قصة يونس - الجزء التاسع عشر







قصة يونس – الجزء التاسع عشر

 قال تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) 

قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (58)  

أما بعد،

تحدثنا في الجزء السابق من هذه المقالة عن شخصية فرعون الذي جاءه موسى وهارونُ بالرسالة الدنيوية على النحو التالي:

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)

وكانت رسالتهما الدينية إلى فرعون على النحو التالي:

إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)

وافترينا الظن بأن فرعون كان في هذه اللحظة لازال أميل إلى الظن (ربما لدرجة اليقين) أنه هو الإله الأوحد، فعِلْمه بالأمر حتى الساعة هو أنه هو الإله الأوحد كما عبر عن ذلك لمن حوله من ملئه:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

افتراء من عند أنفسنا: نحن نعتقد بأن علم فرعون حتى الساعة لازال يقع في باب ظنه أنه هو الإله الأوحد، لكن فرعون (كما أسلفنا بالجزء السابق) لم يقل ذلك من باب الحقيقة المطلقة وإلا لجاء قوله مستخدما فيه إنّ:
   إني أنا ربكم الأعلى

ولكن لمّا كان ذلك ليس أكثر من رأيه الخاص الذي لا يقع في باب إثبات الحقيقة المطلقة جاء كلامه على النحو التالي:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)

(للتفصيل انظر الجزء السابق)

لذا كان أول سؤال توجه به فرعون إلى موسى وأخيه هارون هو السؤال التالي:

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)

وقد جاء ردهما على هذا السؤال (على ما أظن) على لسان موسى على النحو التالي:

قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)

وعندها عزّر فرعون سؤاله الأول بسؤال آخر هو:

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)

عندها ما كان من موسى إلا أن ينسب العلم بها إلى ربه، ربما لقصر علمه في تلك الساعة بتلك القرون الأولى:

قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (54)

ليتفوق فرعون (نحن نتخيل) بما عنده من علم تلك القرون الأولى على موسى وأخيه هارون معا.

وحتى يتأكد فرعون من ظنه بأن موسى من الكاذبين (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، طلب من هامان أن يبني له صرحا علّه يبلغ به الأسباب علّه يطلع إلى إله موسى:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)

وبالفعل (نحن نفتري القول) نفّذ هامان طلب فرعون في الحال، فبلغ فرعون باستخدام ذلك الصرح أسباب السموات والأرض، فاطلع من هناك إلى إله موسى، فخاب ظنه بأن موسى من الكاذبين كما قال لمن حوله من ذي قبل (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ):

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

فعاد فرعون من هناك (نحن نتخيل) يعلم أن هناك إله آخر غيره. فرجع فرعون بفكر جديد غير ذاك الذي ذهب به. فالأمر بالنسبة له قد تغير الآن، فقد أصبح على علم بوجود آلهة أخرى غيره كالإله الذي تؤمن به بنو إسرائيل. لكن هذا الظن لم يزعزع ثقة فرعون بنفسه أنه هو أيضا إله، ليصبح ظن فرعون بالنسبة لهذا الإله الذي اطلع إليه على النحو التالي: هذا الإله الذي وجده هو إله في السماء لا علاقة له بمن في الأرض، فجاء استكبار فرعون وجنوده في الأرض بغير الحق. وانظر عزيزي القارئ – إن شئت- في الآية التي تلي مباشرة آية إطلاعه على إله موسى:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)

ففرعون الآن يعلم بوجود هذا الإله إلا أنه في الوقت ذاته يظن أنه لن يرجع إلى هذا الإله الذي وجده هناك، ظانا أن إلوهية هذا الإله محصورة بالسماء، ولا علاقة له بمن في الأرض، فما ظن فرعون وجنوده من بعده بأنهم راجعون إلى هذا الإله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ).

لكن هذا النقاش يثير في ثناياه التساؤلات التالية:

- أين بُني ذلك الصرح؟

- كيف بُني ذلك الصرح؟

- كيف استخدم فرعون ذلك الصرح؟

- إلى أين وصل فرعون باستخدامه ذاك الصرح؟

- أين هي أسباب السموات والأرض التي وصل إليها فرعون باستخدامه ذلك الصرح؟

- أين وجد فرعونُ إلهَ موسى؟

- كيف وجده؟ أي ما هي الحال التي وجده فيها؟

- ما الذي راءاه فرعون هناك بأم عينه؟

- كيف عاد فرعون من هناك؟

- الخ.

السؤال الأول: أين بُني ذلك الصرح؟

جواب مفترى: في أرض مصر

لا شك عندنا أن سلطة فرعون كانت مبسوطة على أرض مصر، أليس هذا هو نداء فرعون في قومه؟

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)

ولو تفقدنا الآية الكريمة في سياقها الأوسع لوجدنا أن فرعون يعقد في السياق ذاته مقارنة بينه من جهة وبين كينونة أخرى، هو يظن أنه مهين. أنظر الآية الكريمة السابقة مرة أخرى في سياقها الأوسع:

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)

لتكون النتيجة التي نحاول التمهيد لها هنا هي التالي: كان فرعون يظن أنه إله على أرض مصر فقط. ففكرة ارتباط الإله بمكان محدد كانت – برأينا- من صلب العقيدة السائدة هناك حينئذ، ويكأن لسان حال فرعون يقول أن هذا الكون الشاسع تتقاسمه قوى عملاقة، كل منها هو إله يختلف عن إله الآخرين. ففرعون هو إله مصر، وكفى. وسنتحدث بحول الله وتوفيقه عن هذه الجزئية لاحقا إن أذن الله لنا الإحاطة بشيء من علمه.

لذا عندما طلب فرعون من هامان أن يبني له صرحا، كان الرجل – لا شك- يعلم يقينا بأن الصرح الذي سيجعله هامان لفرعون هو صرح سيبنى في أرض مصر، أليس كذلك؟

لكن مما نظن أنه يجدر ملاحظته هنا هو أن فرعون قد طلب من هامان أن يبني له صرحا بصيغة التنكير (أي صَرْحًا)، أليس كذلك؟

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)

فالمتدبر للنص القرآني على مساحته يجد أن هاتين الآيتين هما اللتان جاء بهما ذكر لذلك الصرح الذي طلب فرعون من هامان أن يجعله له. فجاء الخطاب القرآني بخصوص تلك الكينونة في كلا الآيتين بصيغة التنكير (صَرْحًا).

السؤال: ما أهمية ذلك؟

جواب مفترى: نحن نظن أن ذلك غاية في الأهمية لسبب واحد وهو الاستنباط المفترى من عند أنفسنا التالي: احتمالية وجود أكثر من صرح في أرض مصر.

