قصة يونس - الجزء الخامس والعشرون



قصة يونس – الجزء الخامس والعشرون

تعرضنا في الجزء السابق من هذه المقالة لبدايات سورة التين:

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)

وخلصنا إلى افتراء الظن بأن هذه مناطق جغرافية خاصة بالأمم الرئيسية التي أرسل إليها أولي العزم من الرسل، فبقيت رسالاتهم خالدة على مر الزمان، وكان لكل أمة منهم شرعة ومنهاجا. فافترينا الظن بأن شرعة ومنهاج أمة محمد قد اتخذت منسكها في الواد غير ذي الزرع عند بيت الله الحرام، الموجود في هذا البلد الأمين:

وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)

وكانت شرعة ومنهاج رسالة موسى وعيسى قد اتخذت منسكها عند طور سنين:

وَطُورِ سِينِينَ (2)

وخلصنا في مقالات سابقة لنا أن محمدا لم يرضى أن يكون متبعا لشرعة ومنهاج الأمم التي سبقته، فبقي يقلب وجهه في السماء حتى حصل على الاستقلالية التامة:

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السًّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)


فما رضي محمد أن يتبع قبلتهم لأنهم بكل تأكيد لا يرضون أن يتبعوا قبلته:

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

نتيجة مفتراة: ولى محمد (ومن تبع شرعته ومنهاجه) وجهه شطر المسجد الحرام الموجود في هَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ

نتيجة مفتراة: ولى موسى وعيسى (ومن اتبع شرعتهم من أهل الكتاب) وجههما شطر طُورِ سِينِينَ

واتخذت الأمة التي أرسل فيهم إبراهيم شرعتهم ومنهاجهم في بلاد الزيتون:

... وَالزَّيْتُونِ (1)

وكانت الرسالة الأولى (رسالة نوح) قد انبعثت في أرض التين:

وَالتِّينِ ... (1)

(للتفصيل انظر الجزء السابق)

وقد توقفنا في الطرح السابق عند محطة الزيتون التي (ظننا) أن إبراهيم قد خلا فيها نذيرا:

... وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)

فقدمنا افتراءات هي – لا شك- من عند أنفسنا ظننا أنها غير مسبوقة، نعيد أهمها هنا من أجل متابعة النقاش قدما في هذا الجزء الجديد من المقالة

الافتراءات السابقة

- كان إبراهيم قد بُعث نذيرا في أرض الزيتون

- تقع أرض الزيتون هذه (نحن نتخيل) في وسط الكرة الأرضية، فهي بلاد لا شرقية ولا غربية

- ينطلق خط الصفر (الذي يفصل الشرق عن الغرب) من القطب الشمالي ويمتد إلى القطب الجنوبي فيمر في هذه المنطقة، فهو برأينا الخط الحقيقي الذي يفصل الشرق عن الغرب، فيكون بديلا حقيقيا لخط غرينتش الذي كان صنيعة الحضارة البريطانية.

- تقع هذه المنطقة على الحدود الجغرافية الممتدة بين إيران والعراق وتركيا الحالية

- يمكن حصرها بما يسمى اليوم بمنطقة كردستان

- يمر خط الصفر في هذه المنطقة فتصبح كل الأرض إلى يمين الناظر على الشاشة هي أرض شرقية وتكون كل الأرض الواقعة على يسار الناظر إلى الشاشة هي أرض غربية.

- على ذلك الخط (خط الصفر) تقع تلك الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية

- تمتاز هذه المنطقة بأنها الأمثل (برأينا) لمراقبة السماء من الأرض

- اهتدى إبراهيم إلى ذلك الصراط المستقيم

- استطاع إبراهيم من هناك مراقبة السماء

- استطاع إبراهيم أن يراقب ذلك الكوكب عندما كان يبحث عن ربه

- استطاع إبراهيم من هناك أن يرى الشمس بازغة

- استطاع إبراهيم من هناك أن يرى القمر بازغا

- أدرك إبراهيم أن تلك الكينونات لا محالة آفلة، لذا لا تصلح أن تكون ربا له

- أدرك إبراهيم أن ربه الحقيقي الذي يبحث عنه لا يأفل

- وجه إبراهيم من هناك وجه للذي فطر السموات والأرض حنيفا

- هدى الله إبراهيم إلى صراط مستقيم

- رأى إبراهيم من هناك ملكوت السموات والأرض، فكان من الموقنين:

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

- الخ

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن هذه واحدة من آيات الله في الأرض، وهي لا شك آية فقط لمن كان من الموقنين:

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)

فهذا موسى يوجه الخطاب لفرعون بهذه الصيغة، بعد أن استفسر فرعون عن رب موسى:

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24)

وجاءت هذه الصيغة في سياق الحديث عن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم:

وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7)

وسنرى (إن أذن الله لنا بشيء من علمه فيها) تبعات هذا الظن لاحقا عندما نحاول ربط هجرة إبراهيم إلى ربه غربا باتجاه الأرض التي باركنا فيها للعالمين مع طلب فرعون من هامان أن يبني له صراحا يمكنه من الاطلاع شرقا باتجاه الأرض التي باركنا فيها للعالمين إلى إله موسى كما في الشكل التوضيحي المبسط التالي:

                          كردستان           الأرض المقدسة                  مصر

                     إبراهيم ←                 ربه (إله موسى)        > فرعون

(دعاء: اللهم أسألك وحدك أن أكون من عبادك الموقنين، الذين يرون آياتك فيعرفونها، إنك أنت السميع العليم – آمين)

تبعات هذا الطرح

لمّا كنا نظن أن هذه البقعة الجغرافية هي المكان الأمثل على الأرض لمراقبة الأجرام السماوية، كان لابد من الاستفادة من الميزات الفريدة لهذا المكان في تشييد الحضارة. ولو رجعنا إلى السجلات التاريخية التي تتحدث عن نشوء الحضارات القديمة وازدهارها في تلك المنطقة، ربما لن يعيينا البحث أن نجد أن أعرق الحضارات القديمة قد شيّدت في تلك المنطقة الجغرافية على وجه التحديد، فكانت حضارة آشور وبابل من المحطات الحضارية التي لا يستطيع السجل البشري أن يتجاوزها. ولو تدبرنا التفكر في تلك الحضارات، لوجدنا أن لها ميزات خاصة تجعل لها طابعا فريدا لا تدانيه فيه حضارات أخرى على الأرض. فكانت حضارة آشور الأولى وكانت حضارة بابل الأولى، فبقيت آثارهم خالدة دليلا على رقي حضاراتهم.

