قصة يونس - الجزء الثامن والعشرون


قصة يونس – الجزء الثامن والعشرون

عُدنا في نهاية الجزء السابق من هذه المقالة إلى البحث في كيفية جنون الليل على إبراهيم:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76)

فزعمنا الظن أن ذلك حصل في مكان اعتزال إبراهيم لقومه، فظننا أن إبراهيم قد أوى إلى ما يشبه "الكهف أو الغار" كالذي آوى إليه الفتية أصحاب الكهف والرقيم عندما اعتزلوا قومهم:

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)

فأصبحت الصورة في مخيالنا على النحو التالي: أصبح عالم الليل عند إبراهيم يختلف عن غيره، فقد أصبح ليل إبراهيم خاصا به، فكان الليل بذلك قد جنّ على إبراهيم وحده بطريقة تختلف عن كل ما حوله:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76)

الدليل

كنّا قد تفقدنا مفردة "جن" عندما ربطناها بمفردة الجنون في قوله تعالى:

أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14)

وحاولنا إنشاء علاقة بين المفردتين على النحو التالي: المجنون هو – برأينا- الذي يعيش في عالم يختلف كليا عن عالم العقلاء ممن هم حوله، وذلك لأنه يقول قولا غير ما ألفى الناس آباءهم عليه، فتصبح لغة الخطاب بين الطرفين أقرب إلى المستحيل، لأن كل طرف مسيّر بقوانين وأعراف تختلف عن الطرف الآخر.

وربما من هذا المنطلق (نحن نظن) جاء الحديث عن عالم الجن، فهم قوم يختلفون في طريقة تفكيرهم ومعاملاتهم عن طريقة تفكيرنا ومعاملاتنا، فيصبح عالمهم محكوم بقوانين وأعراف لا تتطابق مع القوانين والأعراف التي تحكم عالم الإنس.

ونحن إذ نؤكد على هذه المعاني المترابطة لمفردة جن مع مشتقات الجنون والجن، فإننا نجد الآن علاقة أخرى يمكن إثارتها مع مفردة جديدة وهي مفردة "الأجنة"، كما جاء في قوله تعالى:

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

السؤال: لماذا يسمى الكائن في بطن أمه "جنين" (جمع أجنة)؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن لهذا علاقة مباشرة بمفردة جن الليل التي جاءت في سياق الحديث عن إبراهيم، لكن السؤال الذي يجب طرحه على الفور هو: كيف يمكن ربط الحالتين (حالة إبراهيم الذي جن عليه الليل) وحالة هذا الكائن في بطن أمه (الذي هو جنين)؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن الطفل في بطن أمه قد أحاطت به الظلمات:

خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

راقب عزيزي القارئ – إن شئت- كيف تحيط بالطفل في ذلك المكان ظلمات ثلاث، ليكون السؤال ما هي تلك الظلمات الثلاث؟

رأينا المفترى: لما كان الطفل موجود داخل جدار بطن الأم فهذه لا شك واحدة من الظلمات التي تمنع وصول الإضاءة إليه، ولكن لو دققنا أكثر في وجوده هناك داخل بطن أمه لوجدناه أيضا محاطا أيضا بما يشبه الكيس (وهو الغشاء الذي يلفه) كما في الأشكال التوضيحية التالية:


فأصبح ذلك الحائط مانعا آخر يحجز الإضاءة عن الطفل، فأصبحت تلك ظلمة أخرى تضاف إلى ظلمة جدار بطن الأم.

ولما كان الطفل لا يستطيع أن يستخدم بصره في تلك الظلمة الحالكة، كانت تلك أيضا ظلمة ثالثة، فأصبح (نحن نتخيله هناك) في ظلمات ثلاث كما في الشكل التوضيحي التالي:


السؤال: ما علاقة إبراهيم بهذا؟

جواب: لما كان الليل قد أسدل أستاره على إبراهيم في ذلك الكهف أو الغار، أصبحت تلك ظلمة إبراهيم الأولى التي تصيبه وتصيب غيره، ولكن لما كان إبراهيم (نحن نفتري القول) متواجدا لوحده في ذلك الكهف أو الغار، أصبح ذلك الغار يشكل على إبراهيم ما يشكله ذلك الغشاء الذي يلف الجنين في بطن أمه، فكانت تلك ظلمة ثانية، تزيد من عتمة المكان، وفي ذلك الظلام الدامس لم يعد من الممكن أن يستفيد إبراهيم من بصره، فكانت تلك ظلمة ثالثة، فأصبح الرجل (نحن لازلنا نتخيل) في ظلمات ثلاث.

وهناك في تلك الظلمات التي كان بعضها فوق بعض، رأى إبراهيم ذلك الكوكب:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76)

السؤال: كيف أستطاع إبراهيم أن يرى ذلك الكوكب في تلك الظلمة الشديدة التي لا تكاد الأبصار تدرك شيئا من حولها؟

جواب مفترى: لقد افترينا حينها أن الآية الكريمة التالية تفسر (كما نفهمها) ما جرى مع إبراهيم في تلك الظلمة الشديدة التي لا يفيد فيها استخدام العيون:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

السؤال: وكيف ذلك؟

لو تدبرنا هذه الآية الكريمة جيدا، لوجدنا على الفور أن هناك محطات كثيرة يجب الوقوف عندها وتأملها قبل الخروج باستنباطات هي لا شك افتراءات من عند أنفسنا لما نفهمه نحن من صريح اللفظ في هذه الآية الكريمة. والمحطات هي:

- اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

- مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ

- مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ

- الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ

- الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ

- يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ

- زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ

- يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ

- نُّورٌ عَلَى نُورٍ

- يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء

- وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ

- وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ


وربما لا نستطيع أن نخوض في هذه المحطات بطريقة تسلسلية، لذا سنحاول أن نبدأ بالمحطة التي تكون أكثر وضوحا في أذهاننا، ثم ننتقل بعدها إلى المحطة التي تليها، داعين الله وحده أن تنير لنا كل محطة من هذه المحطات طريقنا إلى التي تليها، ونسأله وحده أن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يزدنا علما، وأن يهدينا لأقرب من هذا رشدا، ونعوذ به أن نكون ممن يفترون عليه الكذب، أو ممن يقولون عليه ما ليس لهم بحق، إنه هو العليم الخبير - آمين.

