قصة يوسف 21: يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ


قصة يوسف 21: يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ

ظننا في نهاية الجزء السابق أن طريقة حصول الأحداث على تلك الشاكلة قد بدأت تبعث في نفس يعقوب الشك بأن "هذا الشخص" من مصر الذي اشترط إحضار هذا الابن غير الشقيق لإخوته إليه من أجل أن يكتل لهم جميعا لا يمكن أن يكون شخصا عاديا، ولم يستطع يعقوب أن يخفي ظنه بأن هذا الرجل (عزيز مصر) له علاقة "بطريقة ما" بيوسف، فجاء طلبه من أبناءه في نهاية المطاف على النحو التالي:

          يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)

وقد حاولنا جاهدين أن نبيّن أن هذا السياق القرآني بحد ذاته يثر الدهشة لمن أراد أن يتدبر مجريات الأحداث، خاصة ما يتعلق منه بردة فعل الأبناء على طلب والدهم هذا، ولكن كيف ذلك؟

رأينا: نحن نستغرب بأنه على الرغم من أن الأبناء قد حاولوا جاهدين منذ زمن بعيد أن يقنعوا والدهم بموت يوسف لأن الذئب قد أكله:

          قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)

وبالرغم من أنهم جاءوه بالدليل الذي ظنوا أنه ربما يقنعه:

          وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)

وبالرغم أنهم سكتوا على ذلك سنوات طوال وهم يشاهدون بأم أعينهم أن حزن أبيهم على فراق يوسف لم يسكت:

          وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)

نقول: بالرغم من هذا كله، إلا أنهم لم يترددوا أن يهبطوا مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه كما طلب منهم والدهم.

إن هذا الأمر يجلب في ثناياه (كما ذكرنا في نهاية الجزء السابق من هذه المقالة) تساؤلات محيّرة، نذكر منها:

-        لماذا أسرع الأبناء على تنفيذ طلب والدهم هذا (أي أن يتحسسوا من يوسف وأخيه)؟

-        لماذا لم يرد أحد منهم على طلب والده هذا بشيء من التذمر أو عدم الرضا؟

-        كيف بهم يذهبوا ليتحسسوا من يوسف وأخيه وهم من قالوا لأبيهم منذ سنين كثيرة خلت بأن الذئب قد أكله؟ أي كيف رضي الأبناء النزول عند طلب أبيهم هذا وهم الذين جهدوا في إقناعه بموت يوسف؟

          قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)

-        وكيف تحسسوا من يوسف وأخيه؟

-        وأين تحسسوا من يوسف وأخيه؟

-        وماذا كانت آلية "التحسس" من يوسف وأخيه؟

-        الخ

أما بعد،

لعلنا وصلنا الآن إلى الاستنباط البسيط الذي مفاده أن هبوطهم مصر هذه المرة ليتحسسوا من يوسف وأخيه كان الهبوط الثالث، فهم قد هبطوا مصر أول مرة عندما ذهبوا يطلبون الكيل، فمُنِعوه حتى يأتوا عزيز مصر بأخ لهم من أبيهم:

وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60)

وكان هبوطهم الثاني عندما اصطحبوا أخاهم هذا ورجعوا إلى عزيز مصر ليكتالوا، "ولينمّروا" أهلهم:

وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)

فأخذ منهم والدهم موثقا من الله على سلامة هذا الأخ في رحلتهم ذهابا وإيابا:

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

فاصطحبوا أخاهم هذا وهبطوا إلى أرض مصر، فكان ما كان من أمر "السرقة التي افتعلها يوسف بنفسه"، وكان نتيجتها أن أخذ يوسف أخاه هذا بدين الملك بعد:

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

فعاد الإخوة يجرون أذيال الخيبة لأنهم لم يستطيعوا أن يحافظوا على الموثق الذي ءاتوه لأبيهم.

وها هو يعقوب الآن يطلب منهم أن يهبطوا مصرا للمرة الثالثة، ولكن من أجل هدف غريب جدا وهو أن يتحسسوا من يوسف وأخيه غير يئسيين من روح الله:

يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)

السؤال: لماذا طلب يعقوب من أبناءه أن يذهبوا ليتحسسوا من يوسف وأخيه؟ هل جاءت هذه الفكرة ليعقوب بالصدفة؟ كيف أقحم يعقوب يوسف بالقصة بهذه الطريقة التي قد تبدو للوهلة الأولى ويكأنها مفاجئة؟


رأينا المفترى: نحن نعتقد أن الأبناء كان يظنون بأن في عدم قدرتهم على المحافظة على العهد الذي قطعوه لأبيهم أذى كبيرا لهم، ولكنهم (ربما لعدم وصولهم إلى درجة من العلم كوالدهم يعقوب) لم يكونوا يدركون بأن في ذلك خير كثير قد جلبوه ليعقوب، ولكن كيف ذلك؟

رأينا المفترى: عندما وصل الخبر ليعقوب بأن عزيز مصر قد أخذ ابنه هذا الذي بعثه مع إخوته في دين الملك، انتقلت شكوك يعقوب السابقة بوجود أصابع خفية تدير هذه الأحداث بكل دقة ومهارة إلى يقين تام. والأهم من ذلك هو شعوره بأن "حرفية" هذه الأصابع في حياكة الأحداث لا يمكن أن تخفى على شخص مثل يعقوب. لقد علم يعقوب (نحن نكاد نجزم القول) أن هناك أصابع هو يعرفها تماما تدير دفة الأحداث التي لا يستطع أبناءه أن يفهموها بعد – إنها أصابع من جاءه التأييد من السماء. أنها أصابع تدبر كيدا:

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

نتيجة خطيرة جدا جدا: نحن نفتري الظن بأن يعقوب قد أدرك بأن في هذا "كيد" لا تقل مهارة أصابع من دبره عن مهارة أصابع من دبر كيدا هو يعرفه تماما من ذي قبل – أنه يشبه تماما الكيد الذي دبره جده إبراهيم من ذي قبل بأصنام القوم:

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

تخيلات: نحن نظن أن يعقوب قد أدرك حينها أن هناك كيد يدبّر، وأن من دبّر هذا الكيد قد دبّره من أجل هدف محدد بذاته، وأنه قد نفذه ببراعة فائقة لكي لا يخطئ هدفه. فمن هو مدبر هذا الكيد؟

جواب: إنه شخص مؤيد من السماء:

... كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ...

السؤال: من أين تعلم تدبير الكيد؟

جواب: مما فعل جده إبراهيم عندما كاد أصنام القوم .

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

نتيجة خطيرة جدا جدا: نحن نظن أن يعقوب الآن يدرك أن في الأمر "كيد" يعمل على تدبيره شخص مؤيد بتأييد السماء، وهو شخص يعلم كيف يدبر الكيد لأن عنده علم بتجربة قد سبقت.

تخيلات: لقد أصبح واضحا ليعقوب بأن أصابع يوسف (المؤيد من السماء) تدبر هذا الكيد بحرفية فائقة لأنه يعلم كيف يكون ذلك لما عنده من علم بكيفية تدبير الكيد الذي دبره جده إبراهيم:

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)

الدليل

لجلب الدليل على هذا القول المفترى من عند أنفسنا فلابد من طرح التساؤل التالي: ما هو الكيد؟

رأينا: نحن نظن أن الكيد هو أمر فيه "ريبة" يصعب على الآخرين اكتشافه بسهولة، يدّبر من أجل هدف محدد بذاته وينفذ ببراعة فائقة.

