد المقدس قائلاً:
         
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)                                             النمل 8-10
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)                                                  القصص 30-31
إنّ المدقق في هذه السياقات يجد أن الخوف الذي وقع في قلب موسى كان نتيجة لما رأى من أمر العصا، لقد اهتزت العصا اهتزازا يشبه اهتزاز الجان (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا)، وقد وصل الخوف بموسى بسبب ذلك المشهد إلى درجة أنه ولىّ منها مدبرا ولم يعقب (وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ)، ولدرجة أن موسى لم يرجع إلا بعد أن ناداه ربه مرة أخرى (يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ).
لقد هرب موسى عندما رأى ما حصل للعصا، ونحن نعلم أن القرآن يصور نفس المشهد (مشهد اهتزاز العصا) في سياق آخر على أنها حية تسعى:
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20)                           طه
فالسؤال الذي لا مفر منه هو: هل يعقل أن يهرب موسى (وهو المعروف بجرأته وشجاعته) من حية تسعى؟
قد يرد البعض علينا بالقول: لكنها كانت حيّة ليست كباقي الحيّات، لقد كانت تهتزّ كأنها جان.
فنرد بالقول: هل فعلاً تحولت عصا موسى إلى حية (بمعنى الأفعى) الذي نعرف؟ وأين ذهب اهتزازها الذي يشبه اهتزاز الجان في بلاط فرعون يوم أن قدمها موسى كآية لفرعون وملائه؟ ولماذا لم يدب الخوف في قلب فرعون وملائه عندما راءوا تلك العصا تتحول إلى ثعبان مبين؟
إن الجواب على هذا التساؤل يتطلب منا أن نستعرض ما حصل لعصا موسى يوم أن القاها في بلاط فرعون وبحضور ملائه:
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)                                                                         الأعراف
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)                                                              الشعراء
وهنا لا نجد تصويراً لفرعون وملائه يهربون من العصا كما كان الحال من موسى في ذلك اللقاء مع ربه:
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
هل فعلاً فقدت العصا قوتها وتأثيرها لدرجة أن تكون أول ردة فعل لفرعون هو قوله:
          قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
إن المدقق في السياقات القرآنية يجد أن عصا موسى تحولت في حضرة فرعون إلى ثعبان، ولم يصور القرآن الكريم اهتزازها كاهتزاز الجان في بلاط فرعون كما صورها في اللقاء الأولى عند النار في الواد المقدس، والأهم من ذلك كله بالنسبة لنا هنا هو أن القرآن الكريم لم يصورها على أنها "حية" (بمعنى الأفعى)، بل صورها على أنها "ثعبان"، فالملفت للانتباه هو الاختلاف في اللفظ أو التناوب اللفظي بين مفردة "حيّة" ومفردة "ثعبان". فلماذا تحولت – نحن نسأل- العصا إلى ثعبان (ولم تتحول إلى حيّة تسعى) في بلاط فرعون؟

ما الفرق بين الحية التي تسعى والثعبان؟
وهنا ربما يرد الكثيرون بالقول: وما الفرق؟ أليست الحيّة هي ثعبان والثعبان هو حيّة؟
لقد درج جل الفكر الديني على الاعتقاد بأن الحية هي الثعبان والثعبان هي الحية، ونادراً ما وجدنا تفريقاً في المعنى لهذا التناوب اللفظي، فلقد طغى الاعتقاد الشعبي – في رأينا- الدارج على تفسير النص الديني، فاسقط الناس أفهامهم على مفردات القرآن، وغالباً ما كان ينقص مثل هذه الإسقاطات الدقة في التمييز، فالناس غالباً لا يميزون بين الأفعى والثعبان باستثناء التمييز في الجنس، فظن الكثيرون أن الفرق بين الثعبان والحية هو إختلاف بين المذكر والمؤنث.