فلقد طلب فرعون من هامان أن يجعل له واحدة من تلك الصروح (فَاجْعَل لِّي صَرْحًا). دقق عزيزي القارئ – إن شئت- في الآيات الكريمة الخاصة بصرح فرعون مرة أخرى

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)

السؤال: كيف يمكن أن نفهم ذلك الخطاب الذي جاء بصيغة التنكير في كلتا الآيتين الكريمتين؟

رأينا المفترى: عند تفقد السياقات القرآنية الخاصة بالصروح على مساحة النص القرآني كله لم نجد أنه قد جاء ذكر لها إلا في حالة واحدة أخرى غير حالة فرعون، ألا وهي حالة سليمان. فلقد كان لسليمان صرحا، أليس كذلك؟

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

ولكن المفارقة التي نظن أنها غاية في الأهمية هي أن المفردة قد جاءت في سياق الحديث عن سليمان بصيغة التعريف (ادْخُلِي الصَّرْحَ). فما أن جاءت تلك المرأة سليمان حتى طُلِب منها أن تدخل الصرح (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ)، الأمر الذي يدعونا إلى استنباط الافتراء الخطير جدا التالي: لم يكن يتواجد في زمن سليمان على أرض الواقع أكثر من صرح واحد هو خاص بسليمان وحده، لذا جاء طلب القوم من المرأة أن تدخل الصرح (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ)، فما ترددت المرأة أن تدخله لأنه هو – برأينا- الصرح الوحيد الموجود في المنطقة من حولها حينئذ.

نتيجة مفتراة: كان الصرح الموجود في زمن سليمان هو الصرح الوحيد المتوافر، وكان صرحا خاصا بسليمان، وكان الدخول فيه يتطلب الإذن ممن يتواجد فيه وهو سليمان، ولم يكن الجن (وهم من بنوه لسليمان) قادر على الاقتراب منه، بدليل أنهم ما علموا بموت ساكن الصرح (سليمان) إلا عندما خر:

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

نتيجة مفتراة 1: كان هناك في أرض سليمان صرحا واحدا فقط، فجاء بصيغة التعريف (الصَّرْحَ)، فلو كنت متواجدا في عصر سليمان وسألت عن الصرح لأشار كل أهل المنطقة إلى كينونة واحدة معروفة لهم جميعا، هي خاصة بسليمان فقط.

نتيجة مفتراة 2: أما في أرض مصر في زمن فرعون، فقد كان هناك (نحن نفتري الظن) أكثر من صرح واحد، وقد طلب فرعون من هامان أن يجعل له واحدة من تلك الصروح علّه يبلغ من خلاله أسباب السموات والأرض فيطلع إلى إله موسى:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

وربما تتقاطع قصة الصرح الخاص بسليمان مع صروح فرعون في جزئية أخرى لا يشاركهما فيه غيرهم وهو وجود العذاب المهين. فلقد استخدم سليمان الصرح حتى كانت الجن واقعة في العذاب المهين من قبل صاحب الصرح وهو سليمان، لدرجة أن موته هو فقط من أخرجهم من ذلك العذاب المهين الذي كانوا يذقونه على يد سليمان:

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

ولو تدبرنا ما كان واقعا ببني إسرائيل في أرض مصر حيث الصروح مشيدة فيها زمن هذا الفرعون، لوجدنا النتيجة ذاتها، ألا وهي العذاب المهين:

وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: ذاق بنو إسرائيل العذاب المهين في أرض مصر بسبب وجود تلك الصروح التي كان يسكنها فرعون وآله.

السؤال: كيف يمكن أن نتخيل أرض مصر إذن في تلك الحقبة الزمنية؟

تخيلات مفتراة من عند أنفسنا: نحن نتخيل أرض مصر في تلك الفترة الزمنية وقد ملئت سماؤها بالصروح التي يشبه كل واحد منها صرح سليمان، وهو الذي حسبته المرأة (عندما رأته لأول مرة) لجّة:

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

لذا، وجب علينا أن نعود مرة أخرى إلى قصة تلك المرأة مع سليمان لنتعرف (حسب فهمنا المفترى للقصة) على ماهية ذلك الصرح الذي كان يسكنه سليمان، ثم نعود من هناك ببعض التصورات التي ربما تسعفنا في فهم الصروح الكثيرة التي كانت متواجدة في أرض مصر زمن فرعون.

باب صرح سليمان مقابل صروح فرعون

لم تكن تلك المرأة التي جاءت سليمان قد خبرت الصروح من قبل، لأنها ما أن رأت الصرح الذي طلب منها أن تدخله حتى حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، أليس كذلك؟

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

وقد أثرنا في مقالاتنا عن قصة سليمان تحت عنوان مادلهم على موته إلاّ دابة الأرض تأكل منسأته في بابي الساق والصرح السؤال التالي: لماذا كشفت المرأة عن ساقيها عندما رأت الصرح؟

وافترينا الظن من عند أنفسنا حينها أن سبب كشف المرأة عن ساقيها كان بداعي السجود كما فهمنا ذلك (ربما مخطئين) من الآية الكريمة التالية:

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)

وافترينا الظن بوجود علاقة متينة بين الكشف عن الساق من جهة والسجود من جهة أخرى، لأن من أراد أن يسجد فلابد له – برأينا- من أن يكشف عن ساقه، ربما ليستكشف المنطقة (على الأرض) التي سينزل عليها بساقيه، كما في الشكل التوضيحي التالي:




فكان ظننا هو أن تلك المرأة قد كشفت عن ساقيها لأنها همّت بفعل السجود عندما رأت الصرح وحسبته لجّة. ولكن عندما رأى سليمان أنها قامت فعلاً بفعل الكشف عن ساقيها لتهم بالسجود للصرح (وهي التي كانت وقومها يسجدون للشمس من ذي قبل كما جاء على لسان الهدهد الذي نقل خبرها لسليمان):

إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

ما كان منه إلا أن منعها من فعل ذلك على الفور، فصحّح لها خطأ ظنها عندما أخبرها بأن ذلك الصرح ليس لجة وإنما هو فقط صرح ممرد من قوارير:

قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِير

ولمّا علمت تلك المرأة أن ذلك الصرح ليس لجة، وأنه ليس بأكثر من صرح ممرد من قوارير، أدركت بنفسها على الفور الظلم الذي ارتكبته بحق نفسها (وربما بما ألحقت به قومها من الأذى عندما كانت تقودهم في السجود للشمس):

قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ...

