ملحق : قصة الغراب



وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ المائدة (27)
سنقدم هذا المثال لتبيان منهجيتنا في البحث الذي تتمثل بالالتزام بحرفية النص، منتقدين في الوقت ذاته منهجية من سبقونا خصوصاً من كانوا يقحمون النص القرآني بما ليس فيه، وهم يظنون أنهم بفعلتهم تلك يخدمون النص ويفسرونه على حقيقته، ونحاول هنا أن نبيّن أن ذلك الإقحام لا يخدم النص القرآني في شيء، بل على العكس فهو يشوّه الصورة الحقيقية التي أرادها الله بكلماته، فكتاب الله كامل لا نقص فيه ولا زيادة عليه، فإقحام النص بما ليس فيه يؤدي إلى العبث فيه (لا بل وتحريفه)، الأمر الذي يسبب – كما سنرى بعد قليل- فقدان الثقة بتفسيرات العلماء لحظة أن تكون هناك جرأة في طرح السؤال (حتى وإن لم يكن هناك إجابة بديلة).

قصة الغراب

إن أشهر ما انتشر من تفسير علمائنا الأجلاء لقصة ابني آدم مع الغراب كان على النحو التالي:

يقتل واحد من ولدي آدم أخيه، لا يعرف القاتل ما يفعل بجثة أخيه، يبعث الله غرابين فيقتل أحدهما الأخر ويدفنه بالتراب، فيتعلم ولد آدم كيفية الدفن للميت (أو لجثة الميت)[4]، أليس هذا ما تناقل (على الأقل العامة من الناس) عن خبر تلك القصة؟ (انظر تفاسير القرآن الكريم المختلفة)

السؤال: إنّ جل ما نود إثارته هو سؤال واحد، أظن أنه كفيل بإلقاء ظلال الشك على كل ما قاله أسيادنا ومشايخنا العلماء، حتى وإن لم يكن لدينا تفسير مرض لتلك الحادثة يكون بديلاً عن ما ظنوا.

السؤال: النص القرآن يتحدث عن غراب واحد، فمن أين جاء أسيادنا العلماء بالغراب الثاني؟

ولننظر إلى الآية الكريمة جيداً:

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
إذاً، الله يبعث غراباً واحداً، وولد آدم (القاتل) يتعلم من هذا الغراب، فأين يا ترى الغراب الثاني الذي تحدث عنه أسيادنا (وتاج رؤوسنا، باللسان المصري)؟!

وهنا ستنهمر التساؤلات الأخرى بغزارة جريان الأنهار في أيام الفيضان، فلنطرح التساؤلات الأكثر غرابة: كيف سيعلّم غراب واحد القاتل كيفية الدفن؟ وكيف فهم القاتل الدرس وتعلم طريقة الدفن من غراب واحد بعثه الله ليبحث في الأرض؟ وماذا فعل ذلك الغراب حتى تعلم القاتل طريقة الدفن على الفور؟ و ... و... الخ؟

إن جل ما هو موجود في النص القرآني حول هذا الموضوع هو قول الحق:

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ

فلا نجد إلا حديثا عن غراب واحد (دقق ملياً بالضمائر في يَبْحَثُ و لِيُرِيَهُ)، فلو كان هناك غرابان (كما جاء في كثير من تفاسير من سبقونا) لوجدنا ذلك بصريح اللفظ (أو على الأقل باستخدام الضمائر كأن يقول مثلاً يبحثان بدلا من يَبْحَثُ، و ليرياه بدلاً من لِيُرِيَهُ)، وهكذا.

وهنا سيقاطعنا الكثير بالقول: إذاً كيف حدث أن تعلم القاتل الدرس من غراب واحد؟

إن أهم ما نريد إيصاله للناس هو أن الفكر الذي ساد قروناً من الزمن يمكن دحضه بسؤال واحد لو أعطينا لأنفسنا فرصة التفكر بشيء من الحرية، أليس كذلك؟

أما ما يخص الإجابة على سؤال صاحبنا عن كيفية حصول القصة، فإننا نرى أن بامكاننا الآن (وعلى عجل) أن نقدم تصورنا للقصة، ولربما يكون أفضل (وإن لم يكن صحيحاً) من كل تصورات من سبقونا، وجلّ ما يتطلب منا الأمر هو الالتزام بالنص كما هو، فلا نتبرع أن نزيد فيه من عندنا، ولا ننقص منه ما هو موجود فيه، وإليكم يا سادة فهمنا الخاطئ لتلك القصة (ونترك لكم مهمة المفاضلة بين ما قالوا هم وما نفتري نحن):