ولكن حتى لو سلّمنا بهذا المنطق، فلا مفر لنا من طرح السؤال التالي: لم تغيرت الحية (مؤنث) إلى ثعبان (مذكر)؟ لِمَ لمْ تبقى الحيّة حيّة؟ ولِمَ لم يصور القرآن الكريم اهتزازها في بلاط فرعون كاهتزاز الجان؟ هل فعلاً اهتزت العصا في بلاط فرعون اهتزاز الجان يوم أن ألقاها موسى هناك؟
رأينا: إننا نظن أن هناك فرقاً كبيراً بين الحيّة التي تسعى والثعبان، ولا يمكن اختزال هذا الفرق بالجنس بين الكينونتين.
الدليل
أولاً، لو راقبنا جيداً النص القرآني لوجدنا فرقاً جوهرياً في تصوير المواقف التي تصور تحول العصا في لقاء موسى مع ربه:
          فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ                                       طه (20) 
وإلقاء موسى العصا في بلاط فرعون:
          فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ                                 الأعراف (107)
          فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ                                 الشعراء (32)
فالمدقق في الفظ يجد أن لفظة حَيَّةٌ قد تبعتها لفظة تَسْعَىٰ، بينما لحق بلفظة ثُعْبَانٌ لفظة مُبِينٌ، فما الفرق بين الحية التي تسعى والثعبان المبين؟ وبكلمات أكثر دقة فإننا نسأل: لماذا جاءت مفردة تسعى بعد كلمة حية؟ وهل هناك أصلاً حيّة لا تسعى؟
رأينا: إننا نظن أنه لو كانت تلك العصا قد تحولت إلى ذلك الكائن الذي يسمى حيّة (أو ما نعرفه باسم الأفعى المؤنثة)، لـ ربما انتفت الحاجة إلى وجود مفردة تسعى مصاحبة لها، لأن من أبسط خصائص الحيّة أنّها تسعى. فليس هناك حاجة للتأكيد على أنها تسعى بعد أن نعرف أنها حية. فهل هناك حية تركض ركضاً؟ أو حية تقفز قفزاً؟ أو حية تطير طيراً، الخ؟
إن من أبسط خصائص الحية أنها تسعى، لذا فإن هذه المفردة تكون ضرورة عندما نتحدث عن شيء هو في الأصل لا يسعى كحبال السحرة مثلاً:
          قَالَ بَلْ أَلْقُوا ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ             طه (66)
نعم، هنا نحتاج إلى مفردة تسعى مصاحبة للحبال لأننا نعرف أنّ الحبال لا تسعى، فكان التغيير الذي حصل للحبال (بالإضافة إلى أشياء أخرى) يشمل السعي، فأصبحت الحبال تسعى بالضبط كحركة الحية، لذا فإن ضرورة استخدام اللفظ تصبح ملحة عندما يكون هناك أكثر من احتمال ممكن، فتستخدم واحدة من الاحتمالات لتحصر المعنى به على وجه التحديد وفي الوقت ذاته تقصي بقية الاحتمالات الأخرى،، فالرجل الذي جاء من أقصى المدينة كان يستطيع أن يأتي بأكثر من طريقة، ولكنه جاء يسعى:
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ                                                                     القصص (20)
          وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ           يس (20)
فالسعي –في رأينا- هو الحركة على الأرض بأكثر من اتجاه كالذي يبحث عن شيء، فالحية تسعى بسبب حركتها على سطح الأرض بسرعة وبأكثر من اتجاه، والرجل الذي جاء يسعى من أقصى المدينة لابد أنه قد بحث عن موسى بأكثر من اتجاه، وكذلك هم الذين يسعون للفساد في الأرض:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
المائدة (33)
          وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ            سبأ (38)
ونحن نعلم أن حركة الحية (الأفعى) على الأرض هي حركة سريعة باتجاهات متعددة، فهي قد تغيّر اتجاهها في أي لحظة، وهذا يعيدنا إلى السؤال الأول: إن كانت الحركة الطبيعية للحية هي أن تسعى، فما الحاجة أن يخبرنا الله بأن تلك الحية كانت تسعى؟
رأينا: إننا نظن أن العصا لم تتحول إلى حية بمعنى الأفعى الذي نعرف، ولكن العصا قد تحولت إلى كائن حي (أي دبت الحياة فيها) فأصبحت تسعى (بالضبط كحركة الأفعى على الأرض). فمفردة حية في هذا السياق القرآن تعني- في ظننا- أنها أصبحت حيّة (من الحياة) وليست أفعى على وجه التحديد.