لأننا نظن أن من يسجد لمثل هذه الكينونات بغض النظر عن ماهيتها فهو بلا شك ظالم لنفسه:

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)

ومادام أن المرأة كانت ستسجد لغير الله فهي بلا شك كانت ظالمة لنفسها، وعندما أدركت خطأ فعلتها، وأدركت أنه لا يجوز السجود لتلك الكينونات مهما كانت، فتلك الكينونات سواء كانت شمسا أم قمرا (أم صرحا يشبه الشمس والقمر في طلته) ليست أكثر من مخلوقات لها خالق، وعندما أدركت المرأة أن السجود لا يكون إلا لرب سليمان وليس للشمس ولا للقمر ولا للصرح، عندها فقط اهتدت المرأة وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين، فتابعت حديثها قائلة:

... وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان مادلهم عن موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته: باب الساق)

إن ما يهمنا في إعادة الطرح السابق هنا مرة أخرى هو التعرف على الصرح الذي حسبته المرأة لجة وكشفت المرأة عن ساقيها بمجرد رؤيته، لنطرح التساؤلات السابقة نفسها مرة أخرى :

- ما هو الصرح؟

- ولماذا حسبته المرأة لجة؟   

بداية، لقد افترينا الظن بأن الصّرح هو بناء مرتفع جداً عن الأرض، بدليل أن الصرح هو ما كان سيمكّن فرعون من بلوغ أسباب السموات والأرض:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)

ففرعون يطلب من هامان أن يبني له صرحاً، ولا شك أن هدف فرعون كان بلوغ أسباب السماوات والأرض، ليطلع إلى إله موسى، فلا أظن أن فرعون كان يقصد أن يُبنى له بناءً متواضع العلو، فالغاية عظيمة وهي الاطلاع إلى إله موسى، لذا لابد أن يفيد البناء المنشود (الصرح) في تنفيذ الغاية المنوي تحقيقها من خلاله، أليس كذلك؟

ثانيا، لقد افترينا الظن أيضاً بأن بناء الصرح يكون بطريقة غاية في الغرابة، وليس أدل على غرابته من أن المرأة التي جاءت سليمان قد حسبته لجة:

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

ولو دققنا فيما قاله فرعون لهامان عندما طلب له أن يبني له ذلك الصرح لوجدنا غرابة البناء واضحة تماما، وذلك بأن يتم الوقد على الطين أولاً ليتحقق البناء بعد ذلك، ففرعون يطلب من هامان أن يوقد له على الطين أولاً، ليكون الصرح بناءً فوق ذلك:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن أن بناء الصرح يتطلب أولاً أن يوقد له على الطين، كأن يكون الصرح موقداً تحته، لذا فإن له وهجاً وربما ضوءاً ينبعث من تحته نتيجة ما تم من وقود تحته. وفكرة الوقود واضحة في قوله تعالى:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

فبمجرد أن يوقد المصبح الذي في زجاجة من تلك الشجرة المباركة حتى تصل الإضاءة. لذا نحن نظن أن المرأة ما أن رأت الصرح وقد أوقد له على الطين حتى حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، وكأنها قد دعيت إلى السجود كما كانت تفعل مع قومها عندما كانوا يسجدون للشمس، لذا يمكن أن نتصور الصرح ويكأنه الشمس في كبد السماء، ولكن لما كان لجة، فإنه لا شك يختلف في بعض تفاصيله عن الشمس الساطعة في كبد السماء. فكيف يمكن أن نتخيل شكل الصرح الذي كان ممرد من قوارير؟

جواب مفترة: لما حسبت المرأة أن ذلك الصرح هو لجة، أصبح لزاما علينا (نحن نفتري الظن) أن نفهم بأنه كان كينونة مضيئة في كبد السماء يحفها الظلام من كل مكان، فاللجة هو الشيء المتقد الذي تكسوه الظلمة، قال تعالى

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

لتكون النتيجة المفتراة الآن هي بأن تلك المرأة قد رأت الصرح على أنه بنيان عظيم بين السماء والأرض، وقد تزخرف بطريقة تلفت الأنظار، فأخطأت الظن عندما حسبته لجة، وكان من الصعب عليها تمييز ماهية ذاك الصرح حتى نبهها سليمان إلى أنه ليس أكثر من صرح ممرد من قوارير. وسنتحدث لاحقا بحول الله وتوفيقه عن تلك القوارير التي نظن أن مادتها في الصناعة هي ا يشبه الزجاج الملون، وهو الذي لازال لصوص الآثار يبحثون عنه لعلمهم بقيمته المادية، وسنحاول (إن أذن الله لنا بعلمه أن نفتري الظن حينئذ أن ذلك الصرح هو ما يشبه بيت السندباد التي تصورها قصص التراث على أنها مرتفعة في الآفاق، وهي تتكون من ما يسبه القباب (القوارير) المتعددة، حتى أصبحت تلك نوع من أنواع العمارة الخيالية الجميلة التي لا شك كانت ملهمة لمن بنا صرحا كتاج محل في الهند) كما في الشكل التوضيحي التالي:





وسنرى لاحقا بأن قصة السندباد هي قصة التراث التي حرفت تفاصيلها عن قصة سليمان نفسه. وسنتابع هذا الحديث (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) عند تكملة مقالاتنا الخاصة بمنسأة سليمان، فالله أسأل أن يعلمني ما لا ينبغي لغيري إنه هو الواسع العليم – أمين.

ولمّا كان هذا الصرح هو صرح ممرد، فإننا نفتري الظن أن في المرود علو، أي ارتفاعاً إلى الأعلى، وربما يدعم مثل هذا الظن وجود نوع من الشياطين هو الشيطان المارد الذي يحاول أن يسترق السمع من الأعلى:

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)

كما نظن أيضا أن المرود فيه القدرة على الخفاء، فعندما يكون هناك شيطان مارد، فمن الصعب رؤيته على حقيقته، وكذلك هم (نحن نفتري الظن) أولئك النفر الذين مردوا على النفاق:

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)

فهناك في هذه الآية – حسب فهمنا لها- نوعان من المنافقين:

1- وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ

2- وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ

فالذين مردوا على النفاق من أهل المدينة هم (برأينا) من صعب على النبي نفسه معرفتهم (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ)، والله هو من يعلمهم (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)، وربما يعود السبب في ذلك – برأينا- إلى إتقانهم صنعة النفاق.