أولا، حضارة آشور: مرتكزات فكرية مهمة

- كانت حضارة آشور هي من أول الحضارات التي شيدت في تلك المنطقة. وهذه لمحة بسيطة عن تلك الحضارة كما وجدناها في موسوعة الويكبيديا:
آشور (Assyria, Ashur)، أول دولة قامت في مدينة آشور في شمال بلاد ما بين النهرين، وتوسعت في الألف الثانية ق.م. وامتدت شمالا لمدن نينوي، نمرود وخورسباد. ولقد حكم الملك شمشي مدينة آشور عام 1813 ق.م. واستولي حمورابي ملك بابل على آشور عام 1760 ق.م. إلا أن الملك الآشوري شلمنصر استولي على بابل وهزم الميتانيين عام 1273 ق.م. ثم استولت آشور ثانية على بابل عام 1240 ق.م. وفي عام 1000 ق.م. استولي الآراميون على آشور، لكن الآشوريين استولوا على فينيقيا عام 774 ق.م. وصور عام 734 ق.م. والسامرة عام 721 ق.م. وأسر سارجون الثاني اليهود في أورشليم عام 701 ق.م. وفي عام 686 ق.م. دمر الآشوريون مدينة بابل وثار البابليون على حكم الآشوريين وهزموهم بمساعدة ميديا عام 612 ق.م. شن الآشوريون حملاتهم على باقي مناطق سوريا وتركيا وإيران.
وكانت مملكة آشور دولة عسكرية تقوم على العبيد، وكان لها إنجازات معمارية وصنع التماثيل ولاسيما تماثيل الثيران المجنحة التي كانت تقام أمام القصر الملكي، وزينت الجدران بنقوش المعارك ورحلات الصيد. وما بين سنتي 883 ق.م. و612 ق.م. أقامت إمبراطورية من النيل للقوقاز، ومن ملوكها العظام: آشوربانيبال، تغلات فلاصر الثالث، سرجون الثاني، سنحاريب، آشورناصربال، واسرحادون (والد آشور بانيبال) الذي كان مهووسا بحب إذلال الملوك حيث كان يجبر الملوك التابعين له على المجيء إلى عاصمته والعمل في ظروف قاسية لبناء قصوره في نينوى، وآخر ملوك آشور المدعو آشور أوباليط الذي اقام مقر قيادة مؤقت في حران (الجزيرة الفراتية) بعد سقوط نينوى بيد البابليين بقيادة نابو بولاصر الكلداني محاولا تأخير المذبحة الشاملة للشعب الآشوري. وكانت كتابة الآشوريين الكتابة المسمارية التي كانت تكتب علي ألواح الطين، وأشهر مخطوطاتها ملحمة جلجماش التي ورد بها الطوفان لأول مرة. وكانت علومهم مرتبطة بالزراعة ونظام العد الحسابي السومري الذي عرف بنظام الستينات وكان يعرفون أن الدائرة 60 درجة، كما عرفوا الكسور والمربع والمكعب والجذر التربيعي، وتقدموا في الفلك وحسبوا محيط خمسة كواكب، وكان لهم تقويمهم القمري وقسموا السنة لشهور والشهور لأيام، وكان اليوم عندهم 12 ساعة والساعة 30 دقيقة. وكانت مكتبة الملك آشور بانيبال من أشهر المكتبات في العالم القديم حيث جمع كل الألواح بها من شتى مكتبات بلاده

ويمكن أن نضيف الاقتباس التالي أيضا:

وقد اكتشفت في كثير من المدن الآشورية تماثيل هائلة الحجم مصنوعة من الحجر، وكانت توضع على جانبي أبواب الهياكل والقصور. وكان الآشوريون يسمون هذه التماثيل "شيدو" . وكانت تمثل حيوانات لها رؤوس بشرية وأجنحة وأما أجسامها فكانت أجسام أسود أو ثيران. ويرى بعض العلماء شبهًا كبيرًا بين هذه التماثيل "شيدو" وبين وصف حزقيال للكروبيم (حز 1: 5- 14). وكان الآشوريون يعبدون آلهة كثيرة. أما إلههم الرئيسي فكان آشور وهو اله الحرب وكانوا يمثلونه في شكل رامٍ للسهام داخل دائرة تمثل قرص الشمس ولها أجنحة. وكانت أشتارا الآلهة العظيمة للحرب والخصب وكانت الآلهة الأخرى تمثل قوى الطبيعة. وكان "أنو" يمثل قوة السماء و("بل" يمثل الأرض و"ايا" تمثل المياه و"سين" يمثل القمر و"شماش" تمثل الشمس و"رمان" تمثل العاصفة، والخمسة الكواكب السيارة التي كانت معروفة حينئذٍ. وكان معظم هذه الآلهة يعبد في بابل فيما عدا الاله "آشور"

-        

في تلك الحضارة حصلت ملحة قلقامش حيث جاء فيها ذكر الطوفان الكبير. وهذه مقتطفات من الويكيبديا عن هذه الملحمة التاريخية:

بداية الملحمة[عدل]
تبدأ الملحمة بالحديث عن جلجامش ملك أورك - الوركاء الذي كانت والدته إله خالدا ووالده بشرا فانيا ولهذا قيل بان ثلثيه إله والثلث الباقي بشر. وبسبب الجزء الفاني منه يبدأ بإدراك حقيقة أنه لن يكون خالدا. تجعل الملحمة جلجامش ملكا غير محبوب من قبل سكان أورك؛ حيث تنسب له ممارسات سيئة منها ممارسة تسخير الناس في بناء سور ضخم حول أورك العظيمة.
ابتهل سكان أورك للآلهة بأن تجد لهم مخرجا من ظلم جلجامش فاستجابت الآلهة وقامت إحدى الإلهات، واسمها أرورو، بخلق رجل وحي كان الشعر الكثيف يغطي جسده ويعيش في البرية يأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات؛ أي أنه كان على النقيض تماما من شخصية جلجامش. ويرى بعض المحللين أن هناك رموزا إلى الصراع بين المدنية وحياة المدن الذي بدأ السومريون بالتعود عليه تدريجيا بعد أن غادروا حياة البساطة والزراعة المتمثلة في شخصية أنكيدو.
كان أنكيدو يخلص الحيوانات من مصيدة الصيادين الذين كانوا يقتاتون على الصيد، فقام الصيادون برفع شكواهم إلى الملك جلجامش؛ فأمر إحدى خادمات المعبد بالذهاب ومحاولة إغراء أنكيدو ليمارس الجنس معها؛ وبهذا تبتعد الحيوانات عن مصاحبة أنكيدو ويصبح أنكيدو مروضا ومدنيا. حالف النجاح خطة الملك جلجامش، وبدأت خادمة المعبد -وكان اسمها شمخات، وتعمل خادمة في معبد الآلهة عشتار - بتعليم أنكيدو الحياة المدنية؛ ككيفية الأكل واللبس وشرب النبيذ، ثم تبدأ بإخبار أنكيدو عن قوة جلجامش وكيف أنه يدخل بالعروسات قبل أن يدخل بهن أزواجهن. ولما عرف أنكيدو بهذا قرر أن يتحدى جلجامش في مصارعة ليجبره على ترك تلك العادة. يتصارع الاثنان بشراسة؛ فهما متقاربان في القوة، ولكن الغلبة في النهاية كانت لجلجامش، حيث اعترف أنكيدو بقوة جلجامش، وبعد هذه الحادثة يصبح الإثنان صديقين حميمين.
يحاول جلجامش دائما القيام بأعمال عظيمة ليبقى اسمه خالدا؛ فيقرر في يوم من الأيام الذهاب إلى غابة من أشجار الأرز؛ فيقطع جميع أشجارها، وليحقق هذا عليه القضاء على حارس الغابة، وهو مخلوق ضخم وقبيح اسمه خومبابا. ومن الجدير بالذكر أن غابة الأرز كان المكان الذي تعيش فيه الآلهة ويعتقد أن المكان المقصود هو غابات أرز لبنان.
الصراع في غابة الأرز[عدل]
يبدأ جلجامش وأنكيدو رحلتهما نحو غابات أشجار الأرز بعد حصولهما على مباركة شمش إله الشمس الذي كان أيضا إله الحكمة عند البابليين والسومريين وهو نفس الإله الذي نشاهده في مسلة حمورابي المشهورة وهو يناول الشرائع إلى الملك حمورابي وأثناء الرحلة يرى جلجامش سلسلة من الكوابيس والأحلام لكن أنكيدو الذي كان في قرارة نفسه متخوفا من فكرة قتل حارس الغابة يطمأن جلجامش بصورة مستمرة على أن أحلامه تحمل معاني النصر والغلبة.
عند وصولهما الغابة يبدآن بقطع أشجارها فيقترب منهما حارس الغابة خومبابا ويبدأ قتال عنيف ولكن الغلبة تكون لجلجامش وأنكيدو حيث يقع خومبابا على الأرض ويبدأ بالتوسل منهما كي لا يقتلاه ولكن توسله لم يكن مجديا حيث أجهز الاثنان على خومبابا وأردياه قتيلا. أثار قتل حارس الغابة غضب إلهة الماء أنليل حيث كانت أنليل هي الإلهة التي أناطت مسؤولية حراسة الغابة بخومبابا.
بعد مصرع حارس الغابة الذي كان يعتبر وحشا مخيفا يبدأ اسم جلجامش بالانتشار ويطبق شهرته الآفاق فتحاول الإلهة عشتار التقرب منه بغرض الزواج من جلجامش ولكن جلجامش يرفض العرض فتشعر عشتار بالإهانة وتغضب غضبا شديدا فتطلب من والدها آنو، إله السماء، أن ينتقم لكبريائها فيقوم آنو بإرسال ثور مقدس من السماء لكن أنكيدو يتمكن من الإمساك بقرن الثور ويقوم جلجامش بالإجهاز عليه وقتله.
بعد مقتل الثور المقدس يعقد الآلهة اجتماعا للنظر في كيفية معاقبة جلجامش وأنكيدو لقتلهما مخلوقا مقدسا فيقرر الآلهة على قتل أنكيدو لأنه كان من البشر أما جلجامش فكان يسري في عروقه دم الآلهة من جانب والدته التي كانت إلهة فيبدأ المرض المنزل من الآلهة بإصابة أنكيدو الصديق الحميم لجلجامش فيموت بعد فترة.
رحلة جلجامش في بحثه عن الخلود[عدل]
بعد موت أنكيدو يصاب جلجامش بحزن شديد على صديقه الحميم حيث لا يريد أن يصدق حقيقة موته فيرفض أن يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع إلى أن بدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدو فيقوم جلجامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شاردا في البرية خارج أورك وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات. بالإضافة إلى حزن جلجامش على موت صديقه الحميم أنكيدو كان جلجامش في قرارة نفسه خائفا من حقيقة أنه لابد من أن يموت يوما لأنه بشر والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة. بدأ جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية. لكي يجد جلجامش سر الخلود عليه أن يجد الإنسان الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود وكان اسمه أوتنابشتم والذي يعتبره البعض مشابها جدا أن لم يكن مطابقا لشخصية نوح في الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام. وأثناء بحث جلجامش عن أوتنابشتم يلتقي بإحدى الإلهات واسمها سيدوري التي كانت آلهة النبيذ وتقوم سيدوري بتقديم مجموعة من النصائح إلى جلجامش والتي تتلخص بأن يستمتع جلجامش بما تبقى له من الحياة بدل أن يقضيها في البحث عن الخلود وأن عليه أن يشبع بطنه بأحسن المأكولات ويلبس أحسن الثياب ويحاول أن يكون سعيدا بما يملك لكن جلجامش كان مصرا على سعيه في الوصول إلى أوتنابشتم لمعرفة سر الخلود فتقوم سيدوري بإرسال جلجامش إلى الطَوَّافٌ أورشنبي، ليساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى أوتنابشتم الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود.
عندما يجد جلجامش أوتنابشتم يبدأ الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمر الآلهة وقصة الطوفان هنا شبيهة جدا بقصة طوفان نوح، وقد نجى من الطوفان أوتنابشتم وزوجته فقط وقررت الآلهة منحهم الخلود. بعد أن لاحظ أوتنابشتم إصرار جلجامش في سعيه نحو الخلود قام بعرض فرصة على جلجامش ليصبح خالدا، إذا تمكن جلجامش من البقاء متيقظا دون أن يغلبه النوم لمدة 6 أيام و7 ليالي فإنه سيصل إلى الحياة الأبدية ولكن جلجامش يفشل في هذا الاختبار إلا أنه ظل يلح على أوتنابشتم وزوجته في إيجاد طريقة أخرى له كي يحصل على الخلود. تشعر زوجة أوتنابشتم بالشفقة على جلجامش فتدله على عشب سحري تحت البحر بإمكانه إرجاع الشباب إلى جلجامش بعد أن فشل مسعاه في الخلود، يغوص جلجامش في أعماق البحر في أرض الخلود دلمون (البحرين حاليا) ويتمكن من اقتلاع العشب السحري.
عودة جلجامش إلى أورك[عدل]
بعد حصول جلجامش على العشب السحري الذي يعيد نضارة الشباب يقرر أن يأخذه إلى أورك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناوله ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته فرجع جلجامش إلى أورك خالي اليدين وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك فيفكر في قرارة نفسه أن عملا ضخما كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه. في النهاية تتحدث الملحمة عن موت جلجامش وحزن أورك على وفاته


ثانيا، حضارة بابل الأولى: مرتكزات فكرية مهمة

- نشأت حضارة بابل الأولى على أعقاب الحضارة الآشورية الأولى، ولو تفقدنا السجلات التاريخية لوجدنا بداية أن مفردة "بابل" بحد ذاتها تعني بوابة الإله

- اتسمت هذه الحضارة ببناء ما يسمى الحدائق المعلقة، وبرعوا في بناء ما يسمى بالزقورات، التي وجدنا تعريفها في موسوعة الوكيبيديا على النحو التالي:
اهتم ملوك الدولة البابلية الاوائل ببناء الزقورات المنصة الهائلة الارتفاع لتكون وسيلة لاتصال بين السماء والارض، صممت لتسهيل هبوط الالهة إلى الارض لتقصير المسافة بين السماء والارض. الزقورات بناء عالي مدرج يتألف من عدد من الطوابق يترواح عددها 7 أكبر الطوابق في الاسفل واصغر الطوابق في الاعلى التي يتوجها معبد صغير. قاعدة الزقورات مربعة او متسطيلة الشكل يتراوح ارتفاعها بين 30 إلى 50 مترا. الصعود للزقورة بثلاث سلالم..احدها محوري يتعامد مع أحد الاضلاع ويصل إلى الطابق العلوي.اما الاخران فجانبيان يلتقيان بالسلم المحوري في الطبقة الاولى. تقدم ابنية الزقورات الهائلة الحجم اوضح دليل على المستوى الفني العالي الذي بلغه فن العمارة القديم في بلاد الرافدين. في مجال استخدام الحساب والهندسة جعلت قواعد الزقورات ذات الاضلاع الطويلة بشكل متساوي منتظم دون اي فرق بين طول ضلع واخر. بعد الطبقة الاولى يصغر حجم الطبقات تتدريجيا بنسب منتظمة تشير إلى تناسق كبير. تتميز سلالمها الثلاث خاصة سلمها المحوري الذي يوصل إلى قمة الزقورة بأستقامة تامة. كان المعمار تواقا بأسلوب هندسي بارع. اهتم ملوك الدولة البابلية الاؤلى أيضا ببناء المعابد قرب الزقورات فتكون معبدا ارضيا تابعا لالزقورات او في امكنة بعيدة عن الزقورات فتكون معبدا مستقلا يكرس لعبادة اله او ملك من الملوك. تتميز معابد هذا العصر بأشكال منتظمة واضحة التفاصيل تكون اما مربعة او مستطيلة يحيط بكل منها سور ضخم تتجه اضلاعه نحو الجهات الاربع مزين من الخارج بعدد من الطلعات والدخلات. يتألف الجزء الداخلي للمعبد من ساحة مكشوفة صغيرة يحيط بها من ثلاث جوانب صف او صفان من الغرف المسقفة التي استخدمت لسكن الكهنة وخزن نذور المعبد وهداياه. هناك غرفة تضم تمثال الالهه ولذلك فأن معابد هذه الفترة كانوا يضعون تمثال الاله في مدخل المعبد مباشرة من أشهر هذه المعابد (معبد الاله انكي) في مدينة اور.
-          كانت إنجازات الحضارة مميزة في الفلك والرياضيات والطب والموسيقى
-          الخ.