فلو تحولت العصا إلى حية بمعنى الأفعى لتحولت إلى حيّة في بلاط فرعون، ولكننا نعلم أنها تحولت هناك إلى ثعبان مبين. وعندما القاها موسى في يوم الزينة لم تتحول إلى حية أو إلى ثعبان، فالقرآن الكريم لا يذكر هنا أنها تحولت إلى حية أو إلى ثعبان ولكن جلّ ما حصل أنها أخذت (العصا بغض النظر عن ما تحولت إليه) تلقف ما يلقون:
          وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ            الأعراف (117)
          وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ                                                                                         طه (69)
          فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ                    الشعراء (45)
فهنا لا نجد النص القرآني يبين لنا أن العصا تحولت إلى حية أو إلى ثعبان أو أنها كانت تهتز كأنها جان.
النتيجة: إننا نظن أن عبارة "حيّة تسعى" لا تعني أنها تحولت إلى أفعى (مؤنث) ولكنها تعني أن الحياة قد دبت بالعصا فأصبحت تسعى

تبعات هذا الإفتراء
دعنا نصدق مثل هذا الإفتراء الذي من عند أنفسنا لوقت قصير حتى نرى كيف يمكن أن يفيدنا مثل هذا الفهم في تفسيير مواقف أخرى كانت العصا جزءاً لا يتجزأ منها.
أولاً، فهذا موسى يستسقي لقومه، فيأتي الرد الإلهي لموسى بأن يضرب الحجر بعصاه (وأظن أنها نفس العصا):
وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ      البقرة (60)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ                                                                                               الأعراف (160)
وها هو موسى يقف عند البحر وقد كاد فرعون وجنوده أن يدرك موسى وقومه، فيصدّق موسى ظنه بربه، فيأتي الجواب الإلهي على نحو التالي:
فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ                                                                                                                  الشعراء (63)
ولو دققنا النظر في هذه السياقات القرآنية لربما خلصنا إلى الاعتقاد بأن العصا كانت تدب الحياة في كل ما تصل إليه، فإن ضرب موسى الحجر بعصاه تدفقت الحياة من الحجر، فَانْبَجَسَتْ ثم فَانْفَجَرَتْ منه عيون الماء:
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ                                                                                               الأعراف (160)
وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ      البقرة (60)
وإن ضرب بها البحر انفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وهكذا:
          فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
النتيجة: لقد أصبحت تلك العصا حية (أي أصبح فيها حياة) وانتقلت الحياة إلى كل كينونة حلت فيها تلك العصا.


