قصة يوسف 20: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ




قصة يوسف 20: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ



من أجل بحثنا عن تفاصيل قصة يوسف الحقيقية (كما نفهمها من السياقات القرآنية)، سنحاول في هذا الجزء من المقالة أن نتعرض لبعض مدلولات الآيات الكريمة التالية التي تصور ما حصل في رحلة الإخوة الثانية إلى أرض مصر:

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)

طارحين التساؤلات المثيرة التالية:

-        لماذا طلب يعقوب من أبناءه أن يدخلوا من أبواب متفرقة هذه المرة (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ

-        وكيف دخل الإخوة من أبواب متفرقة (وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم

-        وما هي الحاجة التي كانت في نفس يعقوب (مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا)؟ وكيف قضيت تلك الحاجة بمجرد دخول الأبناء من أبواب متفرقة؟

-        وما علاقة هذا بعلم يعقوب (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ) كما جاء نهاية الآية الكريمة؟

-        ومادام أن أكثر الناس لا يعلمون (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) بصريح الفظ في الآية الكريمة نفسها، فهل هناك قليل من الناس ممن يعلمون؟

(دعاء: اللهم رب أسألك وحدك أن أكون من القليل من الناس الذين يعلمون – آمين).

-        الخ.

دعنا نبدأ النقاش أولا برفض كل ما جاءنا من عند سادتنا العلماء أهل الدراية كما أوصله لنا أهل الرواية في بطون أمهات كتب التفسير حول هذه الجزئية، ولنبدأ بما جاء في واحدة منها، وهو تفسير القرآن الكريم للطبري:

القول في تأويل قوله تعالى : { وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } يقول تعالى ذكره : قال يعقوب لبنيه لما أرادوا الخروج من عنده إلى مصر ليمتاروا الطعام : يا بني لا تدخلوا مصر من طريق واحد , وادخلوا من أبواب متفرقة ! وذكر أنه قال ذلك لهم ; لأنهم كانوا رجالا لهم جمال وهيبة , فخاف عليهم العين إذا دخلوا جماعة من طريق واحد وهم ولد رجل واحد , فأمرهم أن يفترقوا في الدخول إليها . كما : 14895 - حدثنا الحسن بن محمد , قال : ثنا يزيد الواسطي , عن جويبر , عن الضحاك : { لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } قال : خاف عليهم العين . 14896 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قوله : { يا بني لا تدخلوا من باب واحد } خشي نبي الله صلى الله عليه وسلم العين على بنيه ; كانوا ذوي صورة وجمال - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة : { وادخلوا من أبواب متفرقة } قال : كانوا قد أوتوا صورة وجمالا , فخشي عليهم أنفس الناس 14897 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قوله : { وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } قال : رهب يعقوب عليه السلام عليهم العين - حدثنا عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ , قال : أخبرنا عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { لا تدخلوا من باب واحد } خشي يعقوب على ولده العين 14898 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا زيد بن الحباب , عن أبي معشر , عن محمد بن كعب : { لا تدخلوا من باب واحد } قال : خشي عليهم العين 14899 - قال : ثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي , قال : خاف يعقوب صلى الله عليه وسلم على بنيه العين , فقال : { يا بني لا تدخلوا من باب واحد } فيقال : هؤلاء لرجل واحد , ولكن ادخلوا من أبواب متفرقة 14900 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : لما أجمعوا الخروج , يعني ولد يعقوب , قال يعقوب : { يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } خشي عليهم أعين الناس لهيبتهم , وأنهم لرجل واحد
متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل
وقوله : { وما أغني عنكم من الله من شيء } يقول : وما أقدر أن أدفع عنكم من قضاء الله الذي قد قضاه عليكم من شيء صغير ولا كبير ; لأن قضاءه نافذ في خلقه . { إن الحكم إلا لله } يقول : ما القضاء والحكم إلا لله دون ما سواه من الأشياء , فإنه يحكم في خلقه بما يشاء , فينفذ فيهم حكمه , ويقضي فيهم ولا يرد قضاؤه . { عليه توكلت } يقول : على الله توكلت , فوثقت به فيكم , وفي حفظكم علي حتى يردكم إلي وأنتم سالمون معافون , لا على دخولكم مصر إذا دخلتموها من أبواب متفرقة . { وعليه فليتوكل المتوكلون } يقول : وإلى الله فليفوض أمورهم المفوضون

(انتهى الاقتباس من الطبري)

لعلي أجد من السهولة البالغة دحض هذا "الموروث البالي" الذي ارتكز على فكرة أن أبناء يعقوب "كانوا رجالا لهم جمال وهيبة , فخاف عليهم العين إذا دخلوا جماعة من طريق واحد وهم ولد رجل واحد". (انظر ما وضعنا تحته خط في الاقتباس السابق من الطبري). فدحض هذا الموروث ربما يسهل بالمشاهدات التالية:

-        لو أن هذا الكلام صحيحا، لكان الأولى بيعقوب (نحن نفتري القول) أن ينبّه أبناءه إلى هذا الأمر في رحلتهم الأولى، فقد هبط الإخوة مصرا ودخلوها من باب واحد في المرة السابقة، فما بال "العين" (نحن فقط نسأل) لم تصيبهم بسوء؟ ألم يكونوا "رجالا لهم هيبة وجمال" حينئذ؟ أم هل وجود أخوهم هذا معهم هو ما سيجر عليهم بلاء "العين" هذه المرة؟ ألا تكفي "العين" عشرة من الرجال أصحاب "الهيبة والجمال"؟ أم ترى "العين" لا تفعل فعلها إلا بعد العدد عشرة، أي عندما أصبحوا أحد عشر؟ من يدري؟!!!

