قصة يوسف 9: باب تقطيع الأيدي وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ


تعرضنا في الجزء السابق من هذه المقالة إلى الترتيب الذي نجده في الآية الكريمة التي تتحدث عن تقطيع النسوة لأيديهن، فكان عنوان ذلك الجزء هو فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
وقد حاولنا حينئذ أن نخرج باستنباطات مفتراة من عند أنفسنا نذكر منها:
-        لَمْ تقطِّع النسوة أيديهن عندما رأين يوسف مباشرة، لهذا جاء فعل تقطيع الأيدي (في ظننا) مفصولا عن حدث الرؤية بحدث آخر، وهو إكبارهن إياه (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ). انظر كيف تتوسط مفردة أَكْبَرْنَهُ فعل الرؤية رَأَيْنَهُ من جهة وفعل تقطيع الأيدي وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ من جهة أخرى.
-        ما فعلته النسوة بعد رؤية يوسف مباشرة هو أنهن قد أكبرنه (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، فظننا أنّ الإكبار هو اختيارهن لفتنة يوسف على التخلص منه بطرق أخرى كإخراجه من البلد أو حتى قتله (انظر الجزء السابق قصة يوسف 8).


-        كان فعل تقطيع الأيدي فعلا إراديا مقصود بذاته
-        امرأة العزيز هي من اشترطت على النسوة تقطيع أيديهن إنْ هنّ أردن أن يراودن يوسف عن نفسه متى ما رأينه وأكبرنه. فنحن نظن أن منطق امرأة العزيز في خطابها مع النسوة حينئذ كان على نحو أن من تُكْبر يوسف (أي أرادت فتنته بمراودته عن نفسه) بعد أن تراه ، فلابد أن تقطع يدها قبل أن تعطى الفرصة إلى ذلك)
-        كان غرض امرأة العزيز من وراء ذلك هو إلقاء عبء التهمة عن كاهلها الشخصي لترمي به على كل بنات جلدتها من النساء
-        لم تستطع أحد من النسوة أن تتنصل من مسؤولية مراودتها ليوسف عن نفسها أمام الملك لأن الأيادي المقطّعة كانت دليلا كافيا على إدانتها
-        كانت أيدي النسوة مقطعات في حين بقيت يد امرأة العزيز نفسها (وهي التي كانت أكثر من شغفها يوسف حبا، وأكثر من راودته عن نفسه) بقيت غير مقطعة، لذا عندما طلب يوسف من رسول الملك أن يستجلي الحقيقة سأله عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن:
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
فلم يتطرق يوسف في طلبه هذا إلى امرأة العزيز نفسها، وهي التي بسببها حدثت القصة في الأصل.
-        جمع الملك النسوة ووجه الخطاب إلى اللاتي قطّعن أيديهن:
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ...
-        حضرت امرأة العزيز الموقف مع النسوة، ولكن بالرغم أن الحوار لم يكن ليشملها، جاء كلامها في ذلك الموقف من باب التطوع الذاتي، فانبرت في هذه اللحظة لتعترف بغلطتها لأول مرة أمام الناس جميعا:
قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
هذا على الرغم من أنها قد حاولت جهدها أن تتنصل من المسؤولية أمام سيدها عندما ألفياه لدى الباب، ملقية باللائمة كلها على يوسف حينها، ومتهمة إياه بأنه هو من أرادها بسوء:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
-        لم تعترف امرأة العزيز بمسؤوليتها إلا أمام النسوة اللاتي مكرن بها في المدينة عندما أرسلت لهن وجمعتهن في ذلك اللقاء الشهير، فاعترفت لهن بملء فيها أنها هي من راودت يوسف عن نفسه وأنه هو من استعصم:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
-        الخ.


قصة لقاء امرأة العزيز مع النسوة: تصور جديد
وقد دفعتنا هذه الافتراءات مجتمعة أن نطرح تصورنا الخاص لما حدث في قصة يوسف مع امرأة العزيز والنسوة في ذلك اللقاء الشهير على النحو التالي الذي نطلب من القارئ الكريم بداية أن لا يحمله محمل الجد ما لم يجد أن فيه من المسوغات ما يكفي لإعطائه فرصة التفكر.
تصورنا الجديد: تسمع امرأة العزيز بمكر نسوة في المدينة وقد تبادلن أطراف الحديث عن ما بدر منها فيما يتعلق بمراودتها لفتاها عن نفسه، ولم يتوقف تبادل أطراف الحديث بين أولئك النسوة عند سرد الحقائق ذاتها كما حصلت على أرض الواقع، فاتهمن المرأة بأنها في ضلال مبين لأنها هي من تراود فتاها عن نفسه:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
لذا، ظننا أن كلام النسوة ربما جاء حينها من باب السخرية التي تقلل من شأن امرأة العزيز وتقدح في مكانتها (لأنها هي من تراود فتاها عن نفسه) كما تقدح في أنوثتها (لأنها لم تقدر عليه بالرغم أنها هي من تراوده عن نفسه). ولمّا كانت امرأة العزيز واثقة بنفسها وبقدراتها الظاهرة والكامنة، ولمّا كانت على يقين بأن ليس فيها ما يعيبها كامرأة، وأن فشلها في ذلك مردّه هذا الفتى غريب الأطوار، ولما كانت على علم بأن كل بنات جلدتها من النساء سيقعن في نفس الفخ لو مررن بالتجربة نفسها، كان من ذكاء ودهاء هذه المرأة غير العادي (كما نتخيله) أن تلملم الخبر بالسرعة الممكنة، فلا يتوسع في الانتشار، وأن تمسك بيدها دليل براءتها الشخصية. ولكن كيف حصل ذلك؟
رأينا: لم تترك امرأة العزيز الخبر ليتوسع في الانتشار، فما أن سمعت بأن بثلة من النساء (نسوة) قد وصل لهن خبر ما فعلت مع فتاها، فأخذن يتبادلنه فيما بينهن من باب المكر بها (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ)، لم تتردد بأن تدبّر الأمر على وجه السرعة، فما كان منها إلا أن أرسلت لهن جميعا(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ)، وتجهزت على وجه السرعة لتثبت لهن بالدليل العملي أن الأمر خارج عن نطاق قدرتها على التحمل كامرأة، وأنهن سيقعن في الفخ نفسه لو رأين هذا الفتى بأم أعينهن. فكان تدبيرها أن تعتدّ لهن متكأ واحدا وتؤتي كل واحدة منهن سكينا (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا). وكان ذلك – كما زعمنا في الأجزاء السابقة- من باب التحدي المشروط بتقطيع الأيدي.
ولمّا كانت النسوة لازلن مستغربات الأمر، غير متيقنات بقناعات امرأة العزيز نفسها، قبلن التحدي، ظانات في الوقت ذاته أن لديهن من القدرات الأنثوية ما يمكن أن تطيح بأي رجل على وجه الأرض.
لكن امرأة العزيز لم تكن لتفرّط بيوسف بالمجان دون مقابل ودون الخروج من الموقف بصيد ثمين جدا وهو شهادة براءتها الشخصية من تحمل المسؤولية، حتى يفهم الجميع (الرجال والنساء) بأنها لا تلام وحدها في ذلك، فعمدت إلى اشتراط التحدي على نحو أن من أرادت منهن أن تراود يوسف عن نفسه إن هي أكبرته (أي فُتنت به فرغبت بمراودته عن نفسه) أن تقطع يدها قبل أن تعطى الفرصة إلى ذلك. وبالرغم أن الأمر (كما نتخيل) كان غاية في الجدية من جانب امرأة العزيز، كان الأمر بالنسبة للنسوة (كما نظن) كان حتى الساعة أقرب إلى اللعب واللهو. فلم يخطر ببال النسوة (نحن نفتري القول) أن صاعقة ستقع فوق رؤوسهن بمجرد رؤية هذا الفتى. فلربما أن بعضهن كن قد مللن الرجال من كثرة المعاشرة، فما الجديد الذي يمكن أن يجدنه في فتى امرأة العزيز هذا. فكان الأمر بالنسبة لهن على نحو: دعنا نرى ونجرب، فما الذي سنخسره!!!
لكن المهم في الأمر بالنسبة لامرأة العزيز كان (في ظننا) اشتراطها على من قد تفتن منهن بيوسف وترغب بمراودته عن نفسها أن تقطع يدها. ولعلي لا أدري لم لازلنا حتى اليوم نشترط على بعضنا البعض في حالات التحدي (على الأقل هنا في الأردن) قطع الأيدي إن ثبت عكس ما نظن. فغالبا ما كنت أسمع فلانا يقول لفلان "صدقني إذا طلع كلامك صحيح لأقطع إيدي (باللهجة الأردنية الدارجة). فهل حضر بعضنا ما دار في مجلس امرأة العزيز فأوصل لنا الخبر ثم نسينا مصدره بعد ذلك؟ من يدري!!!
على أية حالة، أظن أن النسوة قد قبلن التحدي وشرط امرأة العزيز ذاك، عندها فقط طلبت المرأة بنفسها من يوسف أن يخرج عليهن:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ
وما أن خرج يوسف عليهن حتى أكبرنه:
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
وما أن أكبرنه (أي اخترن أن يوقعنه في الفتنة – انظر الجزء السابق لمعنى أكبرنه)، حتى أصبح لزاما عليهن تنفيذ شرط امرأة العزيز أن يقطّعن أيديهن قبل أن تعطى كل واحدة منهن الفرصة لتراود يوسف عن نفسه، فتستعرض مهاراتها الأنثوية في الإيقاع بالفتى:
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن امرأة العزيز قد خرجت من ذلك الاجتماع بالانتصار الأول وهو شهادة براءتها الشخصية من المسؤولية لتلقي باللائمة على مجموع النساء خاصة لبنات جلدتها من النساء اللاتي مكرن بها في المدينة:
          قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ
كما أن في ذلك براءة شخصية لها لمن لا يستطيع أن يتفهم الأمر من الرجال كزوجها مثلا. وسنرى بحول الله وتوفيقه تبعات هذا الظن على قولها بعد انكشاف الحقيقة:
... قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
ولقد زاد الطين بلّة، والموقف إثارة – كما نفهمه- هو اعتراف امرأة العزيز بنفسها لمجموع النسوة الحاضرات بأنها هي من راودت الفتى عن نفسه فاستعصم، فهي إذاً تعترف للنسوة بملء فيها أنها قد فشلت في إيقاع الفتى في شباكها، فأشعل ذلك – في ظننا- عنصر الإثارة عند من حضرت الاجتماع من النسوة، فظنت النسوة أن هذا شيء يمكن أن يكون مثاليا للتسلية وتضيع جزء من الوقت (وهو ما تحتاجه كثير من النساء على الدوام):
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ
فأصبح الأمر في مخيال النسوة (كما نتصوره) أن هذا الفتى لن يستطيع أن يصمد أمام كل المغريات المتوافرة، وإلا فإن التزام امرأة العزيز بسجنه نافذ لا محالة:
وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
وستكون النتيجة في ظنهن حتى الساعة وقوع هذا الفتى في أيديهن صيدا سهلا، حتى لو طال الزمن. فقد يقاوم الفتى بعض الشيء إلا أن هناك من الوسائل ما يمكن أن تلين جانبه.
ولما كان الأمر جماعيا، أصبح من المتيسر على النسوة القبول بالشروط المقترحة كتقطيع الأيدي، فإذا كانت امرأة العزيز نفسها لازالت راغبة في مراودة الفتى وتتعهد بنجاحها في ذلك، فلم التردد؟ ربما كان منطق النسوة حينئذ:
وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
منطقنا المفترى: ربما كان هذا هو منطق النسوة حينئذ، فنحن نظن أنه لم يكن ليخطر ببال النسوة إطلاقا حينها بأن ما يدبرنه من كيد بحق يوسف (وإن كان حتى الساعة ربما يقع في باب الهزل) لن ينجح مادام أن الفتى قد سلّم أمره إلى ربه الذي لا يتخذ هزوا. فإذا كان كيدهن قد جاء من باب الهزل، فإن عند رب يوسف القول الفصل:
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
ولو أن النسوة كن يعلمن بما ستؤول إليه الأمور في نهاية المطاف، لما وضعن أنفسهن في هذا الموقف الباييييييييخ أووي (كما يقول إخواننا المصريون) في مسرحياتهم الهزلية.
انتهت الافتراءات السابقة

