قصة موسى 9: باب العزير 06




افترينا القول من عند أنفسنا في الجزء السابق من هذه المقالة أن الغلام الذي قتله صاحب موسى في الطريق قد خرج من بيت أبويه المؤمنين معتزلا لهما، بعد أن قال لهما "أُفٍّ لَّكُمَا"، منكرا بالبعث من بعد الموت (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي)، ناعتا كلامهما بأنه من باب ما جاء في أساطير الأولين (مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ):
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
فكان من الذين حق عليهم القول (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)، فكان – نحن نفتري الظن- من الذين قيّض الله لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم:
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
بعد أن كان من الذين ران على قلوبهم مادام أنّه من المكذبين الذين إذا تتلى عليهم آيات الله قالوا أساطير الأولين:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
ومادام أن القول قد حق عليه، فهو إذن من الكافرين الذين لن يؤمنوا:
لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
فالإيمان أصبح مستحيلا بالنسبة لهذا الغلام مادام أن الله قد قيض له قرينا، فصدّق ما كان قرينه يحثّه عليه من إنكار البعث:
قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
فأصبحت حالته كحالة من هم من شر الدواب:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55)
ولكن – بالمقابل- لم يكن أمر الإيمان والكفر محسوما تماما بالنسبة للوالدين بدليل أن الخشية من أن يرهقهما هذا الغلام طغيانا وكفرا قد كانت لازالت قائمة:
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
لذا نحن نعتقد أن أبواه كانا على استعداد لتقديم بعض التنازلات لولدهما (هذا الغلام) من أجل أن يردّوه إلى البيت الذي خرج منه غاضبا، مدفوعين بالعاطفة الجامحة في حب ولدهما هذا، ولو حصل ذلك لكانت النتائج كارثية على العائلة بأكملها، لأن الغلام حينها (ربما) سيستطيع أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا. فتصبح العائلة بأكملها كافرة من الذين حقّ عليهم القول. لذا نحن نتخيل أن الوالدان (أو على الأقل أحدهما) قد خرج ليلحق بالغلام فيرده إلى البيت، ربما ليقدم له بعض التنازلات العقائدية، لأن الصراع بينهما كان صراعا عقائديا.
وجاءت المفاجأة من صاحب موسى الذي كان أسبق إلى ذلك الغلام من والده الذي كان يحاول اللحاق به، فما أن رءاه صاحب موسى حتى أسرع على الفور إلى  قتله قبل أن يلحق به والده، ولا أظن أن خطابا قد جرى بينهما، فالقتل حصل مباشرة لحظة أن لقياه:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا  (74)
ونحن نفتري الظن من عند أنفسنا أن صاحب موسى كان يستطيع أن يصل إلى هذه المعلومة بكل سهولة ويسر. فقد علم أن والد هذا الغلام يحاول اللحاق به ليرده إلى البيت مقدما له بعض التنازلات. فصاحب موسى هذا يستطيع (نحن نعتقد) أن يحيط خبرا بما لا يستطيع الآخرون أن يحيطوا به خبرا كموسى مثلا:
قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
وسنرى ذلك جليا بعد قليلا عندما نتحدث (بحول الله وتوفيق منه) عن خرق السفينة التي كان الملك سيأخذها غصبا لو أن صاحب موسى هذا لم يعمد إلى خرقها. وهذا يعني – كما نفهمه نحن- أن صاحب موسى كان يستطيع أن يرى ما سيحدث على أرض الواقع من أفعال قبل أن يحيط بها الآخرون خبرا، لذا كان يستطيع أن يرى مثلا أن والد هذا الغلام يلحق بولده ليرده إلى البيت، فأسرع إلى قتل الغلام قبل أن يصل والده إليه. فتركه جثة هامدة لا تكون ردة فعل والده (وهو الذي لازال مؤمنا) إلا أن يقول:
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
عندها فقط كفّ صاحب موسى بقتله لهذا الغلام كارثة أكبر كان يمكن أن تنزل بالعائلة بأكملها لو أن الوالد تمكّن من اللحاق بولده فرده إلى البيت، لأن النتيجة ستكون حينها أن يرهقهما طغيانا وكفرا. فكان في ذلك رحمة للأبوين فلم يرهقهما طغيانا وكفرا مادام أنه قد قضي عليه، وربما كان في ذلك رحمة للغلام نفسه لأن في قتله إنقاذا له من النار وذلك لأنه لم يبلغ سن التكليف بعد كما يرغب سادتنا أهل العلم أن يفهمونا عن سن التكليف الذي يصعب علي أن أفهمه، فالغلام (قبل كل شي) لازال غلاما. والمتدبر للنص القرآني يجد أن صاحب موسى لم ينكر أن في نفس هذا الغلام شيئا من الزكاة:
فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
ولو تدبرنا النص أكثر لربما استطعنا أن نفتري القول من عند أنفسنا بأن هذا الغلام هو الصورة المعاكسة تماما ليحيى بن زكريا. انظر هذا السياق القرآني الخاص بيحيى:
يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
ونحن نعقد المقارنة بين الاثنين على النحو التالي:
أولاً، كان هذا غلاما، كما كان يحيى بن زكريا، غلاما بصريح اللفظ القرآني:
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7)
ثانيا، كان يحيى بارا بوالديه (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) بينما كان هذا الغلام عاقا لوالديه (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا)
ثالثا، كان يحيى هو الوريث الوحيد لوالديه (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) وكان هذا الغلام (نحن نظن) كذلك بدليل أن الإرادة في قتله كانت من أجل أن يبدله ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا).
رابعا، نحن نظن – مفترين القول من عند أنفسنا- أن هذا الغلام قد آتاه الله الحكم صبيا كما آتى الله ذلك ليحيى:
يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
خامسا، على عكس يحيى بن زكريا كان هذا الغلام (نحن نفتري القول) قد انسلخ من آيات الله:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
الخ.
الدليل: كان هذا غلاما، أليس كذلك؟
لو تفقدنا مفردة غلام في النص القرآني لوجدناها قد جاءت بحق إسماعيل (الغلام الحليم):
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
وجاءت بحق إسحق (الغلام العليم):
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
وجاءت بحق يوسف:
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
وجاءت بحق المسيح عيسى بن مريم:
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
وجاءت بحق يحيى:
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7)
وجاءت بحق الغلامين اليتيمين أصحاب الجدار الذي بناه صاحب موسى لهما:
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)
وجاءت بحق هذا الغلام الذي كان أبواه مؤمنين:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
السؤال: من هو الغلام إذن؟
جواب مفترى: لو دققنا في هذه السياقات جميعها لوجدنا أن الغلام هو من كان أبوهما صالحا، أو لنقل بشكل أكثر دقة أن الغلام هو من كان أهله يتصفون بصفة الإيمان، لنخلص إلى النتيجة المفتراة من عند أنفسنا التي مفادها أن كل من كان غلاما (ورد ذكره في كتاب الله) فهو قادم من شجرة طيبة، وما شذّ عن هذه إلا هذا الغلام الذي كاد أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا.
السؤال: كيف كان سيستطيع القيام بذلك؟ كيف سيستطيع غلام لم يبلغ سن التكليف بعد أن يجادل أبويه المؤمنين في البعث وفي أساطير الأولين؟ نحن نسأل.
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
فهل يعقل – نحن لا زلنا نسأل- أن يكون هذا غلام عادي؟ من أين له أن يعلم بأساطير الأولين (فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)؟ وكيف له أن ينكر البعث بهذه السهولة (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ)؟ ومن أين جاءه خبر القرون التي خلت من قبله (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي)؟ فهل هذا غلام لم يبلغ سن التكليف؟ نحن نسأل من أراد التصدي للإجابة من أهل العلم.
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأنه لمّا تحصل لهذا الغلام من الآيات التي آتاه الله إياها (كما كان ليحيى الذي أخذ الكتاب صبيا)، اختار هذا الغلام بنفسه أن ينسلخ منها وأن يخلد إلى الأرض (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي) حتى أتبعه الشيطان، فأصبح مثله كمثل الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث عندما اتبع هواه.
وهنا يبرز التساؤل الأكثر خطورة وهو: هل الغلام مكلف أصلا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نعم، نحن نظن أن التكليف يقع حتى على من كان غلاما، فالله قد آتى يحيى بن زكريا الحكم صبيا:
يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
فماذا لو اختار يحيى أن ينسلخ من آيات الله ويخلد إلى الأرض؟ نحن نسأل فقط.
وكذلك نطق المسيح عيسى بن مريم بكلمة الحق وهو لازال في المهد صبيا:
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
السؤال مرة أخرى: من هو الغلام إذن؟
لو تدبرنا هذه السياقات القرآنية الخاصة بمفردة غلام جميعها، لوجدنا أن كل غلام ورد ذكره في كتاب الله قد جاء من شجرة طيبة وأن البر بالوالدين هو من صفات من كان غلاما كـ يحيى الذي كان بارا بوالديه (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) وكعيسى بن مريم الذي كان بارا بوالدته (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)، وكإسماعيل بن إبراهيم الذي لم يتردد أن يبر بوالده حتى وإن كان ذلك على حساب ذبحه بالسكين:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
نتيجة مفتراة: لمّا كان هذا غلاما، فهو لا شك قادم من شجرة طيبة (بيت من المؤمنين). انظر ما قاله صاحب موسى بحق أبويه:
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
لذا، كان يجب أن يكون بارا بوالديه، لأنه (نحن نفتري الظن) كان مؤهلا أن تأتيه الآيات من ربه. فلقد أخذ يحيى الكتاب صبيا، وكذلك فعل إسماعيل وإسحق، وكذلك فعل يوسف، لأن في ذلك تمام لنعمة الله عليه كما أتمها على أبويه من قبل:
وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
وربما هذا ما فعله الغلامان اليتيمان في المدينة اللذان بنا لهما صاحب موسى الجدار. ولم يشذ عن ذلك إلا هذا الغلام الذي كان أبواه مؤمنين، فلم يكن بارا بهما، فكانت الخشية بأن يرهقهما طغيانا وكفرا قائمة:
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
فكان هو من قال لهما أف لكما، منكرا البعث بعد الموت، وناعتا ما يقولانه له على أنه من أساطير الأولين:
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
فكان لابد من تطهير تلك الشجرة الطيبة من ذلك الخبث الذي أصابها حتى تبقى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فجاءت الإرادة على نحو أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما:
فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
السؤال: ماذا لو أن صاحب موسى لم يقتل الغلام؟
جواب: لفسدت الشجرة بأكملها عندما سيستطيع هذا الغلام أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا:
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
السؤال: لماذا لم يبدل الله أبويه خيرا منهما دون الحاجة إلى قتله؟
جواب: لم يكن ذلك ممكنا
السؤال: لماذا؟
جواب: لأن من الاستحالة بمكان أن يخرج من الشجرة الطيبة فرعان أحدهما طيب والآخر خبيث دون أن يؤدي ذلك إلى نشوب الخلاف بينهما (ومن ثم فساد الشجرة بأكملها)، وسيؤدي ذلك إلى أن يتغلب الفاسد على المصلح كما حصل في حالة ابني آدم:
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
التساؤلات:
  • من هو هذا الغلام إذن؟
  • من هم أبويه المؤمنين اللذين كانا يخشيا عليهما من أن يرهقهما هذا الغلام طغيانا وكفرا؟
  • هل أبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما
  • الخ
هذا ما سنحاول أن نتحدث عنه لاحقا إن أذن الله لنا بشيء من علمه، فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يهديني إلى نوره الذي أبى إلا أن يتمه ولو كره الكافرون – آمين.