عجل السامري
والآن لنعود متسلحين بمثل هذا الافتراء لنسلط الضوء على عجل السامري من زاوية نظن أنها جديدة. فلقد زعمنا في مقالة السامري الأولى (انظر باب السامري) أن عصا موسى قد وقعت في يد السامري:
... فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي                                                                                                                   طه (96)
يوم أن نسيها موسى بين أوزار القوم مستعجلاً لقاء رب:
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ     طه (84)
وقد بصرها السامري ولم يبصرها أحد غيره:
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ...                                  طه (96)
فيستغل السامري الموقف باستخدام عصا موسى ليظل قوم موسى من بعده:
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ                                             طه (85)
فيخرج لهم عجلاً جسدا له خوار:
          فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ                           طه (88)
فيتخذه القوم إلهاً:
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ                                                                    الأعراف (148)
ويكفوا عن اللحاق بموسى بعد أن عكفوا على ذلك العجل:
          قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ (91)

كيف أخرج السامري العجل؟
لعلنا لا نختلف في حقيقة أن السامري قد أخرج للقوم العجل في غياب موسى وأن ذلك العجل كان جسداً وكان له خوار، فظن الموجودون بأن هذا هو إلههم وإله موسى:
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ                 طه (88)
ولعلنا لا نختلف كذلك أن مادة الصنع التي أخرج منها السامري ذلك العجل كانت حلي القوم:
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ                                                                    الأعراف (148)
وهنا لا بد أن نسأل: كيف أخرج لهم ذلك العجل من الحلي؟ وكيف كان ذلك العجل جسداً؟ وكيف كان لذاك العجل خوار؟
رأينا: إننا نظن أن السامري قد أخرج لهم من حلي القوم عجلاً عندما القى عصا موسى في تلك الحلي، فالسامري بعد أن أمسك بالعصا ألقاها في الحلي التي كانت على شكّلها لهم على شكل جسد العجل، وهذا ما قاله القوم لموسى بعد عودته من لقاء ربه:
          قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ                                                                                                 طه (87)
وهنا قد يرد البعض بالقول: لم اختار السامري أن يكون الإله على شكل العجل؟ لم لم يختاره أن يكون على شكل جمل أو ...، الخ؟
رأينا: إننا نظن أن السامري (وبني إسرائيل من بعده) لم ينسوا بعد قصة البقرة التي طلب منهم موسى ذبحها بناء على أمر رباني. فالبقرة والعجل لها قصة عظيمة في اعتقادات بني إسرائيل، وفي الديانات القديمة، فلا أظن أن الأمر بمنأى عن تقديس البوذيين –مثلاً- للبقر كجزء من العقيدة التي يؤمنون بها، ونحن لا نستغرب سبب أن تكون أطول آية في كتاب الله –مثلاً- هي سورة البقرة، ففي ذلك سر عظيم، ولهذا التصور تبعات عظيمة لا نريد الخوض بها في هذه اللحظة، وسنحاول أن نفرد لها مساحة كافية من البحث لاحقاً يوم أن يأذن الله لنا الإحاطة بشيء من علمه.
ولو أمعنا التفكر قليلاً لوجدنا أن السامري قد أخرج لهم عجلاً جسداً ولكنه لم يخرج لهم –حسب ظننا- عجلاً جسماً، وقد حاولنا التميز في مقالة سابقة لنا (لماذا يدفن الناس موتاهم) بين الجسد والجسم، وزعمنا القول بأن الجسد هو الجسم والجسم هو الجسد باستثناء وجود الروح أو عدم وجودها فيه، فمتى كانت الروح موجودة يكون هناك جسم ومتى لم يكن هناك روح كان ذلك التركيب جسداً.فلقد ورد في كتاب الله لفظتان تصفان البناء الفيزيائي للإنسان وهما: الجسد والجسم، فما الفرق بينهما؟