سنتابع في هذا الجزء من القصة نفسها الحديث عن الموضوع نفسه محاولين هذه المرة أن نثير بعض التساؤلات الجديدة التي نظن أن باستطاعتنا تقديم بعض التصورات الجديدة المفتراة كأجوبة مقترحة لها، مثل:
-        من أولئك النسوة اللاتي حضرن إلى مجلس امرأة العزيز؟
-        كم كان عددهن؟
-        من أين خرج يوسف عليهن؟
-        كيف قطّعن أيديهن بأنفسهن؟ أي كيف كانت آلية تقطيع الأيدي إن كان فعل تقطيع الأيدي (كما زعمنا) فعلا إراديا مقصود بذاته؟
-        ماذا كانت ردة فعل أزواج أولئك النسوة وأهلهن عندما رأين أيدهن وقد تقطعت؟
-        ماذا كانت ردة فعل المجتمع؟
-        ما معنى تقطيع النسوة لأيديهن؟ هل حصل أن فصل كف اليد عن مرفقها كما في فعل قطع يد السارق؟
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
-        ماذا حصل لخبر مراودة امرأة العزيز لفتاها في المدينة كلها بعد أن قطعت نسوة المدينة أيديهن؟
-        لماذا تم الزجّ بيوسفَ في السجن بعد ذلك بالرغم أن الفتى كان بريئا مما نسب إليه من التهم؟
-        لِم لَم يصح ضمير أحد من أولئك النسوة لتعترف ببراءة الفتى؟ هل ماتت ضمائر البشر عندما تعلق الأمر بيوسف؟
-        ما وجه الشبه في هذه الجزئية مع ما حصل ليوسف من قبل إخوته؟ لم لم يصح ضمير أحد من إخوته ليخبر والده المكلوم على فراق ولده بأن ابنه يوسف لم يمت وأنهم قد ألقوه فقط في غيابة الجب فالتقطته بعض السيارة؟
-        ما كل هذا السكوت؟ ولماذا هذا الصمت الرهيب الذي كان نتيجته ظلم للعباد؟
-        الخ.