-        ثانيا، لو كان ما قاله سادتنا العلماء صحيحا، لِم ينتظر الأبناء أن يتفرقوا عندما يصلون مصر ليدخلوا من أبوابها؟ أم ترى "العين" من صفات أهل مصر فقط؟ ألم يمروا على أناس آخرين في الطريق؟ هل كان الأبناء في كل مرة يمرون بـ أناسي آخرين على الطرق يتفرقون حتى لا تصيبهم "أعين" المارة بسوء؟ أم هل كانت طريقهم خالية تماما من الناس حتى وصلوا أرض مصر؟ من يدري؟!!!

رأينا المفترى: كلا وألف كلا، نحن نظن أن هذا التفسير موسوم بالتخريف من جانبين على الأقل:

-        أنه أسقط الطابع الشعبي على القصة، ففكرة "عين الحسد" (أو Evil Eye باللسان الأعجمي) هي في مجملها فكرة مسيطرة على الخيال الشعبي الذي لم يستطع أن يجد تفسيرا واضحا لبعض الظواهر الغريبة، وعندما فشل "أهل العلم" أن يبينوها للعامة من أمثالنا، فسروا عدم فهمهم لتلك الغيبيات بغيبيات أكثر إبهاما، وهذه هي اللعبة "..." التي سلكها كثير ممن كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل عندما لا يستطيعون تجلية الأمور لمن رضوا بأن يكونوا من العامة عندما نصّبوا فوق رؤوسهم أكثرهم جهلا وجشعا لظنهم أنهم أهل علم وصلاح.

-        أن هذا التخريف (ومثله الكثير) لا يسلم من تخريفات الأمم التي سبقتنا، فغالبا ما مشى علماؤنا الأجلاء على خطى يهود وإن كانوا يصيحون على المنابر أنهم منهم براء، ومن أراد أن يجادل فليقلّب صفحات أمهات كتب التفسير للقرآن الكريم كتفسير الطبري هذا والقرطبي وابن كثير، الخ. ثم ليرجع إلى صفحات الكتاب المقدس وشروحاته في التلمود، ولينظر بأم عينه كمية الاقتباس "غير الدقيق" من هذه المصادر التي تسربت إلى بطون كتب التفسير، ثم ليرجع البصر كرتين إن هو أراد أن يتأكد، ولينظر كيف سينقلب إليه بصره بعد ذلك.

إن ما يهمني إيصاله للعامة من مثلي (ولا تشمل دعوتي هذه من لا يشاء ذلك) هو التالي: لقد دوخونا سادتنا العلماء أهل الدراية على لسان أهل الرواية من على منابر المساجد ودور الخطابة بالقدح بموروثات الأمم التي سبقتنا، ولكن في الوقت ذاته امتلأت مؤلفاتهم بما جادت به قرائح غيرهم، وغالبا ما نسبوهم (ظننا من عند أنفسهم) أنها من بنات أفكارهم، ومما جادت به قرائحهم الفذة. فأنت تجد خطيبهم يصعد المنبر ليقص عليك ما يظن أنه الفهم الصحيح لبعض آيات الكتاب العظيم، ولا يذكر مصدر المعلومة التي جاء بها، حتى يظن أكثر الحاضرين أن هذه من عنده ومن عند سادته العلماء أهل الدراية، الموثوقين بعلمهم وبصلاحهم. ولكن ما أن يبدأ شخص من مثلي بالنبش في بطون الكتب عن مصدر تلك المعلومة حتى يحط به الترحال في كل مرة بين صفحات العهد القديم بتوراته وتلموده. ولو حاولت أن توصل مثل هذه الرسالة للناس لصعد خطباؤهم على المنابر يدافعون وينافحون عن موروثاتهم التي لا يعرفون مصدرها، وفي الوقت ذاته ينعتون من ينبههم إلى ما هم فيه من "البلاء" بأشد عبارات الشم والقدح، فلهؤلاء جميعا نقول بأننا لا نرضى أن يكون بيننا وبينكم حكما إلا قول الحق في الآيات الكريمة التالية:

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (3)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)

(دعاء: اللهم أعوذ بك أن أكون من الظالمين الذين يكذبون عليك، وأعوذ بك أن أكون ممن يصدون عن سبيلك، وأعوذ بك أن أكون ممن يبغونها عوجا - آمين)

على أية حال، دعنا نعود إلى صلب الموضوع الذي نحاول النبش فيه بالتساؤل التالي: بعيدا عن الفكر التوراتي المحرف والتلمودي المفترى على الله الكذب، كيف يمكن أن نفهم الحاجة التي كانت في نفس يعقوب عندما أمر أبناءه بعدم الدخول من باب واحد والدخول من أبواب متفرقة؟

     وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ...