ما هو الهدف من الكيد؟

جواب: الخروج من مأزق يكاد الخروج منه يكون مستحيلا بغير ذلك.

السؤال: ما هو المأزق الذي خرج منه يوسف عندما دبر الكيد بإخوته؟

جواب: إنه المأزق نفسه الذي خرج منه إبراهيم من ذي قبل.

السؤال: وماذا كان المأزق الذي خرج منه إبراهيم عندما كاد أصنام القوم؟

افتراء خطير جدا جدا من عند أنفسنا: إنه عدم الكذب.

رأينا المفترى، نعم لقد دبر يوسف الكيد بإخوته حتى لا يقع في الكذب، وكان هذا درس تعلمه يوسف من جده إبراهيم الذي كاد أصنام القوم حتى لا يقع في الكذب. ولكن كيف حصل ذلك؟

جواب: دعنا نطرح التساؤل التالي الذي نظن أنه سيقودنا إلى تقديم الدليل على زعمنا هذا، والسؤال هو: كيف عرف يعقوب أن هناك كيد يجري تدبيره من قبل من عنده علم؟

رأينا المفترى الخطير جدا جدا: نحن نظن أن يعقوب قد أدرك هذا التدبير الخفي من دقة الأحداث خاصة كيفية "تلفيق" السرقة المزعومة بولده، ولكن كيف ذلك؟

رأينا: لقد أدرك يعقوب أن هناك مؤامرة تحاك (أي كيد) من خلال ما زعم القوم أنه قد سرق منهم ومن خلال ما تم استخراجه من وعاء ولده.

سؤال: لم أفهم شيئا، يقول صاحبنا- ما الذي تريد قوله باختصار شديد؟

جواب: ربما لا أستطيع أن أختصر كثيرا، لكني أظن أن السياقين التاليين يفسران أحسن تفسير ما أود توصيله من فكرة عجزت قدرتي اللغوية أن تبينها للقاري الكريم، فقرأ – رحمك الله- السياقين بعين الناقد:

السياق الأول

فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71)

السياق الثاني:

قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)

السؤال: ألا ترى - عزيزي القارئ- شيئا عجبا في هذين السياقين؟ ألم يجعل يوسف السقاية (مؤنث) في رحل أخيه (جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ)؟ فكيف بالمؤذن يؤذن بالعير بأنهم قد فقدوا صواع (مذكر) الملك (قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ

السؤال المحيّر لي: ما الذي تم استخراجه من وعاء أخيه: السقاية (مؤنث) أم الصواع (مذكر)؟

جواب: انظر السياق القرآني التالي:

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

نتيجة: لقد تم استخراجها (اسْتَخْرَجَهَا)، لذا فهي – في ظننا- السقاية التي جعلها في رحل أخيه وليس الصواع (مذكر) الذي أذن المؤذن بفقدانه في العير (قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ).

تخيلات: هل تظن عزيزي القارئ أن أبناء يعقوب لم يحدثوا أباهم بكل التفاصيل التي حصلت هناك؟ وهل تظن أن مثل هذه الخيوط في حبك القصة ستفلت من بين أيدي خياط ماهر كيعقوب؟

تخيلات: نحن نتخيل أن أبناء يعقوب قد قصوا على والدهم ما حصل في أرض مصر، فأخبروه (نحن نتخيل المشهد) أنه ما أن اتجهت العير خارجة من أرض مصر حتى سمعنا صوت مؤذن ينادي فينا ليتهمنا بالسرقة، فرجعنا باتجاه ذلك المؤذن ومن ومعه نستفسر عن ما سرق منهم، فأخبرونا بأنهم يفقدون صواع الملك (قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ)، فأنكرنا ذلك وقلنا لهم بأننا نحن أبناء الأنبياء لا نسرق، وأخبرناهم بأنهم على علم بذلك لأننا قدمنا لهم الدليل القاطع على حفظنا للأمانة عندما أعدنا لهم ما وجدناه من بضاعتنا في رحالنا في رحلتنا الأولى، ولو كنا قوم سارقين (قلنا لهم) لما اضطررنا إلى فعل ذلك، فأنتم الآن تعلمون أمانتنا (لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ). ولكن يا أبينا – قال الأبناء - أصر العزيز على التفتيش، فبدأ بأوعيتنا الواحدة تلو الآخر حتى وصل إلى وعاء أخينا كآخر وعاء يُفتش، ومن هناك استخرج السقاية (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ).

السؤال: ما الذي استوقف يعقوب في هذه اللحظة من سرد القصة على مسمعه؟ نحن نسأل.

رأينا: لعلي أظن أن السؤال الذي كان يخالج يعقوب حينها هو: كيف بهم يؤذنون بفقدان صواع الملك وها هم يستخرجون السقاية؟ لماذا فعلوا هذا؟

جواب: أظن – يا سادة- أن يعقوب أدرك على الفور أن هذا في هذا "كيد" قد دبر لتجنب الوقوع في الكذب. ولكن كيف تم ذلك؟ ولماذا حصل على تلك الشاكلة؟ من يدري؟!!!

ثانيا، أظن أن هناك أمرا آخر (ربما يكون أكثر خطورة من سابقه) هو ما أكد ليعقوب (نحن نظن) أن ما دبر بحق ولده هو كيد، فلعلي أجزم القول بأن يعقوب أخذ يظن أن هذه مؤامرة محبوكة جيدا (أي كيد) لا يقدر عليه إلا ما كان الله نفسه هو من يكيد له، فما هي؟

جواب: إنها استخراج السقاية من وعاء أخ يوسف وليس من رحله

السؤال: وما علاقة ذلك بما تزعم من قول هنا؟

جواب: لو حاولنا أن نتدبر الأحداث جيدا لوجدنا أن يوسف قد وضع السقاية بنفسه في رحل أخيه، أليس كذلك؟ وانظر – إن شئت- في هذه الآية الكريمة

فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)

ثم ها هو يستخرجها من وعاء أخيه، أليس كذلك؟

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

السؤال: ما الذي تظنه كان يدور – عزيزي القارئ- في ذهن يعقوب عندما أخبره أبناؤه بأن السقاية قد استخرجت من الوعاء؟

رأينا: لعلي أظن أن السؤال الذي كان يخالج يعقوب حينها هو: كيف استخرجت السقاية من وعاء ابنه؟ كيف وصلت السقاية أصلا إلى وعاءه؟ لِم لَم تستخرج السقاية في رحل ابنه وكفى؟ ألم يستخرجوا بضاعتهم من رحالهم في المرة الأولى؟

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

السؤال: لو كان ابنه فعلا سارقا، فلِم لم يسرق السقاية ويضعها في رحله؟ فلم جعلها في وعاءه؟

بداية، لو أن السقاية قد استخرجت من الرحل لما تجرأ يوسف على أن يوجه لهم تهمة السرقة لأن تجهيز الرحال كان يقوم عليه يوسف:

فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)

وفتيانه:

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

نتيجة: لو تم استخراج السقاية من الرحل لما تردد الإخوة (نحن نظن) بأن ينسبوا ذلك إلى فعل قام به يوسف نفسه أو بعض فتيانه إما عن قصد أو بدون قصد (أي بالخطأ) كما حصل في الرحلة الأولى عندما كانت البضاعة في متاع الإخوة الموجود في رحالهم.