فالسامري يخرج لقومه جسداً وليس جسماً، لأنه بلا شك لا يستطيع أن يبث الحياة فيه، لذا جاء السياق القرآني ليؤكد هذه الفكرة عندما أكملت الآية على نحو " أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا"
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ                                                            الأعراف (148)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ               طه (88)
فحتى وإن كان في ذلك الجسد خوار، إلا أن ذلك لم يكن بسب وجود الروح فيه، وإنما حصل الخوار بآلية أخرى لا تنم عن وجود الحياة في ذاك الجسد، وبكلمات بسيطة فإننا نقول أن السيارة التي تصدر صوتاً لا تفعل ذلك بسبب وجود روح فيها، فهي ليست أكثر من "جسد"، وتتأكد الفكرة في قوله تعالى:
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ                             الأنبياء (8)
فالأجساد لا تحتاج إلى الطعام ما دامت الروح غير موجودة فيها، وكان ذاك بالضبط ما حصل مع سليمان يوم فتنته:
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ                                 ص (34)
وبالمقابل فإن جميع السياقات القرآنية التي وردت فيها لفظة الجسم تدل على أن الروح دابة فيها، فها هو طالوت حي يرزق، قوي بعلمه وبجسمه:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ                                           البقرة (247)
وها هم المنافقون يتمتعون بأجسام قوية البنية والتركيب لدرجة أنها تعجب الناظر إليها:
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ                                     المنافقون (4)
فالتركيب الفيزيائي للإنسان يتحول من حالة الجسم (النابض بالحياة) إلى حالة الجسد (الفاقد للحياة) عند الموت، فعندما يكون الإنسان جسماً نابضاً بالحياة، فهو –لا شك- يسر الناظرين ويحتاج إلى الطعام وإلى كل مقومات الحياة، ولكن عندما تغادر الروح ذلك الجسم ينقلب ليصبح جسداً لا يكلم الناس ولا يهديهم ولا يعجب الناظرين،
لذا فالجسم يكون له إرادته لأن الروح موجودة فيه، بينما الجسد لا يكون له إرادته الخاصة فيه لأنه لا روح فيه. ولتبسيط الفكرة ما عليك إلا أن تعقد مقارنة بين طائرة نفاثة وفراشة صغيرة. فالطائرة النفاثة (على عكس الفراشة الجميلة) ليست أكثر من جسد لا تتحرك بإرادتها متى شاءت وكيفما رغبت. ولو أمعنا التدبر في تكملة جميع السياقات التي تتحدث عن عجل السامري لوجدنا التأكيد الإلهي بأن تلك الكينونة لم يكن لها إرادة خاصة بها:
َفأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)                 
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ                                                           الأعراف (148
ولكن مع ذلك فقد كان لذلك العجل خوار:                                
                   فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ
نعم، لقد دبت الحياة في ذلك العجل (لَهُ خُوَارٌ) ولكنّه بقي بدون روح (لَا يُكَلِّمُهُمْ)، ولكن كيف؟ ما الذي جعل الحياة تدب في ذلك الجسد؟
رأينا: إنها العصا، لقد ألقى السامري العصا في لب ذلك الجسد فدبت الحياة فيه، فظهر لمن حوله أن هذا إله، فانكبوا عليه عاكيفين حتى رجع موسى ليكشف بطلان حيلة السامري.

عودة موسى
ذكرنا في المقالة السابقة أن موسى قد عاد غاضباً فتهاوت قدرات السامري وظهر للناس بطلان دعواه، ولكن لا زال هناك إشارات قرآنية تستوجب الوقوف عندها ملياً.
أولاً، قد ذكرنا أن موسى قد عاد يحمل الألواح وما أن وصل حتى القاها وأخذ براس أخيه ولحيته يجره إليه، وذكرنا أن العصا قد غابت تماماً عن هذا المشهد التشاجري، فلا نجد أن موسى قد ألقى العصا مع الألواح، ولا نجد أن موسى قد استخدم العصا لضرب أخيه، ونحن نعلم مقدار التسرع عند موسى لحظة الغصب. وليس أدل على ذلك من وكزه الرجل الذي من عدوه عندما استنصره الذي من شيعته، وهمّه بالبطش بالآخر عندما عاد صاحبه يطلب النجدة من موسى على الذي من عدوهما (انظر المقالة السابقة).