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري القول بأن ذلك كان تدبيرا من يعقوب لفضّ عصبة أبناءه، ولكن كيف ذلك؟

جواب مفترى: نحن نعلم أن أبناء يعقوب الذين تآمروا على يوسف كانوا عصبة:

     إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)

وهم أنفسهم الذين خرجوا بيوسف وجعلوه في غيابة الجب:

     قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ (14)

وقد زعمنا القول في جزء سابق من هذه المقالة بأن العصبة تعني العشرة من الرجال، فإخوة يوسف الذين تآمروا عليه هم عشرة (لأن آخوهم رقم 11 لم يكن طرفا في المؤامرة). وقد جلبنا ما ظننا أنه دليل على ذلك من الآية التي تتحدث عن حجم كنوز قارون:

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

الدليل

بداية، نحن نفهم من مجمل السياقات القرآنية الخاصة بقصة يوسف أن يوسف كان الأخ غير الشقيق لمن تآمر عليه من إخوته، فنحن نظن أن نبي الله يعقوب كان قد تزوج بأكثر من امرأة وأنجب من أكثر واحدة من النساء، فكان يوسف وأخوه (في ظننا) أبناء أم واحدة، بينما كان إخوته الآخرون (وهم الذين تآمروا عليه وعددهم عشرة) إخوة له من أبيه وليس من أمه، وربما يؤكد ظننا هذا ما جاء على لسان يوسف عند حديثه عن ذلك الأخ الآخر في أرض مصر:

          وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59)

فذاك الأخ هو أخ لهم من أبيهم (ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ) وليس من أمهم، ليكون يوسف وأخوه من جهة ويكون باقي إخوته من جهة مفترقين في الأم وإن اشتركوا جميعا في الأب يعقوب النبي. فهم جميعا أبناء أب واحد (وهو يعقوب) ولكنهم من أمهات متفرقات.

ثانيا، ربما يصدق ظننا هذا أيضاً ما جاء في الآية الكريمة التالية على لسان الأخوة المتآمرون أنفسهم:

          إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)

فالآية تشير إلى الفصل الواضح بين يوسف وأخيه من جهة وبقية الأخوة العشرة الآخرين (أي العصبة) من جهة أخرى، فانقسم الأخوة في صفين: يوسف وأخوه في صف (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) يقابله إخوته العشرة الآخرون في صف آخر (مِنَّا وَنَحْنُ). فكانوا هؤلاء بنص القرآن عصبة:

          إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)

السؤال: كيف كان الإخوة العشرة عصبة (دون وجود يوسف وأخوه بينهم)؟

رأينا الذي افتريناه من قبل: لقد ظننا مفترينا القول من عند أنفسنا أن العصبة من الرجال هم عشرة في العدد، يتكاتفون معا على تدبير أمر بينهم (كيد) لا يطّلع عليه الآخرون، ويكون تلاحمهم وتماسكهم كمثل أصابع اليدين الاثنتين العشرة إذا ما تشابكت مع بعضها البعض كما في الشكل:





Source: 

فلا يستطيع أحد منهم أن يفلت عن المجموعة، لأن المجموعة ككل (العصبة) ضامنة عدم انفلاته. لذا نحن نفتري الظن أنه بالرغم من طول الفترة الزمنية التي انقضت على غياب يوسف وبالرغم من حزن يعقوب الطويل على فراق يوسف طوال تلك الفترة، لم ينبر من بين الأخوة من يسكت حزن والده، كأن يبوح له بالسر على نحو ما فعلوه حقاً بيوسف. والسبب في ذلك - في رأينا- هو أن جميعهم كانوا مشتركين في المؤامرة فكانوا يمسكّون بعضهم البعض، فلا يستطيع أن ينفلت أي منهم من المجموعة (للتفصيل انظر الجزء الثالث من قصة يوسف هذه). وقد وعدنا القارئ الكريم في ذاك الجزء من المقالة أن نحاول أن نبين تبعات هذا الظن في مجريات بقية أحداث القصة.

افتراء جديد من عند أنفسنا: نحن نعتقد أن ما طلبه يعقوب من أبناءه في كيفية دخولهم أرض مصر من أبواب متفرقة كان هدفه فك تلاحمهم ذاك (فلا يعودوا عصبة كما كانوا). ولكن كيف ذلك؟

رأينا المفترى: نحن نظن أن العصبة هم مجموعة من الرجال محددة بالعدد (عشرة بلا زيادة ولا نقصان)، وبخلاف ذلك تصبح عملية حمل مفاتيح كنوز قارون (الذي يتحدث عنها النص القرآني في موطن آخر) أمرا غير مستساغ:

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

فنحن نظن أن عشرة من (أُولِي الْقُوَّةِ) من الرجال لا يستطيعون حمل تلك المفاتيح، ولكن لو زاد العدد عن ذلك ولو بواحد كأن يكونوا أحد عشر رجلا من (أُولِي الْقُوَّةِ) لأصبح الأمر ممكنا.