السؤال: كيف انتقلت السقاية من الرحل إلى الوعاء؟

رأينا: نحن نظن أن ما كان يخالج يعقوب في تلك اللحظة هو التدبّر التالي: أنا أعرف (يقول يعقوب في نفسه) بأن ابني لا يسرق، فهذا عمل يستحيل أن يقدم عليه أبناء الأنبياء، فالذي ربى أبناءه على عدم البغاء:

وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)

والذي وافق على المخاطرة بحياة ابنه هذا من أجل رد البضاعة التي وجدت في رحالهم عندما انقلبوا إلى أهلهم وفتحوها هناك فردوها لأصحابها، يستحيل أن يرضي بأن يحضر له ولده شيئا مسروقا من هناك فيسكت عليه، لأنه لا محالة سيرده إلى المكان الذي أحضره منه ليعيده إلى أصحابه. فيعقوب يعلم أن ولده يعلم يقينا بأنه لو أحضر شيئا مسروقا من هناك لكان من المستحيل أن يقبل والده يعقوب بذلك، ولبعثه بشخصه ليرده إلى المكان الذي أحضره منه. لذا كان السؤال الذي حيّر يعقوب وقتها: لماذا استخرجت السقاية من وعاء ابنه؟ وكيف بابنه يضع شيئا في وعاءه ليس له به حق؟

جواب: أظن أنه الكيد، فتلك مكيدة (أظن أن يعقوب قد قال في نفسه) مدبرة لا يقدر عليها إلا من يعلم كيف يخرج من مأزق الوقوع في الكذب.

السؤال: كيف حصل ذلك؟ لا زلت لم أفهم شيئا، يرد صاحبنا.

جواب: نحن نظن أن الإجابة على هذا التساؤل ربما تكون ميسّرة بحول الله متى ما استطعنا أن نفهم ما هو الوعاء؟ وكيف يختلف الوعاء عن الرحل؟ وكيف يختلفان الاثنان عن المتاع والجهاز؟


باب الرحل (جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) والوعاء (ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ)

الافتراء الذي نقدمه مسبقا هو: نحن نظن أن الوعاء هو ما يشبه الصندوق الشخصي (أو container باللسان الأعجمي) لا يمكن لأحد غير صاحبه أن يصل إليه. فيستحيل على أحد أن يضع شيئا في وعائك دون علم منك، وذلك لأن الوعاء هو شيء

-        خاص بشخص واحد

-        صغير الحجم

-        يحمله الشخص معه على الدوام، فيكون ملازما له

-        الخ

وانظر ما يقدم لنا أحد معاجم اللغة الإنجليزية من مفردات يمكن أن نختار من بينها



-      basket noun [ C ] CONTAINER

-      1. a light container, often with a handle, which is made of thin strips of wood, metal or plastic woven together and is used for carrying or storing things

-      a shopping/picnic basket

-      a wicker basket

-      a laundry/clothes basket

-      bin noun [ C ] STORAGE

-      3. a large storage container

-      a bread bin

-      box noun CONTAINER

-      1. [ C ] a square or rectangular container with stiff sides and sometimes a lid

-      a cardboard box

-      a cigar box

-      a matchbox

-      carton noun [ C ]

-      a box made from thick cardboard, for storing goods, or a container made from cardboard or plastic, in which milk or fruit juice, etc. is sold

-      a carton of orange juice

-      case noun CONTAINER

-      12. [ C ] a container or box for storing things in

-      casing noun

-      [ C or U ] a covering that protects something

-      casket noun [ C ]

-      1. a small decorative box, especially one used to keep jewellery in

-      chest noun [ C ] BOX

-      2. a large strong box, usually made of wood, which is used for storing valuable goods or possessions or for moving possessions from one place to another

-      Her books and clothes were packed into chests and shipped across to Canada.

-      coffer noun

-      1. [ C ] a large strong box in which money or valuable objects are kept

-      container noun [ C ]

-      1. a hollow object, such as a box or a bottle, which can be used for holding something, especially to carry or store it

-      an airtight container

-      a plastic drinks container

-      crate noun [ C ]

-      a box made of wood, plastic or metal, especially one divided into parts to hold bottles

-      a milk crate

-      a crate of empty bottles

-      a packing crate

-      ˈ deed ˌ box noun [ C usually singular ]

-      a metal box that can be locked, in which important documents are kept

-      diplo ˈ matic ˌ bag noun [ C usually singular ]

-      a container in which letters are sent between countries' representatives in other countries, and which is not examined by customs officials

-      hamper noun [ C ]

-      1. a large rectangular container with a lid

-      a picnic hamper

-      hod noun [ C ]

-      a container for carrying bricks made of an open box on a pole which is held against the shoulder

-      holder noun [ C ] CONTAINER

-      1. a device for putting objects in or for keeping them in place

-      a toothbrush holder

-      a cigarette holder

-      ˈ jewellery ˌ box noun [ C ]

-      a special box for keeping jewellery, often decorated and containing several sections

-      moneybox noun [ C ] mainly UK

-      a closed container in which money is kept, especially one with a hole in the top through which coins can be pushed

-      ˈ packing ˌ case noun [ C ] UK ( US packing crate )

-      a large strong box for transporting things

-      I don't think we've got enough packing cases for all the kitchen equipment.

-      ˈ piggy ˌ bank noun [ C ]

-      a small container, sometimes in the shape of a pig, which is used by children for saving money

-      planter noun [ C ]

-      2. a large container in which plants are grown for decoration

-      portfolio noun [ C ] plural portfolios CASE

-      1. a large thin case used for carrying drawings, documents, etc.

-      quiver noun [ C ] CONTAINER

-      1. a long thin container for carrying arrows

-      receptacle noun [ C ] formal

-      a container used for storing or putting objects in

-      Householders are given four separate receptacles for their rubbish.

-      safe noun [ C ]

-      a strong box or cupboard with special locks where valuable things, especially money or jewels (= precious stones) , are kept

-      Thieves broke into/cracked (= opened by force) the safe and stole everything in it.

-      ˈ tool ˌ box noun [ C usually singular ]

-      a container in which you keep and carry small tools, especially those used in the house or for repairing a car

-      trunk noun CASE

-      4. [ C ] a large strong case that is used for storing clothes and personal possessions, often when travelling or going to live in a new place

-      workbasket noun [ C ] ( mainly UK workbox )

-      a small container in which things used for sewing, such as needles, pins and thread are kept

-      workbox noun [ C ] mainly UK

-      a workbasket


ولكن بالرغم من غزارة تلك اللغة بالمفردات التي تتحدث عن فكرة "الوعاء"، فهناك أكثر من خمسين مفردة، إلا أنني لا أظن أني استطعت أن أجد الكلمة الحقيقية المرادفة لمفردة وعاء القرآنية في قاموس تلك اللغة. فما هو الوعاء إذن؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن الوعاء هو أداة صغيرة الحجم، يستخدمها المسافر لحزم أمتعة شخصية جدا، خاصة به، يكون ملازما لصاحبه على الدوام فلا يستطيع الآخرون الوصول إليه دون علم صاحبه، أو إدعاء ملكيته.


الدليل

-        لو أن الوعاء لم يكن أداة صغيرة الحجم، لربما ما كان صاحبه يستطيع حمله على الدوام.