أما بعد

باب الوقود (يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ)

افتراء 1: نحن نعتقد أن إيقاد النار ينتج عنه الإضاءة

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)

لو تفقدنا هذه الآية الكريمة جيدا لوجدنا أنه ما أن استوقد واحد من القوم نارا حتى حصلت إضاءة ما حوله فقط (الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ)، أليس كذلك؟

ولو دققنا في الآية الكريمة التالية لوجدنا أن هناك ما يمكن أن يوقد عليه في النار:

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (17)

وهناك أيضا من يوقدون نار الحرب:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

ولو دققنا في الآية الأخرى التالية لوجدنا أن الشجر الأخضر هو أحد أهم مصادر ذلك الوقود:

الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80)

نتيجة مفتراة: الشجر الأخضر هو واحد من أهم وقود النار

وليس الشجر الأخضر هو فقط ما يمكن أن يكون وقود النار، فالناس والحجارة ربما يكونوا هم كذلك وقود النار:

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)


نتيجة مفتراة: الناس يمكن أن يكونوا وقودا للنار

نتيجة مفتراة: الحجارة يمكن أن تكون وقودا للنار

افتراء من عند أنفسنا: وقود النار هي الشجر الأخضر والناس والحجارة

فأصبحت هذه النار "ذَاتِ الْوَقُودِ"

النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)

السؤال القوي: وهل كل نار هي ذات وقود؟ وهل يمكن أن تشتعل نار بدون وقود؟

جواب مفترى: نعم، يمكن أن تشتعل النار بدون وقود (كالشجر الأخضر أو كالحجارة أو كالناس).

السؤال: ما هي النار التي يمكن أن تشتعل دون وقود؟ أو ما هي النار التي ليست ذَاتِ الْوَقُودِ؟

جواب مفترى: نحن نظن أن النار التي جاء ذكرها في الآيات الكريمة التالية لم تكن نارا ذات وقود، قال تعالى:

إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)

إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)


فالنار التي جاءها موسى في الواد المقدس طوى لم تكن (نحن نفتري القول) ذات وقود.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: بناء على فهمنا المفترى لهذه السياقات القرآنية الخاصة بالنار، نستطيع أن نخرج (ربما مخطئين) بالاستنباط التالي: هناك نوعان من النار:

1. النار ذات الوقود، وهي النار التي تحتاج إلى ما يشعلها من الوقود كالشجر الأخضر والناس والحجارة

2. النار التي لا تحتاج إلى وقود ليشغلها، كتلك النار التي آنسها موسى من جانب الطور، وهي النار التي بورك من فيها ومن حولها:

إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

افتراء خطير جدا من عند أنفسنا: ربما تكون هذه النار التي تشتعل دون وقود (أي التي ليست ذات الوقود) هي نفسها ذلك النور الذي يخرج من تلك المشكاة التي يوجد بداخلها المصباح الموجود هو بذاته داخل الزجاجة:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

ولو رجعنا إلى النار ذات الوقود في الآية الكريمة التالية:

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)

لخرجنا بالاستنباطات المفتراة المهمة جدا التالية:

1. النار ذات الوقود ينتج عنها الإضاءة

2. النار التي ليست ذات وقود ينتج عنها النور

3. لا علاقة بين الإضاءة والنور

الدليل

لو أمعنا التفكير في هذه الآية الكريمة، لوجدنا الغرابة الشديدة في العلاقة بين إيقاد النار وذهاب النور (فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ):

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)

لتكون الصورة في ذهننا على النحو التالي (ربما غير المألوف في ذهن القارئ للآية الكريمة): ما أن أضاءت تلك النار التي نتجت عن الإيقاد حتى كانت النتيجة أن ذهب الله بنورهم، فوجود الإضاءة من النار ذات الوقود سببت ذهاب النور.

السؤال: كيف حصل ذلك؟ ولماذا حصل ذلك (فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ

السؤال الجوهري هو: لماذا ذهب الله بنورهم (جميعا) عندما استوقد نارا وأضاءت ما حوله فقط؟

رأينا المفترى: ربما نحتاج للإجابة على هذا التساؤل أن نمعن النظر في استخدام ضمائر المفرد (فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ) والجمع (ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ) في هذه الآية الكريمة، لنطرح بعد ذلك سؤالا ضروريا، ألا وهو: من الذي استوقد نارا (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً)؟ ومن الذي أضاءت ما حوله (فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ)؟ ومن الذين ذهب الله بنورهم (ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ) وتركهم في ظلمات لا يبصرون (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ

جواب مفترى: لو تدبرنا هذه الآية الكريمة في سياقها القرآني الأوسع لوجدنا أنها قد جاءت في سياق الحديث عن المستهزئين، الذين يتقلّبون بين المؤمنين والشياطين، فيظن المؤمنون أنهم معهم وفي الوقت ذاته هم إلى فريق الشياطين أقرب، انظر الآية عزيزي القارئ – إن شئت- في سياقها الأوسع:

وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (14) اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)

فكان مثل هؤلاء المتقلبون بين الإيمان في الظاهر والكفر في الباطن (والحقيقة) كمثل شخص واحد هو الذي استوقد نارا، فأضاءت ما حوله فقط، ولكنها في النهاية ذهبت بنورهم جميعا:

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)

السؤال: ما معنى أن يكون هذا الشخص قد استوقد نارا؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن هذا الشخص قد استوقد نارا لأنه لم يوقدها بنفسه، ولكنه طلب من غيره أن يوقد تلك النار له.

السؤال: ومن هو ذلك الشخص الذي طلب من غيره أن يوقد له نارا؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن هذا الشخص هو فرعون الذي طلب من هامان أن يوقد له نارا ليبلغ الأسباب:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

ولو تفقدنا هذه الآية الكريمة لوجدنا أن الطالب هو فرعون وأن المطلوب منه هو هامان وأن الطلب هو أن يوقد له على الطين، وأن الهدف من وراء ذلك هو أن يبلغ فرعون أسباب السموات والأرض ليطلع إلى إله موسى، أليس كذلك؟

السؤال: كيف تكون الصورة إذن؟

رأينا المفترى: لما كان هامان (نحن نفتري القول) قد نفّذ ما طلبه منه فرعون، فيكون بذلك قد أوقد له على الطين ليبلغ الأسباب، وكان نتيجة ذلك (نحن نتخيل) حصول الإضاءة التي نتجت عن إيقاد تلك النار، ولكنها كانت محيطة بفرعون وحده (فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ)، فهناك في رحلته إلى أسباب السموات والأرض كانت الإضاءة التي نتجت عن إيقاد هامان لفرعون على الطين مصاحبة لفرعون وحده في تلك الرحلة التاريخية، ولكن في الوقت ذاته كانت نتيجة رحلة فرعون تلك أن ذهب الله بنورهم جميعا (فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ) لما صدّقوا ما قاله لهم فرعون:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)