نتيجة: لقد تآمر العشرة جميعا من أخوة يوسف (وهم عصبة) ضد أخيهم يوسف، ولم يشترك الأخ الشقيق (الحادي عشر) في تلك المؤامرة:

إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)

فبالرغم أن إخوة يوسف هم أحد عشر إلا أن الذي اشتركوا في المؤامرة هم عشرة فقط، فكانوا عصبة،[1] وذلك لأن الأخ الشقيق ليوسف لم يكن طرفا في المؤامرة، فما كان جزءا من تلك العصبة، فالمؤامرة ابتدأت تدبر ضد يوسف وأخيه

          إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)

وانتهت بالقرار القطعي بالتخلص من يوسف فقط:

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)

السؤال: لماذا كانوا عصبة؟ وكيف شكل العشرة من أبناء يعقوب عصبة (من دون يوسف وأخيه)؟

رأينا المفترى الخطير جدا: نحن نفتري القول من عند أنفسنا أن يعقوب النبي قد أنجب أبناءه الاثني عشر جميعا من ثلاثة من النساء على النحو التالي:

1.     المرأة الأولى: أنجبت خمسة من الأبناء

2.     المرأة الثانية أنجبت خمسة من الأبناء

3.     المرأة الثالثة: أنجبت اثنين من الأبناء (يوسف وأخيه)[2]

تخيلات: نحن نظن بأنه لم يحصل تآمر من الإخوة ضد اثنين من إخوتهم (يوسف وأخيه) بداية إلا بسبب ظلال والدهم عندما أظهر حبه لاثنين من أبناءه على بقية أبناءه:

إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)

وقد افترينا الظن في جزء سابق من هذه المقالة بأن حب يعقوب لأبنائه كان بسبب علمه بأن واحدا من هؤلاء الاثنين سيكون هو محل الاجتباء الإلهي، وما أن قصّ يوسف رؤياه على أبيه حتى تجلى الأمر ليعقوب، فعلم يقينا أن يوسف هو محل ذلك الاجتباء:

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

فانحصر حب يعقوب بيوسف منذ تلك الرؤيا الشهيرة، وأصبح واضحا للجميع بأن حب يعقوب (أو لنقل ظلال يعقوب) قد انفرد به يوسف دون أخيه الآخر، فجاء قرار الإخوة واضحا بالتخلص من يوسف فقط:

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)

فما عاد الإخوة يكيدون بهذا الأخ غير الشقيق لهم، وانحصر كيدهم بيوسف فقط. (للتفصيل انظر الجزء الثالث) بعد أن خلا لهم جميعا وجه أبيهم.

ما أن رأى الأبناء بأم عينهم أن حب والدهم قد توجه نحو يوسف وأخيه حتى (نحن لا زلنا نتخيل) كان قرارهم الأولي هو الكيد بالاثنين معا لأنهم (هؤلاء العشرة مجتمعين معا) عصبة:

          إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)

فتآمر الأخوة الخمسة (أبناء زوجة يعقوب الأولى) مع إخوتهم الخمسة الآخرين (أبناء زوجة يعقوب الثانية)، فشكلوا عصبة في تكاتفهم كما تتكاتف أصابع اليد اليمنى مع أصابع اليد اليسرى فلا يستطيع أحد من الأصابع أن ينفلت منها كما في الشكل التوضيحي السابق الذي نعيده هنا لتبسيط الفكرة:

              


Source: 


وكان تكاتفهم هذا موجها ضد من تبقى من إخوتهم، وهم الاثنان المتبقيان من أبناء يعقوب (أبناء زوجة يعقوب الثالثة- يوسف وأخوه) الذين لم يكونوا جزء من تلك العصبة.

الدليل

لو حاولنا أن نتدبر حال تلك العصبة منذ أن تشكلت لوجدنا أن الاختلاف في الرأي كان واضحا بين أفرادها منذ اللحظة الأولى، فقد اقترح بعضهم قتل يوسف، واقترح بعضهم الآخر طرحه أرضا:

          اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)

نتيجة: لم تكن كل أفراد تلك العصبة مجتمعة على رأي واحد.