كما افترينا الظن أيضا بأن المرود فيه شيء من النار، فالشياطين منهم المارد، ونحن نعلم أن الشياطين هم أصلا من الجن الذين خلقوا أصلاً من نار:

وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)

كما أن مردّ المنافقين الذين مردوا على النفاق هو العذاب لعظيم في النار.

لتكون الصورة الذهنية التي نريد أن نشكلها عن ذلك الصرح الممرد هي التالية: الصرح هو بناء مرتفع في مكانه عن الأرض، والصرح فيه شيء من الخفاء، فلا يستطيع الناظر إليه أن يدرك ماهيته على الفور، فعنصرا الإتقان والتخفي موجودان فعلاً فيه، فالمرأة لم تدرك كنهه لحظة أن رأته حتى حسبته لجة. والصرح أيضاً فيه جانب من النار، ففرعون كان قد طلب من هامان أن يوقد له على الطين ليجعل له صرحاً بعد ذلك، لذا ربما ظنت المرأة أنه لجة. ولا يجب أن ننسى أن الله قد سخر لسليمان الشياطين من قبل، فكان منهم كل بناء وغواص.

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)

لذا ربما حقّ لنا أن نفتري الظن بأن ذلك الصرح كان مما بناه الشياطين لسليمان. فكان الصرح كينونة مضيئة تتوهج في كبد السماء كما الشمس التي كانت تسجد له المرأة مع قومها، ولكنه يختلف عنها بأنه محاط بالظلمة من جميع جوانبه حتى يصعب على الناظر إليه أن يدرك ماهيته على الفور.

وفي حين كانت الشياطين البناءون هم من شيدوا صرح سليمان، كان هامان – بالمقابل- هو من طلب منه فرعون أن يبني له صرحا، أليس كذلك؟

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

لتكون النتيجة هي أن بناء الصروح هو علم قائم بذاته له أصوله التي يعلمها هامان، كما فعلت الشياطين (البناءُون)[1] لسليمان من بعد.

لتكون الصور التي نريد أن نرسمها عن أرض مصر في تلك الحقبة الزمنية هي التالية: كانت أرض مصر مسكونة من قبل بني إسرائيل اللذين استعبدهم فرعون:

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

فلقد دأب آل فرعون من قبل على تقتيل أولاد بني إسرائيل واستحياء نسائهم:

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

وكان ذلك في عصر الفرعون الذي التقط موسى وهو من كان عدو لله كما كان عدو لموسى:

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)

وظل التقتيل واقعا في بني إسرائيل حتى مات هذا الطاغية الكبير (وهو من تربى موسى عنده)، وهو من طلبت امرأة فرعون النجاة منه ومن عمله:

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)

وما أن ماتت تلك المرأة التي كانت بشخصها السد المنيع الذي حافظ على حياة موسى في آل فرعون:

وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

حتى وجد موسى نفسه في مواجهة مباشرة مع هذا الطاغية ومع آل فرعون اللذين رفضوا الإصلاح وأصروا على الفساد في الأرض، عندها خرج موسى من أرض مصر هاربا هروبه الأول إلى الأرض المقدسة، وما عاد إلى أرض مصر إلاّ يوم موت ذاك الطاغية الذي لم يكن له ولد، وهناك وجد موسى المدينة كلها في غفلة، فحصلت المواجهة من جديد بين من هم من شيعة موسى (بني إسرائيل) ومن هم من عدوه (آل فرعون) من جديد.

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)

وما أن تم اختيار فرعون جديد ليعلو كرسي الحكم في أرض مصر حتى هرب موسى هروبه الثاني ولكن هذه المرة باتجاه مدين:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)

وخلال تلك الفترة (منذ دخول موسى المدينة على حين غفلة من أهلها) ارتقى على كرسي الحكم في أرض مصر هذا الفرعون جديد، وهو الذي (نحن نظن) أوقف تقتيل أبناء بني إسرائيل، وانطوت سياسته الجديدة على تعبيدهم فقط، كما جاء على لسان موسى في واحدة من حواراته معه:

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

وذلك لأن الملأ حثوه (منذ أن ارتقى على كرسي الحكم) على عدم ترك موسى وقومه دون عقاب:

وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)

فهذا هو الفرعون الذي – برأينا- كان يتبع سياسة التأجيل على الدوام، فهو الذي وعد بتقتيل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ)، وهو الذي توعد السحرة وهددهم بالعقاب:

لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)

قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)

قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)

إن ما يهمنا طرحه هو أن بني إسرائيل قد اشتغلوا عبيدا في أرض مصر في زمن هذا الفرعون، أليس كذلك؟

وقد جاء موسى هذا الفرعونَ الجديد برسالة واضحة تماما وهي أن يرسل معه بني إسرائيل:

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)

وهنا ما كان من فرعون هذا إلا أن ذكّر موسى بفترة طفولته التي عاشها فيهم (أي في آل فرعون):

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)

ولم ينس كذلك أن يذكره بفعلته التي فعلها فيهم:

وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)

فما أنكر موسى أنه قد تربى فعلا فيهم، ولكنه صحح فهم فرعون بأنه ما فعل تلك الفعلة التي فعلها وهو من الكافرين ولكنه فعلها وهو من الضالين:

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)

وقص عليه سبب هروبه منهم، وما حصل معه بعد ذلك من المنّة الإلهية بأن وهب له الحكم والعلم وجعله من المرسلين:

فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)

ولم يغب عن بال موسى أن ينّبه هذا الفرعون إلى سوء فعلته بتعبيد بني إسرائيل:

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

نتيجة مفتراة مهمة جدا جدا: كان بنو إسرائيل يشتغلون عبيدا في مصر زمن هذا الفرعون

السؤال الكبير جدا جدا: أين اشتغل بنو إسرائيل في زمن هذا الفرعون؟

جواب خطير جدا جدا لا تصدقوه: في أرض مصر. انتهى.

ما شاء الله!!! يرد صاحبنا مستغربا. وهل هذا كل شيء؟ يتابع متسائلا.

جواب مفترى: نعم، هو كذلك، كان بنو إسرائيل يعملون عبيدا في أرض مصر زمن هذا الفرعون

السؤال: وما الغرابة في ذلك؟ وهل قلت بشيء جديد حتى طلبت منا أن لا نصدق ما قلت؟ لقد كنا نظن أنك ستقول شيئا كبيرا جديدا لم يقله السابقون ولم يقوى المتأخرون على التفكير به.

رأينا: أظن أني فعلا قد قلت شيئا جديدا لم يقله أحد من قبلي. لكن شريطة أن تتابع طرح التساؤل التالي: وأين كان ملأ فرعون وهم من استعبدوا بني إسرائيل يعيشون في زمن هذا الفرعون الكبير؟

جواب مفترى خطير جدا جدا: فوقهم.