السؤال المحوري: ما علاقة هذا بقصتنا عن إبراهيم؟

رأينا: لو تفقدنا هذه المنطلقات الفكرية عن تلك الحضارات التي نشأت في أرض الزيتون (كما نزعم)، لوجدنا على الفور أن تلك الحضارات قد برعت في علم الفلك وحساب التوقيت. ليكون السؤال المحوري هو: ما سر اهتمام تلك الحضارات بالفلك والزمن؟

لو رجعنا بالسجلات التاريخية إلى ما قبل ذلك، لوجدنا أن الحضارات الآشورية والبابلية هي وريثة الثقافة الأكادية والسومرية اللتان انطلقتا أساسا من تلك المنطقة الجغرافية. ومما يعرف عن الحضارة الأقدم (السومرية) أن الآلهة الأولى هم ثلاثة جاءوا من السماء إلى الأرض، فترسمهم اللوحات الجدارية مع مركبات مجنّحة، كما كانوا يعتقدون أن هذه الآلهة الثلاث تجتمع في إله واحد، كان يسكن أحد الكواكب، وبالذات كوكب نيبرو (الذي أصبح يعرف في الحضارات اللاحقة بمردوخ).

إن ما يهمنا في هذا الطرح هو الحقيقة التاريخية التي ربما يصعب المجادلة فيها، ألا وهي أن الحضارة في بلاد الرافدين قد بدأت على النحو التالي
السومريون    ← الأكديون  ←  الآشوريون   ←  البابليون

رأينا المفترى: نحن نظن أن هذه الحضارات كانت السبّاقة إلى فكرة خط الصفر الذي يقسم الشرق عن الغرب، فهم يسكنون في بلاد لا شرقية ولا غربية، وفيها يمر خط الصفر الذي من عنده يمكن مراقبة أفلاك السماء، ومن ثم حساب التوقيت بطريقة دقيقة جدا، فنحن نظن أن القوم كانوا بارعين في مراقبة الشمس والقمر لهذه الغاية، قال تعالى:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)


السؤال: متى بدأ الاهتمام بالفلك وبمراقبة الأجرام السماوية؟

جواب مفترى: نحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن الاهتمام بمراقبة السماء قد بدأ في الحضارة التي نشأ فيها إبراهيم، وربما لهذا (نحن لازلنا نفتري القول من عند أنفسنا) نجد السياقات القرآنية الأولى عن حياة إبراهيم تبرزه شخصا مهتما بالكواكب والشمس والقمر، قال تعالى:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)


لذا سنترك الحديث عن ما وصلنا من أخبار تلك الحضارات في النقوش القديمة والكتابات والجداريات التي لازالت قائمة لأهل الاختصاص، وسنحاول تسطير رؤيتنا الخاصة حول الموضوع نفسه، زاعمين الظن أن السياقات القرآنية (كما نفهمها) تؤيد ما سنذهب إليه من أفهام مفتراة من عند أنفسنا، طارحين تساؤلاتنا حول السياقات القرآنية التي تبرز إبراهيم متفكرا في الفلك من حوله، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله، فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو العليم الحكيم – آمين.

تساؤلات

- لماذا اهتم إبراهيم بالكواكب والشمس والقمر؟

- لماذا ظن إبراهيم بداية أن ربه هو ذلك الكوكب؟

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76)

- ما هو ذلك الكوكب الذي رءاه إبراهيم؟

- ألا يوجد في السماء كواكب كثيرة غيره؟

- كيف لا، ويوسف قد رأى أحد عشر كوكبا؟

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)


- كيف لا، والله قد زين السماء الدنيا بزينة الكواكب؟

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)

- متى رأى إبراهيم ذلك الكوكب على وجه التحديد؟

- كيف علم إبراهيم أن ذلك الكوكب قد أفل؟

- وكيف كانت طريقة أفوله؟

افتراء خطير: نحن نظن أن لذلك كله علاقة بتلك الزيتونة التي لا شرقية ولا غربية:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

- لماذا انتقل إبراهيم بعد ذلك مباشرة إلى القمر؟

- كيف رءاه؟

- متى رءاه؟

- كيف أفل؟

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)

- لماذا انتقل بعد ذلك إلى الشمس؟

- متى رأى إبراهيم الشمس بازغة؟

- كيف رءاها بازغة؟

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78)

- لماذا توقف إبراهيم عند هذا الحد؟

- لِم لم يتوقف عن اثنتين فقط؟

- لم لم ينتقل إلى كينونة رابعة ليتفقدها كما فعل مع ذاك الكوكب والشمس والقمر؟

- السؤال: لماذا ثلاثة (كوكب، الشمس، القمر) فقط؟

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

- كيف وجّه إبراهيم بعد ذلك وجهه مباشرة للذي فطر السموات والأرض حنيفا؟

- ما علاقة هذا بهجرة إبراهيم (وذهابه) إلى ربه؟

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)


- الخ

إبراهيم: باب الطفولة


لعلنا بحاجة للخوض في قصة حياة هذا النبي الكريم منذ بدايتها، محاولين التعرف أكثر على تفاصيل حياته في محطاتها المختلفة، مبتدئين النقاش من طفولة هذا النبي الكريم، طارحين التساؤلات التالية:

- من هو إبراهيم هذا؟

- لماذا سُمي بإبراهيم؟

- من هو أبوه؟

- من هي أمه؟

- من هم قومه؟

- متى عاش هذا النبي الكريم؟

- ما سر اهتمامه بربه؟

- كيف بدأ رحلته بالبحث عن ربه؟

- الخ.

دعنا نحاول الإجابة على هذه التساؤلات متسلحين بالآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن سيرة حياة هذا النبي الكريم، منطلقين من المعضلة التالية: إبراهيم يتبرأ من أبيه وفي الوقت ذاته يستغفر لوالديه، كما نستنبط ذلك من التضارب الظاهري في السياقيين القرآنيين التاليين:

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)


السؤال المربك: كيف بإبراهيم يتبرأ من أبيه (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وفي الوقت ذاته نجده يستغفر الله لوالديه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ

النقاش

نجد أولا أن إبراهيم قد تبرأ من أبيه الذي كان يتخذ الأصنام آلهة:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74)

وحصل أن تبرأ إبراهيم منه بعد أن تبين له أنه عدو لله:

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

ولو تفقدنا معنى عبارة "فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ"، لوجدنا (نحن نفتري القول) بأن مصدر التبيان كان إلهيا، فالله هو من بيّن لإبراهيم أن أباه هذا عدو لله. وليس أدل على ذلك – برأينا- مما حصل مع الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية على عروشها، فما حصل له التبيان إلا من مصدر إلهي:

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

نتيجة مهمة جدا: يسلم إبراهيم وجهه لله، يهديه الله إلى صراط مستقيم، يحاول إبراهيم ثني أبيه آزر عن اتخاذ الأصنام آلهة، فلم يفلح، يعد إبراهيم أباه بالاستغفار له، يتبين لإبراهيم (من مصدر إلهي) بأن أباه هذا عدو لله، فيتبرأ إبراهيم منه، أليس كذلك؟

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

إن صح منطقنا المفترى هذا، فإننا نجد أنفسنا في معضلة كبيرة (أي ورطة) مع السياق القرآني التالية:

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)


المعضلة: هنا نجد أن إبراهيم يخاطب ربه على الكبر بعد أن وهب له إسماعيل وإسحاق (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ)، فيطلب من الله أن يجعله من مقيم الصلاة ومن ذريته (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي)، فيطلب المغفرة في الوقت ذاته لوالديه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ).

السؤال المربك جدا: كيف بإبراهيم في هذا العمر (أي على الكبر) حيث تبين له – لا شك عندنا- من ذي قبل أن أباه عدو لله، فيتبرأ منه، وهو الآن يطلب المغفرة لوالديه؟ وبكلمات أخرى نحن نسأل: ألم يتبرأ إبراهيم من أبيه هذا من ذي قبل بعد أن تبين له أنه عدو لله؟ فلم إذن يعود على الكبر ليطلب المغفرة لوالديه؟ّ!

السؤال مرة أخرى: نحن نظن أن إبراهيم قد تبرأ من أبيه الذي تبين له أنه عدو لله في وقت مبكر من حياته، ونحن نؤمن أن إبراهيم قد هجر أباه مليّا كما طلب هو بنفسه من إبراهيم:

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)

ونحن نؤمن أنه قد تبين لإبراهيم بعد ذلك مباشرة أن أباه هذا عدو لله، فلم بعد هذا كله (نحن نسأل) يعود إبراهيم على الكبر ليطلب المغفرة لوالديه؟

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)


رأينا المفترى: للخروج من هذا التضارب الظاهري، نجد لزاما علينا البحث عن هوية الأب الذي تبرأ إبراهيم منه مقابل هوية الوالد الذي طلب إبراهيم المغفرة له، مفترين الظن بأن أب إبراهيم يختلف عن والد إبراهيم.

افتراء من عند أنفسنا خطير جدا: هناك فرق بين أب إبراهيم ووالد إبراهيم. انتهى.

السؤال: أين الدليل على زعمك المفترى أن أب إبراهيم الذي تبرأ منه يختلف عن والد إبراهيم الذي طلب المغفرة له على الكبر؟ يسأل صاحبنا مستغربا.

جواب مفترى: تعرضنا لهذه الجزئية في الجزء الخامس من سلسلة مقالاتنا لماذا قدم نبي الله لوط بناته بدلا من ضيوفه؟ وفي سلسلة مقالاتنا عن قصة يوسف عندما تعرضنا لقوله تعالى:

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)


فحاولنا حينها التفريق بين مفردة أَبَوَيْهِ ومفردة وَالِدَيْهِ كما تردا في النص القرآني، فزعمنا الفهم بأن مفردة "أَبَوَيْهِ" يمكن أن تحمل المعنى بأن يكون الاثنان مذكر (أي أب وأب) وليس فقط مذكر مع مؤنث (أي أب وأم)،ولكن مفردة والديه تعني بالضرورة أن يكون أحدهما مذكر (أب) والآخر مؤنث (أم)

الدليل

عند دراستنا للسياقات القرآنية الكثيرة حول مفردتي الأبوين والوالدين، وجدنا أن الحديث عن الأب والأم معاً يرد في النص القرآني بصيغة "الوالدين"، فالأم لا محالة هي أحد الوالدين، وذلك لأن الوالد هو الذي يلد:

وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)

وانظر – إن شئت- في السياقات القرآنية العديدة التي تتحدث عن الوالدين، لترى كيف أن الأم هي طرف في هذا الحديث:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ۚ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)


فهذا يحيى يتحدث عن والديه:

يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)

وجاءت الوصيّة من الله لكل إنسان خيراً بوالديه:

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

ونهى الله الإنسان عن الإساءة إلى والديه:

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)

وغالباً ما جاء الحديث عن الأم مفصلاً عند الحديث عن الوالدين:

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)


فالأم هي والدة:

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

لذا جاء حديث عيسى بن مريم عن والدته:

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)

والأب هو كذلك والد:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)

لتكون النتيجة المفتراة الآن هي: الوالد هو الذي يلد

السؤال: هل بالضرورة أن يكون الأب هو الذي يلد؟

رأينا: كلا. فالأب ليس بالضرورة أن يكون الوالد المباشر الذي يلد، بدليل أننا كلنا ننتمي لآدم وزوجه على أساس أنهما أبوينا وليس والدينا:

يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)

فنحن من ذرية آدم وزوجه لأنهم لم يلدونا مباشرة، فهم إذن أبوينا (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ). ولو جئنا مباشرة من آدم وزوجه لأصبحا (نحن نفتري القول) والدينا.

الدليل

هذا يعقوب يقول ليوسف بملء فيه من هم أبويه:

وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

فيعقوب إذاً يثبت ليوسف بأن إبراهيم وإسحق هما أبويه (وليس والديه)، أليس كذلك؟

نتيجة مفتراة: انظر خط السلالة هذه
إبراهيم (أب) ← إسحق (أب) ← يعقوب  ← يوسف


... كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ...

السؤال: ما علاقتهم جميعا بيوسف؟

افتراء (1): إبراهيم هو أب ليوسف لأنه لم يلده مباشرة

افتراء (2): إسحق هو أب ليوسف لأنه لم يلده مباشرة

... كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ...

افتراء (3): يعقوب هو والد يوسف لأنه هو من ولده مباشرة

نتيجة مفتراة خطيرة جدا: نحن نفتري القول بأن الأبوين هما (بمصطلحات قومنا الدارجة) الوالدان غير المباشران.

وربما الملفت للانتباه أكثر هو أن الأمر لا يتوقف عن الجد ووالده (كإسحاق وإبراهيم)، ولكن يشمل ذلك أيضا العم كإسماعيل. وانظر – إن شئت- كيف يخاطب يعقوب نفسه جميع أبنائه، وكيف يأتي الرد من الأبناء على سؤال أبيهم:

أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

لتكون الصورة بالنسبة ليعقوب على النحو التالي:
                                                            إبراهيم

                                       إسماعيل                               إسحق

                                                                              يعقوب


ولو تدبرنا رد الأبناء على سؤال أبيهم (قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) لربما صح لنا أن نخرج بالاستنباطات المفتراة التالية:

نتيجة مفتراة (1): إسحق هو أب يعقوب المباشر (لذا فهو والده وأبوه في نفس الوقت)

نتيجة مفتراة (2): إسماعيل هو عم يعقوب (لذا فهو أبوه لكنه ليس والده)

نتيجة مفتراة (3): إبراهيم هو جد يعقوب (لذا فهو أبوه لكنه ليس والده)

تبعات هذا الظن الخطيرة

لو تفقدنا الآية الكريمة التالية، لربما خرجنا بتشريع قد يكون غير مسبوق. دعنا نقرأ الآية أولا:

وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً (22)

إذن نحن مأمورون (بنص الآية الكريمة) أن لا ننكح ما نكح آباؤنا، أليس كذلك؟

السؤال: هل هذا النهي مقتصر على زوجة الأب المباشر (أي الوالد)؟ وماذا عن ما نكح الجد؟ أليس الجد هو أب؟ وماذا عن ما نكح العم؟ أليس العم هو أب؟! من يدري؟

ولو دققنا جيدا في النصوص القرآنية كلها، لوجدنا أن مفردة الآباء تشمل السلالة كالأب الأول (الوالد) والأب الثاني والثالث والرابع حتى تصل إلى الآباء الأقدمين:

فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200)

وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا (11)

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (43)

قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54)

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24)

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61)

قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)

اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)

إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)


السؤال: كيف يمكن أن نفهم آية الميراث التالية؟

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا (11)

السؤال المربك: إذا كان الأبوان هما الوالد والوالدة، فكيف يتساويان في حصة الميراث (وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ)؟ أليس من المفترض أن يكون للوالد ضعف ما للوالدة؟

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

من يدري؟!!!

عود على بدء

دعنا نترك أمر التشريع لأصحاب العمائم البيضاء والسوداء فهم الذين سطّروا العقائد كما أرادوها للناس اللذين آثروا على الدوام الالتزام بما سُطِّر لهم دون مسائلة أو مناقشة، لأنهم نسوا ما جاء في قوله تعالى:

كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)

لنعود إلى صلب النقاش هنا بالافتراءات التالية عن إبراهيم:

افتراء (1): كان الذي تبرأ منه إبراهيم هو أبوه، لذا فهو فليس والده (أي الأب الأول له الذي ولده) وإنما قد يكون واحد من السلالة (كأبيه الثاني أو الثالث أو حتى عمه).

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74)

ولو دققنا في النص جيدا لوجدنا أن القرآن الكريم يبرز شخصية ذلك الأب باسمه (آزَرَ)، ليكون السؤال الآن هو: لماذا ذكر القرآن الكريم اسم هذا الأب لإبراهيم؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: لما كنا نظن أن هناك أكثر من أب لإبراهيم، كان أحدهم هو آزر هذا الذي تبرأ منه.

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

افتراء (2): كان الذي استغفر لهما إبراهيم على الكبر هما والداه (أي أبوه وأمه المباشرين)، ليكون الافتراء الآخر الآن هو أن هناك والد واحد لإبراهيم هو الذي ولده، وهناك والده واحدة لإبراهيم هي التي ولدته، وهما والداه اللذان استغفر لهما على الكبر:

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: جاء إبراهيم من والدين هما أمه وأبوه المباشرين، وما أن كبر إبراهيم حتى وجد نفسه في كنف أبيه (أي والده غير المباشر)، وذلك (نحن نتخيل) لأن والديه كانا قد فارقا الحياة منذ زمن. فنشأ إبراهيم يتم الوالدين (كمثل محمد الذي نشأ أيضا يتيم الوالدين)، فعاش إبراهيم في كنف أبيه الذي رباه، كما عاش محمد في كنف أبيه (أي جده عبد المطلب بعد وفاه والده عبد الله) ومن ثم في كنف أبيه الآخر (عمه أبو طالب بعد موت جده عبد المطلب) كما تقول الروايات.

باب: إبراهيم الفتى
كان هذا الأب الذي تربى إبراهيم في كنفه (نحن لازلنا نتخيل) رجل ذو شأن في قومه، على درجة من العلم:

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)

وربما لهذا السبب انشغل إبراهيم جدا بدعوة أبيه هذا، لأن في استجابة هذا الرجل لدعوة إبراهيم (لا شك عندنا) تأثير عظيم في القوم. فما نجحت دعوة إبراهيم في ثني والده هذا عن عبادة ما كان يعبد آباؤه من قبل:

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)

فما كان من إبراهيم إلا أن يرد عليه قائلا:

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)

ومنذ تلك اللحظة آثر إبراهيم أن يعتزل القوم:

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)

وكان القوم على عادة عبادة من هم من دون الله، وتمثلت في عبادتهم الأصنام:

قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)

فكان رد إبراهيم على إفكهم على النحو التالي:

أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)

قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54)

فاستغرب القوم من كلام إبراهيم هذا،

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)

فرد عليهم إبراهيم قائلا:

قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56)

فما وجد إبراهيم القبول عندهم، وهناك بالضبط توعد آلهتهم بالكيد:

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

فقام إبراهيم بتجذيد تلك الأصنام في لحظة غياب القوم عنها:

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

وما أن عاد القوم ووجدوا ما فُعِل بأصنامهم حتى كان استفسارهم الأول عن هوية من فعل هذا بآلهتهم:

قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)

فجاء الرد من البعض بأن من فعل هذا هو فتى يقال له إبراهيم:

قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)

فأُحضر إبراهيم على الفور لتلقي العقاب،على مرأى ومسمع من الحضور:

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)

وحصلت المواجهة الكلامية بين الطرفين على النحو التالي:

القوم:       قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)

إبراهيم:   قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)

وهنا وجد القوم أنفسهم في حرج لأن إبراهيم قد أقام عليهم الحجة:

فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64)

لكن حصلت النكسة لهم بعد ذلك مباشرة:

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (65)

فكانت ردة فعل إبراهيم على النحو التالي:

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)

وهنا اُتخذ القرار بإيقاع عقوبة التحريق بإبراهيم:

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68)

(للتفصيل انظر مقالاتنا السابقة)

السؤال: لماذا سنحت الفرصة لإبراهيم للتنكيل بأصنام القوم في غيابهم؟

جواب مفترى: لأن إبراهيم كان فتى يعمل في ذلك المعبد مع أبيه آزر (المسئول الأول عن المعبد)

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نشأ إبراهيم بعد ولادته يتم الوالدين، فتربى في كنف والده (أي أبيه غير المباشر). وكان هذا الأب يتخذ أصناما لا تسمع ولا تعقل آلهة من دون الله، وفي الوقت ذاته كان يعبد الشيطان. وكان هذا الأب (آزر) هو المسئول الأول المباشر عن المعبد، ولما كان إبراهيم فتى، كان يقوم هو أيضا (ربما بتكليف من والده آزر) هذا على خدمة المعبد. فنشأ إبراهيم في هذه البيئة المشحونة إيمانيا، المنحرفة عقائديا، ولما كان هذا الفتى ذو قلب سليم:

وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)

لم يتقبل ما كان يعبد قومه من دون الله (ربما كما فعل محمد عندما وجد قومه يتخذون أصناما آلهة من دون الله)، فبدأ يتشكك بما يفعله القوم:

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)

التساؤلات:

- ماذا كانت عقيدة القوم؟

- لماذا شكك إبراهيم بعقيدة قومه؟

- كيف نظر إبراهيم نظرة في النجوم؟

- ولماذا نظر نظرة في النجوم؟

- وماذا كانت تبعات تلك النظرة؟

- الخ.

افتراء خطير جدا جدا: نحن نظن أن عقيدة القوم كانت قائمة على مبدأ ثلاثية الآلهة

الدليل

نحن نظن أنه يمكن جلب الدليل الذي يدعم افتراءنا هذا بطرح التساؤلات القديمة الجديدة التالية:

- لماذا اتخذ إبراهيم كوكبا إلها ثم اتخذ القمر إلها ثم اتخذ الشمس إلها؟

- لم لم يكتفي إبراهيم بواحدة أو باثنتين؟

- لم لم يتخذ شيئا رابعا إلها؟

- لم توقف عند هؤلاء الثلاثة فقط؟

- ولماذا هذه الثلاثة على وجه التحديد؟

- الخ

تفنيد الفكر السائد

لعل الغالبية من الناس (خاصتهم وعامتهم) يفهمون السياق القرآني الذي يتحدث عن اتخاذ إبراهيم هذه الكينونات آلهة من باب بحث إبراهيم عن ربه الحقيقي، لكنهم لا يتجاوزن ذلك في تفكيرهم، فلا يطرحون تساؤلاتنا السابقة عن هذه الكينونات الثلاثة على وجه التحديد من حيث العدد والطبيعة. فلا نجد فيما سطرته أقلامهم سببا عن تفكر إبراهيم بهذه الكينونات بالذات، أو سببا عن عدم تفكر إبراهيم في غيرها، ربما ظانين أن ذلك يقع في باب المصادفة.

وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- فيما سطرته أقلام أهل الرواية عما تنقلوه عن أهل الدراية في بطون واحدة من أمهات كتب التفسير (تفسير القرطبي) عن تفسيرهم هذه الحادثة القرآنية الخاصة بإبراهيم:

فلما جن عليه الليل
أي ستره بظلمته , ومنه الجنة والجنة والجنة والجنين والمجن والجن كله بمعنى الستر . وجنان الليل ادلهمامه وستره . قال الشاعر : ولولا جنان الليل أدرك ركضنا بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب ويقال : جنون الليل أيضا . ويقال : جنه الليل وأجنه الليل لغتان .
رأى كوكبا
هذه قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه . فقيل : رأى ذلك من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب . وقيل : لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس فرأى الإبل والخيل والغنم فقال : لا بد لها من رب . ورأى المشتري أو الزهرة ثم القمر ثم الشمس , وكان هذا في آخر الشهر . قال محمد بن إسحاق : وكان ابن خمس عشرة سنة . وقيل : ابن سبع سنين . وقيل : لما حاج نمروذا كان ابن سبع عشرة سنة .
قال هذا ربي
اختلف في معناه على أقوال ; فقيل : كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة ; وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان . فاستدل قائلو هذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : " فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي " فعبده حتى غاب عنه , وكذلك الشمس والقمر ; فلما تم نظره قال : " إني بريء مما تشركون " [ الأنعام : 78 ] . واستدل بالأفول ; لأنه أظهر الآيات على الحدوث . وقال قوم : هذا لا يصح ; وقالوا : غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف , ومن كل معبود سواه بريء . قالوا : وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل , وأراه ملكوته ليكون من الموقنين , ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة , بل عرف الرب أول النظر . قال الزجاج : هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قاله ; وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال : " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " [ إبراهيم : 35 ] وقال جل وعز : " إذ جاء ربه بقلب سليم " [ الصافات : 84 ] أي لم يشرك به قط . قال : والجواب عندي أنه قال " هذا ربي " على قولكم ; لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر ; ونظير هذا قوله تعالى : " أين شركائي " [ النحل : 27 ] وهو جل وعلا واحد لا شريك له . والمعنى : أين شركائي على قولكم . وقيل : لما خرج إبراهيم من السرب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه ; فظن أنه ضوءه قال : " هذا ربي " أي بأنه يتراءى لي نوره .
فلما أفل قال لا أحب الآفلين
علم أنه ليس بربه . " فلما رأى القمر بازغا " [ الأنعام : 77 ] ونظر إلى ضوئه " قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " [ الأنعام : 77 ] . فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي " [ الأنعام : 78 ] وليس هذا شركا . إنما نسب ذلك الضوء إلى ربه فلما رآه زائلا دله العلم على أنه غير مستحق لذلك ; فنفاه بقلبه وعلم أنه مربوب وليس برب . وقيل : إنما قال " هذا ربي " لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم ; فلما أفل النجم قرر الحجة وقال : ما تغير لا يجوز أن يكون ربا . وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها . وقال النحاس : ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل : " نور على نور " [ النور : 35 ] قال : كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه , فإذا عرفه ازداد نورا على نور ; وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله , فعلم أن له ربا وخالقا . فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال : " أتحاجوني في الله وقد هدان " [ الأنعام : 80 ] . وقيل : هو على معنى الاستفهام والتوبيخ , منكرا لفعلهم . والمعنى : أهذا ربي , أومثل هذا يكون ربا ؟ فحذف الهمزة . وفي التنزيل " أفإن مت فهم الخالدون " [ الأنبياء : 34 ] أي أفهم الخالدون . وقال الهذلي : رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم آخر : لعمرك ما أدري وإن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمان وقيل : المعنى هذا ربي على زعمكم ; كما قال تعالى : " أين شركائي الذين كنتم تزعمون " [ القصص : 74 ] . وقال : " ذق إنك أنت العزيز الكريم " [ الدخان : 49 ] أي عند نفسك . وقيل : المعنى أي وأنتم تقولون هذا ربي ; فأضمر القول , وإضماره في القرآن كثير . وقيل : المعنى في هذا ربي ; أي هذا دليل على ربي

أما نحن، لمّا كنا نؤمن يقينا بأنّ كل شيء في كتاب الله مقصود لذاته، ويجب أن يكون مبررا، كان لزاما علينا أن نطرح التساؤلات السابقة، وكل تساؤل آخر له علاقة بالقضية قيد النقاش، لذا نحن نرفض الفكر السائد عن الموضوع جملة واحدة، ونحاول تسطير رأينا المخالف في الفقرات التالية، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدا، وأن يهدينا لأقرب من هذا رشدا وأن يزدنا علما، إنه هو الواسع العليم – آمين.

أما بعد،

نحن نؤمن أن إبراهيم كان حنيفا، أليس كذلك؟

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

السؤال: ما معنى أن يكون إبراهيم حنيفا؟

رأينا المفترى والخطير جدا: نحن نظن أن من كان حنيفا هو المقابل المعاكس لمن كان من المشركين، لتكون النتيجة التي نحاول افتراءها هي أن إبراهيم كان حنيفا ولم يكن من المشركين. ولو تفقدنا السياقات القرآنية الخاصة بإبراهيم بهذه الجزئية لوجدناها جميعا تنفي عن إبراهيم الشرك، قال تعالى:

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)


السؤال: لماذا نفت هذه السياقات القرآنية الشرك عن إبراهيم؟

جواب: لأن قومه كانوا مشركين. وانظر عزيزي القارئ في السياق القرآني الذي يصور محاججة قومه له:

وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81)

نتيجة مفتراة مهمة جدا: كان قوم إبراهيم يعبدون الله لكنهم كانوا يشركون به من هو دونه (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا). فانقسموا إلى فريقين:

1. إبراهيم لا يشرك بالله أحدا من دونه

2. قومه يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا، وهذا هو الشرك الذي ثار إبراهيم عليه.

السؤال: لكن أي نوع من الشرك ثار إبراهيم عليه؟

رأينا: الشرك الذي كان يمارسه قومه، وهو عبادة من هم من دون الله:

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)

فهم قد اتخذوا من دون الله آلهة:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74)

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48)


السؤال: أي نوع من الأصنام كانوا يعبدون؟ وما هي الآلهة التي اتخذوها من دون الله؟

رأينا المفترى: لو تفقدنا السياقات القرآنية السابقة مرة أخرى، لوجدنا على الفور أن من كان حنيفا هو من لم يتخذ من دون الله آلهة، على عكس ما فعل أهل الكتاب. فملة إبراهيم هي الملة المقابلة المعاكسة لما فعل اليهود والنصارى اللذين كانوا مشركين:

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نفتري القول إذن أن اليهود والنصارى لم يكونوا على حنفية إبراهيم لأنهم اتخذوا آلهة من دون الله، فكانوا مشركين.

السؤال: من الآلهة التي اتخذها اليهود والنصارى حتى انتفت عنهم صفة الحنفية:

جواب مفترى:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

لو تفقدنا هذا السياق القرآني جيدا، لخرجنا بالاستنباطات التالية المفتراة من عند أنفسنا:

- قالت اليهود عزيرا ابن الله، فلم يكونوا على الحنفية

- قالت النصارى المسيح ابن الله، فلم يكونوا على الحنفية

- اتخذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله

- كان في سلوكهم هذا مضاهاة لقول الذين كفروا من قبلهم

- الخ

السؤال: من هم اللذين كفروا من قبل اليهود والنصارى وكانت عقيدتهم كذلك؟ أو بكلمات أخرى نحن نسأل: من اللذين كانت اليهود والنصارى تضاهيهم في القول؟

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

رأينا المفترى (1): نحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن اللذين كفروا من قبل اليهود والنصارى وكانوا على عادة اتخاذ إلهة من دون الله هم قوم إبراهيم.

رأينا المفترى (2): ونحن نفتري الظن أيضا أن قوم إبراهيم كانوا على عقيدة مفادها ثلاثية الآلهة كما فعل النصارى:

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (171)

رأينا المفترى (2) ونحن ننفي أن تكون عقيدة قوم إبراهيم مبنية على عقيدة أن الآلهة اثنين كما فعلت اليهود اللذين اتخذوا عزيرا إلها من دون الله:

وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)

تلخيص ما سبق:

- اتخذ اليهود عزيرا ابن الله، فكانت عقيدتهم مبنية على أساس إلهين اثنين

- اتخذت النصارى المسيح ابن الله، وزادوا إليه الروح، فكانت عقيدتهم مبنية على مبدأ التثليت

- كان في تصرف اليهود والنصارى هذا باتخاذ آلهة من دون الله مضاهاة لقول اللذين كفروا من قبل

- كانت الأمة التي نشأ بها إبراهيم يتخذون آلهة من دون الله

- كانت عقيدتهم مبنية على مبدأ التثليث (الشمس والقمر وكوكب).

- ثار إبراهيم على عقيدة الشرك هذه، فكان حنيفا

- الخ

الدليل

السؤال: أين الدليل أن عقيدة قوم إبراهيم كانت تشبه عقيدة النصارى القائمة على مبدأ أن الآلهة ثلاثة؟

جواب مفترى: نحن نظن أن الدليل واضح في أن إبراهيم قد اتخذ آلهة ثلاثة قبل أن يوجه وجهه لله حنيفا، وهي كوكبا والشمس والقمر.

السؤال: لكن هل هذا يعني وجود تقاطع كبير بين عقيدة قوم إبراهيم والنصرانية؟

جواب مفترى: نحن نستطيع أن نجلب عدة تقاطعات من شأنها أن تثبت أوجه الشبه بين عقيدة النصارى القائمة على مبدأ ثلاثية الإله مع عقيدة قوم إبراهيم التي رفضها إبراهيم جملة وتفصيلا وآثر أن يوجه وجهه لله حنيفا، فلم يكن من المشركين.

أولا، باب الرجم

(ملحوظة: نحن نظن أنه يجب قراءة الفقرات التالية بعد الرجوع إلى مقالتنا كيف تم خلق عيسى بن مريم؟)

لو تفقدنا ما قاله الأب لإبراهيم لوجدنا أنه يتوعده بالرجم:

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)

ولو عدنا إلى قصة أصحاب الكهف والرقيم (وهم من افترينا سابقا أنهم حواريو المسيح عيسى بن مريم)، لوجدنا أن الرجم كان يمكن أن يكون مصيرهم لو اطلع القوم عليهم:

إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)

السؤال: لماذا كان الرجم هو العقاب المترقب في الحالتين: حالة إبراهيم وحالة الفتية أصحاب الكهف والرقيم؟

جواب: لأن الهدف من الرجم هو حبس الذي يدعو بكلمة التوحيد حتى يعود إلى الإشراك، فيعبد من هم من دون الله كما فعل قوم الفتية أصحاب الكهف:

هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)

فقوم الفتية (هَؤُلَاء قَوْمُنَا) قد اتخذوا من دون الله آلهة (اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً)، فكانوا ظالمين لأنهم ممن افترى على الله كذبا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، وهؤلاء قوم إبراهيم – بالمقابل- يتخذون من دون الله آلهة، فكان ذلك إفكهم:

أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)

ثانيا، لو تفقدنا السياقات الخاصة بإبراهيم من جهة والفتية أصحاب الكهف والرقيم، لوجدنا أن الطرفين قاموا باعتزال قومهم، وكان ذلك بسبب أن قومهم اتخذوا آلهة من دون الله. فهذا إبراهيم يعتزل قومه:

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)

وكذلك فعل الفتية أصحاب الكهف، فقد اعتزلوا قومهم أيضا كما اعتزل إبراهيم قومه من ذي قبل:

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)

السؤال: لماذا كان الاعتزال هو التصرف الذي قام به الطرفان؟

رأينا: أولا، نحن نظن أن الاعتزال لا يكون إلا لضرورة شرعية كاعتزال النساء في المحيض:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

ثانيا، نحن نظن أن الهدف من الاعتزال هو فصل الطهارة عن الأذى كما في حالة المحيض. فاعتزال النساء يتم حتى تحصل الطهارة، فلا يختلط ما هو طاهر بما هو أذى.

ثالثا، نحن نظن أن الاعتزال يحصل لتعذر المواجهة المباشرة كما في حالة القتال

إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)

رابعا، نحن نظن أن عدم حصول المواجهة يكون مدفوعا بوجود طرفين غير متكافئين في القوة، فهناك طرف ضعيف وآخر قوي.

خامسا، نحن نظن أنه في حالة عدم الاعتزال، سيتمكن الطرف القوي من رجم الطرف الضعيف:

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)

نتيجة مفتراة: لما يكون هناك مواجهة بين طرفين، احدهما قوي (وعادة ما يكون هو الطرف المؤذي) والآخر ضعيف (وعادة ما يكون هو الطرف الطاهر)، يتوجب على الطرف الضعيف الطاهر أن يعتزل الطرف القوي ليتجنب الأذى الذي قد يلحقه به هذا الطرف القوي. وبخلاف ذلك، يكون الرجم هو البديل إذا لم يقم الطرف الضعيف باعتزال الطرف القوي.

نتيجة مفتراة: كان اعتزال إبراهيم قومه، واعتزال الفتية أصحاب الكهف والرقيم مدفوعا بعدم الحاجة للمواجهة المباشرة بين الطرفين حتى لا يتسبب الطرف القوي (القوم) إيقاع الأذى بالطرف الضعيف (الفتية). لذا لم يكن الفتية (إبراهيم وأصحاب الكهف) ليقربوا قومهم ما لم يتطهر القوم من الشرك (أذى الشيطان) تماما كما تتطهر المرأة من المحيض.

ثالثا، نحن نجد التقاطع أيضا بين إبراهيم من جهة وأصحاب الكهف من جهة أخرى في أن جميعهم كانوا فتية، فإبراهيم كان فتى:

قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)

وأصحاب الكهف كانوا جميعا فتية آمنوا بربهم، وزادهم الله هدى:

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)

بالضبط كما حصل لإبراهيم من ذي قبل:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121)

تلخيص ما سبق: نحن نتخيل سيرة حياة إبراهيم في شبابه ويكأنها تشبه في تفاصيلها قصة الفتية أصحاب الكهف والرقيم. فهم من ثاروا على قومهم اللذين اتخذوا من دون الله آلهة، وكذلك فعل إبراهيم. وهم اللذين اعتزلوا قومهم لهذا السبب، وكذلك فعل إبراهيم، وهم اللذين كان من الممكن أن يرجموا لو أن القوم ظهروا عليهم، وكذلك كان من الممكن أن تكون نهاية إبراهيم. الخ.

نتيجة مفتراة خطيرة جدا: لقد كان إبراهيم (نحن لازلنا نتخيل) أول من ثار على عقيدة اتخاذ آلهة من دون الله.

تخيلات مفتراة ربما غير مسبوقة عن قصة إبراهيم: كان قوم إبراهيم على عقيدة عبادة من هم من دون الله آلهة، فكانوا مشركين، وكانت عقيدتهم مبنية على مبدأ أن الإله ثلاثة (الشمس والقمر وكوكب). نشأ إبراهيم في تلك البيئة المنحرفة عقائديا. لكن لما كان إبراهيم ذو قلب سليم، حاول البحث عن الحقيقة، لذا أخذ يتفقد ما يعبده قومه شيئا فشيئا، فتفقد الآلهة الثلاثة التي يعبدها قومه من دون الله الواحد تلو الآخر، فبدا بالإله الأصغر، ألا وهو ذاك الكوكب:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76)

ثم انتقل إلى الإله الذي يليه وهو القمر:

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)

ثم انتهى إلى الإله الأكبر:

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78)

وفي نهاية تلك المحطة بالذات، بان لإبراهيم أن هذه ليست آلهة تستحق العبادة من دون الله، لذا تبرأ إبراهيم من شرك قومه أجمعين (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ).

تقاطعات بين يوسف وإبراهيم: كوكب الشمس والقمر

لو تفقدنا السياقات القرآنية الخاصة بإبراهيم لوجدنا أن هذه الكينونات الثلاثة هي التي نبذها إبراهيم كآلهة من دون الله:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78)

ولو رجعنا إلى تفاصيل قصة يوسف، لوجدنا أن هذه الكينونات كانت حاضرة في رؤياه التي قصها على والده منذ طفولته:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)

السؤال: لماذا نجد هذه الكينونات حاضرة في الموقفين؟

هذا ما سنتابع النقاش حوله في المرة القادمة، فالله وحده أسأل أن يأذن لي الإحاطة بشيء من علمه فيها لا ينبغي لغيري، إنه هو العليم الحكيم، وأدعوه وحده أن يكشف الوقر من أذني والأكّنة عن قلبي والغشاوة عن بصري، فأكون أول من يرى آياته فيعرفها، فأكون من الموقنين، وأسأله وحده أن يعلمني الحق الذي أقوله فلا أفتري عليه الكذب، إنه هو السميع المجيب- آمين


المدّكرون: رشيد سليم الجراح     &     علي محمود سالم الشرمان


بقلم د. رشيد الجراح

2 أيلول 2015