-        لو أن الوعاء لم يكن أداة خاصة بصاحبها لربما حق لمن استخرجت السقاية من وعائه أن ينكر ملكيته، كأن يقول بأنه ليس له

-        لو أن الوعاء لم يكن ملازما لصاحبه، لربما حق لمن استخرجت السقاية من وعائه أن يدعي بأن ذلك تم دون علم منه

السؤال: ماذا عن الرحل؟

رأينا: نحن نظن أن الرحل هو أداة كبيرة الحجم يستخدمها المسافر لنقل متاعه كله فيه، وهو غير ملازم لصاحبه على الدوام، لذا يستطيع الآخرون الوصول إليه، ووضع شيء فيه دون علم صاحبه، فهذا يوسف وهؤلاء فتيانه يصلون بأنفسهم إلى رحال الإخوة:

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)

نتيجة: ما دام أنه يمكن للغير (كيوسف وفتيانه مثلا) أن يصل إلى رحال هؤلاء العير، فلا يمكن أن توجه لهم تهمة السرقة لو تم استخراج السقاية من رحل أحدهم.

السؤال: كيف يمكن التمييز بين المتاع من جهة والوعاء من جهة أخرى؟

نحن نعتقد أن المتاع هو ما يمكن أن يوضع داخل الرحل، فهذا يوسف يطلب من فتيانه أن يجعلوا بضاعة إخوته في رحالهم:

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

وها هم الإخوة يستخرجونها من متاعهم بعد فتح متاعهم الموجود داخل رحالهم:

وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)

فالمتاع (نحن نظن) هو أصغر حجما من الرحل، فهو عبارة عن شيء (أو عدة أشياء) توضع داخل الرحل

نتيجة: هناك الرحل وهناك المتاع وهناك الوعاء

السؤال الذي كان محيرا لي على الدوام هو: ألم يجعل يوسف السقاية في رحل أخيه؟ فلم إذن استخرجها من وعاء أخيه؟ لِم لَم يستخرجها من رحل أخيه حيث وضعها هناك بنفسه؟ ولماذا أذن المؤذن بفقدان الصواع؟


جواب غريب جدا جدا مفترى من عند أنفسنا: نحن نتخيل بأنه لابد من أن هناك يد قد تدخلت لنقل السقاية من الرحل حيث جعلها يوسف فيه إلى الوعاء حيث استخرجها منه.

السؤال المحوري إذن: من الذي نقل السقاية من الرحل إلى الوعاء؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: إنه أخ يوسف نفسه

السؤال: متى نقلها هذا الأخ من الرحل وجعلها بنفسه في الوعاء؟

جواب: بعد أن وضعها يوسف فيه

تخيلات: يعمد يوسف إلى تجهيز إخوته بنفسه (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ)، فيجعل السقاية في رحل أخيه هذا (جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ). فيعمد هذا الأخ على الفور إلى نقل السقاية من الرحل ليجعلها بنفسه في وعاءه.  

السؤال: لماذا؟ لماذا عمد هذا الأخ إلى نقل السقاية من الرحل إلى الوعاء؟

جواب مفترى خطير جدا: ليكون سارقا. انظر السياق القرآني كاملا، لتجد أنه يتحدث عن كيد قام به يوسف بتأييد من ربه:

فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)

نتيجة مفتراة: نحن نظن (مفترين الظن من عند أنفسنا طبعا) بأن هذا هو الكيد الذي كان ليوسف.

السؤال: هل تهذي يا رجل؟ أيعقل أن أخ يوسف كان فعلا سارقا؟ لِم يريد أن يكون سارقا؟

جواب: تخيل معي - عزيزي القارئ- لو أن أخ يوسف هذا لم يقم بنقل السقاية من رحله (حيث جعلها يوسف فيه) إلى وعاءه (حيث استخرجها يوسف منه)؟ ماذا لو بقيت السقاية فعلا في الرحل حيث وضعها يوسف؟ وماذا لو استخرجها يوسف من المكان نفسه الذي وضعها فيه (أي الرحل)؟ ما الذي كان يمكن أن يحصل؟ هل يستطيع يوسف أن يأخذ أخاه بدين الملك بتهمة السرقة؟

جواب خطير جدا جدا جدا لا تصدقوه: نحن نظن أنه لو حصل ذلك لكان هناك نتيجتان حتميتان لا مفر منهما:

1.     لكان يوسف كاذبا (لأن أخاه المتهم بالسرقة لن يكون حينها سارقا)

2.     لما استطاع يوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك (مادام أن أخاه لم يسرق شيئا).

السؤال: لماذا؟

جواب: لأن الأخ لن يكون قد سرق شيئا، ولكانت القصة بأكملها "تلفيق بتلفيق" (أي كذب)، ولما حق ليوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك، ولكان ما فعله (لو حصل على تلك الشاكلة) يقع في باب الكذب.

السؤال: كيف الخروج من ذلك؟

جواب: لابد من الكيد. قال تعالى:

كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ


الدليل: باب إبراهيم يكذب ثلاث كذبات

روى مسلم من حديث أبي هريرة التالي المرفوع إلى النبي محمد:

لم يكذبْ إبراهيمُ النبيُّ ، عليه السلامُ ، قط إلا ثلاثَ كذْباتٍ . ثنتين في ذاتِ اللهِ . قوله : إني سقيمٌ . وقولُه : بل فعله كبيرُهم هذا . وواحدةٌ في شأنِ سارَّةَ .
فإنه قدم أرضَ جبَّارٍ ومعه سارَّةُ . وكانت أحسنَ الناسِ . فقال لها : إن هذا الجبارَ ، إن لا يعلمُ أنك امرأتي ، يغلبني عليك . فإن سأل فأخبريه أنك أختي . فإنك أختي في الإسلامِ . فإني لا أعلمُ في الأرضِ مسلمًا غيري وغيرِك .
فلما دخل أرضَه رآها بعضُ أهلِ الجبَّارِ . أتاه فقال له : لقد قدم أرضَك امرأةٌ لا ينبغي لها أن تكونَ إلا لك . فأرسل إليها فأتى بها .
فقام إبراهيمُ عليه السلام إلى الصلاةِ . فلما دخلت عليه لم يتمالكْ أن بسط يدَه إليها . فقُبِضَتْ يدُه قبضةً شديدةً . فقال لها : ادعي اللهَ أن يُطْلِقَ يَدي ولا أضرُّك . فَفَعَلَتْ .
فعادَ . فَقُبِضَتْ أشدَّ من القبضةِ الأولى . فقال لها مثلَ ذلك . ففعلتْ .
فعاد . فقُبِضتْ أشدَّ من القبضتين الأُوليين . فقال : ادعي اللهَ أن يطلقَ يدي .
فلك اللهُ أن لا أضرَّكِ . ففعلتْ . وأطلقتْ يدَه .
ودعا الذي جاء بها فقال له : إنك إنما أتيتني بشيطانٍ . ولم تأتني بإنسانٍ . فأخرجْها من أرضي ، وأعطها هاجرَ . قال فأقْبَلَت تمشي .
فلما رآها إبراهيمُ عليه السلام انصرف .
فقال لها : مهيمْ ؟ قالت : خيرًا . كفَّ اللهُ يدَ الفاجرِ . وأخدم خادِمًا . قال أبو هريرة : فتلك أمُّكم يا بني ماءِ السماءِ .