أما ما يهمنا متابعته الآن في هذا الجزء الجديد من المقالة هو التساؤل التالي: هل فعلا كان هذا الرجل (صاحب موسى) يستطيع أن يرى ما ستصير عليه الأمور لاحقا؟ هل فعلا كان يعلم أن والد الغلام قادم في الطريق ليلحق بولده ليرده إلى البيت مثلا؟ فكيف كان يستطيع أن يحيط خبرا بما لم يحط به غيره كموسى مثلا؟
الجواب: نعم، بكل تأكيد، كان يستطيع أن يحيط خبرا بما لم يحط به الآخرون.
السؤال: وكيف يستطيع ذلك؟
جواب: لأن يملك العلم بتأويل الأحاديث.
السؤال: وأين الدليل أن هذا الرجل (صاحب موسى) كان يملك علم تأويل الأحاديث؟
جواب: نحن نظن أن هذا واضح في تفسيره الذي قدّمه لموسى للأحداث التي قام بها.
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب: اقرأ - إن شئت- ما قاله الرجل لموسى:
قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)
السؤال: وما معنى تأويل الأحاديث؟
جواب: الإخبار عن ما ستصير عليه الأمور لاحقاً، أو بكلمات أكثر دقة "الإحاطة خبرا" بما لم يحط به الآخرون.
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب: نحن نجد الدليل على ذلك في قصة يوسف خاصة في الآية الكريمة التالية:
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
فلقد كان يوسف – كما نفهم من الآية الكريمة- يستطيع أن يؤول الأحاديث لصاحبيه السجن، فلا يأتيهما طعام يرزقانه إلا نبأهما بتأويله قبل أن يأتيهما، فلقد كان يأتيهما بخبر الطعام قبل أن يصل إليهم.
السؤال: وكيف كان يقوم يوسف بذلك؟
جواب: من خلال العرش
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
فملخص القول هو أنّ من كان عنده عرشا (كيوسف وكتلك المرأة التي كانت تملك قومها في سبأ) يستطيع أن يستطلع الأخبار قبل أن تصل إلى الناس، لأنه يستطيع أن ينظر في ذلك العرش فيرى ما هو قادم من بعيد. وبكلمات أكثر دقة نقول أن العرش هو عبارة عن شاشة مراقبة للأحداث عن بعد، فمن يملكها يستطيع أن يحيط خبرا بالأحداث قبل أن يحيط بها الآخرون.
السؤال: وهل كان هذا الشخص (صاحب موسى) يملك عرشا؟
جواب: نعم
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب: نحن نجد الدليل على ذلك في قصة خرقه السفينة.
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب: نحن نؤمن بأن صاحب موسى كان يستطيع الإحاطة خبرا بما لم يحط به الناس من حوله (كموسى مثلا). فهو كان يعلم أن هناك ملِك قادم في الطريق يأخذ كل سفينة غصبا:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
فالرجل متواجد مع موسى في مكان ما، لا يرى موسى أثرا لملك قادم في الطريق، ولا يستطيع أن يستطلع خبره. أما هذا الرجل فقد وصله خبر هذا الملك القادم من بعيد ليأخذ كل سفينة غصبا.
السؤال: كيف علم هذا الرجل أن هناك ملِك قادم في الطريق يأخذ كل سفينة غصبا؟ أو لنقل: كيف وصل خبر هذا الملِك القادم من بعيد إلى صاحب موسى في تلك الساعة؟
جواب: للإجابة على هذا التساؤل الكبير جدا، نحن نظن أن الحاجة ملحة لفهم قصة هذه السفينة وذلك الملك وأولئك المساكين:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
لنطرح بداية التساؤلات التالية:
  1. ما هي السفينة التي كان الملك سيأخذها لو أن صاحب موسى لم يعيبها بالخرق؟
  2. من هم أولئك المساكين أصحاب تلك السفينة؟
  3. من هو الملِك الذي كان قادما ليأخذ كل سفينة غصبا؟
أما بعد،
لو دققنا – بداية- في علم هذا الشخص (صاحب موسى) لربما تأكد لنا ما افتريناه من قول في بعض الأجزاء السابقة من هذه المقالة بأن الناس قد فتنوا به لدرجة أن رفعوه من منزلة البشرية إلى منزلة الإلوهية عندما نعته بعض اليهود بأنه ابن الله:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)
فلقد كان الدافع عندهم قويا جدا بأن يجعلوا منه ابن للإله وذلك لأن علمه يكاد يكون إلهيا، ولكن كيف ذلك؟
جواب: لو تدبرنا في علم هذا الرجل قبل الدخول في تفاصيل الأحداث لوجدنا فيه العجب. ولربما استطعنا أن نتفهم كيف أن علمه يكاد لا يستطيعه بشر، فالرجل قد علم لمن تعود السفينة (أي من هم أصحابها)، وعلم من هم أهل الغلام الذي قتله، وعلم من هم أصحاب الجدار الذي بناه، أليس كذلك؟ فالرجل إذن كان عالما بأصول الأشياء.
لذا نحن نفتري القول بأن هذا الرجل كان عنده من العلم ما يمكنه أن يحيط خبرا بكل ما حوله. ولو دققنا أكثر في القصة لوجب علينا أن نطرح التساؤل التالي: لِم لم يسأل هذا الرجلُ موسى عن هويته؟ ألم يكن يعلم من هو موسى هذا؟ ألم يكن يعلم أن هذا نبي بني إسرائيل؟ ألم يكن يعلم أن هذا هو كليم الله؟ فلم إذن لم يسأله شيئا عن هويته؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الرجل لم يسأل موسى عن شيء يخص موسى وذلك لأنه ببساطة قد أحاط خبرا بكل تفاصيل حياة موسى الذي جاء طالبا صحبته. فهو يعلم كامل قصته من أولها إلى آخرها.
منطقنا المفترى: نحن نتخيل أنه كان الأولى بهذا الرجل أن يتحدث مع موسى (خلال تلك الرحلة) عن شيء من تفاصيل قصة موسى المثيرة منذ ولادته وتربيته في بلاط فرعون وهروبه إلى الأرض المقدسة، ثم قصته مع نبي الله شعيب، ثم عودته إلى فرعون وقصته من السحرة وقصته مع السامري، وقصته في مواعدته ربه وتكليمه إياه. ولكن على الرغم من جميع هذه الأحداث المثيرة في حياة موسى إلا أن هذا الرجل (صاحب موسى) لم يسأل موسى عن شيء منها، وهنا يبرز السؤال المثير التالي: لماذا؟ لماذا لم يتحدث الرجل مع موسى عن شيء من تفاصيل حياة موسى؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لما كان هذا الرجل (صاحب موسى) يعلم تفاصيل قصة موسى كلَّها، لم يكن يحتاج من أحد (حتى لو كان موسى نفسه) أن يقص عليه شيئا منها.
إن هذا المنطق المفترى من عند أنفسنا هو (نحن نظن) ما جعل كل الذين تفكروا في قصة هذا الرجل مفتونين به لدرجة أن ينسبوا إليه الإلوهية بالضبط كما فعلت النصارى مع عيسى بن مريم الذي كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم:
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)
فلقد ظن كثير من أهل الدين حينئذ أن ما يملكه هذا الشخص من العلم قد لا يقدر عليه بشر، ولا هو (ربما ظنوا) من صنيع بشر، فما كان منهم إلا أن ينسبوا ذلك إلى من كان إله أو ابن إله، فقالت اليهود عزيرا ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)
السؤال: هل هذا النوع من العلم إلهي؟
جواب: نعم هو علم إلهي، ولكن هذا لا يعني أن الله قد لا يمنّ به على بشر، بل على العكس تماما فلقد من الله بهذا العلم على عيسى بن مريم، كما منّ الله به على هذا العبد الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلّمه من لدنّه علما:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)
نتيجة: إن هذا العلم الذي يمكِّن صاحبه من الإحاطة خبرا بما لم يحط به غيره هو علم إلهي قد يعلمه الله لبعض عباده
(دعاء: رب أسألك بوجهك الذي لا يهلك، وبنورك الذي لا ينطفئ، أن تؤتيني رحمة من عندك وأن تعلمني من لدنك علما لا ينبغي لغيري إنك أنت العليم الحكيم).
إن مراد القول بعد هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء هو القول بأن هذا الرجل (صاحب موسى) كان يعرف من يملك السفينة، وكان يعلم ما هي حرفتهم، وكان يعلم أن هناك ملك قادم في الطريق ويعلم من هو ذاك الملك، وما كان ذاك الملك سيفعل بسفينة المساكين وغيرها من السفن، ويعلم السبب الذي من أجله كان يأخذ كل سفينة غصبا:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
لذا يصبح لزاما علينا طرح التساؤلات الثلاثة التالية:
السؤال الأول: ما هي قصة تلك السفينة؟
السؤال الثاني: ما قصة المساكين أهل السفينة؟
السؤال الثالث: ما قصة ذاك الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا؟
باب السفينة
لو تدبرنا قصة موسى مع هذا العبد الصالح الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلّمه من لدنّه علما، لما ترددنا في الخروج بالاستنباط بأن أول فعل قام به الرجل مع موسى هو ركوب السفينة:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
لنثير حول ذلك التساؤلات التالية:
  1. لماذا ركبا في السفينة؟
  2. ما هي السفينة التي ركبوها؟
  3. إلى أين كانت السفينة متجهة؟
  4. من أين كانت قادمة؟
  5. من الذين كانوا داخل السفينة؟
  6. الخ.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن السفينة التي ركب فيها موسى مع صاحبه هي السفينة نفسها التي ركبها موسى مع غلامه بعد أن بلغا مجمع البحرين ولم يجدا الرجل هناك في المرة الأولى عندما مضيا حقبا:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
فعندما وصل موسى مع فتاه إلى مجمع البحرين كما في الشكل التالي:
Source: https://www.google.jo/search?q=the+gulf+of+aqaba&tbm=isch&imgil=U5eRyhfrM73nCM%253A%253Bhttps%253A%252F%252Fencrypted-tbn1.gstatic.com%252Fimages%253Fq%253Dtbn%253AANd9GcQScxm9O5esZpK_6hVnLPukhWezOYOLsnav8oo9NC3cQdvpr9B8%253B418%253B510%253BnVfuqzJa6TapkM%253Bhttp%25253A%25252F%25252Fwww.keyway.ca%25252Fhtm2000%25252F20000501.htm&source=iu&usg=__kLh-Sjg4VGksjAzrHUgMFRraqlQ%3D&sa=X&ei=y7MBU5DaNKWyywPEnoHIBw&sqi=2&ved=0CDsQ9QEwAg&biw=1708&bih=811&dpr=0.8#facrc=_&imgdii=_&imgrc=etdqqHKRGQh65M%253A%3BqMCUqk4-89yAiM%3Bhttp%253A%252F%252Fupload.wikimedia.org%252Fwikipedia%252Fcommons%252F9%252F90%252FGulf_of_Suez_map.jpg%3Bhttp%253A%252F%252Fen.wikipedia.org%252Fwiki%252FGulf_of_Aqaba%3B1280%3B1280
وجدا الصخرة التي تدخل في الماء (انظر الخريطة جيدا)، وهناك عند الصخرة التي تقع عند مجمع البحرين نسيا هناك حوتهما، فما كان من موسى وفتاه إلا أن يمضيا حقبا بعد أن أويا إلى تلك الصخرة. وقد افترينا الظن سابقا أن المضي حقبا يعني الذهاب في رحلة بحرية، فعندما بلغ موسى مع فتاه مجمع البحرين لم يكن موسى ليرتدّ إلى الوراء، فما كان منهما إلا أن يمضيا قدما إلى الأمام حيث لا يوجد إلا البحر كما في الشكل التوضيحي التالي:



فلو دققنا النظر في هذه الصورة التي تبيّن تفرع البحر الأحمر إلى بحرين (خليج العقبة مع خليج السويس)، نجد النقطة التي تجمع بينهما وهي منطقة رأس محمد، حيث تبين الصخرة التي تدخل في الماء، فكانت تلك (نحن نظن) هي الصخرة التي أوى إليها موسى مع فتاه عندما بلغا مجمع البحرين.
السؤال: كيف كان لموسى وفتاه أن يمضيا حقبا؟ أو لنقل كيف كانا سيمضيان قدما في البحر؟
جواب: لابد من ركوب سفينة.
تخيلات من عند أنفسنا: ما أن وصل موسى وفتاه إلى تلك الصخرة عند مجمع البحرين حتى نسيا حوتهما، فما كان منهما إلا أن ينطلقا في رحلة بحرية، فركبا سفينة ليذهبا فيها في البحر بحثا عن ذاك العبد الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما. وما أن كان وقت الغداء حتى لقيا (موسى وفتاه) نصبا من سفرهم هذا:
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا (62)
نتيجة مفتراة: مادام أن موسى قد نعت رحلتهما هذه على أنها سفر (لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا)، فهم قد قطعوا مسافة بعيدة بدليل أن من كان على سفر فله الحق أن يفطر في نهار رمضان ليقضيه في أيام أخر:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
لذا، نحن نتخيل الأمر وقد حصل على نحو أن موسى يصل مع فتاه إلى الصخرة عند مجمع البحرين، فيكون ذلك في فترة في الصباح (قبل زوال الشمس في فترة الغدو)، فيأويان إلى تلك الصخرة (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ)، أي يمكثان فترة قصيرة ليرقبان الحوت، لأن الإيواء في مكان ما يعني (كما نفهمه) المكوث في ذلك المكان لفترة قصيرة من أجل غاية محددة بذاتها كما حصل في الحالات التالية:
فهذا نوح ينادي أبنه ليركب معهم في السفينة إلا أنه يقرر أن يؤوي إلى جبل ليعصمه من الماء، لذا نحن نتخيل أن ولد نوح سيمكث في ذلك الجبل لفترة محددة تنتهي بانتهاء السبب الذي من أجله أوى إليه (وهو أن يعصمه من الماء):
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
وهذا يوسف يؤوي إليه أخاه، فمكث ذلك الأخ في مكان منفصل عن أخوته الآخرين حتى انتهى السبب الذي من أجله آوى يوسف أخاه إليه:
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69)
وها هم فتية الكهف يؤون إلى كهفهم حتى انتهاء السبب الذي من أجله أووا إليه:
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
والله هو من آوى مريم وابنها إلى ربوة ذات قرار ومعين حتى اليوم التالي لتعود به إلى محرابها:
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
نتيجة: لقد أوى موسى مع فتاه إلى الصخرة باحثين عن الحوت الذي كان عبارة عن علامة اللقاء بذاك العبد الصالح، وعندما لم يتمكنا من رؤية الحوت (علامة اللقاء)، لأن فتى موسى قد ظن أن الحوت الذي رءاه هناك قد اتخذ سبيله في البحر سربا، فلم يدرك في تلك اللحظة أنه الحوت نفسه الذي يبحثون عنه:
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
وعندما لم يدرك فتى موسى أن هذا الحوت هو المقصود لم ينقل خبره إلى موسى في تلك اللحظة، فما كان منهما إلا أن يمضيا حقبا. وما أن جاوزا مجمع البحرين من عند الصخرة يمضيان في البحر حقبا، حتى قطعا مسافة طويلة بدليل أن الجوع قد أخذ من موسى ما أخذ، فطلب من فتاه أن يحضر الغداء:
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
وبدليل أنه قد أصبح سفرا بدليل ما قاله موسى بلسانه.
وما أن تناولا غداءهما (نحن نتخيل) حتى أعاد فتى موسى شريط أحداث الرحلة كاملة في ذهنه، وهناك تذكر أن الحوت الذي رءاه عند مجمع البحرين عندما أويا إلى الصخرة  قد اتخذ سبيله في البحر عجبا وليس سربا (كما ظن عندما كان واقفا هناك):
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
فما كان من موسى إلا أن يطلب من فتاه أن يرتدا على آثارهما قصصا لأن هذا ما كانوا يبغونه:
قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
(للتفصيل انظر الأجزاء السابقة من هذه المقالة)
السؤال: كيف عاد موسى مع فتاه من هناك إلى الصخرة التي أويا إليها في الصباح؟
جواب مفترى: نحن نظن أن موسى وفتاه قد عادا في السفينة نفسها. وقد نزلا من السفينة عن الصخرة التي هي عند مجمع البحرين كما في الشكل التوضيحي السابق نفسه:


وهناك عند تلك الصخرة التي تدخل في البحر حيث مجمع البحرين نزلا من السفينة ليجدا ذلك العبد جالسا منتظرا وصولهما:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)
وهناك ترك موسى فتاه ينتظره إلى أن يعود من صحبته لهذا الرجل، فكان أول ما فعله موسى مع هذا الرجل بعد أن وافق على صحبته شريطة أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له الرجل بنفسه منه ذكرا هو ركوب السفينة:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
السؤال: لماذا كان ركوب السفينة هو أول فعل قاما به معا؟
جواب مفترى: لأن ذاك العبد الصالح كان ينوي أن يصحب موسى إلى مكان ما يتطلب الوصول إليه ركوب السفينة.
(للتفصيل انظر الأجزاء السابقة)
السؤال: ما هي السفينة التي ركباها؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أنها السفينة نفسها التي ذهب فيها موسى مع فتاه وعادا فيها في الرحلة الأولى بحثا عن الرجل في البحر.
الدليل
لو حاولنا أن نقرأ بشيء من التدبر الآية القرآنية نفسها التي جاء فيها ذكر السفينة لأول مرة، ربما نجد الدليل على زعمنا هذا جليا. فانظر – عزيزي القارئ- الآية مرة أخرى:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
السؤال: ألا تجد - عزيزي القارئ- أن مفردة السفينة قد جاءت معرفة بأداة التعريف (السَّفِينَةِ) وهي تذكر لأول مرة؟ ألم يكن الأولى بأن يأتي النص القرآني على نحو:
فانطلقا حتى إذا ركبا في سفينة...؟
نتيجة مفتراة: لابد أن السفينة التي ركبوها كانت معروفة بدليل أنها وردت بالنص القرآني معرفة عندما ذكرت لأول مرة (السَّفِينَةِ
السؤال: فأي سفينة هي التي ركبوها إذن؟
جواب: مادام أن مفردة السفينة قد وردت معرفة (السَّفِينَةِ) وإن كان ذكرها قد جاء لأول مرة هنا، فلابد أن تكون تلك السفينة معروفة لمن ركب فيها (أو على الأقل لبعض من ركب فيها). فركوب موسى في تلك السفينة لم يكن (نحن نفتري القول) لأول مرة.
السؤال: متى ركب موسى السفينة من قبل حتى أصبحت معروفة بالنسبة له؟ أو متى ركب صاحب موسى السفينة حتى أصبحت معرفة بالنسبة له؟ أو متى ركبا معا السفينة من قبل حتى أصبحت معرفة بالنسبة لهما؟
افتراء 1: نحن نظن أن صاحب موسى لم يركب السفينة من قبل لأنه جاء قادما من البحر إلى الصخرة يحمله الحوت (انظر الأجزاء السابقة).
افتراء 2: نحن نظن أن موسى هو من ركب السفينة من قبل حتى أصبحت هذه السفينة معروفة، فوردت في النص القرآني معرفة بأداة التعريف (السَّفِينَةِ) وإن كانت تذكر لأول مرة، فتلك هي الـ العهدية كما يحب أهل اللغة أن يسموها. لذا نحن نظن أن موسى كان له عهد سابق بهذه السفينة، وكان ذلك – برأينا- عندما ركبها مع فتاه في بداية اليوم وانطلقا فيها ليبحثا عن هذا الرجل في عرض البحر.
ثانيا، لو حالنا أن نتفكر في ردة فعل موسى على خرق صاحبه لتلك السفينة بعد ذلك، لربما وجدنا فيه العجب:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
السؤال: كيف عرف موسى أن خرق السفينة سيؤدي إلى إغراق أهلها؟
جواب: لأنهم سيكونون داخل السفينة التي تم خرقها.
سؤال: ولماذا سيغرق أهلُها إن غرقت السفينة؟ ألن يكون أهلُها خارج السفينة؟ ومن أين عرف موسى أن لهذه السفينة أهل (ربما أكثر من شخص واحد)؟
جواب: لابد أن صاحب موسى قد خرق السفينة بطريقة ما كانت النتيجة الحتمية (كما يشاهدها موسى حينئذ) أن يغرق أهلها (أكثر من شخص واحد).
السؤال: كيف تم ذلك؟
جواب: للإجابة على هذا التساؤل لابد من التعرض للتساؤلات التالية:
  1. كيف خرق صاحب موسى السفينة؟ أي كيف كانت طريقة (أو آلية) خرقه لها؟
  2. متى خرق صاحب موسى السفينة؟
  3. وأين خرق صاحب موسى السفينة؟
  4. الخ
نحن لا نعتقد أن صاحب موسى قد خرق السفينة وهي لازالت تقلّهم جميعا في وسط البحر، وإلاّ لأصبح السيناريو الذي سيرد به موسى أن ذلك سيؤدي إلى إغراق كل من في السفينة وليس فقط أهلها، كما لا نتوقع حدوث ذلك بتلك الطريقة لأن ذلك سيؤدي إلى إغراق موسى نفسه مع صاحبه (إلا إن كانا يستطيعان الخروج من البحر سباحة، وهو ما لا نجرؤ على افتراءه).
السؤال: أين ومتى قام صاحب موسى بخرق السفينة؟
جواب مفترى: نحن نظن أن صاحب موسى ربما أقدم على خرق السفينة عندما كانت على وشك الوصول إلى المكان الذي كانا (موسى وصاحبه) ينويان النزول فيه. فما أن اقتربت تلك السفينة من مكان محدد بذاته، حتى أقدم صاحب موسى (نحن نتخيل) على خرق السفينة، فما أن ينزل موسى مع صاحبه من تلك السفينة وتكمل السفينة مسيرها في البحر، ولم يتبقى فيها إلا أهلها حتى يصبح غرقها حتمي بأهلها اللذين لازالوا متواجدين فيها. وهذا المنطق المفترى من عند أنفسنا يدفعنا إلى تقديم جملة من الافتراءات الجديدة:
  • ربما يدلنا هذا إلى الظن بأن خرق السفينة لم يكن خرقا كبيرا لتفادي غرق السفينة الفوري. فصاحب موسى لم يكن ينوي أن يحدث خرقا يؤدي إلى إغراق السفينة في الحال.
  • وربما يرشدنا هذا إلى الظن بأن خرق السفينة كان غير ظاهر للعيان مادام أن أهل السفينة لم يلحظوا ذلك بأنفسهم، فلربما أحدث صاحب موسى خرقا سيؤدي إلى غرق السفينة بعد فترة وجيزة من الزمن، وليس أدل على ذلك من الملاحظة بأن موسى وحده هو من راقب كيفية خرق ذلك الرجل للسفينة. وهذا يدعونا في الوقت ذاته إلى طرح السؤال التالي على الفور: لماذا لم يلحظ غير موسى ما قام به هذا الرجل من خرق للسفينة؟
جواب: نحن ظن أن هناك سيناريوهين مفترضين وهما:
  1. أن السفينة كانت مأهولة بغيرهم، أي أن غيرهم كان يركب السفينة معهما وأن موسى فقط هو من لاحظ أن الرجل قد خرق السفينة
  2. أن السفينة لم تكن تحمل إلا موسى وصاحبه، ويكأنهما قد استأجرا السفينة وذهبا فيها وحدهما، لذا لم يكن هناك من يلاحظ ما فعله الرجل بتلك السفينة إلا موسى نفسه.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نرجح السيناريو الأول للأسباب التالية:
أولا، أن موسى وصاحبه لم يركبا السفينة وإنما ركبا في السفينة:
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
فنحن ظن أن من يركب السفينة هو من يقود دفتها ويوجهها إلى مقصدها، ولكن من يركب في السفينة فهو ليس أكثر من زبون فيها لا دخل له بقيادتها. فها هو نوح مثلا يطلب ممن آمن معه أن يركبوا فيها، فلم يكونوا (نحن نظن) ليتدخلوا في توجيهها مادامت أنها تجري وترسو بسم الله:
وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
ثانيا، كان خرق السفينة سيؤدي لا محالة إلى غرق أهلها كما جاء بصريح لفظ موسى:
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
لذا لو أن موسى وصاحبه هما فقط من كانا يركبان السفينة لما كان خرقها سيؤدي بالضرورة إلى إغراق أهلها.
السؤال: كيف كان خرق السفينة بتلك الطريقة سيؤدي إلى إغراق أهلها؟
باب أهل السفينة
السؤال: من هم أهل السفينة التي أقدم صاحب موسى على خرقها؟
جواب: إنهم المساكين الذين يعملون في البحر.
السؤال: لماذا كان خرق صاحب موسى للسفينة سيؤدي إلى إغراق هؤلاء المساكين فقط؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأنه عندما خرق السفينة صاحب موسى لم يتبقى فيها إلا أهلها.
السؤال: وأين بقية الركاب؟
رأينا: نحن نفتري الظن بأن موسى وصاحبه كانا آخر من نزل من السفينة من الركاب ولم يتبقى فيها إلا أهلها.
السؤال: وأين الدليل على ذلك؟
جواب: نحن نكاد نجد الجواب (كما نفتريه) من الآية الكريمة التالية (كما نفهمها):
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15)
فلو دققنا في اللفظ القرآني جيدا لوجدنا الضرورة تستدعي التفريق بين أهل السفينة (كما جاء على لسان موسى) من جهة وأصحاب السفينة (كما جاء في هذه الآية الكريمة) من جهة أخرى. فلنطرح التساؤل التالي على الفور: ما الفرق بين أهل السفينة وأصحاب السفينة؟
منطقنا المفترى من عند أنفسنا: كان نوح هو من صنع السفينة بنفسه بوحي وأمر من ربه، أليس كذلك؟
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37)
فكان هو (نحن نظن) من يملكها. ولكن الله أمره أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهله (إلا من حق عليه القول) ومن آمن معه (وما آمن معه إلا قليل):
حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
ولمّا جاءت النجاة كانت لمن بنا السفينة وهو نوح نفسه وأصحاب السفينة. انظر الآية الكريمة التالية:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15)
فمن هم أصحاب السفينة إذن؟
جواب: نحن نكاد نجزم القول بأن نوحا لم يكن منهم بدليل أن النجاة حصلت لنوح ولأصحاب السفينة (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ)، فمن هم أصحاب السفينة إذن؟
جواب: نحن نظن أن أصحاب السفينة كانوا هم كل من كان يركب فيها حينئذ باستثناء نوح، وهم:
  • أهله (إلا من سبق عليه القول)
  • ومن آمن معه (وما آمن معه إلا قليل)
  • وربما يضاف إلى ذلك ما كان يحمل فيها من كل زوجين اثنين
السؤال: إذا كان هؤلاء هم أصحاب سفينة نوح، فمن هم أهل سفينة نوح إذن؟
جواب مفترى: إنه نوح نفسه لأنه هو من كان يملك تلك السفينة مادام أنه هو من صنعها.
السؤال: ما الفرق بين الصاحب والأهل إذن؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن من يملك الشيء على الدوام فهو أهله، ولكن من يملكه على انقطاع لفترة محددة فهو صاحبه.
الدليل
هذا يوسف الصديق يتحدث مع صاحبيه السجن:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