أولا: باب النسوة
نبدأ هذا النقاش بإثارة التساؤل التالي: لم كانت نسوة في المدينة هنّ من مكرن بامرأة العزيز؟ لماذا جاء اللفظ بهذه الصيغة؟
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
لِم لَم يأتي اللفظ على نحو أن اللاتي مكرن بيوسف هن نساء المدينة مثلا؟ فما الفرق بين النساء من جهة والنسوة من جهة أخرى؟
رأينا المفترى: نحن نظن أنه لو جاء اللفظ على نحو أن اللاتي مكرن بامرأة العزيز هن نساء المدينة لربما أصبح لزاما علينا أن نخرج على الأقل باستنباطين اثنين هما:
1.     أن المكر بامرأة العزيز قد جاء من كل نساء المدينة
2.     أن الخبر قد انتشر في المدينة كلها
لذا يصبح من غير المستساغ أن تجمع امرأة العزيز كل نساء المدينة في مجلسها، ولربما أصبح من المتعذر أن تسمع بمكرهن كلهن، ولأصبح من المتعذر أن تراود كل نساء المدينة يوسف عن نفسه، و ... الخ.
لذا نحن نظن أن مفردة نسوة تعني "بعض من كل"، أي أن الذي مكر بامرأة العزيز كن "بعض من نساء المدينة وليس كل نساء المدينة". فمفردة النسوة تحمل (برأينا) على التخصيص، بينما تحمل مفردة النساء على التعميم الذي ينطبق على الجميع
الدليل
لو تفقدنا الخطاب القرآني الذي يرد فيه لفظ النساء، لربما وجدنا أن الخطاب موجّه للمجموع، فلقد كان فرعون مثلا يستحيي كل نساء بني إسرائيل:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
فلم يكن استحياء فرعون لنساء من بني إسرائيل خاصة بمجموعة منهن دون نساء أخريات، أي لم يكن الاستحياء يطول بعض نساء بني إسرائيل (إي نسوة منهن)، ولكنه كان يمكن أن يطول كل نساء بني إسرائيل دون استثناء.
وكذلك هو المحيض، فهو أذى يقع على كل النساء بلا تخصيص:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
وقد اصطفى الله مريم على نساء العالمين جميعا:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42)
فمادام أن مريم قد أُصطفيت على نساء العالمين، فلم توجد ولا توجد ولن توجد امرأة على وجه الأرض يمكن أن تتقدم على مريم بهذا الاصطفاء الإلهي.
والرجال بمجموعهم قوامون على النساء بمجموعهن:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
وعندما وجه الله الخطاب إلى نساء النبي، كان الخطاب موجه لهن جميعا، فجاء اللفظ كذلك:
يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
وكذلك عندما وجه الله الخطاب إلى كل نساء المؤمنين جاء اللفظ على هذا النحو:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (59)
وقد جاء في كتاب الله التقابل الواضح بين القوم من جهة والنساء من جهة على أنها شريعة ثابتة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن مفردة النساء تطلق في النص القرآني إذا كان المقصود عموم النساء الموجه لهن الخطاب، فعندما وُجِّه الخطاب إلى نساء النبي كان المقصود فيه كل نساء النبي، وعندما وُجّه الخطاب إلى نساء المؤمنين كان المقصود فيه كل نساء المؤمنين، وعندما وُجّه الخطاب إلى النساء دون إضافة (إضافتها إلى مضاف إليه) كان المقصود شرعة كونية تنطبق على كل النساء دون استثناء.
افتراء من عند أنفسنا: وبمثل هذا الفهم المفترى من عند أنفسنا، نحن نظن أن اللاتي مكرن بامرأة العزيز لم يكن كل نساء المدينة، ولكن نسوة في المدينة (أي عدد من نساء المدينة).
السؤال: ما فائدة مثل هذا الفهم في توضيح ما حصل في قصة امرأة العزيز مع أولئك النسوة؟
رأينا: نحن نجد أن في هذا ذكاء ودهاء خارق من قبل امرأة العزيز، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن امرأة العزيز قد استطاعت أن تلملم (باللهجة الأردنية) الخبر قبل أن ينتشر في المدينة كلها كانتشار النار في الهشيم. فما أن سمعت بأن مجموعة قليلة من نساء المدينة (أي نسوة) يمكرن بها حتى أرسلت لهن على الفور، لتوقعهن في الشرك ذاته، فتصيب بذلك هدفين اثنين:
1.     لن تجرؤ أحد من تلك النسوة اللاتي مكرن بها أن تنشر الخبر بنفسها أن أصبحت هي في قفص الاتهام (خاصة أن بيّنة تقطيع الأيدي لازالت علامة فارقة فيها).
2.     لن ينتشر الخبر في المدينة إلا من باب الإشاعة هذا إن استمر في الانتشار على لسان الآخرين أصلا. فلو أن الخبر استمر بالانتشار في المدينة على لسان قوم آخرين أو نساء أخريات لأصبح محور الحديث يشمل نساء أخريات (أي نسوة)، ولن يصبح الأمر يتعلق بامرأة العزيز على وجه الخصوص، ولربما انتقل الخبر حينها ليقع في باب الشائعات المغرضة أكثر منه في باب انتشار الأخبار الصحيحة. فهل يستطيع من يريد الخوض في هذا الموضوع أن يتطرق لأعراض كل نسوة المدينة اللاتي كن يتناقلن الخبر بالإضافة إلى امرأة العزيز نفسها؟
نتيجة مفتراة: لو أن الخبر استمر في الانتشار في المدينة خاصة على لسان النسوة أنفسهن لأصبح الدليل قائما عليهن مادام أنهن قد قطعن أيديهن بأنفسهن، ولأصبحت براءة امرأة العزيز يستطيع إثباتها أقل المحامين نصبا وتحايلا آنذاك. فالمرأة لازالتا يداها سالمتين لم تقطعهما سكينا، أليس الدليل المادي هو ما يبحث عنه القاضي؟


ثانيا: باب المكر
ولكن يبقى هناك تساؤل آخر لابد من تجليته في هذه الجزئية وهو أن كلام النسوة في المدينة عن امرأة العزيز جاء من باب المكر ولم يأتي من باب الكيد، فتلك النسوة قد مكرن بامرأة العزيز ولم يكدن لها. انظر النص القرآني نفسه:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
ليكون تساؤلنا التالي هو: ما الفرق بين المكر (كما فعلت النسوة مثلا بامرأة العزيز) والكيد (كما حصل ليوسف من قبل النسوة مع امرأة العزيز أو كما حصل ليوسف من قبل إخوته)؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الفرق بين المكر والكيد يكمن في الغاية المرجوة عند من يدبر كل منهما، ففي حين أن كلاً من المكر والكيد ينطويان على إيقاع ضرر بالآخرين إلا أن الفرق يكمن في الغاية المرجوة من كل منهما، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الكيد (كما نفهمه) يكون بإيقاع الأذى بالآخر من أجل فائدة مرجوة يمكن تحقيقها من وراء ذلك  لمن دبر الكيد، فلقد حذر الوالدُ (يعقوب) الولدَ (يوسف) من كيد إخوته:
قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
فلقد كان يعقوب على علم بأن ما يدبره الإخوة بحق أخيهم من مؤامرة يقع في باب الكيد، لأن كيد الإخوة كان مدفوعا بفائدة مرجوة ستطالهم، فكان ذلك من أجل أن يخلُ لهم وجه أبيهم ويكونوا من بعد يوسف قوما صالحين:
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
وربما من هذا الباب نفسه جاء كيد النسوة بيوسف:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
ولو تدبرنا ما قالته امرأة العزيز بعد انكشاف الحقيقة لوجدنا أنها تصر على أنها لم تكن من الخائنين لأن الله – بنص حديثها- لا يهدي كيد الخائنين:
          ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
فلربما نستطيع أن نفهم من حديثها هذا أن الله ربما يهدي كيد من لم يكن خائنا كيوسف، عندما كاد بإخوته بتدبير إلهي:
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
فيوسف نفسه قد كاد لإخوته في نهاية القصة، وكان ذلك مدفوعا بمصلحة تتحقق له، فاستطاع من خلال ذلك الكيد أن يأخذ أخاه في دين الملك بمشيئة من الله.
السؤال: لماذا لم يأتي تدبير يوسف القصة من أجل أن يأخذ أخاه في باب المكر؟
رأينا: نحن نفتري الظن بأن المكر (يختلف عن الكيد) لأنه لا يتم تدبير المكر – نحن نظن- من أجل تحقيق مصلحة لتعود على من دبره، وإنما فقط لغرض إيقاع الأذى بالغير، وكفى.
فعندما حاول كفار قريش أن يوقعوا الأذى بمحمد (دون أن ينعكس ذلك بفائدة مرجوة عليهم) جاء قول الحق على النحو التالي:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
ولو تدبرنا ما جاء في حديث النسوة عن امرأة العزيز لوجدناه يقع في باب المكر (وليس الكيد):
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
وذلك لأن حديثهن (في رأينا) كان حتى الساعة مدفوعا فقط بغاية واحدة وهي إيقاع الأذى بالمرأة حتى وإن لم يكن ذلك ليجلب عليهن مصلحة بعد ذلك. فالنسوة لم يخبرن يوسف بعد، وكل ما يهم تلك النسوة حتى الساعة هو – في ظننا- تشويه صورة امرأة العزيز التي لا شك أنها من علِية القوم. (وسنتحدث عن هوية المرأة لاحقا بحول الله وتوفيقه).
وما أن خرج يوسف عليهن وأصبح محط عين كل واحدة منهن حتى كان اختيارهن قد وقع على إكباره:
          فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
وهنا انقلبت المؤامرة التي تحاك ضد يوسف من قبل النسوة جميعا لتقع في باب الكيد (ولم تكن مكرا به)، وذلك لأن مصلحة ما – في ظننا- سترد عليهن جميعا متى ما نجحن بالإيقاع بالفتى كفريسة لكيدهن، فجاء نداء يوسف لربه عاليا في النبرة والصوت:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)
فاختار يوسف طريق السجن بدلا من مراودة النسوة له.

ثالثاً: باب وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ
السؤال: من الذي زج بيوسف بالسجن؟
جواب: نحن نظن أن الذي زج بيوسف في السجن هي امرأة العزيز نفسها، فهي التي تعهدت بنجاح محاولتها وإلا فإن السجن سيكون مصير يوسف إن هو أبى ذلك:
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
ولو تدبرنا قولها هذا، لوجدنا لزاما علينا الوقوف في قولها عند مفردتين أو عبارتين اثنتين وهما:
1.      وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ
2.     وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ
لنخلص من خلال ذلك إلى الاستنباطات التالية:
-        أن المرأة ذات مكانة في قومها، فهي صاحبة قول نافذ (أي هي من قد تأمر بالسجن).
-        أن من يخالفها الرأي سيكون من الصاغرين
ولو تفقدنا القرآن كله لوجدنا أن من يأمر فينفذ أمره، وأن من يخالفه الرأي سيكون من الصاغرين، لوجدناهم ثلاثة فقط، وهم:
1.     الله نفسه، فهو الذي أمر إبليس بالسجود لآدم:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)
وما أن رفض إبليس الأمر الإلهي ذاك حتى كان من الصاغرين:
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
2.     سليمان: فهو الذي تعهد بأن يكون من لا يطيع أوامره من الصاغرين:
فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
3.     امرأة العزيز: فهي التي أمرت بسجن يوسف ليكون من الصاغرين لأنه رفض الرضوخ لما أمرته:
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
التساؤلات:
-        من هي امرأة العزيز هذه؟
-        ولماذا تم الزج بيوسف في السجن وقد تبيّن لسيدها أنها هي من راودت يوسف عن نفسه؟
-        ألم يشهد شاهد من أهلها أنها هي من كذبت وهو من الصادقين عندما رأى سيدها أن قميص يوسف قد قُدّ من دبر؟
-        ألم تعترف امرأة العزيز بملء فيها أمام النسوة بأنها هي من راودته عن نفسه فاستعصم؟
-        ألم تتعهد أمام النسوة أنها لن تكف عن مراودته حتى ينصاع لأمرها وإلا فإن السجن سيكون مأواه؟
-        الخ.
رأينا: للإجابة على مثل هذه التساؤلات فلابد من الخوض أولا في باب تقطيع النسوة لأيديهن.