لقد تحدث الله عن غراب واحد، فلا أظن أن من الحكمة أن نزيدهم من عندنا غراباً آخر لا لشيء وإنما لنستطيع أن نفسر النص كما نريد، إننا نظن أن التفسير الأفضل والأكثر إقناعاً سيأتي عندما يكون هناك التزام بمفردات النص، ولكن كيف؟

رأينا: لندع الحديث هنا عن معنى الغراب، فلقد ظن كثير من الناس أن الغراب هو ذلك الطائر المعروف لديهم بسواده (والذي هو نذير شؤم عند الكثيرين منهم)، فحاولوا تفسير القصة بناء على ذلك الفهم، أقول لن أغوص في الحديث عن معنى مفردة الغراب هنا وسأكتفي بتصديق ظنكم للحظة لأطرح التساؤل المشروع التالي:
ماذا فعل الغراب حتى تعلم القاتل منه طريقة الدفن تلك؟

الجواب: لقد كان الغراب يبحث في الأرض، لا أكثر:

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ
فما معنى أن يبحث الغراب في الأرض؟

إننا نظن – كما ظننتم- أن البحث في الأرض هو الحفر في الأرض، أليس كذلك؟
ولكن إن كان جل ما فعل الغراب هو البحث في الأرض، فكيف تعلّم القاتل من ذلك طريقة الدفن؟

الجواب: لا بد من طرح تساؤلات أخرى: لم يبحث الغراب في الأرض؟ أو متى يمكن أن يبحث الغراب في الأرض؟ أليس من الممكن أن الغراب كان يبحث عن الماء مثلاً؟ أليس من الممكن أن الغراب كان يبحث عن الطعام مثلاً؟ أليس من الممكن أن الغراب كان يريد قضاء حاجته (كما يفعل الناس عندما يذهبون إلى الخلاء، أو كما تفعل بعض القطط عندما تقضي حاجتها)؟ الخ.


هذه جميعها تصورات ممكنه، ولكن دعنا نركز أكثر على الموضوع نفسه، لو كان الغراب يبحث عن شراب أو عن طعام أو يريد قضاء حاجة، الخ. هل كان من الممكن أن يتعلم القاتل من فعلة الغراب تلك طريقة للتخلص من جثة أخيه بمواراتها بالتراب على الفور؟

الجواب، كلا، لا أظن أن القاتل كان يستطيع أن يستنبط من ذلك الفعل حاجته إلى دفن جثة أخيه في التراب (وحتى لو فعل فلا نجد في النص نفسه ما يدلنا على أن القاتل قد بذل جهداً ليتفكر في ما فعل الغراب ثم يستنتج من تلقاء نفسه ما يجب عليه فعله). لذا، إننا نظن أن الغراب قد قام بأكثر من ذلك حتى فهم الرجل (القاتل) طريقة الدفن على الفور (ربما دون جهد ذهني كبير)، ولكن كيف؟

الجواب: لو راقبنا سلوك كثير من الحيوانات (وربما بعض الطيور لمن أراد أن يكون الغراب طيراً) لوجدنا أن بعض الحيوانات (خاصة المفترسة منها) تقوم بدفن الجثث في التراب، فغالباً ما يقوم الحيوان المفترس بدفن فريسته (التي اصطادها) في مكان ما ليعود إليها بعد حين ويستخرجها من التراب ليأكلها عند الحاجة، وغالباً ما يقوم الحيوان المفترس بإخراج الجثة التي دفنها في التراب بعد حين. لذا فإننا نرى أن الغراب (وهو غراب واحد) قد قام بواحدة من هذين السناريوهين حتى تعلم ولد آدم (القاتل) طريقة الدفن على الفور:

1. إننا نظن أن القصة كانت على تلك الشاكلة، فالغراب (كحيوان مفترس) كان يملك جثة افترسها، فقام بدفنها في التراب ليعود إليها بعد حين، وما أن رأى ابن آدم طريقة الغراب في دفن تلك الجثة حتى تعلم الدرس على الفور

2. وربما يكون السيناريو الآخر على نحو أن الغراب (الحيوان المفترس) كان قادماً من بعيد لا يحمل جثة، فأخذ يبحث في الأرض (أي يحفر الأرض) حتى تمكن من استخراج جثة كان قد دفنها من ذي قبل، فما أن رأى ولد آدم ما فعل الغراب حتى تعلم الدرس على الفور.


ماذا ترون يا سادة؟!
أحدث أقدم