فكانوا جميعا من أصحاب السجن لأن مكوثهم فيه سيكون على انقطاع لفترة من الزمن وليس ملكا على الدوام.
وكان الذي رافق النبي محمد في رحلته هو صاحبه في الغار:
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
وكان ذا النون هو صاحب الحوت مادام أنه قد لبث في بطنه فترة من الزمن، ولم يمكث فيه إلى الأبد:
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
والمرأة هي صاحبة لبعلها مادام أن التفريق بينهما قد يحصل في أي وقت:
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
نتيجة: لمّا قال موسى لصاحبه أن خرقه للسفينة سيؤدي إلى إغراق أهلها (أي أهل السفينة) ولما لم يقل بأن خرق السفينة سيؤدي إلى إغراق أصحابها، فإننا نظن بأن كل من تبقى في السفينة لم يكونوا أصحاب السفينة الذين ربما كانوا يستخدمون السفينة لفترة محددة من الزمن كركابها مثلا، ولكنهم كانوا جميعا أهلها لأنهم هم المتواجدون فيها على الدوام مادام أن ملكيتها تعود لهم.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن صاحب الشيء هو من له الحق في استخدامه ولكنه لا يملكه كأمثال أصحاب الجنة:
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
كما نعتقد أن من كان صاحب للشي فهو لا يملكه على الدوام، لذا جاءت الحاجة ضرورية تأكيد الخلود لأصحاب الجنة:
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
فلو كان الخلود من معاني الصحبة (أي من كان صاحبا لشيء) لما دعت الحاجة إلى تأكيد أن أصحاب الجنة خالدين فيها:
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
السؤال: لماذا من يدخل الجنة يصبح من أصحاب الجنة وليس من أهل الجنة (كما هو شائع عند العامة)؟
جواب: نحن لم نجد في كتاب الله عبارة "أهل الجنة" وأن كل الآيات الكريمة في هذا الجانب تتحدث عن أصحاب الجنة. ليبرز السؤال نفسه: لماذا أصحاب الجنة؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن من كان من أصحاب الجنة فهو لا يملكها، مادام أنه لم يصنعها، ولم يساعد في إحداث شيء فيها، ولكنه فقط يستخدمها.
السؤال: إذا كان من يستخدم السفينة لغرض ركوبها على انقطاع هو صاحبها، فمن هم أهل السفينة التي ركبها موسى مع صاحبه؟
جواب: إنهم أولئك المساكين اللذين كانوا يعملون في البحر لأنهم هم – برأينا- من كانوا يملكون تلك السفينة.
باب المساكين
السؤال: لماذا كان أهل السفينة من المساكين مادام أن لديهم عمل؟ ألم يكونوا يعملون في البحر؟ وهل من يعمل يمكن أن يكون ممن يطلق عليه لفظ المسكين؟
السؤال: من هو المسكين إذن؟
جواب: نحن نظن أن المسكين يختلف عن كل من جاء مصاحبا لهم في اللفظ في الآية الكريمة التالية التي تتحدث عن من يحق له أن يأخذ من الصدقات عند توزيعها:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
ولا شك أن المسكين يختلف أيضا عن من جاء مصاحب له في الآية الكريمة التالية:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
السؤال: ما الفرق بين الفقير والمسكين؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الفقير هو الذي لا يملك شيئا، فها هو موسى يشكو فقره إلى الله عندما وصل مدين:
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
فلا أظن أن موسى حينئذ كان يملك شيئا يمكن أن يكفيه حاجته الملحة للطعام حينها.
ثانيا، نحن نظن أن الفقير هو الذي قد يكون أحصر في سبيل الله، فلا يستطيع أن يضرب في الأرض (أي لا يستطيع أن يعمل لسبب ما)، ولكنه في الوقت ذاته يأبى أن يسأل الناس تعففا، ولا نجد أكثر دقة في التفصيل مما جاء في الآية الكريمة التالية التي تصور حال من كان فقيرا أحسن تفصيلا:
لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
وليس أدل على ذلك من فقر الناس جميعا إلى الله:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
ثالثا، نحن نظن أن الفقير ربما لا يستطيع الاتكال المطلق على نفسه، فهو بحاجة إلى من يساعده، لأنه قد لا يستطيع أن يتحصل على الشيء بنفسه، فعلى الرغم من القوة الجسدية لموسى عندما ورد ماء مدين بدليل أنه هو من سقى لهما، إلا أنه في اللحظة ذاتها كان فقيرا إلى ما ينزله ربه عليه من خير هناك:
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
السؤال: لماذا كان موسى في تلك اللحظة فقيرا ليطلب المساعدة من ربه؟ لم لا يبحث عن عمل يكسب من خلاله قوته؟
جواب: لا شك عندنا أن موسى كان في تلك اللحظة قد أحصر في سبيل الله فلم يكن يستطيع ضربا في الأرض حتى الساعة، ولكنه كان بحاجة إلى مساعدة عاجلة حتى يستطيع أن يضرب بالأرض فيجد له عملا يكفيه رزقه. فكان موسى – برأينا- فقيرا مادام أنه بحاجة إلى مساعدة عاجلة، ولكن مما لا شك فيه فإن موسى (على فقره في تلك الساعة) لم يكن ليسأل الناس، فموسى ليس من الذين يمدون أيديهم إلى الناس بغرض كسب شيء من فتاتهم. فعزة نفس موسى (وحفظ ماء وجهه) أقوى من حاجته إلى الطعام والشراب.
السؤال: لماذا لم يبحث موسى في تلك الساعة عن عمل يكسب رزقه من خلاله؟
جواب مفترى: صحيح أن موسى كان يستطيع أن يبحث له عن عمل، لكن ذلك ربما كان سيكلفه بعض الوقت الذي قد لا يقوى على إضاعته حتى يحصل على شيء من الرزق. فالجهد والتعب (من عناء السفر) قد أخذ منه شوطا بعيدا. ونحن نعلم أن موسى لا يستطيع الصبر على الجوع إطلاقا (كما لم يكن يستطيع الصبر على العلم مع صاحبه هذا)، وليس أدل على ذلك من:
  • منذ ولادته كان موسى بحاجة إلى الأكل حتى جاء الأمر الإلهي لأمه بأن ترضعه قبل أن تقذفه في التابوت فتقذفه في اليم:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
  • ما أن وصل ماء مدين حتى طلب الطعام:
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
  • عندما ذهب مع غلامه في الرحلة، كان الجوع قد أخذ منه مأخذا:
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
  • ما أن صاحب هذا الرجل في رحلته وأتيا أهل القرية حتى استطعما أهلها، وبالرغم أن صاحب موسى عمد إلى بناء الجدار وهو في حالة من الجوع إلا أن موسى لم يساعده في ذلك. فما كان موسى (نحن نظن) يقوى على العمل متى ما أصابه الجوع:
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
  • الخ.
إن ما يهمنا قوله هنا هو أن موسى كان في تلك اللحظة التي سقى فيها للامرأتين على ماء مدين فقيرا إلى خير ينزل إليه من ربه لأنه لا يستطيع الانتظار وتحمل عناء الجوع حتى يبحث له عن عمل يكسب من خلاله شيئا من الرزق. ولكنه لا يستطيع أن يسأل الناس إلحافا تعففا من السؤال:
لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
ولكن الفقر كحالة موسى هنا (نحن نظن) لا يدوم لأنّ فقره سينتهي عندما يجد موسى عملا يكسب من خلاله الرزق، فموسى حتى الساعة لم يكن يستطيع ضربا في الأرض مادام أنه من الفقراء اللذين أحصروا.
افتراء من عند أنفسنا: بناء على ما سبق، نحن نظن أن الفقير هو
  • الذي لا يملك شيئا
  • الذي لا يسأل الناس إلحافا، لذا فهو قد لا يكون معروفا للآخرين
  • الذي قد يكون أحصر فلا يستطيع ضربا في الأرض
  • الذي قد لا يقوى على الكسب بمفرده بسبب أنه أحصر
  • الذي يحتاج إلى مساعدة عاجلة
  • الفقر قد يزول بمجرد انتهاء السبب لأنه آني
  • الخ.
السؤال: إذا كانت هذه هي بعض صفات من كان فقيرا، فمن هو المسكين إذن؟
جواب مفترى: المسكين قد يسأل الناس:
فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24)
فمادام أن المسكين قد يدخل على أصحاب الجنة، فهو إذن يدخل عليهم يطلب شيئا من الرزق من عندهم.
ثانيا، نحن نظن أن المسكين معروف للآخرين مادام أنه هو من يسأل الناس:
إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
ثالثا، نحن نظن أن المسكين من كان بحاجة إلى مساعدة تكاد تكون دائمة:
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
رابعا، نحن نكاد نجزم الظن بأن المسكين هو الذي يتلقى الكفارات كلها ككفارة الأيمان:
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
وكفارة من قتل شيئا من الصيد وهو في حالة الإحرام:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
وكفدية الذي يطيق الصيام:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
وككفارة العودة إلى النساء من بعد مظاهرتهن:
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
خامسا، لا شك – عندنا- أن المسكين يستطيع أن يعمل بدليل أن السفينة التي ركبها موسى مع صاحبه نفسها كانت لمساكين يعملون في البحر:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
السؤال: من هو المسكين إذن؟
بناء على ما سبق، نحن نظن أن المسكين هو:
  • الذي قد يملك شيئا من الرزق
  • الذي قد يسأل الناس إلحافا، لذا فهو معروف للآخرين
  • الذي قد يستطيع ضربا في الأرض
  • الذي قد يقوى على الكسب بمفرده وإن كان ما يكسبه لا يكفيه
  • الذي قد يحتاج إلى مساعدة
  • المسكنة قد لا تزول بمجرد انتهاء السبب لأنها دائمة
  • الخ.
والجدول التالي يوضح بعض الفروق (المفتراة من عند أنفسنا) بين الفقير من جهة والمسكين من جهة أخرى
                   الفقير
                 المسكين
  • الذي لا يملك شيئا من الرزق
  • الذي لا يسأل الناس إلحافا، لذا فهو قد لا يكون معروفا للآخرين
  • الذي قد لا يستطيع ضربا في الأرض
  • الذي قد لا يقوى على الكسب بمفرده