والآن لنعد إلى قراءة الآية الكريمة السابقة بتركيز أكبر على التناوب في استخدام ضمائر المفرد والجمع:

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)

لتكون الصور في ذهننا الآن على النحو التالي:

1. الذي استوقد النار هو فرعون

2. والذي أوقدها له هو هامان

3. والإضاءة الناتجة عن إيقاد تلك النار أحاطت بفرعون وحده

4. كانت النتيجة الفورية لرحلة فرعون تلك في أسباب السموات والأرض ذهاب نور جميع من صدق فرعون

السؤال: ما الذي فعله فرعون هناك؟

جواب: هذا ما سنعاود الحديث فيه عندما نحاول لاحقا بحول الله وتوفيق منه أن نربط بين رؤية إبراهيم لتلك الكينونات ومن ثم هدايته صراط الله المستقيم مقابل رحلة فرعون في الأسباب ومن ثم اتباع الشيطان له فكان من الغاوين. فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يزدني علما، إنه هو السميع البصير – آمين

أما الآن فإن حديثنا منصب على التفريق بين الإضاءة الناتجة عن إيقاد النار (أي النار ذات الوقود) والنور الناتج عن النار التي ليست ذات وقود:

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17)

ليكون السؤال المحوري هو: لماذا ذهب الله بنورهم عندما تم إيقاد تلك النار التي نتج عنها الإضاءة؟

رأينا المفترى: لأنهم أرادوا الهداية باستيقاد النار.

السؤال: وكيف يمكن فهم ذلك؟

جواب مفترى: ربما يظن البعض أن الهداية إلى النور تتم بإيقاد النار لتحصيل الإضاءة، وذلك لظنهم أن الرؤية تصبح أكثر وضوحا، فالإنسان يرى في وضح النهار ما لا يراه في عتمة الليل، فيخلص إلى النتيجة أن الإضاءة (أي إيقاد النار) هي ما تمكنه من سلوك الطريق السليم دون عثرات، فيظن بذلك أنه يسير على هدى، لأن الطريق أمامه قد أصبحت واضحة المعالم، سهلة السلوك. لكن السؤال الذي يجب أن يطرح الآن هو: هل فعلا وجود الإضاءة هي الطريق إلى الهداية؟

رأينا المفترى: كلا وألف كلا، فنحن نتجرأ على افتراء القول بأن الهداية إلى النور لا تحتاج إلى استيقاد النار (أي الإضاءة). فأنت قد تهتدي إلى النور حتى في أشد حالات العتمة (انعدام الإضاءة كليا).

السؤال: لماذا؟

جواب مفترى: لأن الله هو نور السموات والأرض:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

التساؤلات

- كيف يكون الله هو نور السموات والأرض وفي الوقت ذاته نجد الإضاءة تتراوح درجاتها في الليل والنهار؟

- فأين يا ترى نور الله في الليل؟

- وأين نور الله في النهار؟

- فهل يضمحل نور الله في الليل فلا نجده؟

- وهل يتلاشى نور الله في النهار عندما تستطع الشمس؟

- وهل تستطيع إضاءة الشمس أن تغطى على نور الله في النهار؟

- وهل يكون نور الله في الليل ضئيلا لدرجة أن تسود العتمة المطبقة في المكان؟

- الخ.

جواب مفترى: لابد بداية من التمييز بين الإضاءة التي تتحصل من الشمس:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)


والنور الذي يتحصل دون وجودها:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

فالإضاءة (نحن نفتري القول) تتحصل من الوهج الذي ينتج عن السراج:

وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)

وهذا السراج هو – برأينا- تلك الشمس الموجودة في السماء:

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61)

وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)


نتيجة مفتراة: الشمس هي عبارة عن سراج، وينتج عن هذا السراج الوهج (أي الإضاءة)، لأن الشمس بحد ذاتها هي سراج وهّاج.

السؤال: وهل هناك سراج لا ينتج عنه الوهج؟

جواب مفترى: نعم، النبي هو سراج لا ينتج عنه الوهج الذي يتحصل من خلالها الإضاءة، وذلك لأنه سراج منير:

وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)

السؤال: وكيف يكون النبي سراجا منيرا؟

جواب مفترى: هو عبارة عن سراج، لكن هذا السراج منير كإنارة القمر الذي لا يتوهج:

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61)

نتيجة مفتراة: لابد من التمييز بين نوعين من السراج: السراج الوهاج (كما الشمس) والسراج المنير (كالنبي نفسه)

السؤال: ما تبعات هذا الفهم؟

رأينا: عندما تكون الهداية مبنية على وجود السراج الوهاج (كالشمس)، فإن ذلك لن يحدث إلا في وجود الإضاءة الناتجة عن هذا الوهج. وهذا ما يظن به المجادل في آيات الله، فهو يريد الآيات مبصرة:

ولكن عندما تكون الهداية – بالمقابل- مبينة على وجود النور، فإنه لا تحتاج إلى إضاءة، وقد تحصل هذه الهداية حتى في أشد حالات العتمة (انعدام الإبصار) كما حصل مع إبراهيم.

السؤال: كيف تكون آلية الهداية في كلا الحالتين؟

جواب مفترى (1): من كان يظن أن الهداية لا تتم إلا في وجود الإضاءة، فإنه لا شك يعتمد كليا على بصره (العيون)

جواب مفترى (2): من كان يظن أن الهداية قد تتم حتى في حالات العتمة الشديدة، فإنه يعتمد على قبله:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

ولو تفقدنا مفردة الأبصار (وهو ما ينتج عن وظيفة الأعين) في النص القرآني على مساحته، لوجدناها مرافقة للسمع (وهو ما ينتج عن وظيفة للآذان):

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (78)

ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23)


السؤال: لماذا تتم الهداية لنور الله حتى عند انعدام القدرة على الإبصار (العتمة)؟

جواب مفترى: لأن نور الله لا تدركه الأبصار

لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

فمن أراد أن يدرك نور الله، فعليه أن يشغل قلبه وليس عيونه (أي بصره) فقط:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

لأن الروية باستخدام الأعين هي – برأينا- رأي العين:

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

وهي ما يتولد عنه الإبصار:

وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)

والأبصار هي التي ستشخص في ذلك الموقف الرهيب:

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)

نتيجة مفتراة: ليس بالضرورة أن يستطيع الهداية إلى نور الله من كان قادرا على الإبصار، فهذه أبصارهم لم تكن لتفيدهم في شيء:

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)

تلخيص ما سبق: علينا أن نميز بين الإضاءة الناتجة عن الوهج الذي بدوره ينتج عن النار ذات الوقود مقابل النور الذي ينتج عن النار التي ليست ذات الوقود. فالشمس هي سراج واهج لأنها تنتج عن نار ذات وقود، وبالتالي فهي تهدي الأبصار التي تتلمس الطريق. بينما النبي هو سراج منير لأن ما جاء به هو طريق الهداية حتى في أشد حالات انعدام الإضاءة.