ولم يتوقف الاختلاف في الرأي عند هذا الحد، فهذا قائل منهم لا يقبل بقتل يوسف، فيقترح طريقة للتخلص منه تكمن في إلقاءه في غيابة الجب، وإن كان (نحن نشعر من نبرة خطابه) أنه غير راض عما هم فاعلين بيوسف:

          قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)

فالمدقق في السياق القرآني ربما يجد جليا أن هذا المتكلم من بينهم ربما لم يسرّه كثيرا فكرة التخلص من يوسف، فها و ينأى بنفسه عن هذا الفعل فيوجه الخطاب للمجموعة قائلا (إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ). لكن هذا الطرح يُبقى التساؤل الكبير التالي قائما: لماذا لم يخرج عليهم ويعارض فكرة التخلص من يوسف على العلن؟ ولماذا لم يخبر والده يعقوب بما دبره الإخوة ضد أخيهم ما دام أنه غير راض عن ذلك (كما تزعم)؟ يسأل صاحبنا.

جواب مفترى من عند أنفسنا: لأنهم عصبة، فالعصبة (نحن نظن) تتفق على الاختلاف بالرأي، فلكل واحد الحق أن يبد رأيه الخاص به.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن من سمات العصبة أنها تسمح بالاختلاف بالرأي

لكن هذا الاختلاف في الرأي الفردي لا يعني الخروج على الرأي الجماعي، فيجب في نهاية المطاف أن يلتزم كل أفراد العصبة برأي الأغلبية حتى وإن كان هذا الرأي الجماعي يتعارض ما يذهب إليه هو من رأي شخصي. فصحيح أن أحد الإخوة لم يكن راض عن ما يخطط له الإخوة ضد أخيهم (يوسف) إلا أنه التزم بقرار الجماعة (الأغلبية).

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن من سمات العصبة هو الالتزام بالرأي الجماعي

وهذا هو - في رأينا- مبدأ الديمقراطية في الفكر الغربي المسيحي اليهودي (أو ما يسمى بــ  Judaeo-Christican Tradition باللسان الأعجمي)، إنه مبدأ مبني على فكرة العصبة: أي الالتزام بمقررات الجماعة على حساب الرأي الشخصي حتى وإن كان مخالفا.

الدليل

نحن نظن أن بإمكاننا جلب الدليل على افتراءنا هذا بطرح التساؤلات التالية:

-        لماذا لم تنشق عصبة الإخوة طوال سنين غياب يوسف؟

-        لماذا لم ينبر من بينهم من يسكت حزن أبيه طوال هذه السنين؟

-        ألم يكن هؤلاء الأبناء يتسابقون في خطب ود أبيهم؟

-        ألم يطرحوا يوسف أرضا ليخلوا لهم وجه أبيهم؟

-        فما بال بعضهم لا يحاول أن يسكت حزن أبيه بأن يبوح له بالحقيقة أو حتى بجزء منها؟

-        لِم لم يذكر أحدهم لأبيه (ولو في خلوة بعد حين) بأن يوسف لم يأكله الذئب؟

-        ألم يكن هذا سيجلب له الخير عند أبيه بهذه البشرى؟

-        الخ.

رأينا: نحن نظن أن هذا لم يكن ليحدث لأن الإخوة كانوا "عصبة"، ولكن كيف ذلك؟

رأينا: لو تدبرنا قصة يوسف من بدايتها لوجدنا أن الكيد كان مبنيا أساس على علاقة الدم بينهم، ولكن كيف ذلك؟

تخيلات: نحن نظن أن الكيد كان موجها نحو رابط الأم، فالأبناء – لا شك- يجتمعون جميعا عند أب واحد وهو يعقوب، فهم جميعا شركاء في الأب، ولكنهم مختلفون في الأم، بدليل الفصل الواضح بينهم في الآية الكريمة التالية

          إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8)

وها هو يوسف يطلب منهم (كعصبة) أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم، أليس كذلك؟

          وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59)

وها هو يجتمع في نهاية القصة مع أخيه هذا، فيئويه إليه، ويخبره بأنه هو أخوه، ويطلب منه أن لا يبتئس بما كانت تعمله تلك العصبة (بقية الإخوة):

          وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69) 

نتيجة مفتراة: لقد كان الفصل بين الإخوة مبني على رابط الأم.

دعنا نصدقك الظن هنا- يقول صاحبنا- لكن ألا يبقى التساؤل نفسه قائما: لم اتفق أبناء الأم الأولى (الخمسة) مع أبناء الأم الثانية (الخمسة الآخرين) ضد أبناء الأم الثالثة (يوسف وأخيه)؟

رأينا: لأنهم عصبة. ولكن كيف ذلك؟

جواب مفترى: إنها توازن القوى.