السؤال: ماذا تقصد أنهم كانوا فوقهم؟

جواب خطير جدا: كان الفراعنة (أهل مصر) متواجدون فوق بني إسرائيل اللذين كانوا يعيشون في أرض مصر حينئذ. واقرأ عزيزي القارئ – إن شئت- ما قاله هذا الفرعون بلسانه للملأ من آل فرعون اللذين طلبوا منه أن لا يذر موسى وقومه:

وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ...

والآن انظر مباشرة في رده على ما طلبوا في تتمة الآية الكريمة نفسها:

... قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)

والآن دقق عزيزي القارئ فيما قاله الرجل بلسانه بعد طرح التساؤل التالي: كيف كان هذا الفرعون وآله فوق بني إسرائيل؟ وبكلمات أدق نحن نسأل: كيف كانوا فوقهم قاهرين؟

جواب مفترى: بعيدا عن التحليق في سماء الاستعارات والمجازات اللغوية، دعنا نتفقد مفردة فوقهم (على وجه التحديد) في السياقات القرآنية العديدة على مساحة النص القرآني، لنخرج منها بالفهم المفترى البسيط التالي: تدل فوقهم على الارتفاع في المكان، ولا يمنع من وجود مسافة بين من هم تحت (كبني إسرائيل في أرض مصر) ومن هم فوق (كفرعون وآله):

فها هم اللذين آمنوا والذين اتقوا يوم القيامة فوق اللذين كفروا:

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

وها هو الطور مرفوع فوق بني إسرائيل:

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (154)

السؤال: كيف يمكن أن تتخيل (عزيزي القارئ) مشهد الطور المرفوع فوق بني إسرائيل؟ من يدري؟!!

وها هي احتمالية أن يأكل الناس مما هو موجود فوقهم:

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

السؤال: كيف يمكن أن تتخيل (عزيزي القارئ) هذا المشهد؟

لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

وها هو الجبل وقد نتق فوق فئة من بني إسرائيل كأنه ظلة:

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

السؤال: كيف يمكن أن تتخيل (عزيزي القارئ) الطور وهو منتوق فوقهم؟

وهذا هو السقف من فوقهم وقد خر عليهم:

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)

السؤال: كيف يمكن أن تتخيل (عزيزي القارئ) هذا المشهد؟

وهذا ربنا من فوقنا:

يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۩ (50)

السؤال: كيف يمكن أن تتخيل (عزيزي القارئ) هذا المشهد؟ وهل في ذلك فعل مجازي؟!

وهذا العذاب يغشى البعض من فوقهم كما يغشاهم من تحت أرجلهم؟

يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

السؤال: كيف يمكن أن تتخيل (عزيزي القارئ) هذا المشهد؟ فهل ذلك في ذلك تصور مجازي؟!

لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)

وإذا كنت لازلت غير مقتنع، فانظر عزيزي القارئ – إن شئت- إلى السماء وقد بنيت فوقنا:

أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6)

ثم ألم ترى الطير فوقنا صافات ويقبضن؟

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)

ولا ريب أنك سترى الملك على أرجائها في ذلك اليوم الرهيب وقد حمل عرش ربنا فوقنا يومئذ ثمانية:

وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)

وبعد هذا كله، هل لازلت (عزيزي القارئ) تظن أن فرعون قد كان يتكلم بالمجاز عندما قال بلسانه أنه هو وآله فوق بني إسرائيل وهم لهم قاهرون؟

وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)

من يدري؟!!!

أما أنا، فإني أفتري الظن من عند نفسي أن فرعون كان يصور حقيقة المشهد الذي كان سائدا في مصر حينئذ عندما قال بأنه وملأه فوقهم قاهرين، فبنو إسرائيل يسكنون الأرض:

وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

وموسى وأخيه يبوءا لقومهما بيوتا بمصر جاعلينها قبلة، ولا أظن أن القبلة تكون باتجاه السماء:

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

فالذي يتوجه شطر القبلة في صلاته هو يتوجه نحو نقطة محددة على الأرض ولا يرفع بصره باتجاه السماء كما نفعل عندما نولي وجوهنا شطر القبلة التي ارتضاها لنا محمد وهي البيت الحرام:

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السًّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

نتيجة مفتراة مهمة جدا جدا 1: كان بنو إسرائيل يسكنون أرض مصر، وكانت بيوتهم قبلة، فكان مكان تواجدهم الدائم هي الأرض، فسكنوا الأرض (وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ)

نتيجة مفتراة مهمة جدا جدا 2: كان فرعون وآله متواجدين فوق بني إسرائيل مكانيا (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)

السؤال: وأين المكان الذي كان يتواجد به فرعون وآله حتى أصبحوا فعلا فوق بني إسرائيل؟

جواب خطير جدا جدا: في تلك الصروح التي كانت – برأينا – منتشرة فوق أرض مصر

الدليل

بداية، نحن نفهم أن تلك الصروح كانت متواجدة في جو سماء مصر، فكانت تتلألأ في كبد السماء حتى يحسبها الناظر لجة، لذا كان لابد لتلك الصروح أن تكون كما البناء المعروش، وكانت الأنهار تجري في أرض مصر من تحت من يسكنها كفرعون الذي وجه الخطاب قائلا:

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)

لاحظ عزيزي القارئ – إن شئت- ما قاله فرعون:

- فرعون ينادي في قومه

- فرعون يتساءل فيهم عن ملك مصر

- فرعون يثبت أن الأنهار تجري من تحته

- فرعون يطلب منهم أن يبصروا ذلك بأم أعينهم

التساؤلات:

- لماذا نادى فرعون في قومه مناداة؟ ألم يكن يكفي أن يقول لهم قولا؟ (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ)

- لماذا تساءل فرعون في قومه عن ملك مصر بالذات؟ (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)

- كيف يقول فرعون أن الأنهار فعلا تجري من تحته وحده؟ (وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي)

- ألم تكن تجري من تحتهم أيضا إن صحت تخيلاتك المفتراة؟ يسأل صاحبنا المعهود.

- كيف لهم أن يبصروا ذلك بأم أعينهم؟ (أَفَلَا تُبْصِرُونَ)

- الخ.