فاين يا ترى ذهبت عصا موسى؟
ثانياً، لقد عاد موسى إلى قومه وهو يعلم علم اليقين أن السامري هو سبب البلاء وهو من أضل قومه، فذاك أمر قد أخبره به ربه يوم لقاءه:
          قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ                طه (85)
وقد كان في تلك اللحظة التي عاد فيها إلى قومه يستشيط غضباً:
فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ۚ
وهنا نجد مفارقة عجيبة يجب أن نتدبرها مليّاً وهي على النحو التالي: يتوجه موسى إلى أخية ليعاقبه على أمر يعلم موسى علم اليقين أنها من صنيع غيره:
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
فموسى يلقي بجزء من اللائمة لحظة وصوله على أخيه، ولا يتوقف عند ذلك بل يبادره بالعراك فيأخذ برأس أخيه ولحيته:
قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي                                                                             طه (94)
يا للعجب! ما الذي تفعل يا موسى؟ ما دخل هارون في ذلك؟ لم تأخذ برأس أخيك ولحيته؟ لم لا تصرع من تعلم أنه قد أضل قومك؟
ولكن المفرقة الأكثر عجباً كانت تتمثل – في رأينا- بطريقة خطاب موسى مع السامري، فبدل أن يعاقبه (كما فعل مع هارون) وهو يعلم أن السامري هو أساس البلاء (فالله هو من أخبره بالجرم الذي ارتكبه السامري في غياب موسى) يتوجه إليه موسى قائلاً:
          قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ                                         طه (95)
يا للعجب؟ أهذا كل ما تستطيع أن تقوله للسامري يا موسى؟ ما خطبك يا سامري!
دقق – عزيزي القارئ- بصيغة الخطاب هذه (ما خطبك؟)، أليست هذه صيغة تودد؟ ألا ترى أن موسى يتودد للسامري بدل أن يغلظ عليه بالقول؟ هل نسينا كيف خاطب موسى من وجد عند بئر الماء من النساء في مدين، فشمر عن ساعديه وسقى لهما:
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
ولو تدبرنا الخطابين جيداً (خطاب موسى من المرأتين على بئر الماء وخطابه مع السامري) لربما وجدنا أن خطابه مع السامري كان أكثر تودداً من خطابه الأول، فموسى يستخدم كنية الرجل "السامري" في الخطاب، فهو لم يقل له "ما خطبك وكفى" بل قال:
          قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ
وهذه صيغة لا شك فيه شيء من التودد، وهنا نجد لزاماً أن نسأل: لم لم يغلط موسى القول للسامري؟ ولم خاطبه بصيغة لا تخلو من التودد وهو يعلم علم اليقين أن السامري هو سبب البلاء؟
رأينا: إننا نظن أن هناك – على الأقل- سببين لخطاب موسى هذا مع السامري بهذه الطريقة:
1.     يعلم موسى أنه هو من نسي العصا (لذا فإن قسطاً كبيراً من اللوم يقع عليه)، فلقد ذكره هارون بأن الفرقة قد حصلت بين بني إسرائيل، لذا رجع موسى إلى نفسه ليحملها قسطاً من المسؤولية.
2.     يعلم موسى ما يملك السامري (فالسامري يعلم سراً خطيراً، ولديه قدرة هائلة يعلم موسى حجمها- إنها العصا)، فلا أظن أن السامري (أو غيره) يستطيع أن يقف في وجه موسى لشدته وبطشه، لو كانت الظروف طبيعية والجو غير مشحون بالأسرار التي لا يريدها أن تتكشف، ولكن الأمر الآن تجاوز العراك الجسمي والقوة البدنية – إنها تلك القوة الرهيبة الكامنة في العصا، فمن يملكها يستطيع أن يقوم بامور يعجز الآخرون عند إدراك كينونتها.