تخيلات: نحن نتخيل أن يعقوب النبي قد تزوج بالمرأة الأولى ولم تنجب له أولاد، فعمد إلى الزواج من المرأة الثانية، وما أن تزوج يعقوب بهذه المرأة الثانية حتى كان حصلت له الذرية من كلا زوجاته، فأنجبت الأولى ولدا وأنجبت الثانية ولدا، فكانت المنافسة بينهما شديدة، فكلما أنجبت إحداهن ولدا أنجبت الأخرى ولدا، فكانت النتيجة أن أنجبت كل منهما خمسة من الأبناء متقاربين في الفئة العمرية، فشكلوا ما يشبه أصابع اليد اليمنى مقابل أصابع اليد اليسرى كما في الشكل التوضيحي التالي:




https://encrypted-tbn1.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcT66z4T3rt_ZntNj_bAuVwei_zQEsIXTEhMWqS6CXUyOGv4BQOx

  





ولم يتوقف يعقوب عند ذلك الحد، فقام بالزواج بامرأة ثالثة، فأنجبت له ولدان (يوسف وأخاه)

تخيلات من عندنا فقط: لما كان أبناء الزوجة الأولى يشكلون قوة ضاربة مكونة من خمسة أفراد (في ذلك البرلمان اليعقوبي)، كان أبناء الزوجة الثانية يشكلون أيضا قوة موازية تماما لهم (خمسة أصوات) في البرلمان نفسه. فلا يستطيع الحزب الجمهوري (أبناء الأم الأولى) الإطاحة بالحزب الديمقراطي (أبناء الأم الثانية)، والعكس صحيحا، فحصل توازن قوى بينهم. ولكن كان الحزب الأضعف في ذلك البرلمان هو حزب أبناء الزوجة الثالثة وذلك لأنه مكون من صوتين فقط (يوسف وأخيه).

ولا شك عندنا أن كل حزب منهم كان يحرص على أفراده، ويحافظ على مصالحهم، فأبناء الأم الواحدة يحرصون على أن لا يصاب أحد منهم بأذى، ولو حصل ذلك، لخرجوا (نحن نتخيل) جميعا يدافعون عنه صفا واحدا. لذا نحن نتخيل أنه لم يكن يستطيع أحد منهم أن يتهم أحدا آخر بأنه هو من دبر المؤامرة ضد يوسف، فلو خرج أحد من أبناء الزوجة الأولى واتهم أحد أفراد الزوجة الثانية بذلك، لوقف جميع إخوة المتهم من أمه صفا واحدا ليدافعوا عنه ويردوا عنه التهمة، والعكس صحيح، فلا يستطيع طرف منهم الإطاحة بالطرف الثاني، فبقي ميزان القوى متماسكا حتى النهاية بينهم.

نتيجة: لقد أدرك يعقوب أن أبناءه من زوجته الأولى والثانية قد شكلوا عصبة متماسكة قوية ضد أبناءه من زوجته الثالثة.

السؤال: كيف يمكن أن تفض عصبتهم هذه؟ كيف يمكن أن يخرج بعض أفراد العصبة على العصبة بأكملها؟ كيف يمكن أن تفض شراكتهم؟ هذه تساؤلات – أظن مفتريا القول من عند نفسي- أن يعقوب كان يحيكها في نفسه.

جواب: لو تدبرنا السياقات القرآنية الخاصة بقصة يوسف لما وجدنا أن هذا قد حصل فعلا إلا بعد أن بعث يعقوب بأبنائه جميعا إلى أرض مصر في رحلتهم الثانية وطلب منهم أن لا يدخلوا من باب واحد وأن يدخلوا من أبواب متفرقة:

          وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)

وما أن فعل الإخوة ما أمرهم به أبوهم، حتى أخذ يوسف أخاه من بينهم فآواه إليه:

          وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69) 

وما أن واجهتهم أول مشكلة في أرض مصر بعد ذلك (وهي أخذ أخيهم في دين الملك) حتى دب الخلاف بينهم (وليس اختلاف في الرأي فقط)، فحاولوا بداية الحفاظ على عصبتهم عندما اتهموا أخاهم هذا بالسرقة التي اتهموا بها أخاهم يوسف من قبل:

          قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)

وحاولوا كعصبة أن يستعطفوا العزيز على حالهم ليقبل بمبدأ الفداء:

          قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)

وما أن باءت جهودهم (كعصبة) بالفشل حتى انبرى من بينهم من لا يلتزم بقرار العصبة:

          فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)

وفي هذه اللحظ بالذات انتهت تلك العصبة، فما عادوا فريقا واحدا متماسكا. وما عادوا يستطيعون (نحن نظن) أن يدبروا المكيدة بغيرهم.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن (ربما مخطئين) أن هذه هي الحاجة التي كانت في نفس يعقوب عندما طلب من أبناءه أن لا يدخلوا من باب واحد وأن يدخلوا من أبواب متفرقة:

          وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)  

فلقد كان هدف يعقوب (كما نتخيله) هو أن يفض تلك الشراكة التي لازالت متينة بين أبناءه حتى لا يبقوا يشكلون عصبة واحدة، فلكي يتأكد يعقوب من عدم قرتهم على الكيد بأخيهم هذا الذي بعثه معهم كما فعلوا مع يوسف (وهو يعلم ما في نفوسهم من الميل ضده) فلابد من فضّ عصبتهم تلك. فكيف حصل له ذلك؟

رأينا: لقد طلب منهم أن لا يدخلوا من باب واحد. لذا نحن نتخيل بأنه لو بقي الإخوة يدخلون من باب واحد لبقيت عصبتهم قائمة، ولظلوا (نحن نتخيل) فريقا واحدا متماسكا ضد غيرهم، ولأصبح هذا الابن الذي بعثه معهم في خطر من كيدهم.