السؤال: هل يكذب إبراهيم؟

جواب: عادة ما سوّق أهل العلم للعامة من الناس من مثلي هذا الظن بإبراهيم فيما يعرف عندهم بحديث الشفاعة، فقد روى البخاري ومسلم حديث الشفاعة وطلب الناس من إبراهيم عليه السلام أن يشفع لهم فامتنع وقال "إني كَذَبت ثلاث كذبات" وهي قوله عندما سألوه عمن كسر الأصنام (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقوله عندما نظر في النجوم (إِنَّي سَقِيمٌ) وقوله عن زوجته سارة إنها أخته.

السؤال: ألا ترى - عزيزي القارئ- أن إبراهيم قد كذب في المرة الأخيرة خوفا من بطش ذلك الجبار؟ فما بال إبراهيم إذن (نحن نسأل فقط) يواجهه من تجبر على الله مواجهة لا يخشى فيها إبراهيم شيئا، واقرأ – إن شئت- قوله تعالى:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

فمال هذا الذي آتاه الله الملك يُبهَت من حجة إبراهيم ولا يخشى إبراهيم منه شيئا؟ أم ترى إبراهيم قد "جبن" (يا أهل العلم) عندما تعلق الأمر فقط بزوجته؟ من يدري؟!!!

الفكر السائد: غالبا ما استنبط أهل العلم من مثل هذا الحديث جواز الكذب من أجل دفع الظالم، فقد اتفق سادتنا العلماء أهل الدراية (كما نقل لنا عنهم أهل الرواية) أنه لو جاء ظالم يبحث عن شخص متخفي ليقتله أو ليوقع عليه ظلما، لوجب على من علم ذلك إنكار العلم به، فهذا (هم يظنون) يقع في باب الكذب الجائز وربما الكذب الواجب  ما دام أن الهدف هو دفع الظلم.

سبحان الله!!! ما أعظم هذه الفتاوى!!! وما أغزر علم هؤلاء العلماء!!! حقيقة أن منبهر جدا جدا جدا.

لكن – يا سادة- دعني أوجه سؤالا بسيطا جدا قبل ذلك لكي يسهل عليّ تقبل علمكم العظيم هذا، وأرجو أن لا تأخذوا سؤالي على محمل الجد، فأنا فقط أسأل لا أكثر، والسؤال هو: هل يمكن أن يكون محمد كاذبا؟ هل يمكن أن يكون محمد قد كذب ولو مرة واحدة فقط؟

-        ما الذي تقوله يا رجل؟ اتق الله؟ أيكذب محمد؟ لقد جاز قطع رقبتك! لقد افتريت بهتانا عظيما! لابد أن تنزل بك هذه الكلمة سبعين خريفا في نار جهنم!؟ فلتستغفر ربك على هذا الذنب العظيم

-        استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله، عدد ما كان وعدد ما هو كائن، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت.

لكن -يا سادة - أنا فقط أسأل. فما بالكم استشطتم غضبا إن وقع في خاطر أحدنا أن محمدا يمكن أن يقع في الكذب؟ ولِم (نحن نستهجن) لا تستشيطوا غضبا عندما يُتّهم إبراهيم بالكذب؟ أيعقل -يا سادة- أن يكذب إبراهيم وهو الذي اتخذه ربه خليلا؟

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)

أم تراكم تظنون أن إبراهيم "ابن خالتكو"؟

ألا تخجلون من أنفسكم عندما تتهمون نبيا ورسولا كريما من أولي العزم من الرسل بالكذب؟ لم تنكرون علينا أن نستشيط غضبا عندما نسمع من يلقي تهمة الكذب على من قال الله في حقه:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)

ثم، ألا تتوسلون أنتم بأنفسكم إلى الله في كل صلاة تقيمونها أن يصلي الله وملائكته على محمد كما صلى على إبراهيم؟ ألا تتضرعون إلى الله في كل صلاة تقيمونها أن يبارك الله على محمد وعلى آل محمد كما بارك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؟ أم تراكم تطلبون من الله (نحن نستغرب) أن يصلي الله ويسلم ويبارك على محمد كما بارك على من كان يكذب (كإبراهيم الذي نجده في مؤلفاتكم العظيمة)؟

سيرد الجميع غاضبين بالقول: لكن هذا حديث مرفوع إلى النبي محمد، هل تكذب أحاديث المصطفى؟

رأيي: إن كانت هذه حجتكم، فدعني إذن أذكركم بحديث آخر مرفوع إلى النبي كذلك، أوجعتم رؤوسنا بتكراره على مسامعنا في خطبكم على المنابر، وجل ما أطلب من القارئ الكريم هو أن يضع هذا الحديث جنبا إلى جنب من الأحاديث التي زعمتم أنها تظهر إبراهيم وقد كذب.

الحديث: روى مالك في الموطأ عن صفوان بن سليم مرسلا أو معضلا: قيل: يا رسول الله، المؤمن يكون جبانا؟ قال: نعم، قيل: يكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: يكون كذابا؟ قال: لا.

السؤال: ألم يكن إبراهيم إذن مؤمنا عندما كذب؟ ألم تقولوا لنا بحديث مرفوع على النبي بأن المؤمن لا يكذب؟ فكيف بنا سننظر إلى إبراهيم بعد ذلك؟

سيرد أهل الاختصاص بالقول القاطع: انتظر يا رجل إن هذا الحديث الثاني هو حديث ضعيف لا يعتد به كثيرا، فلابد أن تكون عالما بصحة الأحاديث حتى تستشهد بها.

رأيي: آه، أشكرك أخي صاحب العلم أنك ذكرتنا الآن أن هذا حديث ضعيف لا يعتد به، لكني أمضت عقودا من حياتي أظن أنه حديث صحيح لأن خطبائكم ما ذكروا لنا يوما بأن هذا الحديث ضعيف لا يعتد به عندما كان يستشهدون به على المنابر. لكن لن أدخل معكم – يا سادة- في هذه الجدلية، ويكفيني أن أسألكم عن الأمر الذي أربكني جدا، ألا وهو: ماذا نفعل بآيات الله الكثيرة في كتابه الكريم التي تنفي الإيمان عن كل من يفتري الكذب؟

إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

إذا كان إبراهيم قد افترى كذبا، ألا ينفي ذلك عنه أن يكون مؤمنا؟ من يدري؟!!!

سيرد آخرون (خاصة من وجد في كلامنا هذا بعض الحيرة) بالقول: من أين إذن جاء هذا الحديث الذي اتهم إبراهيم بالوقوع في الكذب ثلاث مرات؟ أليس هذا ما قاله النبي محمد بنفسه؟ يسأل كثير من أصحابنا.

رأيي: دعني -عزيزي القارئ- أقل لك (إن شئت) من أين جاء هذا الحديث، وما عليك إلا أن تتحقق مما أقول بالرجوع بنفسك إلى بطون أمهات الكتب حتى لا تظن بأني أفتري الكذب.