السؤال: ما تبعات هذا الفهم المفترى من عند أنفسنا؟

رأينا: نحن نظن أن التمييز بين الإضاءة الناتجة عن النار ذات الوقود والنور الذي ينتج دون الحاجة إلى نار ذات وقود له تبعات جمة على الفكر نذكر منها القضايا المتعلقة بالرزق والجنة والخلود وغيرها.

باب: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ

السؤال: ما علاقة ذلك بالرزق مثلا؟

جواب مفترى: دعنا نحاول أن نتدبر ما جاء في الآية الكريمة التالية التي تسطر (نحن نفتري القول) واحدة من سنن الله الكونية:

وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)

لنطرح بعد ذلك السؤال المباشر التالي: كيف يكون رزقنا جميعا في السماء؟

رأينا: حتى نتمكن من الإجابة على هذا التساؤل، فلابد من طرح التساؤل الأولي التالي: ما هو الرزق؟

رأينا المفترى: لو أمعنا التفكر في الآيات الكريمة التي تتحدث عن الرزق لوجدناها جميعا تخص "ما نأكل"، أي الطعام؟

الدليل

فهذا زكريا يدخل على مريم ليجد عندها رزقا:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

وهذا يوسف يتحدث عن الطعام على أنه رزق:

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)

وها هم فتية الكهف يبعثون أحدهم إلى المدينة لينظر أيها أزكى طعاما ليأتيهم برزق منه:

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)

والله أمرنا أن نأكل من الرزق:

وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)


ونحن نتجرأ على افتراء الظن بأن الماء (على وجه التحديد) منفصل تماما عن الرزق بدليل ما جاء في قوله تعالى:

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)

فأصحاب النار يطلبون من أصحاب الجنة (كما نفهم ذلك من صريح اللفظ في الآية الكريمة) أن يفيضوا عليهم شيئين اثنين:

1. أن يفيضوا عليهم من الماء (أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء)، أو

2. أن يفيضوا عليهم مما رزقهم الله (أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ)

ولو تدبرنا الآيات الكريمة التالية لوجدنا أن الرزق هو جميع الثمرات التي أخرجها ربنا لنا من الأرض بعد أن أنزل من السماء ماء:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

ولو تدبرنا الآية الكريمة التالية لوجدنا أن الرزق هو ما يمكن أن يختلف الناس فيه، فيجعلون بعضه حلالا وبعضه الآخر حراما:

قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59)

لتكون النتائج المفتراة الخطيرة جدا التالية هي محرك البحث عندنا لما سيأتي من افتراءات لاحقا:

افتراء 1: الطعام هو رزق :

وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

افتراء 2: المشروبات (كالعصائر) هي رزق:

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

افتراء 3: الماء (على وجه التحديد) ليس رزقا:

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)

إن صح ما نزعم، دعنا نحاول أن نثير التساؤل الذي يجلبه التناقض الظاهري بين ما جاء في الآيات الكريمة في المجموعتين التاليتين :

(1) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32)


(2) وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ (13)


فلو تفقدنا الآيات في المجوعة الأولى، لوجدنا أن الثمرات التي تخرج من الأرض هي الرزق (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا)، ولو تفقدنا الآيات في المجموعة الأخرى، لوجدنا أن الله هو من ينزل الرزق من السماء (وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا)، أليس كذلك؟

السؤال: كيف يكون الرزق هو الثمرات التي تخرج من الأرض وفي الوقت ذاته نقرأ في كتاب الله أن الرزق يمكن أن ينزله الله لنا من السماء؟

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31)

أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)


السؤال المربك لنا: نحن نستطيع أن نتفهم أن الرزق (الطعام) الذي يرزقنا الله هو ثمرات الأرض، لكن كيف يمكن أن نتفهم أن الرزق أيضا ينزله الله لنا من السماء؟ فهل أنزل الله على أحد من رزق من السماء غير مريم:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

وهل أنزل الله على أحد من رزق (طعام) من السماء غير الحواريين:

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

وهل أنزل الله على أحد غير بني إسرائيل رزقا (المن والسلوى)؟

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)

التساؤل: إذا استطعنا أن نتفهم هذه المواقف التي أنزل الله فيها الطعام على بشر من السماء مباشرة، فكيف لنا نتفهم أن الله ينزل علينا نحن (الناس العاديين) رزقا من السماء؟

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)

نتيجة مفتراة (1): الله يرزقنا من السماء: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ

نتيجة مفتراة (2): الله يرزقنا من الأرض: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ

السؤال القوي: كيف ينزل الله الرزق على كل الناس من السماء؟ وما هو الرزق الذي ينزله الله علينا (نحن الناس العاديين) من السماء على الدوام؟

جواب مفترى خطير جدا جدا: نحن نفتري القول أن الرزق الذي ينزله الله علينا على الدوام من السماء هو الطاقة (أي السعرات الحرارية) التي نستمدها من وهج النار ذات الوقود (أي الشمس)، فأشعة الشمس هي (نحن نزعم الظن) هي الزق الذي ينزله الله علينا من السماء.

الدليل

لو تفقدنا الآية الكريمة التالية، لوجدنا فيها من الغرابة الشديدة التي تحيّر الألباب:

وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

ألا ترى - عزيزي القارئ- أن الله هو من أنزل من السماء من رزق (وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ)؟ ثم ألا ترى أن ذلك الرزق هو ما كان سببا في إحياء الأرض بعد موته (وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا

السؤال المربك: كيف يكون الرزق الذي أنزله الله لنا من السماء هو ما أحيا الله به الأرض بعد موتها (وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا

جواب مفترى: ربما يظن البعض أن ذلك الرزق الذي أنزله الله ليحي به الأرض هو الماء، وهذا ما لا نقبله إطلاقا، وذلك لأن الله أنزل الماء فأخرج به الثمرات:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

وأنزل من السماء ماء فأخرج به نبات كل شيء:

وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

وأنزل من السماء ماء فأخرج به الثمرات فكانت تلك الثمرات هي رزقا:

اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32)

وأنزل من السماء ماء فأحياء بها الأرض بعد موتها:

وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

لتكون النتيجة المفتراة الخطيرة والمهمة جدا هي على النحو التالي: هناك شيئان اثنان هما ما يحي الله به الأرض بعد موتها، ألا وهما:

1. الرزق:

وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

2. الماء

وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

نتيجة مفتراة خطيرة جدا: بناء على فهمنا المفترى لما جاء في الآيتين السابقتين، فإننا نتجرأ على افتراء القول بأن الأرض لا تحيا بعد موتها بالماء وحده، وأن الأرض لا تحيا بعد موتها بالرزق وحده، فلكي تحيا الأرض بعد موتها لابد من توافر عنصرين اثنين هما الرزق والماء

السؤال: إذا كان الماء الذي ينزل من السماء لحيي الله به الأرض بعد موتها ربما معروف للجميع، فما هو الرزق الذي ينزله الله من السماء ليحيي الأرض به بعد موتها؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: إنه الرزق الموجود في السماء:

وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)

السؤال: وما هو ذلك الرزق؟

جواب: إنه الرزق الذي يأتي من ذلك السراج الموجود في السماء كما جاء في الآية الكريمة التالية:

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61)

سؤال: لم أفهم ما تقصد؟ كيف يكون ذلك؟ يسأل صاحبنا مستغربا.

رأينا المفترى: نحن نفتري القول من عند أنفسنا أن الرزق الموجود في السماء يأتي كله من ذلك السراج الوهاج (أي الشمس). فوهج الشمس المنبعث من وقودها هو الذي يصلنا على الأرض، فيكون سببا رئيسيا لإحياء الأرض بعد موتها، فالأرض لا يمكن أن تحيا في غياب أشعة الشمس (أي وهج الشمس)، كما لا يمكن أن تحيا في غياب عنصر الماء. فيصبح هناك عنصران ضروريان لإحياء الأرض بعد موتها وهما:

1. الحرارة (أي الوهج المنبعث من وقود الشمس)، و

2. الماء

فإذا ما توافر هذان العنصران تمت عملية إحياء الأرض بعد موتها، وفي غياب أحد هذين العنصرين أو كلاهما تصبح عملية إحياء الأرض بعد موتها أمرا مستحيلا.

نتيجة مفتراة خطيرة جدا: وهج الشمس (الموجودة في السماء) هو ذلك الرزق الذي أنزله الله لنا من السماء، لنأكل منه وهو مخزن الرزق لكل من سيأتي بعدنا:

وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)

فالشمس (السراج الوهاج) هي إذن (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) خزّان الرزق الدائم لأهل الأرض جميعا

تبعات هذا الفهم المفترى من عند أنفسنا

نحن نظن أن لمثل هذا الفهم المفترى تبعات جمة في التفكير، ربما تساعد في تجلية كثير من الأمور العالقة في الذهن، والتي لم يصار (نحن نزعم) إلى إيجاد تفسير مرض لها حتى الساعة، نتطرق إلى بعضها على شكل تساؤلات مربكة لنا.

السؤال المربك رقم (1): لماذا نفضل في الأكل بعض الطعام على بعضه الآخر بالرغم أنه يسقى بماء واحد؟

وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

رأينا المفترى: الماء لا يؤدي إلى تنوع الجنات، فكل الجنات (مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) تسقى بما واحد، أليس كذلك؟

السؤال: ما الذي يسبب تفضيل الأكل بعضه على بعض إذن؟ يسأل صاحبنا مستغربا

جواب مفترى: الرزق (أي أشعة الشمس)

السؤال: كيف ذلك؟

جواب مفترى: نحن نظن أن ذلك يعود إلى تنوع المحاصيل في فصول السنة المختلفة. فما ينضج من المحاصيل (الثمرات) في الربيع يختلف عن ما ينتج في الصيف أو في الشتاء أو حتى في الخريف، فبعض الثمرات شتوية، والأخرى صيفية، وبعضها لا ينضج إلا في الربيع وبعضها يستوي نضجه فقط في الخريف، وهكذا. وحتى ضمن الصنف الواحد، يختلف الطعم بين نوع من الصف ونوع آخر من الصنف نفسه، فهناك جنات من الأعناب (وليس جنة واحدة) وهناك جنات من النخيل (وليس نوع واحد فقط)، الخ.

السؤال: لماذا؟ وكيف يحصل هذا التنوع؟

جواب مفترى: نحن نظن أن هذا التنوع (وبالتالي تفضيل بعضه على بعض) يعتمد كليا على كمية الرزق (وهج الشمس) المنزل من السماء.

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)

فكمية الوهج (أي الطاقة) اللازمة لإنضاج محصول معين من الثمرات تختلف عن كمية الطاقة (الوهج) اللازم لإنضاج محصول آخر من الثمرات، وبهذا يكون لكل نوع طعمه الخاص الذي يميزه عن غيره، ومن هذا الجانب (نحن نفتري الظن) يصبح تفضيل بعض الأصناف من الثمرات على الأخرى مبررا. فكمية الطاقة المتوافرة في صنف محدد هي ما يحدد طعمه ودرجة تفضيله، لذا نجد أن المحاصيل التي تنضج في فصل الصيف والخريف مثلا تمتاز بالحلاوة الشديدة كالأعناب والتمور وغيرها، بينما نجد المحاصيل التي تنضج في الشتاء تميل إلى الحموضة، وهكذا. ونجد المحاصيل السريعة النضوج (كاللوز مثلا) أقرب إلى الحموضة منه إلى الحلاوة، و يعتمد هذا كله – برأينا- على مقدار الطاقة المخزنة فيه، فكلما استهلك المحصول من الثمرات كمية أكثر من الطاقة كلما زادت كمية السعرات الحرارية المخزنة فيه، وهكذا.

ولو تدربنا الآيات التي تتحدث عن إحياء الأرض بعد موتها لوجدناها تتحدث عن الرزق (وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ولوجدناها تتحدث عن الماء (وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)، ولو تدبرنا هذين العنصرين من منظور السعرات الحرارية في الثمرات كلها، لوجدنا أن الماء هو (نحن نتخيل) العنصر الوحيد الذي لا يوجد به سعرات حرارية إطلاقا، فلو أنت شربت كمية كبيرة جدا من الماء، فإن ذلك لا يمدك بسعر حراري واحد. ولكن كل ما عدا الماء (من المأكولات والمشروبات) فهو يحتوي على كمية من السعرات الحرارية (kilogram calorie, dietary calorie, nutritionist's calorie, nutritional calorie, or food calorie باللسان الأعجمي).