تخيلات: عندما وصل الإخوة إلى أرض مصر، كان لزاما أن يثبتوا لعزيزها أن لهم أخا من أبيهم، وأنهم قد نجحوا في مراودة أبيه عنه، وها هم يأتوه به كما طلب، لذا يصبحوا مؤهلين لأن يكتالوا، لأن العزيز كان قد اشترط الكيل لهم بإحضار هذا الأخ لهم إليه:

          وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60)

لذا، كان المحافظة على هذا الأخ حتى وصوله إلى أرض مصر أمرا تكفله الضرورة، فهم لا يستطيعون التفريط بهذا الأخ ما لم يصل إلى بلاط عزيز مصر ليراه بأم عينه، فيكتال لهم. وأظن أن يعقوب النبي كان يدرك ذلك، لذا لم يكن يقلق يعقوب على سلامة ولده هذا في رحلة الهبوط إلى أرض مصر مادام أن الكيل مشروط بوصول هذا الأخ سالما إلى عند عزيز مصر، لكن الذي كان يجول في خاطر يعقوب (نحن نتخيل) هو سلامة الولد في رحلة العودة من أرض مصر؟ فماذا لو فعلا حصل الأبناء على الكيل؟ ماذا لو فعلا أثبتوا لعزيز مصر أن لهم أخ من أبيهم؟ فما الحاجة لهذا الأخ بعد ذلك؟ ألن تصبح مهمة الشيطان بأن ينزغ بينهم غاية في السهولة؟ ألم ينزغ بينهم من ذي قبل:

          وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

ألن تسول لبعضهم نفسه التخلص من هذا الأخ حتى لا يبقى حجر عثرة أمام حضورهم إلى أرض مصر في كل عام؟ لم يضطرون أن يصطحبوه معهم في المرات القادمة؟ أليس فيما بينهم من خصوصية الحديث والتدبير ما لا يجب أن يسمعه هذا الأخ أو أن يطّلع عليه؟

السؤال الذي نتخيل أنه كان يدور في ذهن يعقوب حينئذ: ماذا لو بقي الإخوة بعد ذلك عصبة واحدة؟

جواب مفترى: لأصبح هذا الأخ في خطر شديد لا يقل عن الخطر الذي تعرض له يوسف يوم أن انفرد به إخوته كعصبة.

السؤال: كيف سيستطيع يعقوب أن يضمن سلامة هذا الولد في رحلة العودة من أرض مصر؟ والأهم من ذلك كله هو: ألم يصبح يعقوب شيخا كبيرا:

          قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)

فلو فارق يعقوب الحياة في هذه الظروف، فكيف سيستطيع هذا الأخ أن يعيش بين ظهرانيهم وهم عصبة على من سواهم؟

جواب: لعلي أظن أن تدبير يعقوب كان منصبا على قضية واحدة ألا وهي: فض تلك العصبة، حتى تتفرق كلمة أبناءه فلا يستطيعون اتخاذ قرار جماعي يلتزم به كلهم أجمعون حتى وإن كان بعضهم لا يوافقه ذلك. وبكلمات أكثر خيالا نقول: لقد كان همُّ يعقوب هو أن يحل ذلك "البرلمان" (إن صح القول) الذي شكّله أبناءه واتفقوا فيه على مبدأ الديمقراطية، أي الالتزام بقرار الأغلبية حتى على حساب الرأي الفردي.

نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: لقد أصدر يعقوب قراره بفض برلمان أبناءه، فما عادوا عصبة واحدة، فتفرقت كلمتهم وضعفت شوكتهم، فسلم الآخرون من شرورهم:

          قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77)


وتحصل له ذلك عندما طلب منهم (عن علم عنده) أن لا يدخلوا من باب واحد وأن يدخلوا من أبواب متفرقة:

          وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)

باب: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ

لعلي أجزم القول بأن القارئ لقصة يوسف في النص القرآني يجب أن يدخل على ذلك النص وفي ذهنه مسبقا أن شخصيات القصة هم شخصيات مميزة، فيعقوب هو ذو علم بشهادة ربه الذي علمه:

          وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)

ويوسف شخص عليم بشهادته لنفسه، وإقرار الإله له بذلك:

          قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)

لذا، وجب التنبّه إلا أن هؤلاء الأشخاص (بما آتاهم الله من علم) لم يكونوا غافلين عما يجري من حولهم، فتسلسل الأحداث بهذه الطريقة لا يمكن أن تكون قد مرت على يعقوب دون تأمل أو تدبر، فلعلي أجزم الظن بأن يعقوب قد أشغل تفكيره في كل صغيرة وكبيرة حصلت في حياته، فما بالك إن تعلق الأمر بسلامة أبناءه (أو أحد منه). لذا نحن نفترض ما يلي:

1.     ما اقتنع يعقوب بأن يوسف قد مات

2.     ما كان يعقوب ليثق تماما بكل ما يقوله له أبناءه

3.     لم يكن يعقوب ليسكت عن طلب عزيز مصر أن يحضروا إليه أخاهم هذا دون أن يتفكر بالسبب من وراء ذلك

4.     لم يكن يعقوب ليسكت عن سبب أن تكون البضاعة قد ردت في رحال أبناءه

5.     لم يكن يعقوب ليسكت عن ما أخبره إياه أبناءه فيما يخص عزيز مصر الذي كان يوف الكيل وينعت نفسه بأنه خير المنزلين:

وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59)

6.     لم يكن يعقوب ليسكت على إصرار أبناءه بأن يصطحبوا معهم أخاهم:   

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)

ألم يطلب هؤلاء الإخوة الطلب نفسه (إرسال أخيهم يوسف معهم) من ذي قبل؟

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)

فماذا كانت النتيجة؟ ألم يكيد الإخوة بأخيهم؟

فهل سيتخلى الإخوة عن فكرة الكيد بأخيهم الآخر هذه المرة؟

7.     الخ.

رأينا: نحن نظن أنه لما كان يعقوب شخص ذو علم، لم يكن ليترك هذه الأحداث تمر في ذهنه وكأنها غير مترابطة، فلابد من التفكر فيها جيدا، ومحاولة ربطها معا ليعلم ما يجري من حوله مادام أن ثقته بما يقوله أبناءه له بلسانهم لم تكن ثقة مطلقة:

          قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

السؤال: كيف ربط يعقوب الأحداث مع بعضها البعض؟

رأينا المفترى والخطير جدا: نحن نظن أن شكوك يعقوب بوجود أصابع يوسف في تحريك أحداث القصة قد تنامت منذ تلك اللحظة، فيعقوب يعلم يقينا أن يوسف لم يمت مادام أن الله لا محالة مجتبيه:

          وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

وما دام أن ما فعله الإخوة بأخيهم يوسف لم يكن أكثر مما سولت لهم أنفسهم:

          قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)

(للتفصيل انظر الأجزاء الأولى من هذه المقالة)

لذا، كان شك يعقوب بأن "هذا الشخص" الذي يطلب إحضار هذا الولد إليه لا يمكن أن يكون شخصا عاديا، ولم يستطع يعقوب أن يخفي ظنه بأن هذا الرجل (عزيز مصر) له علاقة مباشرة بيوسف، فجاء طلبه من أبناءه في نهاية المطاف على النحو التالي:

          يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)

الدليل

إن أكثر ما أدهشني في هذا السياق القرآني على وجه التحديد هو ردة فعل الأبناء على طلب والدهم هذا، فما تردد الأبناء في الهبوط إلى أرض مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه.

تساؤلات محيرة

-        لماذا لم يرد أحد منهم على طلب والده هذا بشيء من التذمر أو عدم الرضا؟

-        كيف بهم يذهبوا ليتحسسوا من يوسف وأخيه وهم من قالوا لأبيهم منذ سنين كثيرة خلت بأن الذئب قد أكله:

          قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)

-        كيف رضي الأبناء النزول عند طلب أبيهم هذا وهم الذين جهدوا في إقناعه بموت يوسف؟

-        وكيف تحسسوا من يوسف وأخيه؟

-        أين تحسسوا من يوسف وأخيه؟

-        وماذا كانت آلية "التحسس" من يوسف وأخيه؟

-        الخ

هذا ما سنحاول النبش فيه في الجزء القادم بحول الله وتوفيق منه، فالله وحده أسأله أن يعلمني وصاحبي عليا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل فضله علينا عظيما، وأن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمّه ولو كره الكافرون، ونعوذ به أن نكون ممن يفترون عليه الكذب أو ممن يقولون عليه ما ليس لهم بحق، ونعوذ به أن نكون ممن يصدون عن سبيله أو ممن يبغونها عوجا - إنه هو العليم الحكيم.

وأساله وحده أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري، إنه هو الواسع العليم – آمين.

المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح

16 نيسان 2014




[1] لو كانوا تسعة في العدد لأصبحوا رهطا وليس عصبة:
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
[2] ربما يدعم ظننا هذا التفكر بالفارق العمري بين الإخوة، فلو كان الإخوة جميعا من أم واحدة، لكان الفارق العمري بين أكبرهم سنا وأصغرهم سنا (نحن نتخيل) فارقا شاسعا جدا، وعندها ربما لا يستساغ أن يكيد شخص بسن الرشد مثلا بغلام صغير لم يبلغ الحلم بعد بمثل هذه المكيدة، ولكان وصولهم إلى أرض مصر يبين هذا الفارق الشاسع بين كبيرهم:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
وأصغرهم سنا واضحا للعيان. لكننا نفهم من مجمل السياقات القرآنية الخاصة بالقصة بأن الفارق العمري بينهم لم يكن شاسعا، الأمر الذي ربما يدعم زعمنا بأنهم قد ولدتهم أكثر من أم واحدة وإن تشاركوا جميعا في الأب.