المصدر الذي جاء منه: لنقرأ معا – عزيزي القارئ- ما جاء في الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين من العهد القديم (أي التوراة):

10وَحَدَثَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ، فَانْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ، لأَنَّ الْجُوعَ فِي الأَرْضِ كَانَ شَدِيدًا. 11وَحَدَثَ لَمَّا قَرُبَ أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَايَ امْرَأَتِهِ: «إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ. 12فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هذِهِ امْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ. 13قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ».[1]

انتهى غضبنا هنا ولابد من تهدئة نبرة الخطاب ثانية. لكن هناك ملاحظة لابد لنا من الإشارة إليها قبل العودة بأعصاب أكثر هدوءا لنربط موضوع "الكذب المفترى" على الأنبياء بقصة يوسف لأنها تلخص عقيدتنا التي نؤمن بها: أخي المؤمن (يا من تبحث عن دين الله الحق) لا تسلك طريق من سبقونا من أهل الكتاب الذين أذوا موسى فبرأه الله مما قالوا:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)

إن في اتهامك إبراهيم بالكذب هي (في ظننا) أذيّة ليس بعدها أذى أكبر، فنحن نظن أن الكذب هو صفة مذمومة لا يتصف به صاحب الأخلاق الحميدة ناهيك أن يكون صفة لمن كان مكلّفا بالتبليغ كالرسل المصطفين الأخيار. فنحن ننفي جملة وتفصيلا صفة الكذب عن رسل الله جميعا. ألم يهدد الله نبيه بأن لا يتقول عليه بعض الأقاويل لأن النتيجة ستكون كارثية:

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)

دلني – عزيزي القارئ- كيف يمكن أن يطمئن قلبي أن أتلقى عقيدة عن محمد (أو عن غيره من رسل الله) لو أن خبرا كالذي وصف به إبراهيم (الكذب) قد ثبت عنه ولو لمرة واحدة لا قدّر الله؟ ألم يكن إبراهيم أمة؟ ألم يكن مكلفا بأن يبلغ الناس عن ربه؟ كيف يمكن أن تطمئن قلوب المبلَّغين لو أن المبلِّغ قد اتصف بالكذب؟!!!

رأينا: أبرأ إلى الله وحده أن أكون ممن يتهمون أحدا من رسله بالكذب.

(دعاء: أللهم أعوذ بك أن أكون ممن يتهمون أحدا من رسلك بالكذب، وأعوذ بك رب أن أكون بنفسي ممن يفترون عليك الكذب أو يقول عليك ما ليس لهم بحق – آمين)

سؤال: إن لم يكن ذلك من باب الكذب، فكيف يمكن أن تفسر لنا ما قاله إبراهيم بنص القرآن:

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)

أو قوله بنص القرآن الكريم:

فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)

جواب: هذا موضوع يحتاج إلى صفحات كثيرة لتبيانه، لكني أظن أن بإمكانك الحصول على إجابتنا المفتراة من عند أنفسنا لهذه التساؤلات في سلسلة مقالتنا تحت عنوان: لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلا من ضيوفه؟

وسنكتفي بعد قليل بمحاولة ربط هذا الأمر بقصة يوسف تحت عنوان كيد إبراهيم وكيد يوسف. فالله وحده أسأل أن يعلمني من لدنه ما لم أكن أعلم، فلا أفتري عليه الكذب، إنه هو الواسع العليم – آمين.


عقيدة ثابتة: لابد بداية من الإنطلاق من العقيدة الثابتة التي مفادها نفي الكذب عن أحد من رسل الله. فنحن نؤمن باستحالة أن يقع رسول من رسل الله في الكذب.

السؤال: لم أفهم شيئا، ما الذي تريد أن تقوله بكلمات بسيطة ومباشرة؟

جواب مفترى: نحن نظن أن يوسف قد لجأ إلى "الكيد" وجاءه التأييد من ربه بذلك من أجل غاية سامية ألا وهي: لكي لا يقع في "الكذب".

تخيلات: نحن نتخيل الذي حصل على النحو التالي: لقد كان هدف يوسف الأول والأخير في هذه المرة هو أن يحجز أخاه عنده فلا يرده من إخوته إلى بلاده، أليس كذلك؟ فلم يكن يريد أن يسجن أخاه مثلا أو أن يرجمه أو ينصّبه (أي يجعل له منصبا) في الدولة المصرية، فجل ما كان يريده (نحن نظن) هو أن يبقيه عنده، وكفى. لذا كان تخطيطه للكيد قد بدا (نحن نتخيل فقط) بالتساؤل التالي: كيف أستطيع أن احتفظ بأخي عندي فلا أرده مع إخوته، وفي الوقت ذاته لا أفعل ذلك بطريقة تنافي القوانين المعمول بها في الدولة المصرية حينذ، حتى تمس هيبة الملك، ولا تحصل إساءة في استغلال السلطة في الدولة المصرية، فكيف يمكن أن أفعل ذلك؟ أظن أن هذه التساؤلات قد خلجت يوسف حينها.

جواب مفترى: نحن نظن أنه بعد أن نظر يوسف في القوانين المعمول بها في الدولة المصرية، وجد أن الطريقة الوحيدة التي يمكن له أن يحجز أخاه في بلاطه فلا يعيده مع إخوته هو أن يتورط أخوه في جرم السرقة، فمن ارتكب جرم السرقة يصبح واجب أخذه في دين الملك، وهذا واضح تماما من السياق القرآني التالي:

قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)

فالسياق القرآني يدل على أن يوسف والعير الموّجه لهم جميعا تهمة السرقة قد أقروا جميعا بجزاء السارق على نحو ما يسمح به القانون المصري المعمول به حينئذ (قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ).

وقد ذكرنا في مقالة سابقة لنا أن يوسف كان يطبق القانون المعمول به في الدولة المصرية حينئذ ولم يكن يطبق شريعة آباءه إبراهيم وإسحق ويعقوب، لأن دين هؤلاء هو دين الله (أي الإسلام)، وأن قطع اليد هو جزاء السارق في تلك الشريعة:

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

فلو كان يوسف يطبق شريعة الإسلام في أرض مصر، لوجب عليه (نحن نظن) أن يقطع يد أخيه في حالة أنه أثبت عليه وقوعه في جرم السرقة، ولأصبح ذلك مستحيلا لأن أخاه لن يرضى بذلك. فلن يرضى الأخ (نحن نتخيل) أن تقطع يده مقابل أن ينفذ يوسف خطته في إبقائه عنده.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد كان القانون المعمول به في الدولة المصرية زمن يوسف هو أن يؤخذ كل ثبت بحقه جرم السرقة "في دين الملك"، ومن هذا الباب أخذ يوسف أخاه في دين الملك:

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

نتيجة: لقد أخذ يوسف أخاه في دين الملك ولم يأخذه في دين آباءه إبراهيم وإسحق ويعقوب

لكن هذا الطرح يبرز على الفور التساؤل التالي: كيف سيأخذ يوسف أخاه في دين الملك مادام أن ذلك مستحيلا إلا أن يقع فعل السرقة؟ فكيف حصل فعل السرقة "وإن كان أخوه ليس بسارق"؟ ألا يعلم يوسف أن أخاه لا يمكن أن يسرق؟ فكيف سينفذ الخطة (إن صحّ القول)؟

نتيجة مفتراة خطيرة جدا جدا: لكي ينفذ يوسف خطته، فلابد أن يفعل ذلك بطريقة الكيد، ولكن كيف ذلك؟

جواب: حتى يأخذ يوسف أخاه في دين الملك، فلابد أن يقع فعل السرقة، ولابد أن تثبت التهمة على أخيه، ولابد في الوقت ذاته أن لا يقع يوسف في فعل الكذب. فكيف ستجتمع هذه المتناقضات جميعا؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن هذا حصل بتأييد إلهي بطريقة الكيد:

كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ

تخيلات: نحن نتخيل أن حادثة السرقة كانت مفبركة (إن صح القول)، فأشكلت على الحاضرين، واستطاع يوسف أن ينفذ مراده بذلك، لأنه رجل عليم، فاق علمه من كان ذي علم كوالده يعقوب (وإخوته جميعا):

وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)

فلقد كان يوسف يتفوق على يعقوب لأن يعقوب "ذو علم" بينما كان يوسف عليم:

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)

السؤال: من أين تعلم يوسف هذا الكيد الذي لم يكن (نحن نفتري القول) ليقدر عليه والده يعقوب؟

جواب: من شخص أكثر علما من يعقوب؟

السؤال: ومن هذا الشخص؟

جواب: إنه جدهم الأكبر إبراهيم الذي كاد أصنام القوم؟

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

باب كيد إبراهيم وكيد يوسف

السؤال: لماذا كاد إبراهيم؟ ولماذا كاد يوسف؟ لم يقوم بذلك موسى أو عيسى أو حتى يعقوب نفسه؟

جواب مفترى: نحن نظن أن الضرورة هي التي دفعت بإبراهيم ويوسف أن يكيدوا، فإبراهيم ويوسف وجدا أنفسهم (نحن نفتري القول) في "موقف ما كان لابد للخروج منه سالمين أن يقوموا بتدبر كيد، والغاية هي تنفيذ مرادهم، أي غاية في أنفسهم. لكن كان تنفيذ تلك الغاية لا يمكن أن تتم (نحن نظن) إلا بطريقة الكيد وإلاّ لوقعا في فخ الكذب. فكيف خرجا من هذا "المأزق" (إن صح القول) سالمين بتأييد إلهي؟




باب إبراهيم يكيد أصنام القوم:  وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ

لو تدبرنا السياقات الخاصة بكيد إبراهيم، لوجدنا أن غاية إبراهيم من تكسير أصنام القوم هي أن يقيم الحجة على قومه:

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

ليثبت لهم بأن هذه التماثيل التي هم لها عابدون هي عدو له إلا رب العالمين:

قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)

لانها لا تستطيع أن تقدم لهم نفعا لأن الله هو وحده الذي ينفع:

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

وهي في الوقت ذاته لا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضرا. لذا كان لابد من إثبات ذلك لهم، فكيف سينفذ إبراهيم الخطة؟

جواب: كان لابد له من أن يجذذ تلك التماثيل

السؤال: وكيف سيفعل ذلك؟

جواب: بطريقة الكيد:

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

السؤال: كيف نفّذ إبراهيم كيده بآلهتهم إذن؟

رأينا: لقد افترينا القول في مقالة سابقة أن التجذيذ لا يعني التكسير أو التحطيم الكلي، وإنما يعني إحداث العيب الظاهر في الشيء فقط، فيكفي إبراهيم أن يثبت لهم بأن هذه التماثيل لم تستطع أن تدافع عن نفسها لو أنه فقأ عين أحدها مثلا أو كسر يد الآخر أو جدع أنف الثالث، وهكذا. لذا لم يعمد إبراهيم إلى تكسير التماثيل تماما (كما ربما يتصور العامة من الناس من مثلي مما التصق في أذهانهم من كتاب التربية الإسلامية في الصف الثالث ج الذي رسم لنا صورة المعبد الذي جذذ فيه إبراهيم تماثيل القوم وهي مفتتة تماما على الأرض) بدليل أنه قد طلب من القوم أن يسألوهم بعد أن جذّذهم:

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)

فلو دققنا في طلب إبراهيم من قومه (فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) لوجدنا أن إبراهيم لم يحطم تلك التماثيل تماما لأنه لو فعل ذلك، لربما جاء رد القوم على طلبه هذا على النحو التالي: كيف تريدنا أن نسألهم – يا إبراهيم- وأنت لم تبقي منهم شيئا؟ لكن رد القوم كان يشير بكل وضوح إلا أن تلك التماثيل لازالت حاضرة وإن كانت مجذّذة، وانظر عن شئت في قولهم هذا (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ).

تخيلات: نحن نتخيل أن إبراهيم كان يريد فقط أن يحدث التجذيذ في تلك الأصنام، فكيف سيفعل ذلك؟

رأينا: لا شك أن إبراهيم قد أخذ وقته في التدبير للأمر، ولعلي أظن أنه لم يستطع أن يقنع أحدا من الناس من حوله بأن يقوم بالمهمة نيابة عنه، فلم يسلم معه (نحن نعلم من صريح اللفظ القرآني) إلا شخص واحد وهو لوط، وأظنه قد هاجر من عند القوم بعد أن آمن مباشرة، فلم يكن حاضرا في هذه الحادثة:

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

السؤال الذي يخالج إبراهيم هو: كيف استطيع أن أنفذ ذلك؟

جواب: لابد أن أقوم بهذا العمل بنفسي، أي لا بد أن أنفذ أنا تلك الخطة أنا شخصيا – أظن أن هذا ما توصل له إبراهيم.

لكن كان هناك أمر آخر (نحن نتخيل) يخالج ذهن إبراهيم حينها ألا وهو: حتى أقيم الحجة على القوم فلابد أن أقوم بذلك بنفسي ثم أنسب الفعل كله إلى كبيرهم:

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)

ليكون المشهد على النحو التالي: لابد أن أقوم أنا بتجذيذ الأصنام (ربما كان يقول إبراهيم في نفسه)، لكن لابد أن تقع التهمة على كاهل كبيرهم، فكيف سأفعل ذلك؟

جواب: لابد أن يقوم كبيرهم هذا (أي الصنم الأكبر) هو بالفعل نيابة عني إذن.

السؤال: لماذا؟

جواب: لأني سأنسب الفعل كله له وفي الوقت ذاته لا أكون كاذبا حتى وإن كنت أنا من دبر الفعل برمته، فكيف سيتم لي ذلك؟

جواب: لابد من الكيد، أي لابد من تنفيذ الخطة بطريقة الكيد:

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

نتيجة: لقد حصلت القصة كلها إذن على شكل كيد، ونحن نظن أن حاجة إبراهيم من ذلك هو أن تنفذ الخطة بطريقة محكمة، حتى لا يقع إبراهيم من خلالها في الكذب، فكان هذا (نحن نظن) الدافع الرئيس الذي جعله يخططها على شكل كيد.

السؤال: كيف نفذ إبراهيم كيده الأصنام؟

رأينا: نحن نتخيل الموقف على النحو التالي: يدخل إبراهيم إلى معبد القوم عندما تولوا جميعا:

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

وهناك يجد مجموعة من التماثيل يتوسطها كبيرهم، فالمشهد غالبا ما نستطيع تخيله على نحو أن كبير التماثيل (الآلهة) -ككبير القوم- يكون متواجدا في العادة في وسط المجموعة، ليلتف من حوله من هم أقل منه منزلة بترتيب ما يبيّن درجة أهمية كل واحد منهم، فنحن نتخيل المعبد (أي معبد فيه تماثيل) على نحو أن كبير تلك التماثيل يتوسطها، ويكون إلى يمينه وإلى شماله من هم أقل درجة منه بترتيب الأهمية، فكلما ازدادت قيمة التمثال كلما كان أقرب إلى الكبير، كما في الأشكال التوضيحية التالية:


https://www.shutterstock.com/image-photo/durga-puja-2019-celebrations-north-east-1534528112


https://www.shutterstock.com/image-vector/buddha-statue-148861475

وانظر إن شئت – أسفل هذا الشكل التوضيحي. وهناك يجد إبراهيم تلك التماثيل (كما خبرها من قبل) كل في مكانه بترتيب أنيق وحذر، يعكس أهمية كل تمثال مقارنة بالتمثال الأكبر الذي يتوسطهم.