ولا شك عندنا أن الإنسان يحتاج إلى هذه الطاقة التي تشغل جسمه، ففقدانه لهذه الطاقة يعني فشل أعضاءه في العمل. وكلما أخذ الإنسان كمية أكثر من السعرات الحرارية، كلما خزّن في جسمه كمية أكثر من الطاقة. ويحتاج الإنسان أن يحفظ التوازن بين ما يكسبه من تلك الطاقة (أي السعرات الحرارية) وما يستهلكه منها. فأي خلل في هذا التوازن ستظهر أثاره الجانية على الإنسان على المدى القصير والمدى الطويل معا.

السؤال المربك رقم (2): هل يستهلك الإنسان كل ما يتناوله من الثمرات (الرزق)؟

جواب: كلا، فالإنسان يستهلك جزءا من تلك الثمرات، ويتم إلقاء الجزء الأكبر منها كفضلات في الحمام.

ولو أمعنا التفكر في بنية جسم الإنسان لوجدنا أن تصريف الفضلات يتم من فتحتين:

1. فتحة تصريف الماء (البول)

2. فتحة تصريف الرزق (البراز)

ونحن نعتقد أن جسم الإنسان يبدأ يعاني من المشاكل الصحية متى ما أصبح هناك خلل في تصريف كل مجرى من هذه المجاري، فمتى أصبح تصريف الرزق (السعرات الحرارية) يتم عن طريق مجرى الماء (البول) مثلا فإن الإنسان يكون قد مسّه بعض الضر(كالأمراض)، وأصبح هناك اختلال في بنيته الجسمية. فمرضى السكري مثلا يعانون من مشكلة نزول كمية من السعرات الحرارية من مجرى البول المخصص أصلا لتصريف الماء (الذي من المفترض أن يكون خاليا تماما من السعرات الحرارية).

(دعاء: ربنا أكشف عنا الضر وأنت أرحم الراحمين)

إن ما يستفيده الإنسان من كمية الرزق (السعرات الحرارية) الداخلة في جسمه هو ما يستطيع جهازه البدني على حرقه، فحرق كمية من ذلك الرزق ينتج عنه طاقة تستطيع أن تشغل جسم الإنسان بمقدارها. ويقوم الجسم بالتخلص من الجزء الأكبر على شكل فضلات في الحمام.

السؤال: لماذا لا يستهلك الجسم كل الرزق من الثمرات التي يتناولها؟ لم لا يستطيع جسم الإنسان حرق كل الرزق الذي يدخل جسمه فلا يبقى منه شيء؟ لم يتم طرح الجزء الأكبر مما يتناوله الإنسان من الثمرات (الرزق) على شكل مخلفات (كريهة)؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن تلك الثمرات هي عبارة عن رزق (طاقة) غير نظيفة.

السؤال: لماذا هي طاقة غير نظيفة؟

جواب: لأنها ناتجة عن نار ذات وقود.

السؤال: كيف ذلك؟ لم أفهم شيئا يسأل صاحبنا مستغربا.

رأينا المفترى: لمّا كان الرزق هو عبارة عن وهج الشمس الناتج عن الوقود الذي يشغلها، فإن ذلك الوهج ليس نظيفا تماما، لذا لا يستهلك جسم الإنسان منه إلا ما هو فعلا طاقة حقيقية نظيفة، ويتم طرح الجزء المتبقي كله على شكل فضلات كما هي فضلات وقود النار. فحبة التفاح التي يتناولها الإنسان هي كلها عبارة عن طاقة، لكنها ليست كلها طاقة نظيفة مادام أنها ناتجة عن نار ذات وقود (وهج الشمس)، وكذلك هي حبة البرتقال أو الليمون أو الطماطم أو البطاطا، الخ. فعندما يقوم الإنسان بتناول حبة التفاح، فإن جسمه (يحرق) منها الوقود النظيف، وهو ما يستفيد منه جسمه، ويقوم الجسم بإلقاء بقية الكمية (الفضلات) في الحمام لأنها عبارة عن مخلفات لتلك الطاقة المخزنة فيها أصلا.

الدليل

نحن نكاد نزعم أننا نملك الدليل على هذا الافتراء الذي هو من عند أنفسنا بطرح التساؤل المربك الثالث.

السؤال المربك (رقم 3): هل سيكون لما سنأكله في الجنة من ثمراتها مخلفات تطرح في الحمام؟ هل سيحتاج من سيدخل الجنة أن يتبول أو أن يتغوط فيها؟ هل هناك شبكة مجاري وصرف صحي تمر بين جنات الأعناب والنخيل والرمان وغيرها في جنة الخلد التي وعد الله المتقين؟

جواب: لعل الفكر التقليدي قدّم التصور بأن تلك الجنة الأبدية تخلو تماما من مخلفات الإنسان الناتجة عن التبول أو التغوط، فمن يدخل الجنة لا يحتاج أن يتبول (تصريف الماء) ولا يحتاج أن يتغوط (تصريف الرزق) في الجنة، أليس كذلك؟

لكن ما لم يستطع الفكر التقليدي (نحن نزعم الظن) الإجابة عليه هو: لماذا؟ لم لا يحتاج من كان من أهل تلك الجنة أن يتبول أو أن يتغوط؟ وكيف سيصار إلى تصريف فضلات الثمرات التي يأكلها من يسكن الجنة حينها؟

رأينا المفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن من يأكل من ثمرات الجنة لا يحتاج أن يتغوط، وذلك لأن ما سيتناوله من ثمرات الرزق (الطعام) هناك يتم استهلاكه كله، فلا يتبقى منه شيء من الفضلات.

السؤال: لماذا؟ لماذا لن يكون لثمار الجنة فضلات تطرح (في الحمام) كما هي الحال في الحياة الدنيا؟ أليست هي جنات من أعناب ونخيل ورمان وغيرها؟ أليس هناك أنهار من خمر وأنهار من لبن لم يتغير طعمه؟ أليس هناك فيها من كل الثمرات؟

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15)

جواب مفترى خطير جدا جدا لا تصدقوه: لأن ثمرات الجنة ناتجة عن نار ليست ذات وقود.

السؤال: كيف ستنبت أرض تلك الجنة بالثمار؟

جواب مفترى: لكي تنبت الجنة بالثمار (كالأعناب والنخيل وغيرها)، فلابد (نحن نتخيل) من توافر رزق ينزل على تلك الثمرات من فوق، أو لنقل طاقة (كطاقة الشمس) التي تساعد في إحياء الأرض بعد موتها. فكما تستمد نباتات الأرض من أشعة الشمس الطاقة التي تساعد في نموها ونضوج ثمارها، فإن نبات الجنة (نحن نتخيل) سيستمد الرزق (أو لنقل طاقة) التي تعمل على نموها ونضوج ثمارها.