والحالة هذه كان لزاماً على موسى أن يتأنى ليستطلع خبر العصا، ولا أظن أن موسى تنقصه الفطنة ليدرك ما يملك السامري الآن مباشرة بعد رده الأول، فها هو السامري يرد على خطاب موسى التوددي بالقول:
     قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
وهنا تعود القوة والحزم إلى نبرة صوت موسى من جديد بعد أن كانت خافتة في خطابه الأول مع السامري، فيرد موسى بالقول:
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا                         طه (97)
لعل القارىء العادي يدرك الإختلاف في نغمة الصوت (intonation) في كلام موسى، فالكلام هنا لا يخلو من الوعيد والتهديد، بعد أن كان التودد والحيرة ظاهره في بداية الحوار مع السامري، ويبرز السؤال هنا عن السبب في ذلك، لماذا تغيرت لهجة خطاب موسى مع السامري إلى الحزم والشدة (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ) بعد أن بدأت بشيء من التودد (فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ)؟

رأينا: لقد أدرك موسى على الفور أن السامري لا يملك العصا الآن، فالسامري يقول لموسى بملء فيه أنه قد قبض قبضة من أثر الرسول، عندها فهم موسى – نحن نزعم- أن السامري قد استخدم العصا مرة واحدة، وكان ذلك فيما سبق وهو الآن لا يملكها. عندها عادت الشدة المعهودة إلى خطاب موسى، وكان أول ما فعل بعد ذلك أن قال:
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا                         طه (97)
فيعمد إلى حرق ذلك العجل الذي أخرجه السامري.

أين ذهبت العصا؟
وهنا يطرح التساؤل الذي بدأنا منه مقالتنا هذه نفسه مرة أخرى: أين ذهبت عصا موسى؟
أولاً، لا بد من التأكيد على أنه بعد تفقد جميع السياقات القرآنية التي تتعلق بموسى، لم نجد ذكراً ولا استخداماً للعصا بعد حادثة السامري هذا. (ولو وجد أحدكم شيئاً من هذا القبيل سنكون له شاكرين أن يتفضل علينا بالمعرفة).
ولكن لماذا؟ لماذا لا تذكر العصا بعد هذه الحادثة (لا مع موسى ولا مع غيره)؟ أين ذهبت العصا؟
راينا: لقد احترقت.
لقد زعمنا القول أن السامري ألقى العصا في حلي القوم التي كان قد شكلها على شكل جسد العجل، ولما كانت العصا حيّة، اي تدب الحياة فيها– كما زعمنا- (وليست أفعى كما ظنوا)، كانت الحياة تدب في كل ما تلقى العصا فيه، فكان القوم يظنون أن ذاك العجل حي، وذلك – في رأينا- بسبب فعل العصا الموجودة فيه التي القاها السامري، فجسد العجل قد اكتسب الحياة من العصا التي ألقاها السامري فيه، ولما دأب القوم على عبادة ذاك العجل، لم يكن بامكان السامري أن يخرج العصا من ذلك العجل، لأن الحياة حينها ستتبخر منه ويعود جسداً هامداً لا خوار فيه (إن ذهبت العصا منه)، فحتى تكتمل فعلة السامري، وليقتنع القوم بأن هذا إله، كان لا مناص من وجود العصا على الدوام في جسد العجل. وأصبح ذلك المشهد (أي جسد العجل كالهة لهم) دائماً مكتظاً بالناس الذين يعكفون عليه فلا يفارقونه، عندها لم تتح الفرصة للسامري أن يستخرج العصا من جسد العجل، لذا عندما عاد موسى وعلم ما فعل السامري، كانت ردة فعله على نحو إحراق ذلك الإله المفترى:
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا                         طه (97)
ولم يكتفي بحرقه بل نسفه في اليم نسفاً. لذا احترق العجل بما فيه، ومنذ تلك اللحظة تغيب العصا عن المشهد بأكمله.
النتيجة: سنكف عن البحث عن عصا موسى لظننا أنها قد احترقت، لكننا لن نتوقف عن البحث عن السر الذي وضعه الله في تلك العصا.
دعاء: اللهم رب يا من تعلم السرّ في السموات والأرض علمني سر عصا موسى.


24 كانون ثاني 2012