رابعا: باب التقطيع الأيدي
أظن أننا نحتاج بداية أن نفهم كيف حدث أن قطّعت النسوة أيديهن في ذلك اللقاء الشهير. فلقد زعمنا الظن بأن تقطيع الأيدي كان فعلا مقصودا بذاته، مشروطا من قبل امرأة العزيز على من أرادت من النسوة أن تجرب حظّها في مراودة يوسف عن نفسه. لكن هذا الطرح يجلب في ثناياه تساؤلات عديدة نذكر منها:
-        كيف قطّعت النسوة أيديهن بأنفسهن؟
-        كيف كانت آلية تقطيع الأيدي إن كان فعل تقطيع الأيدي (كما زعمنا) فعلا إراديا مقصود بذاته؟
-        ماذا كانت ردة فعل أزواج أولئك النسوة وأهلهن عندما رأين أيدهن وقد تقطعت؟
-        ماذا كانت ردة فعل المجتمع؟
-        ما معنى تقطيع النسوة لأيديهن؟
-        فهل حصل أن تم فصل كف اليد عن مرفقها (كما يحدث عندما تطبّق حدود الشرع العجيب!!!) في فعل قطع يد السارق؟
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن لازلنا على العقيدة التي مفادها أن الإله يعي ما يقول، وأن ألفاظ القرآن الكريم دقيقة مقصودة لذاتها، ويستحيل أن تسدّ مفردة في كتاب الله مكان مفردة أخرى، وأن المفردة الواحدة تنطوي على المعنى ذاته في جميع السياقات القرآنية التي ترد فيها. وأن عجزنا في فهم المعنى الحقيقي للمفردة هو ما يجعلنا نتنقّل بين معاني كثيرة للمفردة الواحدة في السياقات العديدة. وإن نحن عجزنا حتى عن تقديم معنى جديد للمفردة لن تنقصنا الحيلة في أن نجوّز ما لا يجوز، فنطير للتحليق في عالم المجازات والاستعارات. ولا أرى في ذلك أكثر من تحايل على أنفسنا وهروبا من البحث عن المعنى الحقيقي للمفردة الذي عجزنا عن الوصول إليه (للتفصيل انظر مقالاتنا تحت عنوان جدلية الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم و مصادر التشريع في الإسلام، و جدلية عذاب القبر).
ونحن ننصح القارئ الكريم الذي لا يعجبه مثل هذا المنهج بأن لا يتجاوز في القراءة السطر التالي، لأننا سنفتري من القول ما نظن أن أحد من البشر لم يسبقنا إليه. ولكننا لا شك نسأل الله وحده أن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، إنه هو الواسع العليم.
أما بعد،
إن غاية ما نود إثارته من هذه الجلبة على جانب بحثنا عن ماهية تقطيع النسوة لأيديهن هو القول بأن عبارة قطع اليد قد وردت بحق تلك النسوة كما وردت في حالة قطع يد السارق أو في حد الحرابة، فهي ذاتها سواء كانت في حالة النسوة اللاتي قطعن أيديهن أوفي حالة قطع يد السارق والسارقة أو في حد الحرابة (كما يرغب أهل الدراية أن يسموها). فلقد جاء اللفظ في الحالات الثلاثة بالمفردات ذاتها، ففي حالة النسوة كان تقطيع الأيدي جليا لا لبس فيه:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
وفي حالة السرقة كان تقطيع الأيدي ليس أقل وضوحا:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
وكذلك هو اللفظ كـ جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا:
إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
وقد كانت هذه شريعة متبعة حتى في زمن فرعون. فعندما شعر فرعون أن موسى من المفسدين في الأرض:
          قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
كان قراره بحق السحرة الذين اتبعوا موسى هو تقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف:
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
السؤال: ما هو تقطيع الأيدي؟ وكيف كانت تنفّذ آلية تقطيع الأيدي والأرجل؟
افتراء خطير جدا جدا جدا، لا تصدقوه ما لم يثبته الدليل من كتاب الله: نحن نفتري الظن بأن تقطيع اليد لا يكون ببترها (أي بفصل راحة اليد أو الكف عن معصمها أو عن مرفقها). وإلا لأصبح لزاما علينا أن نفهم بأن ما قامت به النسوة في حالة يوسف كان عبارة عن عملية جراحية ربما يعجز عنها الأطباء المهرة الذين يتسلحون بالأدوات الحادة جدا في غرف العمليات في المستشفيات. فهل يعقل أن تقوم النسوة بتقطيع أيديهن بالبتر كليا بمجرد رؤيتهن ليوسف؟ فأي سكين يمكن أن تفعل ذلك؟ وأي كائن حي يمكن أن يتحمل ذلك وهو لا يشعر به (كما أجمعت على ذلك تفسيرات أهل الدراية من قبلنا)؟ من يدري!!!
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن نتصور أن يقوم فرعون بصلب من قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف في جذوع النحل؟ فكيف يمكن أن نرسم صورة ذهنية لذلك المشهد؟ من يدري!!!
رأينا المفترى: كلا وألف كلا. فنحن نظن أن ما قامت به النسوة لا يتعدى إحداث جرح في أيديهن باستخدام تلك السكاكين التي آتت كل واحد منهن امرأة العزيز بنفسها[1].
الافتراء الأكثر خطورة: ونحن نفتري الظن بأن تطبيق حد السرقة بقطع الأيدي لا يكون بأكثر من إحداث جرح في اليد، ولا يجوز بتر اليد عن مرفقها كما تقوم بذلك بعض الحكومات التي تدّعي أنها تطبق شرع الله في الأرض، وهم (في ظننا) لا يقومون بأكثر من تطبيق ما تهواه نفس حاكمهم فيها، الذي اكتسب لنفسه (بما خطت به أقلام أهل الدراية المسيّرين بكلماته وبأهوائه) شرعية أفهمت عوام الناس بأنه خليفة الله في الأرض. ونحن نقول لأصحاب الأقلام التي تتسابق في إصدار الفتاوى التي ترضي أهواء الحكام (إن هم شككوا بكلامنا هذا) نقول لهم أننا ننتظر وإياكم مصيرنا جميعا كما تصوره الآية الكريمة التالية أحسن تصوير:
          قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
وإن كنتم في عجلة من الأمر، فالذي يفصل بيننا وبينكم هو حكم الله في الآية الكريمة التالية التي تعرفونها جيدا:
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
وسنحاول في ما تبقى من صفحات هذا الجزء من المقالة أن نبيّن (مفترين القول بالطبع) كيف عطّل أهل الدراية الأحكام الواردة في كتاب الله ربما مرضاة لأهواء أهل السياسة الذي ركبوهم مطية سهلة لإخضاع رقاب العباد ظلما وجورا. والمثال الذي سنسوقه هو حد قطع يد السارق والسارقة.
الافتراء الخطير جدا جدا: نحن نفتري القول بأن القرآن الكريم – مما نفهمه من بعض آياته- لا يطلب من ولي الأمر أن يقطع بالبتر يد السارق، ولكنه يطلب منه أن يقطع يد السارق بالجرح فقط.
الدليل
دعنا نقرأ آية قطع يد السارق والسارقة كما جاءت في كتاب الله نفسه، قال تعالى:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
فلو دققنا في هذه الآية الكريمة لوجدنا أن تطبيق حد السرقة هو من أجل تحقيق غايتين اثنتين لا ثالث لهما:
1.     جزاء بما كسب السارق أو السارقة: جَزَاء بِمَا كَسَبَا
2.     نكالا من الله بالسارق والسارقة على فعلتهما: نَكَالاً مِّنَ اللّهِ
السؤال: كيف يمكن أن نفهم أن قطع يد السارق والسارقة يكون جزاء بما كسبا؟ وكيف نفهم أن في تطبيق حد السرقة بقطع اليد نَكَالاً مِّنَ اللّهِ؟
رأينا: ربما نجيب على هذه التساؤلات بإثارة تساؤل كبير لازال بعد أربعة عشر قرن من الفقه (الذي استقر في ضمير الأمة وأصبح ربما غير قابل أن يوضع على طاولة النقاش) تساؤل لا زال يخالج العامة وأهل العلم على حد سواء بخصوص قطع يد السارق، والسؤال هو:
- هل السرقة سرقة بغض النظر عن كمية المال المسروق؟ وهل السرقة هي نفسها سرقة بغض النظر عن آلية تنفيذها؟ وهل السرقة سرقة بغض النظر عن العواقب التي قد تترتب عليها في كل حالة؟ فهل جزاء من سرق دراهم قليلة – مثلا- هو الجزاء نفسه الذي يقع على من سرق مقدّرات الأمة كحكام دولنا الإسلامية العتيدة الذين ما انفكوا وآلهم الطيبين الطاهرين يوما عن سرقة مقدرات الأمة بأكملها وأهل الدراية من أهل العلم العارفين بحدود الله يروجون لهم بأنهم يطبقون حد السرقة بقطع أيدي كل من سولت له نفسه أن تمتد يده لأخذ دراهم معدودة ربما كانت الحاجة هي الدافع لفعل السرقة في كثير من حالاتها؟
- وكيف يمكن أن نطبق حد السرقة بحق من سرق ويسرق مقدرات وثروات الأوطان تحت حماية القانون ونصوص الدستور؟
- فهل نكتفي بأن نقطع أيديهم (إن قدرنا عليهم بالطبع) بنفس الطريقة التي يمكن أن تقطع فيها يد كل من سرق ولو القليل من الأموال؟ فهل سيُذهب ذلك غيض قلوب ملايين المسلمين؟ وهل سيشفي ذلك صدور قوم مؤمنين؟
- والأهم من هذا كله هو: هل يحقق ذلك الغايات المنصوص عليها في الآية الكريمة نفسها (جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ)؟ فهل يتساوى الجزاء في ذلك مع جزاء من سرق ولو بعض دراهم لقلة ذات اليد في حين أن كل منهم قد تلقى العقوبة نفسها (وهي قطع اليد كما تصورها فتاوى أهل الدين العجيب)؟
- ثم، ألم يختلف علماؤنا الأجلاء (العارفين حدود الشرع) في تقدير قيمة المال المسروق الذي يجب عنده أن يطبق حد قطع اليد؟
- ألم ينسب بعض أهل الدراية حد تطبيق قطع اليد إلى زمن الجاهلية وجاء الإسلام ليقر الناس على ذلك؟ ومن لم يعلم بمثل هذه الأخبار، فليقرأ ما جاء في تفسير ابن كثير التالي عن الآية الكريمة نفسها:
يقول تعالى حاكما وآمرا بقطع يد السارق والسارقة وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن مسعود كان يقرؤها " والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما " وهذه قراءة شاذة وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقا لها لا بها بل هو مستفاد من دليل آخر وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية فقرر في الإسلام وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش قطعوا رجلا يقال له دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة كان قد سرق كنز الكعبة ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به سواء كان قليلا أو كثيرا لعموم هذه الآية " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا بل أخذوا بمجرد السرقة وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن عن نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس عن قوله " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " أخاص أم عام ؟ فقال : بل عام وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ويحتمل غير ذلك فالله أعلم وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة فعند الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة - فمتى سرقها - أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم أخرجاه في الصحيحين قال مالك - رحمه الله - : وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قومت بثلاثة دراهم وهو أحب ما سمعت في ذلك وهذا الأثر عن عثمان - رضي الله عنه - قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقا سرق في زمن عثمان أترجة فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم - صرف اثني عشر درهما - فقطع عثمان يده قال : أصحاب مالك ومثل هذا الصنيع يشتهر ولم ينكر فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافا للحنفية وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم وللشافعية في اعتبار ربع دينار والله أعلم . وذهب الشافعي - رحمه الله - إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان : البخاري ومسلم من طريق الزهري عن عمرة عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا : ولمسلم عن طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه قالوا : وحديث ثمن المجن وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا لأنه إذ ذاك فإن الدينار باثني عشر درهما فهي ثمن ربع دينار فأمكن الجمع بهذا الطريق وروي هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وبه يقول : عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه وإسحاق بن راهويه في رواية عنه وأبو ثور وداود بن علي الظاهري رحمهم الله . وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية عنه إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي فمن سرق واحدا منهما أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة - رضي الله عنها - ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك " وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثني عشر درهما وفي لفظ للنسائي " لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن" قيل لعائشة ما ثمن المجن قالت : ربع دينار فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم والله أعلم . وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه : أبو يوسف ومحمد وزفر وكذا سفيان الثوري - رحمهم الله - فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن ثمنه عشرة دراهم وروى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : فإن ثمن المجن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم ثم قال : حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن " وكان ثمن المجن عشرة دراهم قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن فالاحتياط الأخذ بالأكثر لأن الحدود تدرأ بالشبهات . وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحدا منهما يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر رحمهم الله تعالى . وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس أي في خمسة دنانير أو خمسين درهما وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة " يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" بأجوبة أحدها : أنه منسوخ بحديث عائشة وفي هذا نظر لأنه لا بد من بيان التاريخ . " والثاني" أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه . " والثالث " أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله فقال : يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم وقد أجابه الناس في ذلك فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي - رحمه الله - أن قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ولما خانت هانت ومنهم من قال هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب. ولهذا قال " جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم " أي مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك نكالا من الله أي تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك " والله عزيز " أي في انتقامه" حكيم " أي في أمره ونهيه وشرعه وقدره .
السؤال: هل جزاء من سرق ربع دينار– يا سادة-  هو قطع يده كمن سرق المليارات من مقدرات الأمة؟ وإذا كان الربع دينار (والدينار والعشرة دراهم ونحوهم) يوجبان تطبيق حد السرقة، فكم من أيدي البشر لابد أن تقطع في هذه الساعة؟ فانظر - عزيزي القارئ- في هذه اللحظة إلى يدك، ألا يجب أن تكون الآن مبتورة إن أردت أن تلاقي ربك بقلب سليم؟
وماذا عن مصدر السرقة؟ فماذا لو سرق الولد من جيب والده؟ وماذا لو سرقت المرأة من جيب بعلها؟ وماذا لو سرق الأخ من مال أخيه؟
وماذا عن العفو؟ ماذا لو قام من سُرِق منه شيء بالعفو عن من سَرق منه؟ هل يبقى حد السرقة قائما بقطع يد السارق؟ ألم ينصص القرآن الكريم على أن هناك عفو في القصاص، فتخفف العقوبة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
وأليس قطع اليد من الجروح التي يجوز فيها القصاص:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وماذا عن مقاصد الشريعة؟ ألا يزيد قطع يد السارق الطين بلّة؟ أليست معظم السرقات مدفوعة بالحاجة؟ فهل نقطع يد السارق لنرمي به في المجتمع عالة على غيره، طالبا العون من الآخرين؟ ألا يزيد ذلك نقمة في صدره؟ أليس في القصاص حياة لنا:
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
السؤال المهم: ما مقصد الشريعة من تطبيق حد السرقة إذن؟
رأينا: نكالا من الله
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
نعم، نحن نفتري القول بأن مقصد الشريعة في ذلك هو التنكيل فقط، أي تشيير السارق بعلامة واضحة فارقة لتفضحه بين الناس حتى يحترس الناس منه، جزاء بما اكتسب بيمينه (جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ)، ولكن أين الدليل على ذلك؟
جواب مفترى: نحن نقرأ الدليل على أن التنكيل هو الفضيحة على رؤوس الأشهاد من السياق القرآني التالي الذي يتحدث عن ما حل بالذين اعتدوا في السبت:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66)  
فلقد كان جَعْلُ الذين اعتدوا في السبت قردة خاسئين تنكيلا بمن قام بتلك الفعلة الشنيعة التي نهاهم الله عنها. لذا فإن في السرقة (كما حصل في أهل السبت) اعتداء على ما نهانا الله أن نقربه، فكان (نحن نفتري الظن) مقصد التشريع في ذلك هو التنكيل، أي التشهير بمن فعل ذلك. ولا أظن أن مقصد الشريعة يكمن في أن نجعل البشر السويين في البنية والجسم من ذوي الاحتياجات الخاصة لنلقي بهم في الشوارع ليكونوا عالة على المجتمع.
ونحن نقرأ أن التنكيل هو تشهير بالشخص ليكون عبرة لغيره فيما حصل لفرعون:
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (26)
نعم إنها عبرة، ولكنها عبرة بالمثال السيئ كحالة فرعون هذا عندما أنجاه الله ببدنه ليكون آية لمن خلفه:
           فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
وكحالة أصحاب السبت الذين جعلهم الله قردة خاسئين، وكذلك هي الغاية من تنكيل السارق: ليكون عبرة لغيره:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن مقصد الشرع في تطبيق حكم السرقة بقطع اليد هو التشهير بالسارق والسارقة وليس إلحاق الأذى الجسدي بهما. ولكن كيف يكون ذلك؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن ذلك يتحقق بإحداث جرح بارز فقط في يد السارق (وليس في بتر اليد عن مرفقها). فإحداث مثل هذا الجرح يبقي علامة بارزة تشهّر بالسارق لكل أهل السوق. فيتبيّن للناس من خلال هذا الجرح أن هذا الشخص المقطوعة يده (بالجرح) هو ممن اعتدى على أموال الآخرين بالسرقة، فيحترس أهل السوق منه. ولعلي أظن أن الهدف من جعل تلك العلامة بارزة في اليد (وليس في مكان آخر في الجسم) ربما يكمن في أن اليد هي وسيلة التعامل في الأسواق، فمن قَدِم السوقَ وأراد البيع والشراء فلابد أن يستخدم يده في تبادل السلع بالأموال، فعندما يرى الناس (كل الناس) أن يد هذا الشخص قد قطعت (أي جرحت بطريقة خاصة سنتحدث عنها بحول الله بعد قليل) سيشكل ذلك دافعا للناس بأن يحترسوا من هذا الشخص، وسيكون لهذا الأمر تبعات نفسية جمّة على البشر، فمن يستطيع من الناس أن تسوّل له نفسه أن يسرق من ممتلكات الغير مادام أن الفضيحة (التنكيل) لا محالة حاصلة له على الملأ. فيتحقق بذلك مقصد الشريعة في غايتين اثنتين:
1.     مادام أن في تطبيق حد السرقة تنكيل بالشخص أمام الآخرين فإن هذا سيكون رادع قويا لكل من تسول له نفسه العبث بممتلكات الآخرين
2.     سيكون في ذلك حماية للمجتمع من كل من سرق شيئا من غيره مادام أن يده لا محالة مقطوعة (ولكنها بالتأكيد ليست مبتورة).
ولا يقل أهمية عن كل هذا في ظننا هو أنه ينتفي بذلك أن يكون في تطبيق الحد اعتداء على الناس، فقطع يد السارق والسارقة هو تشريع من الله الذي نعلم أنه لا يظلم مثقال ذرة:
إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
لذا علينا أن لا نوقع ضررا أكبر من حجم الجريمة المرتكبة عندما نطبق شرع الله، ونحن نفتري القول بأن في بيتر يد السارق (كما روّج ويروج لذلك أهل الشرع العجيب) اعتداء على الناس بضرر أكبر من حجم الجريمة المرتكبة. فلا أظن أن من ارتكب جنحة يجب أن يعاقب ويكأنه ارتكب جناية، فالجنحة جنحة والجناية جناية، والعقوبة يجب أن تعكس الفرق بينهما، وهنا فقط يتحقق العدل، ويتقبل الناس بكل صدر رحب تطبيق الشرع الحنيف (بعد أن نفروا قرونا طويلة من الزمن من الشرع العجيب).

وعلينا أن لا ننسى أيضا أن يكون تطبيق حد السرقة (كما نفتري من عند أنفسنا) متساو مع حجم المال المسروق، فمن سرق دراهم معدودة يجب أن لا تكون عقوبته (في ظننا) كمن سرق مقدرات الأمة. ونحن نقرأ ذلك في الآية الكريمة نفسها في قوله تعالى جَزَاء بِمَا كَسَبَا:
          وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
ولكن كيف ذلك؟
رأينا: لو حاولنا أن نربط تطبيق حد السرقة هذا مع حد الزنا في الآية الكريمة التالية لوجدنا الفرق – كما  نزعم فهمه- واضحا:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
السؤال: ما الذي تجده – عزيزي القارئ- فارقا بين تطبيق الحدين (حد قطع اليد في السرقة وحد الجلد في الزنا) كما توضحه مفردات كل آية منهما؟
رأينا: لو أمعنا النظر في الآيتين الكريمتين لوجدنا أنه في حين أن حد السرقة مربوطا بالجزاء في الكسب (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا)، فإن حد الجلد في حالة الزانية والزاني غير مرتبط بالكسب إطلاقا. ولو دققنا أكثر لوجدنا أن تطبيق حد الزنا منزوع منه جانب الرأفة. والآن، انظر – عزيزي القارئ- الآيتين معا جيدا، وتفقدهما من هذا الجانب:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
السؤال: لماذا؟ لماذا لا يجب أن تأخذنا في الزانية والزاني رأفة؟ ولماذا لا يوجد مثل هذا الشرط في تطبيق حد السرقة بقطع اليد؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن لا رأفة في تطبيق حد الزنا بينما تكون الرأفة متوافرة في حد السرقة لأنها ببساطة جزاء بمقدار ما كسب السارق أو السارقة من المال. ولكن كيف يكون ذلك؟
رأينا: نحن نظن قطع يد السارق هي عقوبة تدرّجية، يزيد وينقص القطع فيها بحجم السرقة ودافعها وعواقبها، ولكن جلد الزانية والزاني ليست عقوبة تدرّجية، فلا يزيد الجلد أو ينقص حسب الحالة. وذلك لأن فعل الزنا (نحن نفتري القول) هو فعل واحد بغض النظر عن فاعله وعن آليته وعن دافعه، فلا يوجد من هو أكثر مهارة في فعل الزنا أو من هو أقل مهارة في ذلك. ولا يوجد زاني أو زانية يأخذ أكثر من زاني أو زانية غيرهم متى ما وقع في فعل الزنا. ولا يفترق الزنا حسب المرأة التي تم ارتكاب الزنا معها، فليس الزنا بذات النسب والجاه يختلف عن الزنا بأقل أهل الأرض منزلة. فالفعل واحد، والمتعة المنشودة واحدة، تبدأ مع الفعل وتنتهي بنهايته، ولا يتحقق العقاب في الجلد بمقدار المتعة التي حصل عليها الزاني أو الزانية من فعلتهما. ولا يكون الزنا مدفوعا في مرة برغبة ما وفي موضع آخر مدفوعا برغبة أخرى، فالرغبة بالزنا هي نفسها في كل الأوقات وتحت جميع الظروف والأحوال. وبكلمات بسيطة نقول: إن ارتكاب فعل الزنا هو ذاته بغض النظر عن يقوم به وبغض النظر عن الطريقة التي ينفذها بها أو الفائدة المتحصلة من وراء ذلك. لهذا كله (وزيادة) لم يكن في تطبيق حد الجلد بحق الزانية والزاني عنصر الرأفة متوافرا، فمادام أن الدافع والوسيلة والنتيجة واحدة في كل فعل زنا قد يحصل (كما نفتري القول من عند أنفسنا)، فقد أمرنا الله بأن لا تأخذنا في تطبيق الحكم رأفة بالزاني أو الزانية:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
افتراء من عند أنفسنا: لكننا نفتري الظن بأن مثل هذا المنطق لا ينطبق في حالة السرقة، فالسرقة ليست سرقة واحدة في كل الأحوال وتحت كل الظروف، فأحيانا تكون السرقة مدفوعة بالحاجة، فهناك من يسرق لأنه محتاج، وأحيانا تكون مدفوعة بالجشع، فهناك من يسرق لأنه لا يشبع، وأحيانا تكون مدفوعة بالمرض، فهناك من يسرق لأنه لا يستطيع أن يقاوم نفسه كحالة مرضية.
والسرقة لا شك محكومة بالآلية، فهناك من يسرق لأنه وجد نفسه أمام مغريات لم يستطع أن يقاومها في تلك الساعة وقد لا يكرر ذلك لو تغيرت بعض الظروف، ولكن هناك من يسرق كعادة متكررة لا يمل ولا يكل منها، كالعصابات الحاكمة في بلاد المسلمين الذين حموا أنفسهم بالقانون وبنصوص الدستور ليسرقوا في رابعة النهار مقدرات الأمة (فما أكثر العطاءات والصفقات في بلد المسلمين التي تتضخم قيمتها الاسمية بالملايين والمليارات وتتمخض في النهاية عن مشاريع لا تتجاوز قيمتها الفعلية المئات وربما الألوف في أحسن الحالات!)
والسرقة لا شك محكومة بالمقدار، فهناك سرقات بدراهم معدودة وهناك سرقة بمليارات الدنانير والدراهم والريالات والليرات. فهل من سرق عشرات أو ربما مئات لينفقها على أولاده الجياع، أو ليكسو بها عورة بناته الصبايا الجميلات، كمن سرق المليارات ليخزنها أرصدة في بنوك سويسرا أو صكوكا وأسهما وسندات تنمية في WALL St. تدر بالملايين والمليارات في خزائن الغرب، في الوقت الذي يعاني فيه أطفال المسلمين في كل مكان من سوء التغذية؟ من يدري!!!
أما أنا، فأظن أن كل هذا (وأكثر) ما كان ليكون ممكنا لولا علماء الدين العجيب الذين أحنوا أعناقهم ورؤوسهم مطيّة مريحة لأهل السياسة والوساخة مقابل بعض الفتات الذي يلقونه لهم من موائدهم العامرة على الدوام بين الفينة والأخرى. فأنا لا أتخيل حالهم بأحسن من حال القطط أو الكلاب التي يرمي لها من يأكل الأطباق الفاخرة (ليس رأفة بها) وإنما لتكف عن المواء فلا تزعجه وفي الوقت ذاته تنبهه من الدخلاء غير المرحب بهم في تلك الساعة. وليحفظ عني كل أبناء المسلمين مقولتي التي لا أمل من تكرارها وهي أننا في بلاد الإسلام لم نُخذل إلا من قبل رجال السياسة ورجال الدين العجيب. فأهل السياسة أقعدونا على الخازوق ورجال الدين هم من سهّلوا دخول ذلك الخازوق فينا بالكريمات والدهونات الدينية التي تسوغ ما لا يسوغ وتسهل ما يصعب تفويته. وأنا مالي؟!!!
لنعد إلى صلب الموضوع بالنتيجة المفتراة من عند أنفسنا التالية: مادام أن فعل السرقة (على عكس فعل الزنا) هو تدرّجي يختلف من واقعة إلى أخرى، كان الجزاء (نحن نظن) هو ما يحكم التطبيق، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى في الآية نفسها:
          وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ
ولكن كيف ذلك؟
رأينا المفترى: نحن نظن أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار واقعة السرقة من أجل تقدير الجزاء واضعين نصب أعيننا:
-        مكانة الشخص الذي ارتكب السرقة،
-        كمية المال المسروق
-        الدافع من وراء ارتكاب فعل السرقة
-        وعواقب تلك الجريمة على المجتمع،
فمن سرق دراهم معدودة لسد حاجة له ولعياله يجب أن ينفذ به الحكم على قدر المال المسروق والدافع لفعلته (جَزَاء بِمَا كَسَبَا)، فتقطع يده بطريقة معينة تعكس حجم الجريمة التي ارتكبها. ويطبق الحد بطريقة أكثر قسوة على من سرق أكثر ولغرض أكثر جشاعة، وهكذا. ليصبح القطع (أي حجم الجرح) الذي يمكن أن يحدث في اليد معبرا عن مقدار المال المسروق والدافع للسرقة والآلية في تنفيذه.

الدليل
نحن نظن أن بإمكاننا أن نجلب الدليل على افتراءاتنا هذه متى ما تدبرنا بشيء من التمحيص المطلوب على الدوام في تدبر كتاب الله مفردة "القطع" نفسها. فدعنا نطرح السؤال بأبسط أشكاله: ما معنى القطع؟ وكيف يتم قطع الشيء سواء كان ذلك يدا أو رجلا أو أي شيء آخر؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن القطع يمكن أن يتم دون الحاجة إلى فصل الشيء عن أصله. ويمكن أن يتم ذلك لمجرد قطع السبب (أي الرابط أو لنقل الحبل) الذي يربط الشيء بأصله.[2]
الدليل
نحن نجد (مفترين الظن) الدليل على ذلك في بعض السياقات القرآنية التي تتحدث عن قطع الأشياء. فنجد مثلا آية كريمة تتحدث عن احتمالية وجود قرآن يمكن أن تقطع به الأرض:
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
فهناك (على الأقل من حيث المبدأ) احتمالية أن يكون هناك قرآن يمكن أن ينزله ربنا لتقطّع به الأرض. فكيف يمكن أن نتصور ما يمكن أن يحصل للأرض لو أنها قطّعت بذلك القرآن؟
(دعاء: اللهم علمني قرآنا تسير به الجبال كما كان لداوود، وقرآنا يكلم به الموتى كما كان لابن مريم، وقرآنا تقطع به الأرض يكون لي – آمين).
والآية التالية تتحدث عن تقطيع ثياب من نار لمن كفر:
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
وهناك آية تتحدث عن أولئك الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل:
الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
وستتقطع الأسباب – لا شك- بالذين اتبعوا:
          إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)
وكما يمكن للأسباب أن تقطّع، فيمكن لها أن تمد:
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
وقد قطع الله طرفا من الذين بعد معركة بدر:
          لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (127)
وقد قطع دابر الذين ظلموا:
          فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
وتم تقطيع الذين ظلموا من بني إسرائيل في الأرض أسباطا:
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
ويمكن أن تقطّع قلوب الذين ظلموا:
          لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
ويمكن أن تقطع الأرحام:
          فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
وهناك في نار جهم من سيسقى ماء حميما ليقطع أمعاءهم:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15)
السؤال: كيف يمكن أن تتم عملية القطع في كل هذه الحالات؟ فهل يشترط أن يفصل الشيء عن أصله حتى يحدث التقطيع؟
رأينا المفترى: كلا وألف كلا، فكما يمكن أن يتم التقطيع بفصل الشيء عن أصله، يمكن أن يحدث التقطيع دون الحاجة إلى فصل الشيء عن أصله، وانظر – عزيزي القارئ- في السياق القرآني التالي:
وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121)
ألا يدل ذلك على أن كل منّا (نحن البشر) يستطيع أن يقطع الوادي، فهل نفصل الوادي عندما نقطعه إلى شطرين منفصلين؟ من يدري!!!
وقد طلب الله من لوط أن يسر بأهله بقطع من الليل:
قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فهل كان ذلك القطع من الليل الذي أسرى به لوط بأهله فيه مفصولا تماما عن قطع الليل الذي سبقه أو ربما الذي لحقه؟ من يدري!!!
وهناك في الأرض قطع متجاورات:
وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
فهل القطع المتجاورات مفصولات تماما عن بعضهم البعض؟ من يدري!!!
وهناك من الناس من يقطع السبيل:
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
فهل يستل من أراد أن يقطع السبيل سيفه ليقسمه إلى نصفين؟ من يدري!!!

السؤال: ما معنى القطع إذن؟
رأينا المفترى: نحن نظن القطع هو النقيض تماما للقائم على أصوله:
مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
لنخرج بالاستنباط الخطير التالي الذي لا نطلب من القارئ الكريم أن يتبناه لأنه ليس أكثر من شطحات فكرية نترك لأهل الدراية من علمائنا الأجلاء البت فيها للعامة متى ما فرغوا من جدول أعمالهم الذين وضعه لهم السلطان منتظرا فتاويهم العظيمة من الدين العجيب الذي يعرف أنه موجود عندهم، والاستنباط هو:
كل شيء ليس قائم على أصوله فهو مقطوع
فالعلاقة غير السليمة بين الأرحام التي لا تكون قائمة على أصولها فهي مقطوعة سواء كان ذلك قطعا كليا أو مجرد إحداث خلل فيها:
          فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
وستتقطع الأسباب بالذين اتبعوا عندما لا تبقى العلاقة بينهم وبين من اتبعوهم قائمة على أصولها:
          إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)
وعندما لا تكون الأرض متصلة مع بعضها البعض على أصولها أصبحت قطعا متجاورات، حتى ولو لم تنفصل عن بعضها البعض بالكلية:
وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
والليل عبارة قطع، لأنه ليس قطعة واحدة قائمة على أصولها:
وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
لذا جاء الطلب الإلهي من لوط أن يسري بأهله في واحدة من هذه القطع، وإن كانت جميعها لازالت متصلة مع بعضها البعض لم تفصل تماما:
قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
الفرق بين الليل والنهار
لاحظ عزيزي القارئ كيف يصور القرآن الكريم جانبا من الفرق بين الليل مقابل والنهار في هذه الجزئية مثلا: ففي حين أن للنهار أطراف، فإن لليل آناء:
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
وآناء الليل هذه هي (في ظننا) عبارة عن قطع:
وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
ونحن نظن أن السبب في ذلك ربما يعود إلى حقيقة أن النهار مبصرا:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
فهناك الظل الذي جعل الله الشمس عليه دليلا:
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
لذا، يستطيع الإنسان خلال أي طرف من النهار أن يحسب الوقت الذي هو فيه، ولكن هذا غير ممكن بالنسبة لليل، لأننا لا نستطيع أن نحصيه بنص الآية الكريمة التالية:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)
ومادمنا أننا لا نستطيع أن نحصي الليل، لا نستطيع أن نميز قطع الليل بعضها عن بعض:
وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
ربما يقودنا فهمنا هذا إلى الافتراء بأن الليل متشابه مع النهار في التركيب حيث أن كل منهم ليس كتلة واحدة متطابقة، وإنما هي عبارة عن كتل متجاورة مقطعة غير قائمة على أصولها، لأن أجزاءها (قطعها أو أطرافها) يختلف بعضها عن بعض وإن لم تكن متفرقة. ولكن الفرق بينهما يكمن في قدرتنا على أن نحصي كتل النهار (فكانت أطرافا) ولكننا لا نستطيع أن نحصي كتل الليل فكانت آناء (قطع متشابهة وإن لم تكن متطابقة ولكنها متواصلة مع بعضها البعض).
ولو دققنا أكثر لوجدنا أن الطرف هو الشيء الذي يكون أكثر ظهورا للعيان، فأطراف الشيء لا يمكن أن يتم تخفيتها. ولكن القطع الأخرى (غير الأطراف) يمكن أن نستطيع التستر عليها ولو بالحيلة.
نتيجة مفتراة: الليل يتكون من قطع غير قائمة على أصولها بالرغم أن الليل كتلة واحدة في نهاية المطاف، وكذلك هو النهار يتكون من أطراف مختلفة غير قائمة على أصولها بالرغم أنه في نهاية المطاف لازال وحدة واحدة.
السؤال: كيف يمكن أن نقطع الشيء فلا يبقى قائما على أصوله في حد السرقة؟ أي كيف يمكن أن نقطع يد السارق دون أن نفصلها تماما عن أصلها؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن ذلك يمكن أن يتم بقطع السبب (أي الرابط أو الحبل بينهما) الذي يمتد بين اليد وأصلها:
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)
وأنا افتري الظن بأن هذا السبب هو نفسه السبيل الذي يتم من خلاله مد اليد بالدم من خلال أصلها:
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
السؤال: كيف تكون الآلية؟ أي كيف يستطيع من ينفذ الحكم أن يطبقه على أرض الواقع؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الآلية يمكن أن نستنبطها من الآية الكريمة التالية:
وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121)
نحن نظن أن الوادي هو عبارة عن الحد الفاصل بين جبلين، أو بكلمات أكثر دقة هو منطقة الالتقاء بين جسمين اثنين بغض النظر عن حجم كل واحد منهما أو شكله. لكن الذي يهم بالنسبة لنا هو أن الوادي هو
1.     الرابط بين الجسمين، حيث يشكل كل جسم منهما كتلة مستقلة بحد ذاتها وإن لم تكن منفصلة تماما
2.     المنطقة الأضعف حيث أن كل جسم من الجسمين أكثر تماسكا مع بعضه البعض من تماسكه مع الجسم الآخر
3.     يكون الجسمان متجاوران ولكنهما غير منفصلين
4.     لكل جسم منهما وظيفته الخاصة به
5.     لكل جسم منهما شكله الذي يجعله يختلف عن الآخر
6.     الخ
السؤال: أين هو ذلك الوادي؟
رأينا المفترى: إنها الحد الفاصل بين اليد من جهة واليد إلى المرفق من جهة أخرى كما تظهره صورة تشريح اليد التالية،





وهذه المنطقة (أي الوادي) هي التي يطلق عليها باللغة الإنجليزية مفردة (wrist). وهي المنطقة التي يمكن أن تطوى فتشكل ما يشبه التجعدات في الملابس غير المكوية بالمكواة أو ما نسميه بالإنجليزية crease. فتصبح هي المنطقة التي تعرف علميا باسم wrist crease . انظر الشكل السابق.

انظر - عزيزي القارئ – في يدك الآن وحاول أن تجد المنطقة التي تربط اليد مع ما نسميه نحن (ربما تجاوزا) بالساعد، ألا ترى أنها تشكل ما يشبه الوادي المتعرج في طريقة الذي يربط بين كينونتين غير متساويتين في الشكل والوظيفة؟
افتراء خطير من عند أنفسنا هو بكل تأكيد ليس فتوى، فنحن لسنا أصحاب فتاوى وإنما أصحاب آراء وشطحات فكرية لا أكثر: هناك (في ذلك الوادي) يتم إحداث قطع بالسكين ليد السارق أو السارقة، ولكن دون فصل اليد عن الساعد تماما لأن هذا يصبح من باب البتر وليس من باب القطع. ويتم ذلك بتحريك السكين ليقطع ذلك السبب (أي الرابط) الذي يربط الكف (أو اليد) ويمدها كسبيل بالدم القادم إليها من الساعد (أي اليد إلى المرفق). وتزداد حدة القطع بازدياد حجم جريمة السرقة ودافعها وآلية تنفيذها، وتكرر عملية القطع كلما ارتكب السارق جريمة السرقة مجددا.
وأظن أن آلية التنفيذ هذه مهمة جدا ليتم تميز ذاك القطع (أي الجرح) في اليد عن بقية الجروح التي يمكن أن تصيب اليد بعوامل أخرى، كأن يكون الإنسان قد وقع في مشاجرة فأصاب يده شيء من القطع، أو كأن تكون يده ضحية حادث سير على الطريق ونحوها. فلابد من تميز ذلك القطع الذي جاء بسبب جريمة السرقة عن أي قطع آخر حصل لأي سبب آخر. وأظن أن مكان القطع وآلية تنفيذه كفيلتان بأن تميزان حد قطع اليد في جريمة السرقة عن أي ضرر آخر يمكن أن يلحق باليد جراء فعل آخر غير السرقة.

والله أعلم.

وسنتحدث بشيء من التفصيل في المرة القادمة (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) عن تبعات هذا الفهم على فاعلية تطبيق حد السرقة على أرض الواقع، لنفتري عندها الظن بأن حد السرقة يستحيل أن ينفذ على أرض الواقع إلا في حالتين اثنتين فقط، هما:
1.     إذا تكرر فعل السرقة، فسنرى أن فعل السرقة العادية لا يقام عليه الحد إذا حصل لأول مرة
2.      في حالة سرقة المال العام من قبل الذين من المفترض أنهم يقومون على حمايته
فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأساله وحده أن يهديني إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرين، فيعلمني الحق الذي أقوله عليه فلا افتري عليه الكذب، إنه هو الحكيم الخبيرآمين.

وللحديث بقية

المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح
3 كانون أول 2013





[1] يضيف صاحبنا في الادكار (علي) القول معلقا على هذه الجزئية أن أحد الأسباب التي ربما دفعت بامرأة العزيز أن تؤتي كل واحدة من النساء سكينا خاصا بها هو المعرفة التي كانت متوافرة حينئذ في زمن المصريين، تلك المعرفة الخاصة بانتقال المرض من شخص إلى آخر عن طريق الجروح، فلربما خشيت امرأة العزيز أن تكون أحد النساء مصابة بمرض معد ينتقل من خلال تلك السكين إلى الأخريات.
[2] عندما ندرس الطلاب اللغة الإنجليزية عادة ما نعطي المثال التالي على مفردة cut التي ربما تقابل مفردة القطع في اللغة العربية كأن نقول:
Look! He’s cut his finger             
فلا يكون المعنى على الإطلاق بأن الشخص قد قطع إصبعه تماما، ولكن المعنى هو أنه قد أحدث فيه جرحا.
فاللغة الإنجليزية تميز بين مفردة cut  التي يمكن أن تقبل الاستمرارية  والتي يمكن أن تعني فصل الشيء عن أصله تماما، كأن نقول:
He’s been cutting the wood         
مقابل مفردة cut التي لا تقبل الاستمرارية والتي تكون بمعنى إحداث الجرح ولا تحتمل فصل الشيء عن أصله:
He’s cut his finger          
وأظن أن هذا ما يقابله في العربية استخدام مفردة "قطع" في الجمل التالية:
-          قطعت الوادي
-          وقطع الولد الطريق
الخ.
وإذا أردنا أن نعبر عن الفصل الكلي بالقطع لليد أو للرجل في اللغة الإنجليزية فإن مفردة ampulate  تصبح هي المفردة التي تفي بالغرض:
They had to amputate his foot to free him from the wreckage.