السؤال: ما هو ذلك المصدر الحراري (أو الطاقة) الذي ستستمد منه نبات الجنة طاقتها؟

جواب مفترى خطير جدا جدا: إنه - بكل تأكيد- ليس الشمس، وذلك لأن الشمس تكون غير موجودة إطلاقا بدليل قوله تعالى:

مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)

فالشمس إذن غير موجودة إطلاقا لتمد ثمرات جنة الخلد بالطاقة، وعندها تكون الأرض قد بدلت:

يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)

السؤال: ما هو مصدر الحرارة حينها، أي عندما تكون الشمس (وكذلك القمر) قد غابت كليا؟

وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)

جواب مفترى خطير جدا جدا: في تلك الظروف التي ستغيب فيها مصادر الطاقة (كالشمس) كلها، فإن المصدر الوحيد الذي ستشرق به الأرض حينها هو ما جاء في الآية الكريمة التالية:

وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)

نعم، ستشرق الأرض الجديدة (جنة الخلد) بنور ربها الذي سيكون (نحن نفتري القول) هو مصدر الطاقة الوحيد حينئذ.

تخيلات مفتراة: في تلك المرحلة سيتم جمع الشمس والقمر، وسيغيبان كلّيا عن المشهد، وستبدل الأرض غير الأرض، وستشرق تلك الأرض الجديدة بنور ربها، وسيصبح نور الله هو مصدر الحرارة (الطاقة) الأوحد. وستنبت تلك الجنة (الأرض الجديدة) بالثمرات من كل شيء، وسيكون مصدر الرزق النازل عليها من فوق هو ذلك النور الإلهي الأبدي، وستستمد تلك الجنات طاقتها من ذلك النور، وستنبت بالثمرات كلها.

السؤال: ما الذي سيحصل عندما يأكل من سيسكن تلك الجنات من تلك الثمرات التي نزل عليها الرزق (النور الإلهي) فأحيا الأرض الجديدة؟

جواب: لمّا كانت تلك الثمرات كلها رزقا مصدره النور الإلهي الأبدي، فإنه سيكون – لا شك عندنا- كله طاقة نظيفة لا مخلفات له، مادام أنها ناتجة عن نار غير ذات وقود (أي نور)، قال تعالى:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

وسيكون لاستهلاك تلك الثمرات الطيبة نتائج جمة نذكر منها:

1. أن من سيأكل من تلك الثمرات لن يحتاج أن يتغوّط، لأن تلك الثمرات كلها طاقة نظيفة سيتم استهلاكها بالكلّية

2. لن يصاب من يأكل من تلك الثمرات بالأذى والضر مادام أن ما يدخل جسمه كله نظيف لا شائبة فيه، فهو أصلا مستمد من النور الأبدي

3. الخ

السؤال المربك (رقم 4): كم سيمكث من سيدخل تلك الجنة فيها؟

غالبا ما تسأل الناس عن جنات الخلد، خاصة ما يتعلق بماهيتها وما يتعلق بالفترة الزمنية التي سيمكثها الداخل فيها، ولعل الإجابات التقليدية المتوافرة لا تسد رمق الباحث عن الحقيقة مادام أنها في كثير من الأحيان متباينة، ومادام أن هذه الآراء المتعددة (نحن نزعم القول) لا تستند إلى الدليل الذي يدعمها. وسنحاول في نهاية هذا الجزء من المقالة التركيز على الجزء الخاص بالفترة الزمنية للمكوث في جنات الخلد، ليكون السؤال هو: كم سيمكث الناس في الجنة بعد دخولهم فيها؟

جواب: غالبا ما جلبت الآيات الكريمة التالية لتدعيم وجهة نظر من يغوص في هذه القضايا:

1. خالدين فيها:

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

2. خالدين فيها أبدا:

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

3. خالدين فيها إلا ما شاء ربك:

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

وقد تعرضنا في الأجزاء السابقة للفرق بين خالدين فيها من جهة (خَالِدِينَ فِيهَا) وخالدين فيها أبدا (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) من جهة أخرى، وافترينا الظن من عند أنفسنا أن الخلود (خَالِدِينَ) هو خلود مكاني فقط، أما الأبدية (أَبَدًا) فهي ما يتعلق بالزمن، لذا كان الافتراء الذي قدمناه على النحو التالي:

الذين يخلدون في المكان (خَالِدِينَ فِيهَا) هم الذين لا يبرحونه إلى غيره، فالخالدين في الجنة هم من ستكون الجنة هي مكانهم الوحيد الذي سيتواجدون فيه فلا يبرحونه إلى غيره، وهكذا حال من كانوا خالدين في النار، فهم أصحاب النار الذين لا يجدون مكان آخر غير النار يؤويهم.

أما الخالدين فيها أبدا (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) فهم الذين يمكثون في المكان على سبيل الديمومة، فمن يخلد في الجنة أبدا، فهو الذي لا يجد مكان آخر غير الجنة يؤويه وفي الوقت ذاته يكون ذلك على سبيل الديمومة الأبدية، وكذلك هي حال الخالدين في النار أبدا، فهم الذين لا يستطيعون أن يغادروا النار إلى مكان آخر غيرها ويكون ذلك على سبيل الديمومة.

لكن المعضلة الآن تكمن في الموازنة بين الآيات الكريمة التي تتحدث عن الديمومة المطلقة للخلود في الجنة (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) كما جاء في آيات كثيرة من كتاب الله:

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

مقابل ما جاء في الآيات الكريمة التي تؤكد أن ذلك مرتبط بديمومة السموات والأرض وبالمشيئة الإلهية:

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

ليكون السؤال هو: هل الخلود في الجنة أبدي لا ينتهي؟ أم هل يمكن أن ينتهي مادام أنه مرتبط بديمومة السموات والأرض والمشيئة الإلهية؟

جواب مفترى خطير جدا: بداية نحن نعتقد جازمين أن الفترة الزمنية للخلود في الجنة ستكون طويلة جدا قد يصعب علينا تخيلها، لكن مع ذلك نحن نعتقد أيضا بأن الديمومة في الجنة (وإن طالت) ربما تنتهي مادامت مرتبطة بديمومة السموات والأرض والمشيئة الإلهية. ولنرقب ما قاله بنو إسرائيل لرسولهم عندما طلب منهم الدخول في الأرض المقدسة التي كتب الله لهم:

قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)

فالأبدية إذن (نحن نفتري القول) لا تعني إلى ما لا نهاية وذلك لأنها قد تكون مشروطة بحدث معين (إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا)

نتيجة مفتراة خطيرة جدا: نحن نظن أن أبدية الجنة مشروطة إذن بديمومة السموات والأرض وبالمشيئة الإلهية

السؤال: إن صح ما تزعم، لم يمكن أن تنتهي؟ وكيف يمكن أن تنتهي؟ ومتى يمكن أن تنتهي؟

جواب مفترى: يميل الظن عندنا إلى الاعتقاد بأن مدة المكوث في الجنة تختلف من شخص إلى آخر كما تختلف ماهية الجنة من شخص إلى آخر، فليس كل الداخلين في الجنة يتمتعون بالمزايا نفسها، فقد لا تتطابق جنة الأشخاص العاديين مع الجنة التي سيخلد فيها نوح وإبراهيم وموسى ومحمد. وبالمنطق نفسه نحن نعتقد أن المدة الزمنية التي سيمكث فيها هؤلاء الصالحون من عباد الله قد لا تكون متطابقة مع المدة الزمنية التي سيمكثها غيرهم فيها. لتكون النتيجة المفتراة الخطيرة جدا هي: لكل شخص جنته الخاصة به من حيث ماهيتها ومدتها الزمنية. فكما تختلف جنة كل شخص عن جنة الشخص الآخر في المزايا فهي قد تختلف في طول فترتها الزمنية.

السؤال: متى ستنتهي جنة أي شخص؟

جواب مفترى: عندما ينتهي رصيده الذي قدمه لها.

السؤال: كيف ذلك؟

رأينا: نحن نؤمن بالمنطلقات الفكرية العقائدية التالية

أولا، أن الله لا يظلم أحدا:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

ثانيا، أن الله لا يظلم مثقال ذرة:

إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)

ثالثا، أن ما سيقدمه الإنسان من خير سيجده عند ربه:

وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

رابعا، أن ما تقدمه لنفسك تجده عند الله هو خيرا وأعظم أجرا:

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)

خامسا: أن الله يضاعف الحسنات:

إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)

سادسا، أن الحساب يكون على كل ذرة:

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)

الخ.

السؤال: كيف سيتبلور التباين بين الناس في الجنة بناء على ما يقدموه لأنفسهم من خير؟

افتراء خطير جدا (1): نحن نفتري الظن بأن طول الفترة الزمنية التي سيمكثها من يدخل الجنة يعتمد على كمية المخزون (الرصيد) الذي قدّمه لنفسه. فما أحضرت لنفسك من الخير ستجده حاضرا عند الله، وستجده أعظم أجرا لأن الله لا شك يضاعف الحسنات.

افتراء خطير جدا (2): ما أن ينفذ مخزونك من تلك الحسنات التي ضاعفها الله لك حتى تكون جنتك قد أفلت، ومن هذا المنطلق نحن نفهم قوله تعالى:

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

السؤال: كيف سيحصل ذلك؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن كل ما يعمله الإنسان من عمل يتم تقييمه بكمية محددة من التقوى التي نالها الله منك:

لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

لذا يصبح مخزون الإنسان عند ربه محددا بكمية التقوى التي نالها الله منه، وهذه "التقوى" المتحصّلة من كل شخص هي ما يجعل جنته الخاصة به تدوم فترة متفاوتة من الزمن. فقد يكون مقدار التقوى التي نالها الله مني أكبر من مقدار التقوى التي نالها الله منك، حينها تدوم جنتي مدة أطول من جنتك.

السؤال: لماذا؟

جواب مفترى: لأن هذه التقوى تتحول إلى النور الأبدي:

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

وهذا ما سيفتقده غير المؤمن:

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)

ولو دققنا في هذه الآية الكريمة جيدا لوجدنا أن ذلك النور الأبدي مصدره ما كان وراءهم، فالمؤمنون يطلبون من المنافقين والمنافقات أن يرجعوا وراءهم ليلتمسوا ذلك النور. وعندها لن يجد هؤلاء إلا ما كنزوا لأنفسهم، وهي ما سيحمى عليها في نار جهنم ليذوقوها بأنفسهم:

يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

تلخيص ما سبق: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا بن الجنة التي وعد المتقون فيها جنات من ثمرات كثيرة:

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15)

وأن مصدر الرزق لثمرات الجنة هو ذلك النور الإلهي الأبدي، وأن مقدار ما تستفيده منها هو مقدار ما قدمت لنفسك من خير ناله الله منك على شكل تقوى، سيتبلور في نهاية المطاف بنور أبدي، فتكون جنتك محكومة بذلك القدر من النور الذي ساهمت أنت فيه، فمتى نفذ رصيدك من ذلك النور، انطفأت جنتك وانتهت مساهمتك فيها.

وإذا كانت الحياة الدنيا لهو ولعب فإن الآخرة هي الحيوان:

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)

فقدم لنفسك – عزيزي القارئ- بمقدار ما ترغب أن يديم عليك جنتك في الآخرة، فأنت تستطيع أن تزيد أو أن تنقص من ذلك "الحيوان"، ولا تكنز لنفسك لأن ذلك سيحمى عليه في جهنم لتكوى به جباهك وجلودكم، وسيكون مكوثكم فيها أحقابا:

لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)

نتيجة مفتراة مهمة جدا: نحن نظن أن عملك في هذه الحياة الدنيا سيتحول إلى نور في الآخرة، وسيكون ذلك النور (مصدر الطاقة النظيفة) هو المشغل الحقيقي لجنتك التي ستنبت لك الثمرات فيها، وستنار جنتك بتلك الطاقة التي خزنتها لنفسك بعد أن يكون الله قد ضاعفها لك أضعافا كثيرة.

والحمد لله رب العالمين.

لسؤال: ما علاقة هذا كله برؤيا إبراهيم ويوسف لتلك الكينونات (الكوكب والقمر والشمس)؟

هذا ما سنخوض فيه في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيق منه، سائلين الله وحده أن ينفذ مشيئته وإرادته لنا الإحاطة بشي من علمه لا ينبغي لغيرنا، إنه هو العليم الحكيم، وأن يزدني علما وأن يهديني لأقرب من هذا رشدا. وأدعوه وحده أن يؤتيني رشدي، وأعوذ به أن يكون أمري كأمر فرعون، فالله وحده أدعو أن أكون ممن أتوه بقلب سليم، فهداهم الصراط المستقيم، إنه هو العليم الخبير – آمين.

المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان

بقلم د. رشيد الجراح

8 تشرين أول 2015