رأينا المفترى: لمّا كان فرعون قد نادى في قومه مناداة، فإننا نتجرأ على الافتراء الخطير الذي مفاده أن فرعون كان يسكن صرحا يعلو في مكانه جميع الصروح الأخرى التي كان يسكنها آل فرعون، فصرح فرعون في جو السماء هو الأعلى من بينها جميعا. وليس أدل على أن المنادي يكون في موقع أعلى من مكان المنادى عليه من نداء الله نفسه نبيه موسى:

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

ألم يكن بإمكان الإله أن يتكلم مع موسى دون مناداة؟ هل يحتاج الله أن يرفع صوته (أي مناديا) حتى يسمعه موسى؟ ألم يقرب الله موسى نجيا؟ لم إذا بعد هذا كله جاء حديثه مع موسى بصيغة النداء؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن ذلك لسبب واحد وهو ارتفاع المنادى (الله) عن المنادى عليه (موسى) مكانيا.

وهكذا يمكن أن نتخيل نداء نوح ابنه في خضم تلاطم الأمواج:

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42)

وليس أدل على ذلك من أن الفتى كان لم يؤوي إلى الجبل بعد. انظر الآية نفسها في سياقها الأوسع

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)

فالأب موجود في سفينة يحملها موج كالجبال، والابن موجود في مكان أقل ارتفاعا من ارتفاع السفينة المتواجد فيها والده، وهو يحاول الآن أن يؤوي إلى الجبل ليعصمه من الماء، وما أن حال بينهما الموج حتى كان الولد من المغرقين. ويمكن أن نتخيل السفينة بحجمها ومكان تواجد من فيها مقارنة بمن لازال متواجد على بداية الجبل كما في الشكل التالي:





فتم الخطاب بين من كان في السفينة (وهو الذي فوق) (على من هو تحت) بالمناداة. فما بالك بالسفينة التي كانت تجري بهم في موج كالجبال؟ من يدري؟!!

إن ما يهمنا طرحه هو أن عملية النداء تتم بين طرفين، يكون أحدهما في مكان يرتفع عن مكان الآخر. فقد يكون المنادي (هو فوق) على منادى عليه أو عليهم (هم تحته)، بالضبط كما يمكن أن نتخيل الله وهو من نادى على موسى عندما كان موسى متواجدا في الواد المقدس، أو كما يمكن أن نتخيل نوح وهو ينادى ابنه في خضم تلاطم الأمواج التي كانت تجري بتلك السفينة كالجبال.

وبالمقابل يمكن أن نتخيل (كما ذكرنا الأخ المهندس محمد السيسي في نقده الأول لهذه المقالة) أن المنادي قد يكون في مكان أخفض من المكان المتواجد فيه المنادى عليه كما في قوله تعالى:

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)

لتكون الصورة التي نحب أن نشكلها في فعل النداء هو احتمالية عدم التوازن المكاني بالاستواء بين الطرفين: المنادي والمنادى عليه.

وبمثل هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا نحن نظن أن بإمكاننا أن نفهم نداء فرعون في قومه:

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)

فلقد كان فرعون (نحن نتخيل) متواجدا في صرح هو الأعلى مقارنة بالصروح التي كانت متواجدة في سماء مصر حينئذ، ويكون في هذا فهما حقيقيا لقول فرعون بأنه وآله هم فوق بني إسرائيل (وهم الذين يسكنون الأرض وهم لهم قاهرون:

وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)

وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: كان فرعون وآله يسكنون صروحا هي متواجدة في سماء مصر، وكان بنو إسرائيل يسكنون أرض مصر، يشتغلون بها خدمة لفرعون وآله، بعد أن جاء هذا الفرعون الذي عبدوهم في أرض مصر:

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

سؤال: لماذا كانت الأنهار تجري من تحت فرعون على وجه الخصوص؟

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)

رأينا المفترى: لمّا كان صرح فرعون هو الأعلى كان يغطي تحته مساحة أكبر من الأرض، فصرح فرعون متواجد في مكان في كبد السماء هو من الارتفاع لدرجة أنه كان (نحن نتخيل) يستطيع مراقبة أرض مصر كلها من الأعلى. لذا كانت كل صروح آل فرعون الأخرى أقل ارتفاعا وبالتالي تغطي مساحة أقل من أرض مصر، فلقد كان لكل واحد من آل فرعون وملئه صرحا يوازي في ارتفاعه مكانته في القوم. فصرح فرعون هو الأعلى، ثم يأتي صرح قارون وهامان، وهكذا. فتتدرج الصروح في جو السماء كما هي النجوم المتلألئة فيها. فمادام أن فرعون هو الشخص الأول في أرض مصر فإن صرحه هو الأعلى.

ولو تدبرنا اللفظ أكثر لربما وجدنا أن ذلك قد يدل أيضا على جغرافية وجود صرح فرعون على وجه الخصوص، فنحن نظن أن صرح فرعون كان متواجدا فوق المكان الذي تتفرع فيه الأنهار الكثيرة في أرض مصر، حتى أصبحت كلها تجري من تحته:

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)

لو تدبرنا ذلك من منظور صروح آل فرعون وملئه الأخرى لربما وجدنا أن من كان يسكن تلك الصروح في الأعلى كان بإمكانه أن يبصر بأم عينه كيف كان صرح فرعون على وجه الخصوص تجري من تحته الأنهار، فهذا فرعون يطلب منهم أن يؤكدوا دعواه تلك ببصرهم:

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن آل فرعون وملئه اللذين كانوا يسكنون الصروح العالية في جو سماء مصر كانوا يستطيعون أن يبصروا الأنهار الكثيرة التي كانت تجري من تحت صرح فرعون على وجه الخصوص. هذا وسنتحدث عن مكان صرح فرعون الجغرافي لاحقا إن أذن الله لنا بشيء من علمه، إنه هو الواسع العليم – آمين.