  • الذي يحتاج إلى مساعدة عاجلة
  • الفقر قد يزول بمجرد انتهاء السبب لأنه آني
  • يأخذ من الصدقات
  • لا يأخذ من الكفارات
  • الخ.

  • الذي قد يملك شيئا من الرزق
  • الذي قد يسأل الناس إلحافا، لذا فهو معرف للآخرين


  • الذي قد يستطيع ضربا في الأرض
  • الذي قد يقوى على الكسب بمفرده وإن كان ما يكسبه لا يكفيه
  • الذي قد يحتاج إلى مساعدة
  • المسكنة قد لا تزول بمجرد انتهاء السبب لأنها دائمة
  • يأخذ من الصدقات
  • يأخذ الكفارات جميعها
  • الخ



نتيجة مفتراة: لمّا كانت السفينة التي خرقها صاحب موسى تعود ملكيتها إلى مساكين يعملون في البحر، كان من باب علم الرجل أن عليه أن يحسن إلى هؤلاء المساكين، لأن الله أمر بالإحسان إلى المساكين كما أمر بالإحسان إلى اليتامى وإلى ذي القربى وإلى الوالدين كما جاء في الآية الكريمة التالية بترتيب معكوس للأهمية:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)
والآيات الكريمة العديدة تفرق بين المسكين من جهة واليتيم من جهة أخرى، فاليتيم (نحن نظن) ينتهي "يُتمه" (إن صح القول) بمجرد أن يبلغ الحلم ويدفع إليه ماله:
وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا (6)
عندها تكف عنه الكفالة فما يعود يقع في دائرة "اليُتم" (إن صحّ القول)، حتى وإن كان أبواه (أو أحدهما) متوفى. فموت الأب أو الأم لا يعني اليتم إلا إذا كان من الذرية الضعفاء الذين تركهم خلفه ويحتاجون إلى من يكفلهم:
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
فأنا مثلا يتيم الأب والأم (يا حرام!)، ولكن هل أُصنّف ضمن فئة من هم من اليتامى؟
جواب: كلا وألف كلا، فمادام أني لم أعد من الذرية الضعفاء الذين تقع كفالتهم على أحد، فأنا لست من اليتامى.
لذا، قد يكون من هو من الفقراء أو المساكين ممن ليس لهم والدَين على قيد الحياة، ولكن هذا لا يعني أنهم من اليتامى مادام أن كفالتهم لا تقع على عاتق أحد، ومادام أنهم قد بلغوا النكاح وقد آنسنا منهم الرشد.
نتيجة مفتراة: من بلغ النكاح وآنسنا منه الرشد لا يعود يقع في دائرة من هم من اليتامى، ولا يصبح له الحق في الصدقات إلا إذا كان فقيرا أو مسكينا أو ابن سبيل أو من الغارمين.
عودة على قصة موسى
السؤال: لماذا خرق صاحب موسى السفينة؟
جواب مفترى: لأنها كانت تعود ملكيتها إلى مساكين، فكان من واجبه أن يحسن إليهم كإحسانه للوالدين واليتامى ولذي القربى:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)
فكان ذلك في علمه من باب الإحسان للمساكين وهم أهل تلك السفينة، ولكن علم موسى لم يكن يؤهله للوصول إلى هذه المعلومة بيسر، فظن أن ذلك شيئا إِمْرًا:
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
السؤال: ما معنى قول موسى أن ما فعله صاحبه كان شَيْئًا إِمْرًا؟ أو كيف يمكن أن نفهم ما قاله موسى في هذا السياق؟
رأينا: لقد ظن موسى أن ما قام به صاحبه من خرق للسفينة لم يكن أكثر مما يفعله من ينكر الجميل. فهو بمفرداتنا العامية يقول لصاحبه أن ما قمت به لا يمكن أن يفعله إلا من هو من "البلطجية بلغة المصريين واليمنيين" أو "الشبيحة بلغة أهل الشام" أو "الزعران بلغة أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس" في زمن الربيع العربي.
فموسى يظن أن ما فعله صاحبه من خرق للسفينة ليس أكثر من فعل من يشرب من بئر (كما يقول المثل الشعبي) ويرمي به حجرا.  فهو يعتقد أنه ليس من الآداب العامة أن تعمد إلى إحداث خرق في سفينة كنت قد ركبتها لتوصلك إلى مكان ما لم تكن تقوى على الوصول إليه بدونها (إلا ربما بشق الأنفس).
السؤال: لماذا لم يلحظ أهل السفينة أن صاحب موسى قد خرق سفينتهم؟ لِم كان موسى هو فقط من لاحظ أن صاحبه قد أحدث في السفينة خرقا؟
جواب: لأن ما قام به صاحب موسى من خرق للسفينة لم يكن ليلحظه إلا من كان مراقبا له على الدوام كموسى مثلا؟
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب: لأن صاحب موسى لم يحدث في السفينة إلا الخرق؟
السؤال: وكيف أحدث صاحب موسى ذلك الخرق؟
جواب مفترى: نحن نفتري القول بأن صاحب موسى قد أحدث الخرق في السفينة برجليه (أو بأحدهما). فصاحب موسى لم يحدث الخرق بيده أو باستخدام أداة، فكان جل ما فعله الرجل هو – برأينا- أنه أحدث الخرق برجله، فما كان سيلحظ ذلك إلا من كان قريبا منه ومراقبا له على الدوام.
السؤال: وأين الدليل أن صاحب موسى قد خرق السفينة برجله؟
جواب: نحن نظن أننا نجد الإجابة في الآية الكريمة التالية:
وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37)
السؤال: كيف يستطيع من يمشي في الأرض مرحا أن يحدث خرقا في الأرض؟ هل يحتاج أن يستخدم يداه في ذلك؟ وهل يحتاج أن يكون معه أداة ليقوم بذلك؟
جواب: كلا وألف كلا، يستطيع من ظن أنه يريد أن يخرق الأرض أو أن يبلغ الجبال طويلا أن يمشي في الأرض مَرَحا. عندها سيمشي بطريقة الخيلاء والتكبر، لأن من مشى في الأرض مَرَحا فهو مختال فخور:
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
فلو أن من مشى في الأرض مرحا قد أحدث خرقا في الأرض، لما كان سيفعل ذلك بأكثر من استخدام قدميه، فهو يضرب الأرض برجليه كما لو أنه يحاول أن يحدث فيها خرقا وفي الوقت ذاته يبقى منتصب القامة رافعا رأسه إلى الأعلى، والأهم من ذلك أن من يمشي بتلك الطريقة لا يضع نظره على موطئ قدمه. وبمثل تلك الصورة نحن نتخيل الفعل الذي قام به صاحب موسى. لقد مشى في باطن السفينة بطريقة المختال الذي يضرب الأرض بقدميه ليحدث فيها خرقا، رافعا رأسه إلى الأعلى ويكأنه يمشي مختالا فخورا. ونحن نظن أنه قد بدأ بالنبش برجليه أو بأحدهما في باطن السفينة منذ أن ركباها:
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ...
وبالفعل حصل له ذلك (إي أحدث خرقا فعليا في السفينة) عندما انتهت رحلتهما فيها، فنزل صاحب موسى من السفينة مع موسى تاركا أهلها فقط في بطنها وقد خُرِقت. وما أن نزل موسى مع صاحبه من السفينة وأنفرد بصاحبه بعيدا عن أهل السفينة حتى جاءت معاتبته له على فعلته تلك التي لم يلحظها إلاّ موسى
... قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
السؤال: لماذا كان موسى فقط هو من لاحظ أن صاحبه قد خرق السفينة؟ لِم لَم يلحظ هذا غيره كأهل السفينة من المساكين؟
جواب: نحن نظن أن السبب ربما يعود إلى أن موسى
  • كان قريبا منه لأنه كان صاحبه
  • لأن السفينة ربما كانت كبيرة الحجم، حتى ما تمكن من هو في بدايتها (أهلها) من رؤية ما يفعل من هو في وسطها أو في مؤخرتها (موسى وصاحبه)
  • لأنه كان يراقبه على الدوام مادام أن الهدف من صحبته هو أن يتعلم منه
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
  • والأهم من ذلك لأن موسى كان يمشي وراءه، فموسى كان يلحق بالرجل الذي يمشي أمامه مادام أن موسى هو التابع والرجل صاحبه هو المتبوع:
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
كما نفتري الظن بأن أحد الأسباب التي جعلت موسى فقط هو من يلحظ خرق صاحبه للسفينة ريما يعود إلى التوقيت الذي حصلت فيه تلك الحادثة، فنحن نظن أن الوقت قد قارب على المغيب، مادام أن موسى قد انطلق مع صاحبه في تلك الرحلة في وقت متأخر من اليوم، أي بعد أن تناول غداءه مع فتاه وارتدا على آثارهما قصصا، فالوقت الذي وجدا فيه ذاك العبد الصالح كان (في ظننا) يقرب من وقت العصر (بمفرداتنا الدارجة)، وما أن ركبا السفينة معا للذهاب إلى المكان الذي ينويان النزول فيه حتى كان وقت المغرب (نحن نظن) قد اقترب.
تخيلات من عند أنفسنا عن خرق الرجل صاحب موسى لسفينة المساكين
نحن نتخيل القصة وقد حصلت على النحو التالي: يترك موسى فتاه عند الصخرة التي هي عند مجمع البحرين (انظر الخريطة السابقة مرة أخرى)، وينطلق مع صاحبه الجديد (وهو هذا العبد الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما) قاصدا التعلم منه، فكانت رحلتهما الأولى قد بدأت بركوب السفينة في عرض البحر، قاصدين الذهاب (نحن نفتري القول) إلى مكان محدد بعينه ليتعلم موسى من صاحبه مما علمه الله من لدنّه هناك. وما أن يركبا سفينة تعود ملكيتها إلى مساكين يعملون في البحر حتى يعمد ذلك الرجل (صاحب موسى) إلى إحداث خرق في السفينة، ويستخدم رجله للقيام بذلك. ولما كانت السفينة (نحن نظن) تقل ركابا لتنقلهم من مكان إلى مكان آخر في عرض البحر مادام أن هذه هي صنعة أهل السفينة (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)، كان موسى وصاحبة هما آخر من نزل من تلك السفينة. وما أن يصل موسى مع صاحبه إلى المحطة التي ينويان النزول عندها حتى أكمل الرجل إحداث ذلك الخرق في السفينة في تلك المحطة التي سينزل فيها موسى مع صاحبه فيها، فلقد كانت (نحن نتصور) آخر ضربة برجله في باطن السفينة في تلك اللحظة، محدثا فيها خرقا بسيطا لا يُغْرِق السفينة على الفور، فلا يلحظ ما فعله صاحب موسى من خرق للسفينة إلا موسى نفسه الذي كان تابعا له. فينزل صاحب موسى من السفينة في البداية ثم يتبعه موسى وقد اقترب الظلام، وهناك (خارج السفينة) يأتي العتاب من موسى لصاحبه على فعلته تلك، ظانا بأن ذلك الخرق الذي أحدثه صاحبه في باطن السفينة سيؤدي على غرق أهلها:
قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
فغرق أهلها لن يكون في الحال ولكن بعد فترة قصيرة من الزمن. ونحن نظن أن السبب في ذلك ربما يعود إلى أن أهل السفينة قد تابعوا مسيرهم بعد أن نزل موسى وصاحبه إلى المحطة التي سترسو بها السفينة في نهاية يوم شاق من العمل. لذا نحن نفتري الظن بأن تلك الرحلة كانت هي الرحلة الأخيرة التي تقوم بها تلك السفينة في ذلك اليوم، فكان وصول صاحب موسى إلى المكان الذي كان ينوي أن يصحب موسى إليه يقرب من وقت المغيب حيث تقل فرص الرؤية البصرية. وكان انطلاق أهل السفينة بسفينتهم إلى مكان رسوّها سيؤدي إلى تفاقم خطر ذلك الخرق في السفينة حتى يكاد أن يغرق أهلها قبل أن تصل مرساها كما ظن موسى:
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
فكان ظن موسى أن ما قام به صاحبه من خرق للسفينة يقع في نطاق ما يقوم به البلطجية أو الزعران أو الشبيحة، أي أولاد الشوارع (إنْ صحّ القول)، فموسى يستنكر على الرجل ما فعل بتلك السفينة التي ركباها في عرض البحر، فنعته على أنه شيئا إِمْرا.
ولكن بسبب محدودية علمه، لم يستطع موسى أن يدرك أن ما فعله ذلك الرجل بالسفينة لم يكن شيئا إمرا وإنما هو إحسان لأولئك المساكين:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مَُّعْرِضُونَ (83)
وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)
فجاء تأويل صاحب موسى لذاك الفعل على النحو التالي:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
فأنقذ صاحب موسى بفعلته تلك السفينة من قبضة ذلك الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا. فلو أن الملك قد وصل إلى المكان الذي ترسو فيه السفينة ووجدها صالحة لا عيب فيها، لما تردد لحظة أن يضمها إلى أسطوله بالقوة، فلا يستطيع أولئك المساكين أن ينقذوا سفينتهم من بين أيدي ذاك الطاغية.
فلقد سبق صاحب موسى ذلك الملك إلى السفينة فأنقذها لأصحابها من قبضته، بالضبط كما سيسبق إلى الغلام ليقتله قبل أن يصل إليه والده (كما افترينا القول في الجزء السابق من هذه المقالة).
السؤال: من هو ذلك الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصا؟
باب الملك
للتعرف على هوية ذلك الملك الذي كان قادما من بعيد ليأخذ كل سفينة غصبا، كان لابد من طرح التساؤلات التالية:
  • من هو ذلك الملك؟
  • أين هي مملكته؟
  • من أين كان قادما؟
  • إلى أين كان متجها؟
  • لماذا كان يأخذ كل سفينة غصبا؟
  • الخ.
بداية نحن نجد أن لفظ الملك جاء في هذه الآية الكريمة بصيغة التنكير على عكس السفينة التي جاءت بصيغة التعريف. انظر الآية نفسها:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
لذا نحن نظن أن هذا الملك لم يكن معهودا (معروفا) للسامع وهو موسى كما كانت السفينة. فصاحب موسى كان يعلم أن موسى قد خبر السفينة من قبل فجاء خطابه له عنها بصيغة التعريف (أَمَّا السَّفِينَةُ)، ويكأنه يقول لموسى (نحن نتخيل) أن تلك السفينة التي تعرف تعود ملكيتها لمساكين يعملون في البحر لا تعرفهم (لِمَسَاكِينَ)، وأن تلك السفينة كان من الممكن أن تقع في قبضة ملك أنت لا تعرفه يا موسى، فجاء خطاب صاحب موسى له عن ذلك الملك بصيغة التنكير (وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ).
السؤال: من هو ذاك الملك الذي جاء ليأخذ كل سفينة غصبا؟
جواب: ما دام أنه غير معروف بالنسبة لموسى لذا فهو قد جاء من مكان (نحن نفتري القول) لم يخبره موسى من ذي قبل. لذا نحن نستبعد أن يكون ذاك الملك قد جاء من مصر أو من مدين لأنهما من المناطق التي كان يعرفها موسى جيدا مادام أنه قد لبث فيهما فترة من الزمن، فموسى تربى في ديار فرعون ولبث فيها سنين من عمره:
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
وهو أيضا لبث سنين من عمره في أهل مدين:
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
وإذا كانت معظم أرض مصر (نحن نظن) تقع إلى الغرب من البحر، بدليل أن بني إسرائيل قد خرجوا من مصر متجهين شرقا:
فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
فإن معظم مدين (أرض شعيب) تقع إلى الشرق من البحر بدليل أن مدين لا تبعد كثيرا عن قوم لوط:
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (89)
لذا نحن نستبعد أن يكون ذاك الملك قد كان قادما من شرق البحر أو من غربه. فمن أين كان قادما؟
جواب: لابد أن ذلك الملك (نحن نفتري القول) قد كان قادما من البحر نفسه.
الدليل
لو قرأنا ما قاله الرجل لموسى لوجدنا الخبر اليقين بأن ذلك الملك كان قادما من وراء المساكين الذين يعملون في البحر:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
السؤال: كيف يكون ذلك الملك قادما من ورائهم؟
جواب مفترى: مادام أن الحديث جاء عن المساكين الذين يعملون في البحر، فإن موقعهم الجغرافي هو البحر نفسه، أليس كذلك؟
السؤال: ما هو وراء من كان في البحر؟
جواب مفترى: البحر نفسه ولكن بالاتجاه المقابل. فإذا كان المساكين في شمال البحر فلابد أن الملك قادم من جنوبه، والعكس صحيح بالضبط كحالة من يقف وراء المصلين لحمايتهم في حالة الصلاة:
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102)
والآن لنلق نظرة على الخريطة مرة أخرى. فإذا كانت نقطة تواجد المساكين أصحاب السفينة هي مجمع البحرين (أي التقاء خليج العقبة مع خليج السويس في شمال البحر الأحمر، فإن الملك (حسب منطقنا المفترى هذا) يكون قادما باسطوله البحري من جنوب البحر الأحمر ليضم إليه كل سفينة غصبا:



الدليل
نحن نظن أننا قد نجد الدليل على هذا الظن من فهمنا للآية الكريمة نفسها خاصة في مفردة غَصْبًا:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
السؤال: كيف كان ذلك الملك يأخذ كل سفينة غَصْبًا؟
جواب مفترى: نحن نظن أن ذلك الملك كان يأخذ كل سفينة غصبا لأن المساكين (أهل السفينة التي خرقها صاحب موسى) لا يقعون ضمن ناطق مملكته، وهم ليسوا جزءا من شعبه. فكان أخذه لسفينتهم (لو حصل) من باب أخذ الشيء غَصْبًا.
السؤال: وكيف عرفت ذلك؟ يقول صاحبنا.
جواب مفترى: نحن نظن أنه لو كان المساكين أهل تلك السفينة يقعون ضمن نطاق مملكة ذاك الملك ولو كانوا جزءا من شعبه، لربما جاء النص القرآني على نحو أن ذلك الملك
كان يأخذ كل سفينة كرها (وليس غصبا)
السؤال: ما معنى غصبا؟ وكيف تختلف عن كرها؟ وما الفرق بين أن تأخذ الشيء كرها أو أن تأخذه غصبا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأنه لم يكن لذاك الملك حق  في تلك السفينة لأنه كان يأخذها غصبا، ولو كان لذاك الملك حق فيها لأخذها من أهلها المساكين كرها، وذلك لأن الأخذ كرها (نحن نظن) ربما يكون فيه شيء من الشرعية، فقد يؤخذ شيء منك كرها (أي تكون كارها لذلك) لكن هذا لا يمنع بأن من أخذ منك الشيء كرها كان مخطئا أو أنه كان معتديا فقط، أو أنه قد أخذه دون وجه حق على الإطلاق. بل على العكس فقد يكون لمن أخذ منك شيئا كرها بعض الحق فيما أخذ.
الدليل
أولا، نحن نجد في النص القرآني أن بعض الناس يكره الحق، أي يكون للحق كارها:
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
ولكن كرهك لشيء ما، لا ينفي عنه صفة أن يكون حقا. فقد ينفق الإنسان كرها:
وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
ولكن كرهم للإنفاق لا يعني أن الإنفاق شيء سيء. فأنت قد تكره شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا:
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216)
وأنت قد تُكرِه الناسَ على شيء تظن أن فيه خير لهم:
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99)
فلو حصل أن أكرهت شخصا على الإيمان لكان في ذلك خير له حتى ولو كان له كارها. وعلى الرغم أن حمل الطفل وفصاله هو من باب الكره إلا أن في ذلك خير للوالدين:
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)


ثانيا، نحن نظن أن من يكرهك على شي عادة يكون له سلطانا عليك. فالله هو من طلب من السموات والأرض أن يأتيا طوعا أو كرها:
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
وولي الأمر مثلا قد يُكرِه فتياته على البغاء لأنه ببساطة هو ولي أمرهن قد يظن أن في ذلك خير لهن:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33)
ولا يستطيع أن يكره النساء إلا من كان له حق في ميراثها كزوجها مثلا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
ولكن الغصب (غصبا) - في المقابل- لا يكون (نحن نفتري القول) فيه خير لمن اغتصب منه الشيء، لأنه لو كان في أخذ ذلك الملك لسفينة المساكين خير لهما لما اضطر صاحب موسى أن يخرق السفينة لينقذها من أيدي ذلك الجبار. كما أن الغصب (غصبا) لا يقع (نحن نظن) إلا مِمن كان غريبا لا حق له فيما أخذه منك. لذا نحن ننتهي إلى الجملتين التاليتين:
  • قد آخذ منك شيئا غصبا
  • قد آخذ منك شيئا طوعا


فما الفرق بين الحالتين؟ نحن نسأل.
نتيجة مفتراة: نحن نظن أنه لمّا كان ما أخذه ذلك الملك يقع في باب الغصب (وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) وليس في باب الإكراه، فإننا نتجرأ على القول بأن ذلك الملك:
  • لم يكن له حق في تلك السفينة
  • لم يكن المساكين يقعون في دائرة مملكته لأنه عندها يكون له حق فيها في وقت الحرب
  • لم يكن ليعود ذلك بالخير على المساكين وإلا لما أضطر صاحب موسى أن يعيبها
  • كان إذن من الغزاة المعتدين
  • الخ
السؤال: من هو ذاك الملك؟ ومن أين كان قادما؟
جواب: من ورائهم:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
السؤال: أين هو "وراء" أولئك المساكين الذين يعملون في البحر؟
جواب مفترى: لقد تطرقنا في مقالة قديمة جدا لنا عن معنى مفردة ورائهم تحت عنوان والله من ورائهم محيط، وزعمنا الظن حينها أن مفردة ورائهم تحمل في ثناياها العنصر الزماني والمكاني. (للتفصيل في معنى مفردة ورائهم انظر مقالاتنا تحت عنوان والله من ورائهم محيط)
فكان مراد القول أن مفردة "وراء" تعني من الناحية الزمانية أن الحدث لم يحصل بعد، فالملك قادم في الطريق لم يصل بعد إلى المكان الذي ترسو به سفينة المساكين الذين يعملون في البحر، كما في الآيات التالية التي تتحدث عن ما سيلاقيه الكافر وراءه (أي بعد موته):
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
أما من الناحية المكانية، فمفردة "وراء" تعني الاتجاه المعاكس الذي تنعدم رؤيته بالنسبة للشخص المقصود. فالملك كان قادما من الجهة المقابلة لمكان وجود المساكين مع سفينتهم كما في حالة القائمين في الصلاة والواقفين ورائهم لحمايتهم:
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102)
السؤال: أين ذلك المكان على الخريطة الجغرافية؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الملك كان قادما من جنوب البحر الأحمر، حيث مكان تواجد تلك الممالك الظالمة التي كانت تفسد في الأرض، وهي التي سنجد خبرها لاحقا عندما نربط قصة موسى هذه مع قصة سليمان الذي جاءه خبر المرأة التي كانت تملك قومها في سبأ على لسان الهدهد:
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
وهناك سنجد خبر أولئك الملوك الذين كان يفسدون في الأرض، الذين إذا دخلوا قرية جعلوا أعزة أهلها أذلة بعد أن يفسدوا الأرض:
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
وسنجد لاحقا أن تلك هي المنطقة التي أخضعها سليمان بالكامل لملكه:
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)
(دعاء: رب اغفر لي وعلمني علما لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت العليم- آمين).
وسنحاول حينئذ (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) أن نتحدث بالتفصيل عن سبب غزوات هؤلاء الملوك المفسدين ونتيجة غزواتهم تلك وخاصة ما سلبوه من الأقوام الأخرى، وكيف انتهى كل ذلك إلى أن يقع في أيدي سليمان لاحقا، فالله وحده أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يجعل فضله عليّ عظيما – آمين.
والآن لنعد إلى موسى وصاحبه طارحين التساؤل التالي: إذا كان الملك قادما من وراء المساكين أهل السفينة الذين كانوا يعملون في البحر، فماذا عن موسى وصاحبه؟ ألم يكن ذلك الملك قادم من ورائهم أيضا؟
جواب مفترى: كلا، لأنه لو كان ذلك الملك قادما من وراء موسى وصاحبه لربما قال صاحب موسى أن ذلك الملك قادم من ورائنا
السؤال: أين كان موسى وصاحبه متجهين إذن؟
جواب: أظن أن موسى وصاحبه كانا على الجهة المقابلة للمكان الذي سترسو به سفينة المساكين، فهما لن يكونا متواجدين في المكان نفسه متى ما وصل ذلك الملك ليأخذ تلك السفينة، وإلا لما احتاج صاحب موسى أن يؤول ذلك لموسى لأن موسى كان حينها سيرى ذلك بأم عينه.
كما لا أظن أن صاحب موسى كان متجها مع موسى نحو ذلك الملك وإلا لربما لقياه في الطريق، ولربما عرف موسى حينها ما ستؤول إليه الأمور هناك. لذا لابد أن صاحب موسى (نحن نستنتج مفترين الظن من عند أنفسنا) قد راح مع موسى في طريق لا يلتقي فيها مع ذاك الملك. فما علم موسى خبر ذلك الملك إلاّ من تأويل صاحبه للقصة له:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
السؤال: أين كان صاحب موسى متجها بموسى في تلك الرحلة التعليمية؟
جواب: لا شك أن صاحب موسى كان ينوي أن يطوف بموسى في أماكن يخبرها هذا الرجل جيدا، ليعلِّم موسى مما علَّمه الله من لدنّه.
السؤال: وأين تقع تلك الأماكن؟ وما هي؟
جواب: إن هذا السؤال يعيدنا على الفور إلى قصة صاحب موسى من أولها، وبالتحديد إلى الآية الكريمة التي ظننا في بداية هذه السلسة من المقالات أنها تتحدث عنه وهي قوله تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)  
وهذا ما سنتحدث عنه بحول الله وتوفيق منه في الجزء القادم من هذه المقالة إن أذن الله لنا بشيء من علمه، طارحين التساؤلين التاليين فقط:
  • أين هي الأماكن التي زارها موسى مع صاحبه؟
  • وأين يمكن أن نجد هذا الرجل (صاحب موسى) اليوم؟
فالله اسأل أن ينفذ أمره بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه اللدنّي لا ينبغي لأحد من بعدي إنه هو العليم الحكيم. وأسأله وحده أن يؤتيني رحمة من عنده، وأسأله وحده أن يعلمني ما لم أكن أعلم وأن يجعل فضله عليّ عظيما، وأعوذ به أن أفتري عليه الكذب أو أن أقول عليه ما ليس لي بحق إنه هو السميع المجيب، والحمد لله رب العالمين.
والله أعلم


وللحديث بقية


المدّكرون: رشيد سليم الجراح & علي محمود سالم الشرمان


بقلم: د. رشيد الجراح
18 شباط 2014


ما هو العقم؟
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
العقيم هي عبارة عن ما يشبه الشيء الذي يدفع (كالريح) أو كمني الرجل أتى على شيء جعله كالرميم
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
والرميم هو عبارة عن تفتيت الشيء إلى جزيئاته المكونة له:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
ما الذي يحصل في حالة الرجل العقيم؟
ينحدر ماء الرجل إلى رحم الأنثى بقوة دافعة (كحالة الريح) فإذا كان الرجل عقيما كانت عملية القذف تشبه حركة الريح العقيم، فتأتي على بويضات المرأة وبدل أن تلقحها تقوم بتفتيتها لتجعلها كالرميم، أي تحيل بويضات المرأة إلى ركام هامد، عندها يصحب من الاستحالة بمكان أن يحدث الحمل.
فمن يستطيع تصليح الأمر؟
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)

فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)