ثانيا، لا شك عندنا أن التمثال الأكبر عادة ما يكون مصنوعا من مادة ذات قيمة، وبطريقة مميزة ربما ليصعب تحطيمه أو حتى تجذيذه بسهوله، فهو في نهاية المطاف أكبر الآلهة. لذا لا بد أن كبير تماثيل قوم إبراهيم كان مصنوعا بطريقة تبين أهميته ومكانته ورمزيته.

ثالثا، نحن نفتري القول بأن هدف إبراهيم لم يكن تكسير أو تجذيذ هذا التمثال الأكبر على وجه الخصوص وذلك لسبب بسيط وهو: لأنه سيتسب إليه تهمة أنه هو من فعل هذا كله ببقية آلهتهم:

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)

السؤال: كيف سيستطيع إبراهيم أن يجذذ التماثيل الأخرى ويبقي على التمثال الكبير سالما ليلقي باللائمة على كاهله متى ما تم توجيه التهمة إليه؟

رأينا المفترى: نحن نتخيل أن ما فعله إبراهيم كان على النحو التالي: يدخل إبراهيم معبد القوم بعد أن تولى القوم مدبرين، فيعمد إلى كبير التماثيل، فيحركه بطريقة ما، فيتسبب تحريكه لذاك التمثال بتلك الطريقة التي قام بها إبراهيم في تساقط التماثيل القابعة حوله على الأرض الواحد تلو الآخر. فيسبب تساقطها من فوق على الأرض في إحداث تجذيذ لتلك التماثيل المتساقطة، فتنكسر يد بعضها، ويفقئ عين آخر، ويجدع أنف ثالث، وتنكسر رجل رابع، وهكذا، ولكن يبقى التمثال الأكبر واقفا لا يصيبه أذى.

يترك إبراهيم تماثيل القوم على تلك الشاكلة ويخرج من المعبد وقد كاد بهم جميعا بتلك الطريقة.

وعندما حضر القوم إلى معبدهم، وجدوا التمثال الأكبر واقفا غير مجذوذ بينما جميع التماثيل الأخرى قد جذّذت، فانطلق لسانهم بالسؤال عن الفاعل الذي قام بهذا الفعل المشين (بالنسبة لهم):

قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)

فجاء الجواب على لسان من كان يعلم أن إبراهيم قد توعدهم بالكيد:

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)

فما كان طلبهم إلا على أن يحضروه على الفور على أعين الناس ليشهدوا كيف سيجعلونه عبرة لهم جميعا:

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)

فكان أول سؤال تم توجيهه إلى إبراهيم هو:

قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)

وهنا تحدث الحبكة: نعم إبراهيم هو الذي كاد بهم، لكنه لم يكن هو من فعل ذلك لان كبيرهم هو من فعل:

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)

وطلب منهم أن يتحققوا من ذلك بسؤال المجني عليهم (أي المجذذين من آلهتهم) وليس بسؤال (المجذّذ منهم- أي الفاعل). فأنت عندما تجد أن أحد الصبيان قد اعتدى على زملائه بالضرب مثلا كما كان يحصل معنا في الصف الثاني الابتدائي، فإن معلم الصف لم يكن يسأل الضارب عندما يحضر إلى الصف لأن الذي كان يضربنا (ولن أبوح باسمه لأنه يعرف نفسه) كان ينكر ذلك على الفور. لذا كان المعلم يتوجه بالسؤال لنا نحن الضحية، فإذا ما الصق الضحية التهمة بأحد زملائه كأن يقول أن فلانا هو من ضربه، فإنه ينتقل لسؤال الضحية الثانية والثالثة، وهكذا، وإذا ما وجد أن كل "المضروبين" قد أجمعوا على جان واحد، فإن التهمة لا شك ستلتصق به، ويقوم المعلم بمعاقبته على فعلته. ومن هنا (نحن نظن) جاء طلب إبراهيم التحقق مما يقول بسؤال المجني عليهم وهم الآلهة المجذذين وليس الجاني وهو كبيرهم، فإبراهيم لم يطلب من القوم أن يسألوا كبيرهم ولكنه طلب منه أن يسألوهم (أي الآلهة المجذذة):

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)

السؤال: ما الذي استفاده إبراهيم من ذلك كله؟

جواب: لقد أقام إبراهيم الحجة على قومه، فقام بتنفيذ مراده بتجذيذ الأصنام من خلال خطة جعلته لا يقع في الكذب، ولكن كيف ذلك؟

جواب: لأنه اشترك في تجذيذ تلك الأصنام فاعلان، وهما:

-        فاعل مباشر (وهو التمثال الأكبر الذي أسقط بحركته ما كان حوله من التماثيل الأخرى)

-        وفاعل غير مباشر (وهو الذي حرك التمثال الأكبر حتى جعله يتسبب في سقوط ما حوله من التماثيل الأخرى)

وعندما وجهة التهمة إلى إبراهيم بطريقة الاستفسار عن ما إذا كان هو من فعل ذلك بآلهة القوم:

قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)

لم يكذب إبراهيم عندما نسب الفعل إلى الفاعل المباشر وهو كبيرهم هذا (مشيرا بيده إلى التمثال الأكبر الذي لازال واقفا لم يصب بأذى):

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: فما كذب إبراهيم فيما قال، وما كان ذلك إلا كيد من إبراهم لئلا يقع في فعل مشين كفعل الكذب، الذي لا يمكن (نحن نؤمن يقينا) لنبي كريم ولرسول مكلف أن يقع فيه. والله أعلم

السؤال: إذا كان هذا هو كيد إبراهيم، فكيف نفذ يوسف كيده؟

جواب:  هذا ما سنحاول النبش فيه في الجزء القادم بحول الله وتوفيق منه، فالله وحده أسأله أن يعلمني وصاحبي عليا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل فضله علينا عظيما، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمّه ولو كره الكافرون، ونعوذ به أن نكون ممن يفترون عليه الكذب أو ممن يقولون عليه ما ليس لهم بحق، ونعوذ به أن نكون ممن يصدون عن سبيله أو ممن يبغونها عوجا - إنه هو العليم الحكيم.


المدّكرون: رشيد سليم الجراح                     &    علي محمود سالم الشرمان


وأساله وحده أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري، إنه هو الواسع العليم – آمين.

بقلم: د. رشيد الجراح

17 نيسان 2014




[1] ملاحظ إبرام هو نفسه إبراهيم بعد أن سماه الله بنفسه (على عهدة ما جاء في العهد القديم). وانظر – إن شئت- ما جاء في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين:
1وَلَمَّا كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ لَهُ: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً، 2فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأُكَثِّرَكَ كَثِيرًا جِدًّا». 3فَسَقَطَ أَبْرَامُ عَلَى وَجْهِهِ. وَتَكَلَّمَ اللهُ مَعَهُ قَائِلاً: 4«أَمَّا أَنَا فَهُوَذَا عَهْدِي مَعَكَ، وَتَكُونُ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ، 5فَلاَ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ. 6وَأُثْمِرُكَ كَثِيرًا جِدًّا، وَأَجْعَلُكَ أُمَمًا