ولو تدبرنا الطلب الإلهي من موسى في رسالته إلى هارون لوجدنا الآية الكريمة التالية:

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19)

لنخرج بالاستنباط التالي الذي هو لا شك من عند أنفسنا: لقد وصلت الجرأة بآل فرعون أن وصل ظنهم أنهم يستطيعون أن يعلوا على الله نفسه. فلقد تجاوز فرعون وآله كل الخطوط الحمراء المسموح بها حتى وصل تطاولهم على الله. وسنتحدث عن هذه الجزئية لاحقا إن أذن الله لنا بشيء من علمه

(دعاء: اللهم أعوذ بك أن يكون أمري كأمر فرعون، وأسألك وحدك أن تريني (إن استطعت) آياتك كلها فأعرفها، فأكون لك عبدا شكورا، كما كان نوح عبدا شكورا، وأسألك وحدك أن تهديني صراطك المستقيم، وأن أكون ممن يعملون شكرا كما كان آل داوود يعملون شكرا، واجعل لي عندك زلفى وحسن مئآب، إنك أنت العلي الكبير، آمين)

لنعود فنطرح التساؤل التالي على الفور: أين ذهبت تلك الصروح الكثيرة التي كانت خاصة بفرعون وآله؟ ألا يوجد بقايا لها في جو سماء مصر؟ هل تريد منا أن نصدق تخيلاتك الزائفة هذه التي لا نكاد نرى لها أثرا في مصر؟

جواب مفترى: نعم لن تروا لها أثرا في أرض مصر، وذلك للسبب الذي تصوره الآية الكريمة التالية:

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137)

دقق عزيزي القارئ الكريم بما جاء في نهاية هذه الآية الكريمة، ألم يثبت الله بأنه قد حصل الدمار لما كان يصنع فرعون وقومه؟ ألم يثبت الله أنه قد حصل التدمير لما كانوا يعرشون؟

ليكون السؤال الآن: ما الذي تم تدميره بالقدرة الإلهية وهو لا شك خاص بفرعون وقومه؟

جواب مفترى خطير جدا: لمّا كانت الأهرامات لازالت موجودة حتى الآن في الجيزة بمصر، فإننا نستطيع أن نفتري الظن بأنها ليست من صناعة فرعون وقومه، ولما لم تكن تلك الأهرامات مما عرش فرعون وقومه، لم يطلها التدمير الإلهي. فبقيت تلك الكينونات شاهدت على فرعون وقومه اللذين ورثوها من القرون الأولى وهي عاد وثمود.

ولكن لما كانت الصروح التي برع هامان في بناءها في أرض مصر هي جزء مما كان يصنع فرعون وقومه، وهي برأينا ما كانوا يعرشون، كانت هي التي لحق بها التدمير الإلهي، فما بقيت لها من باقية:

فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8)

ونحن نظن أن الآيات الكريمة التالية تبين (حسب ما نفهمه منها) الصورة الخيالية التي حاولنا أن نرسمها لحالة بني إسرائيل في أرض مصر مقارنة مع حالة فرعون وقومه:

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

تلخيص ما سبق

نحن نظن أن هذه كانت بداية استعباد بني إسرائيل في أرض مصر، وهي الفترة التي تمكن الفرعون الأول من العلو في الأرض (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ)، الأمر الذي مكنه من أن يجعل أهل مصر حينئذ شيعا (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا)، فاستضعف طائفة واحدة من بينهم جميعا وذلك بتذبيح أبناءهم واستحياء نسائهم (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ)، فكان من المفسدين (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). واستمرت حالة بني إسرائيل في أرض مصر على تلك الشاكلة، حتى مات هذا الفرعون الأول وانتقل الحكم إلى فرعون جديد، فعمد إلى تغيير سياسته تجاه بني إسرائيل، فبدلا من تذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم، أخذ الرجل بتعبيدهم:

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

وظل بنو إسرائيل يتحملون الأذى حتى بعد مجيء موسى لهم:

قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

وكانت رسالة موسى وأخيه هارون إلى هذا الفرعون واضحة تتلخص بأن يرسل معه بني إسرائيل:

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)

ويكأن موسى وهارون إذن يقران بملك فرعون على أرض مصر، وأحقية بني إسرائيل بالعودة إلى الأرض التي كتب الله لهم:

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)

فينقسم المكان بين طرفين: موسى وأخوه هارون يتبعهما بنو إسرائيل في الأرض المقدسة وفرعون وآله وقومه في أرض مصر.

السؤال: هل رضي فرعون بهذا التقسيم؟

جواب: كلا وألف كلا.

السؤال: لماذا لم يتقبل فرعون هذا الحل الذي طرحه موسى وأخوه هارون؟ ألم يكن في ذلك عدل فلا تطغى طائفة منهم على الطائفة الأخرى؟

جواب مفترى: لم يكن فرعون ليرضى بهذا التقسيم ربما (في ظننا) لسبب شيء واحد، ألا وهو ما كان فرعون وهامان وجنودهما يحذرون:

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

السؤال: ما الذي كان فرعون وهامان وجنودهما يحذرونه؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن الإجابة على هذا التساؤل تتطلب أولا تدبر الآية القرآنية التالية التي ستثير بدورها عاصفة جديدة من التساؤلات ذات العلاقة، والآية الكريمة هي:

وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42)

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)

إن أبسط الاستنباطات المفتراة الأولية التي يجب أن نخرج بها من هذه السياقات القرآنية هي التالي:

- كان آل فرعون هم فقط من جاءتهم آيات الله كلها، فكذبوا بها

وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42)

- كان فرعون هو فقط من رأى بأم عينه آيات الله كلها

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)

السؤال المحوري: متى رأى فرعون آيات الله كلها؟ ألم يري موسى فرعونَ الآية الكبرى فقط عندما جاءه في المرة الأولى؟

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)

السؤال مرة أخرى: متى حصل أن رأى فرعون آيات الله كلها؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن ذلك حصل عندما اطلع إلى إله موسى. فما أن بلغ فرعون باستخدامه ذلك الصرح الذي بناه له هامان أسباب السموات والأرض حتى اطلع إلى إله موسى، فخاب ظنه بأن موسى من الكاذبين، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل رأى فرعون (نحن نفتري القول من عند أنفسنا) بأم عينه آيات الله كلها هناك:

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)

وما أن بدأت آيات الله تأتي قومه الواحدة تلو الأخرى:

وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42)

حتى كانت كل آية هي أكبر من أختها:

وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)

فما كان ظنهم بها أكثر من أنها تقع في باب السحر:

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)

وما تزحزح فرعون عن موقفه بأن هذا يقع في باب السحر:

قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)

ولكن لا ننسى أن فرعون هو من أضل قومه وما هدى

وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)

لكن هذا لا يمنع بأن فرعون وهامان على وجه التحديد كانا حذرين، وكذلك كان وجنودهما:

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

ليكون السؤال الآن: ما الذي كان يحذره فرعون وهامان وجنودهما؟

بداية لا شك أن الناس جميعا دائمي الحذر من الله نفسه:

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا ۚ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

والناس هم دائمي الحذر من الموت:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

ولا شك أن الناس يحذرون عدوهم:

وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102)

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4)

والحذر يكون مما هو مجهول:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)

وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

وليس أدل على الحذر من المجهول من أن نحذر الآخرة:

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)

والمنافقون على وجه التحديد يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم:

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64)

والحذر يكون من وقوع الفتنة أو وقوع العذاب:

لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

ويمكن أن يكون الحذر من بعض الأزواج والأولاد اللذين قد ينقلبوا ليكونوا عدوا للشخص نفسه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (4)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن حذر فرعون وهامان وجنودهما كان يحمل ثناياه جل هذه الأمور، لكن كيف ذلك؟

رأينا المفترى: نحن نظن بأنه ما أن اطلع فرعون على إله موسى حتى أدرك وجوده، وهناك رأى آيات الله كلها، لكن هذا لم يثنه عن ظنه بأنه هو أيضا إله، لكنه إله على الأرض، فجاء استكباره وجنوده في الأرض بغير الحق:

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)

وما أن بدأت الخيوط تنفلت من يديه الواحدة تلو الأخرى بعد مجيء موسى وأخيه هارون بالآيات حتى تنازل فرعون عن إلوهيته المطلقة التي قالها يوما في ملئه:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

وأصبح ظنه أنه هو ربهم الأعلى:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)

ثم أخذ يحصر ربوبيته في أرض مصر:

فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)

فأصبح فرعون يعي مقدار الخطر الذي داهمه في عقر داره. فكان عليه أن يبقى حذرا من عدوه وهو موسى ومن معه، وهو يحذر رب موسى لأنه أصبح يرى مقدار قدرته التي يمكن أن تشكل خطرا على فرعون وقومه بما راءه من الآيات كلها بأم عينه، وهو يحذر المجهول الآن الذي كان يظن أنه قادر عليه في السابق، وهو الآن يحذر الموت الذي ظن في السابق أنه كان يستطيع التعامل معه، حتى أخذ الحذر يصل إلى من هم حوله في بعض آله، بدليل أن بعضهم قد أنفلت من الدائرة، وأصبح يدور الآن في فلك موسى ومن معه، وهو من كان يكتم إيمانه من آل فرعون:

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)

السؤال: ما الذي كان يحذره فرعون وهامان وجنودهما على وجه التحديد؟

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

جواب مفترى: نحن نظن أنه مادام أن فرعون وهامان يشتركان في هذه الجزئية مع جنودهما (وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا)، فإن الحذر يصبح – برأينا- واضحا، فالجنود (نحن نفتري القول) لا يحذرون إلا ضياع الأوطان، فمهمة الجنود الأولى هي الحفاظ على الأوطان والدفاع عنها في وجه الأخطار التي يمكن أن تحدق بها، أليس كذلك؟

السؤال: لماذا إذن لم يتقبل فرعون دعوة موسى وهارون بتسوية الخلاف وذلك بإرسال بني إسرائيل معهما إلى الأرض المقدسة؟

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)

رأينا المفترى: نحن نظن أن فرعون وهامان وجنودهما كان يجمعهم الظن بأن خروج بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة (بتأييد من هذا الإله الذي لا يكاد يبين، وبهذه الآيات التي راءاها كلها) سيقلب الموازيين رأسا على عقب، ففرعون يعلم أن في وصول بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة علو لهم، فبنو إسرائيل لا يستطيعون العلو إلا في الأرض المقدسة:

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)

فوصوله إلى الأرض المقدسة سيمكنهم من العلو، الأمر الذي سيشكل تهديدا كبيرا لعلو فرعون وآله في مصر، فتصبح المنافسة بين الطرفين أشد وأخطر. فالقضاء على بني إسرائيل في أرض مصر أسهل (في رأي فما كان من يفكر بعقلية الجنود) من منازلتهم بعد وصولهم إلى الأرض المقدسة. فوصولهم إلى الأرض المقدسة سيشكل تهديدا كباشرا لأمن مصر. فما كان لمن يفكر بعقلية العسكر أن يتنازل عن مبدأ حماية الأوطان، لا بل والحذر المسبق من الأخطار التي يمكن أن يحملها لهم المجهول في ثناياه. فكان قرار فرعون وهامان وجنودهما هو اللحاق بموسى ومن معه حتى البحر ليمنعوهم من الوصول إلى الأرض المقدسة، والوصول إلى ربهم الذي يؤيدهم هناك.

سؤال: ما الذي تقوله يا رجل؟ هل إله بني إسرائيل موجود في الأرض المقدسة؟ ألا ترى أن الخيال المزيف قد جرفك إلى هاوية التفكير؟ يسأل صاحبنا.

جواب مفترى: دعنا نتمهل قليلا في الرد، لأننا بحاجة أن نطرح التساؤل التالي الذي جاء على لسان أحد القراء الكرام للأجزاء السابقة ألا وهو: لماذا أرض مصر؟ لماذا كانت هذه الأحداث قد وقعت على أرض مصر؟ ما خصوصية تلك الأرض؟

جواب مفترى خطير جدا جدا لا تصدقوه: لأنها الأرض المجاورة للأرض التي يتواجد فيها إله بني إسرائيل، وهو الإله الذي وجده موسى فيها هناك بالقرب من الواد المقدس:

إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)

وهي الأرض نفسها التي واعد فيها الله نبيه موسى:

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

الافتراء الخطير جدا جدا: من أرض مصر، بلغ فرعون أسباب السموات والأرض باستخدامه ذلك الصرح، ومن هناك اطلع فرعون على الأرض المقدسة، ومن هناك اطلع إلى إله موسى فوجده في ظلل من الغمام، ومن هناك رأى آيات الله كلها.

نتيجة مهمة جدا: أصبحت المنافسة (برأي فرعون) بين إله بني إسرائيل الذي يتخذ لنفسه مكان فوق الأرض المقدسة، وإله مصر (فرعون) الذي يسكن في صرح تجري أنهار مصر كلها من تحته، فأصبحت المنافسة ليس فقط عرقية وإنما جغرافية أيضا.

السؤال: كيف حصل ذلك؟

جواب مفترى: هذا ما سيدور النقاش حوله في الجزء القادم من هذه المقالة، سائلين الله وحده أن يهدينا رشدنا، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، وأعوذ به أن يكون أمري كأمر فرعون - آمين.



المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &      علي محمود سالم الشرمان

بقلم د. رشيد الجراح

16 حزيران 2015


الجزء السابق


[1] وسنتحدث لاحقا إن أذن الله لنا الإحاطة بشيء من علمه عن علاقة هذا الأمر بالحركة "الماسونية التاريخية" التي نظن أن جذورها جاءت من هذا الباب. فالله أسأل أن يعلمني ما لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم، آمين. فالماسوني (mason) هو من يشتغل بحرفة تقطيع الحجارة وبنائها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق