قصة موسى 4: باب العزير 01




لنبدأ بالسؤال الأول التالي: من هو صاحب موسى الذي خرق السفينة ليحافظ عليها لأصحابها المساكين وقتل الغلام الذي لقيآه في الطريق وأقام الجدار على الكنز فحافظ عليه لليتيمين؟
فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا                 الكهف (71)
فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا                    الكهف (74)
فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا                                                                                       الكهف (77)
وبكلمات أخرى نقول: من هو ذلك الرجل الذي كدّ موسى مع فتاه في طلبه ليتبعه موسى فيتعلم منه؟
          قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا                                              الكهف (66)
جواب: إنه بكل بساطة من أتاه الله رحمة من عنده وعلّمه من لدنه علماً كما جاء في الآية التي تسبق طلب موسى إتباعه ذلك الرجل، فانظر - عزيزي القارئ- إلى السياق الأوسع:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
إذن هو:
(1) عبد من عباد الله (عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا) و
(2) أتاه الله رحمة من عنده (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) و
(3) علّمه من لدنه علماً (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)، أليس كذلك؟
السؤال: فمن هو ذلك الرجل إذن؟
بادئ ذي بدء نحن نطلب من القارئ الكريم أن لا يرضى بما سنفتريه من قول بعد هذه اللحظة إلا إن ظن أن الدليل الذي نقدمه من كتاب الله يدعمه، لأن في كلامنا من الخطورة ما يمكن أن يبتعد بنا كثيراً عن ما ورثناه من عقائد آبائنا وأجدادنا. لذا نرجو أن ينظر القارئ الكريم إلى ما نفتري من قول بعين المتفحص المنتقد وليس بعين التابع المقلّد، لأن في كلامنا من الافتراءات الخطيرة (ربما) ما لم يجرؤ عليها أحد قبلنا، ونطلب من القارئ الكريم أن يبحث عن الثغرات والهفوات التي تبطل زعمنا، فإن هو وجد ما يمكن أن يدحض افتراءاتنا فلا يتردد أن يقدم لنا النصيحة، وليكن على يقين بأننا على استعداد على التخلي عن مواقفنا إن ثبت بطلانها، أما إذا لم يثبت ما يبطل ما نزعم من قول فهو بلا شك عقيدتنا مهما ابتعدت عن موروثات آبائنا وأجدادنا، لأن ملخص عقيدتنا هو ما جاء في قوله تعالى:
          قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
فالله وحده نسأل أن يهدينا سواء السبيل وأن يعلمنا الحق الذي نقول فلا نفتري عليه الكذب إنه هو السميع المجيب.

أما بعد،
افتراء خطير جداً جداً من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن الرجل الذي جاءه موسى ليطلب العلم عنده هو العزير الذي جاء ذكره في الآية الكريمة التالية:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)
كلام خطير جداً، أليس كذلك؟ فأين الدليل عليه؟
الدليل
ربما يمكن استنباط الدليل على زعمنا الخطير هذا بعد طرح جملة من التساؤلات مثل:
-        لم قالت اليهود أن "عزير" – على وجه التحديد- ابن الله؟ وهل فعلاً لازالت اليهود تزعم أن هناك ابن لله اسمه "عزير"؟
-        لِم لم تدعي اليهود أن موسى (نبيهم) هو ابن الله كما فعلت النصارى؟
-        ومن هذا الشخص المسمى "عزير" الذي ظن اليهود أنه هو ابن الله؟ وكيف وصل هذا الرجل إلى تلك المرحلة التي تؤهله لأن يظن الناس به مثل هذا الظن؟
رأينا: ربما نستطيع أن نتفهم وجهة نظر النصارى الذين ظنوا (إفكاً من عند أنفسهم) أن المسيح هو ابن الله، لأنهم ببساطة نسبوا البنوّة لنبيّهم، فهم يظنون أن عيسى بن مريم (نبيهم) هو نفسه ابن الله، ولربما جاء ظنهم ذاك مدفوعاً بما كان يقوم به المسيح عيسى ابن مريم على مرأى ومسمع من القوم. فعيسى كان مثلاً يحيي الموتى (بإذن الله) ويشفي الأكمه والأبرص (بإذن الله)، وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم:
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ                                                                                                  آل عمران (49)
والأهم من ذلك كله أن عيسى نفسه هو ابن مريم بنت عمران التي لم يمسسها بشر:
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ                                                                                                                   آل عمران (47)
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا                                                مريم (20)
فكان عيسى ابن مريم كلمة الله وروح منه:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
صحيح أننا (نحن المسلمين) لا نقرّ النصارى في اعتقادهم بأن عيسى بن مريم هو ابن الله، لكننا نستطيع أن نتفهم (فقط نتفهم وإن كنا لا نتفق معهم في) وجهة نظرهم في اعتبار المسيح ابن الله:
          وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ
فموقفنا العقائدي كمسلمين يصوره قول الحق في الآيات الكريمة التالية أحسن تصوير:
          وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)                                                                                                                   الكهف 4-4
ولكن بالرغم من موقفنا العقائدي كمسلمين يبقى السؤال الأكبر بالنسبة لنا في هذا الصدد هو: كيف نستطيع أن نتفهم وجهة نظر اليهود الذين قالوا من قبلهم أن عزيرا هو ابن الله؟ ولم لم ينسبوا ذلك لنبيهم موسى كما فعلت النصارى من بعدهم؟ ولم لم تعد يهود تملك مثل هذا المعتقد حتى يومنا هذا؟ فمتى حصل أن ظن اليهود أن لله ابن اسمه العزير؟ ومتى تخلى يهود عن مثل هذا المعتقد؟ وكيف حصل كل ذلك؟
          وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ

افتراءات من عند أنفسنا
لكي نحاول أن نتفهم إدعاء اليهود هذا، فلابد من التعريج على عدة قضايا نظن أنها حاسمة في الفهم، وهي:
أولاً، نحن نظن أنه لابد أن نفهم أن اليهود الذين قالوا أن عزير هو ابن الله ليسوا بنو إسرائيل الذين خرجوا من أرض مصر مع موسى، ولو تفقدنا النص القرآني نفسه جيداً لوجدنا أنه يذكر بصريح اللفظ أن الذي ادعى أن عزيرا ابن الله هم اليهود وليس بني إسرائيل:
                   وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ
ولكن قد يسأل البعض: وما الفرق في أن يكونوا اليهود أو بني إسرائيل هم من افتروا تبني الإله للولد؟
فنرد بالقول أن في هذا فرق شاسع شريطة أن نفهم من هم أولئك اليهود الذين ظنوا أن العزير هو ابن الله، فنحن نعلم أن اليهود الحاليين مثلاً لا يملكون عقيدة مفادها أن هناك شخصا اسمه العزير هو ابن للرب. فكيف يمكن أن نفهم أن اليهود قد حملوا هذه العقيدة؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: لو رجعنا إلى قصة موسى مع بني إسرائيل لوجدنا أنه في لحظة ما حصلت المقاومة من قبل بني إسرائيل لطلب نبيهم موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
ولم يتقبل دعوة موسى إلا رجلان من الذين أنعم الله عليهما:
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
لكنّ القوم أصرّوا على موقفهم المبدئي بأن لا يدخلوا الأرض المقدسة مادام أن القوم الجبارين متواجدين فيها:
 قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
وعندما وجد موسى أن القوم قد أجمعوا أمرهم ورفضوا دخول الأرض المقدسة التي  كتب الله لهم ما كان منه إلا أن توجه إلى ربه بأن يفرق بين الفريقين، الفريق المجيب للطلب (هو وأخوه وربما الرجلان من جهة) والفريق الرافض للطلب (القوم الفاسقين):
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
فيأتي الرد الإلهي المباشر على النحو التالي:
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
نتيجة: يفرق الله بين موسى وأخيه (وربما معهما الرجلان المؤمنان) من جهة وبقية بني إسرائيل من جهة أخرى.
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أن رحلة موسى مع بني إسرائيل قد انتهت في تلك اللحظة عند تلك المحطة، فيبقى موسى بعيداً عن قومه ويبقى القوم بعيدين عن موسى يتيهون في الأرض مدة أربعين سنة، وهذا يقودنا إلى طرح التساؤلات التالية:
-        ماذا كان يفعل موسى في تلك الفترة من الزمن؟
-        وماذا فعل القوم من بني إسرائيل في تلك الفترة من الزمن؟
لنبدأ بالسؤال الثاني مركزين على قصة القوم من بني إسرائيل الذين تاهوا في الأرض أربعين سنة بعد أن حرّم الله عليهم دخول الأرض المقدّسة طوال تلك الفترة من الزمن.
رأينا: نحن نظن أن من تاه في الأرض فلا يمكن أن يكون قد اهتدى، فهو يذهب يميناً وشمالاً ولكن دون جدوى، وما أن تنتهي فترة التحريم حتى يصبح القوم مؤهلين مرة أخرى لدخول الأرض المقدسة، لذا نحن نظن أن الآية الكريمة التالية ربما جاءت لتصور حالهم بعد فترة التيه ذاك:
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
فهذه الآية الكريمة جاءت في سياق الحديث عن موسى وقومه، فبنو إسرائيل يقولون بأفواههم أننا قد هدنا (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)، فما معنى قولهم ذاك؟
رأينا: نحن نفهم أن من هاد قد أصبح على هدى، لأنه قد سلك الطريق المستقيم:
          اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
افتراء من عند أنفسنا: بعد أن ضل بنو إسرائيل الطريق وتاهوا في الأرض قسطاً (أربعين سنة) من الزمن يعودون إلى جادة الصواب، ومن هنا فإننا نفتري الظن بأن القوم منذ تلك اللحظة أصبحوا يعرفون بمسمى اليهود، فبعد كانوا قوم موسى من بني إسرائيل، أصبحوا يهوداً، فهم – في ظننا- من هاد من بني إسرائيل بعد أن كان قد ضل طريق الهدى فترة من الزمن.
(للتفصيل انظر سلسلة مقالتنا تحت عنوان: ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته)
ولكن ما علاقة هذا كله بقصة ادعاء اليهود بأن عزير هو ابن الله؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن أولئك النفر من بني إسرائيل الذين هادوا بعد التيه أصبحوا يعرفون بمسمى اليهود (بدل مسمى بني إسرائيل) هم الذين زعموا أن عزير هو ابن الله. ولكن كيف تم ذلك؟
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نظن أنه ما أن هاد بنو إسرائيل بعد التيه مدة أربعين سنة من الزمن، حتى أخذوا يتذكرون سيرة نبيهم موسى، وما أن بدءوا يراجعون سيرة حياة نبيهم موسى بتفاصيلها حتى وجدوا فيها شيئاً غريباً جداً دفعهم للاعتقاد بأن عزيراً هو ابن الله وليس نبيهم موسى نفسه، ولكن كيف تم ذلك؟ ولماذا؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من التعرض لسؤالين اثنين وهما:
1.     من هو العزير أصلاً الذين ادعوا أنه ابن الله؟
2.     ماذا فعل موسى خلال الفترة التي فرق الله بينه ومن آمن معه من جهة والفاسقين من بني إسرائيل الذين رفضوا دخول الأرض المقدسة من جهة أخرى؟ وأين قضى موسى ما تبقى من حياته بعد أن انفصل عن القوم؟
من هو العزير؟
يمكن لنا أن نتبين شيئاً عن هوية العزير لو حاولنا أن نربط قصته تلك بقصة نبي الله عيسى حيث جاءت المقارنة بينهما في دعوى اليهود والنصارى بوجود الابن للرب كما في الآية الكريمة قيد البحث هنا:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)
ولطرحنا التساؤلات التالية:
أولاً، من الذي علّم المسيح عيسى بن مريم؟
جواب: لا شك أن القرآن الكريم يبين لنا بصريح اللفظ أن الله هو من علّم المسيح عيسى بن مريم، فتعليم المسيح جاء من الله مباشرة، قال تعالى:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
افتراء من عند أنفسنا 1: إن منطقنا (ربما المغلوط) هذا يقودنا إلى الافتراض التالي: مادام أن الابن المزعوم عند النصارى (وهو المسيح) قد تلقى تعليمه مباشرة من الله، فلا ضير في أن نفتري الظن بأن عزيراً قد تلقى أيضاً تعليماً مباشراً من الله نفسه، فما دامت المقارنة قائمة فلربما أن القوم قد وقعوا تحت تأثير العقيدة نفسها. لكن ما الذي يمكن أن نستفيده من هذا الافتراض (ربما) المغلوط؟
رأينا: إن صحّ مثل هذا الظن، فإن الحاجة تدعونا أن نبحث في كتاب الله عن شخص جاءه العلم مباشرة من الله، فمن هو ذلك الرجل يا ترى؟ من يدري!!! لننتظر ونرى.

ثانياً، لو تدبرنا الآيات التي تتحدث عن نبي الله عيسى بن مريم لوجدنا فيها شيئاً يثير الدهشة على الفور وهو قول الحق في جعل عيسى بن مريم آية للناس؟
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
افتراء من عند أنفسنا 2: إن منطقنا (ربما المغلوط) هذا يقودنا إلى الافتراض الثاني التالي: مادام أن الله قد جعل عيسى بن مريم آية للناس فلابد أنه قد جعل عزيراً أيضاً آية للناس؟ ولكن لماذا؟
الدليل
إن الدليل على زعمنا هذا يأتي من طرح السؤال التالي: لماذا كان المسيح آية للناس؟ وكيف كان المسيح آية للناس؟
جواب: لو حاولنا أن نفهم معنى أن يكون عيسى بن مريم نفسه آية للناس لوجدنا في ذلك غرابة تسلب الألباب، فنحن نفهم أن تكون عصا موسى آية ولكن موسى نفسه لم يكن آية للناس، وصحيح أن ناقة صالح كانت آية ولكن صالح نفسه لم يكن آية، ولم يكن محمد نفسه آية للناس، فكيف بعيسى بن مريم يكون بنفسه آية للناس؟
افتراء من عند أنفسنا 3: نحن نفتري القول بأن من كان من البشر آية للناس بنفسه هو من ظن الناس أنه ابن الله، فلقد ظن النصارى أن المسيح هو ابن الله لأن الله قد جعله آية للناس. ونحن نفتري الظن أيضاً أن الناس ما ظنوا أن عزيرا بن الله إلا لأنّ الله قد جعله آية للناس. فأين الدليل على زعمنا هذا؟[1]
جواب: نحن نظن أن الدليل يأتي من الحقيقة القرآنية الصارخة التي يصعب المجادلة فيها إلا لمن أقفل قلبه عن تدبر كتاب الله، فبعد أن حاولنا البحث في كتاب الله عن من هو آية للناس من البشر، لم نجد إلا السياقين التاليين، حيث يتحدث أحدهما عن ذلك الرجل الذي مرّ على قرية وأماته الله مئة عام ثم بعثه:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ۖ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
ويتحدث الآخر عن عيسى بن مريم:
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
نتيجة: لقد كان ذلك الرجل الذي مرّ على القرية آية للناس كما كان عيسى بن مريم آية للناس
افتراء من عند أنفسنا: ونحن نفتري الظن أن النصارى قد فتنوا بنبيهم عيسى بن مريم لدرجة أنهم ظنوا أنه ابن الله وكذلك – برأينا- فعل اليهود من قبلهم، فلقد فتنوا بذلك الرجل الذي جعله الله آية للناس فظنوا أنه ابن الله. فمن هو ذلك الرجل الذي يسمى بالعزير وظن اليهود أنه ابن الله؟
رأينا: نحن نظن أنه ذلك الرجل الذي جاء ذكره في الآية الكريمة التالي:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ                                                                                                                    البقرة 259
الدليل
لو تفقدنا السياق القرآني الذي يتحدث عن ذلك الرجل الذي مر على القرية الخاوية على عروشها، لوجدنا أن فيها بعث من بعد الموت (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)، وأن فيها ذكر للطعام والشراب الذي لم يتسنه (فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)، وفيها ذكر للحمار (وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ)، وفيها تعليم بكيفية إنشاء الحياة من الموت (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا)، وكل ما نطلبه من القارئ الكريم هو أن يلتفت إلى السؤال التالي: من الذي كان يعلم هذا الرجل؟ أو بكلمات أخرى، من أين جاء مصدر علم هذا الرجل؟
ألم يأتي مباشرة من الله؟ فكيف نقارن ذلك بما تحصل لعيسى بن مريم من علم كما تصوره الآية الكريمة التالية؟
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
فمن الذي علم عيسى بن مريم؟ أو بكلمات أخرى، من أين كان مصدر علم عيسى بن مريم؟
نتائج مفتراة:
1.     لقد حصل عيسى بن مريم على العلم من ربه مباشرة، فكان الله هو معلم عيسى بن مريم وكان الله نفسه هو من علم هذا الرجل (عزيرا)
2.     لقد جعل الله عيسى بن مريم نفسه آية للناس، وكان هذا الرجل (عزيرا) آية للناس (ولا يذكر القرآن الكريم أن هناك من البشر من كان بنفسه آية للناس إلا هذان الشخصان)
3.     لقد فتن النصارى بعيسى فجعلوه ابن الله وفتن اليهود بهذا الرجل (عزيراً) فجعلوه ابن الله

الاسم (عزير)
عندما نعقد المقارنة بين المسيح و عزيراً كما ترد في كتاب الله في الآية الكريمة التالية:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)
يطير إلى الأذهان سؤال يتعلق بالاسم، والسؤال مفاده: لماذا يذكر القرآن اسم الرجل على أنه "عزير" (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)؟ وبالمقابل، لِم كان اسم ابن مريم "المسيح (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ
سنتحدث عن الاسم (أو الكنية) "الْمَسِيحُ" في مقالاتنا الخاصة بعيسى بن مريم بحول الله وتوفيق منه، وسنكتفي هنا بالحديث فقط عن الاسم (أو الكنية) "عزير" لنطرح السؤال التالي: ما معنى "عزير"؟ وسنحاول أن نجيب من خلال ذلك على السؤال المنشود التالي: لماذا كان أسم ذلك الرجل (أو ربما كنيته) عزير؟
معنى عزير
نحن نظن – مفترين القول بالطبع- بأن مفردة "عزير" مشتقة من التعزير، كما ترد باشتقاقاتها المختلفة في السياقات القرآنية التالية:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ                                                                                  المائدة (12)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ                                                                      الأعراف (157)
          إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) الفتح
وهنا لابد من الوقوف عند بعض المشاهدات التي نظن أنها صحيحة بخصوص مفردة التعزير.
أولاً، جاءت المفردة بمعنى إيجابي، لذا نطلب من القارئ الكريم أن لا يربط المفردة بالمعنى "الشعبي" المتوارث في ذهنا عن عقوبة التعزير، والآية الكريمة التالية تظهر بما لا يدع مجالاً للشك المعنى الإيجابي لمفردة التعزير:
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
ثانياً، جاءت المفردة بمعنى يختلف عن الإيمان، فالنص القرآني يتحدث عن الإيمان والتعزير معاً، فلابد إذن من التمييز بين الإيمان بالرسل من جهة وتعزير الرسل من جهة أخرى:
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
والتعزير –حسب الآية الكريمة نفسها- يختلف أيضاً عن إقامة الصلاة أو إيتاء للزكاة أو إيماناً بالرسل أو إقراض الله قرضاً حسناً
ثالثاً، جاءت المفردة بمعنى يختلف عن النصرة والإتباع، بدليل الترادف في الآية الكريمة التالية:
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ
رابعاً، جاءت المفردة بمعنى يختلف عن توقير الرسول أو التسبيح :
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
خامساً، وأخيرا نقول جاء التعزير ليكون على الدوام خاصاً بعمل يقوم به الناس بمجموعهم للرسول (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) و (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) و (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ)، لنطرح بناء على هذه المشاهدة التساؤل التالي: كيف يمكن تعزير الرسل؟ وكيف نستطيع نحن أن نعزر رسولاً جاء برسالة من ربه؟
جواب: لنعد إلى قصة عقوبة التعزير لنستوحي من خلالها بعض المعاني
أولاً، التعزير هي عقوبة
ثانياً، التعزير فيها شهادة، حيث يستطيع أن يشهد جمع من الناس العقوبة
ثالثاً، غالباً ما تكون عقوبة التعزير معززة لعقوبة أخرى سابقة لها، فليس في عقوبة التعزير بحد ذاته حد من حدود الله، فالجلد وقطع اليد ونحوهما هي العقوبات المنصوص عليها، أما ما جاء في عقوبة التعزير فهي إضافة على ما سبق، وهنا يجب أن نجلب السياق القرآني التالي:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ                                                                      الأعراف (157)
لنفتري من خلاله ما يلي: نحن نظن بأنه ما أن يؤمن نفر من أهل التوراة والإنجيل على وجه الخصوص بالنبي محمد الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل إلا ويكون ذلك ليس فقط من باب الإيمان وكفى وإنما من باب التعزير أيضاً، ولكن لماذا؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن إيمان نفر من بني إسرائيل (يهودا كانوا أو ونصارى) بالرسول محمد يختلف عن إيمان الأعراب بالرسول محمد، وذلك لأن إيمان بني إسرائيل يأتي – في ظننا- من باب الإيمان بسبب ما توافر عندهم من علم مسبق موجداً عندهم في التوراة والإنجيل، فهم يؤمنون بالنبي محمد بناءَ على علم سابق عندهم، لذا نحن نظن أن إيمانهم يأتي من باب العلم على علم، فيكون بذلك – برأينا- تعزيراً (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ). انظر السياقات القرآنية السابقة من هذا الجانب.
السؤال: وما علاقة ذلك كله بعزير اليهود الذي نتحدث عنه هنا؟
جواب: لنقرأ الآية الكريمة التي تتحدث عن ذلك الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية على عروشها لنتأمل بعض ما جاء فيها:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ۖ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
لاحظ – عزيزي القارئ- آخر ما قاله الرجل (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) لنطرح من خلال ذلك التساؤل التالي: ما دام أن الرجل يعلم أن الله على كل شيء قدير، فلم طلب أصلاً أن يعلم كيف يحيي الله هذه بعد موتها؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن الرجل قبل أن يميته الله كان علم أن الله على كل شيء قدير (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)، وقد طلب علماً ليضيفه على العلم الموجود أصلاً لديه، فجاءه علم جديد بأن بيّن الله بنفسه له (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)، وحصل كل ذلك بعد أن أماته الله مئة عاماً (ربما عقوبة وربما مكافأة)، وما أن بعثه الله حتى آتاه علماً جديداً بأن أراه كيف ينشز العظام ثم يكسوها لحماً، فجاء الرجل علماً على علم، فكان بذلك – في ظننا- عزيرا.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الرجل كان على علم قبل أن يميته الله مئة عام، وما أن بعثه الله بعد أن أماته مئة عام حتى آتاه علماً فوق علمه السابق، فأصبح بذلك عزيرا.
ولا ننسى كذلك أن في العقوبة (ومنه القصاص) حياة:
          وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
فحتى لو فهمنا أن في موت الرجل ذاك كان قصاصاً منه، لن نعدم الفهم بأنه كان حياة له:
          فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ
(وسنتحدث عن هذا بعد قليل بحول الله وتوفيقه، فالله أسأل أن يؤتيني رحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علماً إنه هو السميع العليم)
لكن يبقى التساؤل قائما: من هو ذلك الرجل الذي جعله الله آية للناس (كعيسى بن مريم) وآتاه الله من لدنه علماً جديدا فوق علمه السابق، فكان عزيرا، وظن اليهود أنه ابن الله كما ظنت النصارى أن المسيح هو ابن الله؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة على هذا التساؤل تتطلب طرح التساؤل السابق الذي تناولناه في مقدمه هذا الجزء من المقالة، والسؤال هو: ماذا فعل موسى خلال الفترة التي فرق الله بينه ومن آمن معه من جهة والفاسقين من بني إسرائيل الذين رفضوا دخول الأرض المقدسة من جهة أخرى؟
          قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ             الأعراف 25
ليكون السؤال أكثر دقة على النحو التالي: أين قضى موسى ما تبقى من حياته بعد أن فرق الله بينه وبين القوم الفاسقين؟
افتراء خطير من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأنه ما أن فرق الله بين موسى وأخيه (وربما معهما الرجلين اللذين أنعم الله عليهما) من جهة والقوم الفاسقين من جهة أخرى، حتى تاه بنو إسرائيل في الأرض لأن الله حرم عليهم دخول الأرض المقدسة أربعين سنة:

          قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ                    الأعراف 26
وخلال هذه الفترة تقدم السنّ بموسى وأصبح رجلاً (ربما) لا يستطيع أن يخدم نفسه بنفسه كما كان في أيام شبابه، لذا نحن نظن أنه اتخذ لنفسه فتىً (غلاماً) يقوم على خدمته:
          وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا                                            الكهف 60
فالمتتبع لسيرة موسى منذ بدايتها يجد أنه قد قضاها وحيداً هارباً من أرض مصر، ولما عاد إلى أرض مصر وخرج ببني إسرائيل منها كان يصحبه في ذلك أخاه هارون، ولكن هنا فقط يغيب ذكر هارون ويأتي ذكر هذا الفتى الذي أصبح ملازماً لموسى.
السؤال: لماذا كان لموسى فتى؟ وما معنى أن يتخذ الإنسان فتى لنفسه؟
رأينا: نحن نظن أن مفردة "فتى" تطلق على ما ملكت اليمين:
وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ                                                                                            النساء 25
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ                                                                النور  33
وهكذا كان حال يوسف في أرض مصر عندما راودته من كان في بيتها عن نفسه، فقد كان يوسف يقوم على خدمتها لأنه ببساطة كان هو فتاها:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ        يوسف 30
وهكذا كان حال من دخل مع يوسف السجن، فقد كانوا من الخدم اللذين يقومون على خدمة سيدهم (أو لنقل ربهم)[2]:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ                                                                     يوسف [3]36
ولكن ما أن أصبح يوسف هو عزيز مصر حتى أصبح له فتيان يقومون على خدمته:
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ                    يوسف 62
ونحن نظن أن الفتى لا ينحصر عمله على خدمة الأشخاص (كما كان حال يوسف مثلاً) وإنما يتعدى إلى خدمة المكان أيضاً، فأصحاب الكهف – في ظننا- كانوا يقومون على خدمة المعبد، وسنرى لاحقاً بحول الله وتوفيقه تبعات ذلك في فهم قصتهم[4]:
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا                       الكهف 10
نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى                                   الكهف 13
وربما لهذا ينعت القومُ إبراهيمَ على أنه "فتى" كما جاء بصريح النص القرآني
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ                                                                  الأنبياء 60
خلاصة: نحن نظن أن الفتى هو ببساطة من يقوم على خدمة سيده أو ربه (كيوسف مثلا) أو من يقوم على خدمة مكان ما خاصةً بيوت العبادة (كأصحاب الكهف وكإبراهيم نفسه). وبهذا الظن المفترى نعود إلى قصة موسى بالقول بأن موسى قد اتخذ لنفسه فتى ليقوم على خدمته بعد أن تقدم به العمر وأصبح بحاجة إلى من يساعده لتلبية احتياجاته:
          وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا                                            الكهف 60
افتراء من عند أنفسنا: ما كنت أظن أن موسى سيتخذ لنفسه فتى يقوم على خدمته لولا أنه قد بلغ من العمر مبلغاً أصبح من المتعذر معه أن يقوم بكل ما يحتاج إليه بنفسه[5].
وفي هذه المرحلة المتقدمة من عمره يأخذ موسى على نفسه عهداً أن لا يبرح (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ) حتى يبلغ مجمع البحرين (حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أو يمضي حقبا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)، فينطلق موسى في رحلة يصحبه فيها فتاه، وهنا تبدأ أحداث قصة موسى مع ذلك الرجل الصالح الذي ذهب موسى بنفسه طالباً صحبته ليتعلم منه، ولكن قبل أن ندخل في تفاصيل القصة لابد لنا أن نتوقف لنطرح السيناريو الافتراضي المفترى التالي:
الفهم بالمشابهة: ضع نفسك مكان الآخرين ثم انظر ما يمكن أن يصدر منك من أقوال وأفعال لو كنت مكانهم
السؤال: هل نتقبل نحن المسلمين فكرة أن يكون هناك شخص أكثر علماً من محمد نفسه؟ هل نتقبل أن يكون نبينا محمد قد ذهب في رحلة لطلب العلم عند شخص آخر؟ ألم يكذب الله دعوى من ظن أن هناك من تعلم محمد على يديه؟
          وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ                النحل 103
ثم ماذا ستكون ردة فعلنا نحن المسلمين لو وجدنا في قرآننا آيات كريمة تثبت أن محمدا قد تلقى علماً من بشر؟ وكيف ستكون نظرتنا عندئذ لذاك الشخص المفترض لو حصل ذلك كما حصل في حالة موسى مثلاً؟ وماذا ستكون ردة فعلنا لو علمنا أن محمداً نفسه لم يصبر على علم ذلك الرجل كما حصل في حالة موسى؟       
ليتنا – عزيزي القارئ- لا ننسى أننا نتحدث عن موسى الذي:
1.     حصلت له مواعدة مع الذات الإلهية أكثر من مرة (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ)
2.     كلّمه الله تكليما (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا)
3.     من كُتِبَ له في الألواح موعظة وتفصيلاً لكل شيء (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)
4.     من طلب الرؤيا المباشرة للذات الإلهية (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)
5.     من آتاه الله تسع آيات (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)
6.     من آتاه الله سلطاناً مبينا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)
7.     من كان من أولي العزم من الرسل (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، فذُكِر مع محمد ونوح وإبراهيم وعيسى على وجه الخصوص (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)
8.     الخ
وبالرغم من هذا كله، يذهب موسى بنفسه ليطلب العلم عند شخص لا نعرف هويته:
          قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا                                     الكهف 66
والأهم من ذلك كله أن موسى لم يستطيع أن يصبر على صحبة ذلك الرجل:
          قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا                                                               الكهف 67
 ولم يكن ذلك الرجل متحمسا – إن صح القول- لصحبة موسى كما كان موسى متحمسا لصحبة ذاك الرجل، ورضي موسى أن يكون تابعاً طائعاً لذاك الرجل لا يعصي له أمرا:
          قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا                                            الكهف 69
السؤال الافتراضي: تخيل عزيزي القارئ المسلم ما يمكن أن تكون ردة فعلك أنت لو حصلت مثل تلك الحادثة بحق نبينا محمد كما حصلت مع نبي الله وكليمه موسى؟ وكيف يمكن أن تتخيل شخصية ذلك الرجل؟ وكيف ستكون عندها نظرتك لنبيك الكريم؟ من يدري!!!
المطلوب: إن ما أظنه مطلوب منا هو أن لا نتسرع في إطلاق الأحكام على غيرنا قبل أن نحاول إيقاع التجربة (ولو بالتخيّل) على أنفسنا، ثم لننظر كيف يمكن أن تكون ردة فعلنا عليها لو أنها فعلاً حصلت معنا.[6]

رحلة موسى لملاقاة الرجل
تبدأ الرحلة بموسى قاطعاً العهد على نفسه ومخاطباً فتاه بأن لا يبرح حتى يبلغ مجمع البحرين أو يمضي حقباً:
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا                                  الكهف 60
وقد ظننا أنه لما كان موسى قد بلغ حينئذ من الكبر عتياً، اتخذ لنفسه فتىً ليساعده في رحلته حتى الوصول إلى المكان المنشود وهو مجمع البحرين.
السؤال: لماذا قصد موسى مجمع البحرين؟ وأين هو مجمع البحرين؟
رأينا: نحن نظن أن مجمع البحرين هو المكان الذي سيكون موعد لقاء موسى بذلك الرجل (أو لنقل ميقات موسى مع الرجل)، ولكن موسى لا يقطع الأمر بذلك على التأكيد، فيبقي فسحة من الظن بأنه قد يضطر أن يتابع مسيره بعد مجمع البحرين إن لم يتمكن من لقاء الرجل هناك.
سؤال: ماذا لو لم يجد موسى ذلك الرجل هناك؟ ماذا سيفعل عندها؟
جواب: سيمضي حقبا ً(أَو أَمْضِيَ حُقُبًا)
سؤال: ما معنى أن يمضي موسى حقبا؟
رأينا: نحن نظن أن المضي حقبا هو ركوب البحر والسفر فيه؟ ولكن أين الدليل على ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الدليل على ذلك يأتي من أول ما فعله موسى والرجل عندما انطلقا في رحلتهما، فلقد كان أول ما قاما به هو ركوب السفينة:
          فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا                الكهف 71
السؤال: لماذا ركبا في السفينة؟ وإلى أين كان ينويان الذهاب عندما ركبا في السفينة؟
رأينا: نحن نظن أن الرجل كان يقصد الذهاب بموسى إلى المكان الذي جاء منه أصلاً، حيث سيقوم بتعليم موسى هناك، فقد كان شرط الرجل على موسى منذ البداية أن لا يسأله عن شيء خلال الرحلة حتى يحدث له منه ذكرا:
          قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا                                        الكهف [7]70
افتراء من عند أنفسنا: لذا نحن نظن أن الرجل ربما كان ينوي أن يصحب موسى إلى المكان الذي يقيم فيه حيث سيقوم بتعليمه هناك. لأننا نعتقد أن علم ذلك الرجل ليس من النوع الذي يتم تعليمه في أي مكان، وإلا لربما فعل ذلك في المكان الذي تلاقيا فيه، ولربما ما كان موسى مضطراَ أن يذهب معه في رحلة إلى أماكن لا يعرفها خصوصاً إذا ما تخيلنا موسى وقد تقدم به العمر وربما أصبح لا يطيق كثيراً أعباء السفر.
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن الرجل كان قادماً من ما وراء مجمع البحرين لأن موعد اللقاء كان (1) إما عند مجمع البحرين (حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أو (2) أن يضطر موسى لقطع البحر (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)، ولكن الهدف واحد وهو الوصول إلى مكان تواجد ذلك الرجل الصالح.
أين هو إذن مجمع البحرين؟
رأينا: نحن نظن أن القصة قد حصلت بعد أن فرق الله بين موسى وأخيه هارون من جهة والقوم الفاسقين من بني إسرائيل من جهة أخرى، وكان ذلك يوم أن رفض النفر من بني إسرائيل دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، لذا نحن نفتري الظن بأن موسى كان قادماً من جهة الأرض المقدسة، فأين يكون مجمع البحرين الذي كان يقصد موسى أن يذهب إليه ليلاقي ذلك العبد العالم؟
رأينا: نحن نظن أن الصورة التالية توضح ميقات رحلة موسى للقاء الرجل الصالح:

         

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن مجمع البحرين هي المنطقة الواقعة بين خليج السويس وخليج العقبة حيث شبه جزيرة سيناء (انظر الخريطة).
أين تم اللقاء؟
أين لقي موسى (مع فتاه) ذلك الرجل؟
جواب: عند مجمع البحرين
وكيف حصل ذلك؟
جواب: بعد أن وصل موسى مع فتاه إلى مجمع البحرين لم يتلاقيا مباشرة مع الرجل، وهناك (عند مجمع البحرين) نسيا حوتهما:
          فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا                                        الكهف 61
فاضطرا أن يذهبا في الرحلة البحرية (حُقُبًا) أو على الأقل لنقل أن يتجاوزا منطقة مجمع بينهما (فَلَمَّا جَاوَزَا). وما أن جاوزا حتى تعبا من البحث عن الرجل، فأخذا قسطاً من الراحة، وهنا يطلب موسى من فتاه أن يأتيه بالغداء:
          فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا                                            الكهف [8]62
فيأتي الغلامُ موسى بالغداء، فيتناولاه ويأخذا قسطاً من الراحة.
ماذا كان غداؤهما؟ تفنيد الفكر السائد
إن من أغرب ما وجدته عند أهل الدراية في تفسيراتهم لهذه القصة هو ظنهم بأن موسى وفتاه قد أخذا حوتاً معهم ليكون قوتاً (طعاماً) لهما في الرحلة، وأن الحوت قد أصبح حياً يوم أن وصل إلى البحر فاتخذ له طريقاً مفتوحاً في البحر، وكانت تلك – في ظنهم هي الإشارة على المكان ميقات اللقاء مع الرجل.
رأينا: نحن لا نتردد أن نفتري الظن بأن ما قاله سادتنا العلماء هو من أساطير الأولين ومن تخاريف الأمم السابقة، وهو من باب القول الذي لا يستند إلى الدليل، ويمكن دحضه بأبسط أنواع التفكير، فلو قالها لي المعلم عندما كنت في الصف الرابع ب لربما ما ترددت في طرح السؤال عليه مستغربا: ألم يكن موسى وفتاه ذاهبان إلى مجمع البحرين؟ ألم يكن موسى وفتاه إذاً قادمان من اليابسة؟ ألم يكونا متجهان إلى البحرين؟ فكيف بمن كان ذاهبا إلى البحر يأخذ معه الحوت (السمك) إلى البحر ليكون قوتا له هناك؟ ألا يوجد في البحرين اللذين ينويان أن يذهبا إليهما من الحيتان ما يمكن أن يكون طعاماً لهما؟ ثم من أين حصل موسى وفتاه على الحوت إن كانا أصلاً قادمين من اليابسة ومتجهين إلى البحر؟ ولماذا أصبح الحوت حياً يوم أن وصلا إلى البحر؟ والأهم من هذا كله هو: هل لو فعلا حصل أن أصبح الحوت الميت المشوي (كما أحب بعض أهل الدراية أن ينخروا في عقول العامة) حياً مرة واحدة أمام أعينهم هل يمكن أن ينسياه؟ هل يمكن أن ينسى إنسان حدث كهذا يحصل أمام ناظريه؟ فما بالك باثنين كموسى وفتاه؟ من يدري!!!

قصة الحوت: رواية جديدة مفتراة من عند أنفسنا
عندما لم نصدّق علم من سبقنا من أهل الدراية حاولنا أن نفتري قصة من عند أنفسنا عن قصة حوت موسى وفتاه، وإليك عزيزي القارئ ما نظنه قد حصل فعلا من أمر الحوت.
أما بعد،
نحن نتخيل موسى قادماً مع فتاه من جهة اليابسة (حيث لا يوجد حيتان يأخذانه معهم في الرحلة)، وكانا متجهين إلى البحر (حيث تكثر الحيتان)، لذا نحن نتخيل أن الحوت كان علامة ميقات موسى مع ذلك الرجل، والأهم من ذلك هو أن ذلك الحوت يختلف عن بقية حيتان البحر لأنه سيقوم بفعل غاية في الغرابة (عَجَبًا). ولكن كيف ذلك؟
أولاً، نحن نظن أنه ما أن وصل موسى مع فتاه عند مجمع البحرين حتى جاء ذلك الحوت (علامة اللقاء بالرجل) وقام بفعل غاية في الغرابة، ولكن فتى موسى لم يشغله مجيء ذلك الحوت كثيرا لأنه ظن أن ذلك الحوت كان كأحد الحيتان الأخرى التي رءاها في البحر تسير بأسرابها:
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا                     الكهف 61
لاحظ عزيزي القاري كيف يصور القرآن الكريم أن كلا من موسى وفتاه ينسيان الحوت معاً (فهل يعقل أنه لو فعلاً تحرك الحوت الميت المشوي المعد للأكل وقفز في البحر – كما تصوره تفسيرات أهل الدراية من قبلنا- هل يعقل أن ينسى موسى ذلك؟ وإذا كان موسى قد نسي ذلك، فهل يعقل أن ينسى الغلام مثل هذا الحدث؟ من يدري!!!)
ثم لاحظ - عزيزي القاري- كيف أن فعل النسيان حصل من موسى ومن فتاه معاً هذه المرة (نَسِيَا حُوتَهُمَا)، فليس موسى هو من نسي فقط، وليس الفتى هو من نسي فقط، ولكن كلاهما وقع في فعل النسيان (نَسِيَا حُوتَهُمَا).
ثانياً، لننظر الآن ما الذي حصل عندما جاوزا المكان وأخذا غداءهما:
          فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا                                            الكهف 62
فنحن نتخيل فتى موسى يحضر الغداء وربما يتناوله مع نبي الله موسى وربما يأخذا قسطاً من الراحة، وهنا أخذ الفتى يتذكر تفاصيل الرحلة من جديد ربما بعد أن تداولا الأمر معاً، فهدف رحلتهم هو لقاء الرجل، ولا أظن أن حديثهما مهما تشعب يمكن أن يغيب عنه هدف الرحلة التي خرجوا فيها من أجله، وهنا أظن أن الفتى قد فطن إلى تفصيل من تفاصيل الرحلة التي لم يركز عليها جيداً ألا وهي أنه قد رأى الحوت (أشارة الميقات مع ذلك الرجل) فعلاً عند مجمع البحرين، ولكنه نسي أن يذكر ذلك لموسى:
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا                                                                                                                                          الكهف 63
لاحظ - عزيزي القارئ- كيف ينسب هنا الفتى فعل النسيان لنفسه فقط (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ)، ولا يلقي باللائمة على موسى، فلماذا؟
رأينا: نحن نظن أنه لما كان العمر قد تقدم بموسى لم يكن باستطاعته مراقبة الأشياء بدقة، لذا أوكل المهمة إلى فتاه، فكان من المفترض أن يراقب الفتى حركة الحيتان في البحر بدقة، ويخبر موسى إذا رأى من أمر حوت ما من بينها ما يلفت الانتباه (نَسِيَا حُوتَهُمَا). وأكاد أجزم الظن بأن هذا كان من أهم أسباب أن يصحب موسى الغلام معه حتى هذا المكان، فلو تفحصنا القصة جيداً لوجدنا أن موسى يترك الغلام في ذلك المكان بعد أن لقي الرجل الذي سيتعلم منه، فبالرغم أن فتى موسى قد صحبه إلا أن وجد الرجل إلا أنه لم يكمل الرحلة معهما لطلب العلم.   فاللذان انطلقا في الرحلة بعد أن وجدا الرجل هما موسى والرجل نفسه ولم يكن الغلام يصحبهما بدليل ضمير الغائب المثنى (فَانطَلَقَا):
          فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا

الدليل
نحن نظن أن الدليل يأتي من الوقوف عند ألفاظ الآيات الكريمة نفسها بشيء من الدقة:
أولاً: انظر – عزيزي القارئ- التقابل اللفظي في الآيتين الكريمتين التاليتين اللتان تبيّنان كيفية حركة ذلك الحوت في البحر، ففي حين أن الفتى يرى الحوت يتخذ سبيله في البحر "سَرَبًا" عندما وصلا إلى مجمع البحرين:
          فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا الكهف 61
يعود الفتى ليقول لموسى بملء فيه أنه قد رأى الحوت يتخذ سبيله في البحر عجباً:
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
فما الفرق؟ ولماذا ظن الفتى أن الحوت قد اتخذ سبيله في البحر سَرَبًا في البداية؟ ولماذا عاد ليظن أن الحوت قد اتخذ سبيله في البحر عَجَبًا في النهاية؟
رأينا: لم يكن موسى (ربما بسبب تقدمه في السّن يستطيع مراقبة الحوت) لذا نحن نظن أن موسى قد أوكل المهمة إلى الفتى، ولكن الفتى لم يكن صاحب خبرة كبيرة بما يفعل، فبعد أن أنهكه التعب، وعندما رأى الحوت في المرة الأولى ظن أنه حوت عادي كباقي الحيتان بدليل قوله أن الحوت قد فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، فنحن نظن أن الحيتان تسير في البحر بأسراب (أو schools باللسان الأعجمي[9]). لذا نحن نتخيل أنه عندما وصل موسى مع فتاه عند مجمع البحرين قام ذلك الحوت بحركة غريبة جداً (عَجَبًا) ولكن الفتى ظن أنها حركة عادية من باب حركة الحوت في سربه (سَرَبًا)، أي الحركة الطبيعية المعتادة والمتوقعة من حوت في البحر، لذا لم تجلب انتباهه كما يجب، ولم يقم بإخبار موسى بذلك الحدث.
ولكن بعد جاوزا مجمع البحرين وأنهكهما البحث عن الرجل، اضطرا إلى أخذ قسطاً من الراحة، وبعد أن تناولا طعام الغداء من عناء السفر أخذ يسترجع الفتى في نفسه تفاصيل الرحلة، فتذكر على الفور ذلك الحوت الذي ظن في البداية أنه قد اتخذ سبيله في البحر سَرَبًا، فطار إلى ذهنه – في ظننا- شيئاً لم يخطر على باله في البداية، فتوجه بحديثه إلى موسى بالقول أنه قد رأى الحوت المنشود عند مجمع البحرين، وأن ذلك الحوت لم يتخذ سبيله في البحر سرباً (كما ظن الفتى في البداية) ولكنه اتخذ سبيله في البحر عَجَبًا:
          قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
ربما ليقول لموسى بأن الحوت قد قام بحركة عجيبة ليست كحركة الحيتان التي تتخذ طريقها في البحر سربا (بالطريقة الطبيعية). وهنا ما يكون من موسى إلى أن يرد على قول الغلام بالتالي:
          قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا
وهنا نصل إلى ذروة مبتغانا من النقاش السابق فنتوقف لنسأل القارئ الكريم سؤالاً واحد ربما يصدّق جوابه ظننا هذا، والسؤال هو: على ماذا يعود اسم الإشارة " ذَٰلِكَ " في الآية الكريمة نفسها؟
رأينا: يعود اسم الإشارة على الحوت، أليس كذلك؟
افتراء من عند أنفسنا: إن صح ظننا بأن اسم الإشارة ذَٰلِكَ يعود على الحوت، فإننا نستطيع أن نستنتج أن الحوت لم يكن محمولاً مع موسى وفتاه ولكنه كان هو الهدف المنشود في بحثهما عن الرجل. فموسى وفتاه كانا يبغيان الحوت الذي يتخذ سبيله في البحر عجباً (ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ). فهم قد خرجا من ديارهما وتوجها جهة مجمع البحرين وكانت بغيتهما ذلك الحوت الذي يتخذ سبيله في البحر عجباً (ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)، ولما وصلا إلى هناك لم يستطيعا أن يلحظا حركة ذلك الحوت، فظنا أن الحوت قد اتخذ سبيله في البحر سربا (أي بطريقة الأسراب التي تتجمع فيها الحيتان مع بعضها البعض)، ولكن الفتى تذكّر ذلك الحوت بعد فترة من الزمن، فأخبر موسى بما رءاه فعلاً، فما كان منهما إلا أن يرتدا على آثارهما قصصا (فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا) إلى المكان الذي وجدا فيه ذلك الحوت عندما وصلا عند مجمع البحرين. وما أن يصلا إلى المكان حتى وجدا ذلك الرجل ينتظرهما عند الصخرة:
          فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا                           الكهف 65
سؤال: لماذا نسي الفتى الحوت في المرة الأولى؟
رأينا: نحن نظن أن الإجابة على هذا التساؤل موجودة في الآية الكريمة نفسها:
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
لاحظ - عزيزي القارئ- كيف يعترف الفتى بأن السبب الحقيقي الذي أنساه ذكر الحوت هو الشيطان، ولكن كيف ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الفتى قد انشغل عن المهمة التي أوكلها له موسى (وهي مراقبة حركة الحيتان في البحر وإخباره بأمر الحوت الذي يتخذ سبيله في البحر عجباً) بأشياء أخرى أقل أهمية. فنحن نفتري الظن بأن الفتى ما كان سينسى أمر الحوت لولا أنه قد انشغل بأمور جانبية من اللهو والمتعة الشخصية والتي هي من عمل الشيطان، فالفتى لم يقم بالمهمة الموكولة إليه خير قيام وذلك – في ظننا-لانشغاله بملذات دنيوية شخصية، ولكن أين الدليل على ذلك؟
رأينا: نحن نظن أن الدليل ربما يمكن استنباطه من سيناريو مشابه تماماً لما فعل هذا الفتى، والسيناريو الآخر يتمثل بما فعل فتى آخر وهو من نجا من صاحبي يوسف من السجن، فلا ننسى أن الذي دخل مع يوسف السجن كانا فتيان:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ                                                            يوسف 36
ولكن واحد منهما فقط نجا من العقاب، فأوكل إليه يوسف مهمة أن يذكره عند ربه، ولكن ذلك الفتى لم يقم بالمهمة التي أوكلها إليه يوسف خير قيام، وكان ذلك بسبب انشغاله بملذات نفسه والتي هي من عمل الشيطان:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
فكلّف يوسف ذلك النسيان أن يقضي سنين من عمره في السجن. وكذلك كلف نسيان فتى موسى أن يذهب موسى في رحلة أطول من تلك التي كان من المفترض أن يذهب فيها. ولو راقبنا فعل النسيان لوجدنا أنه يحدث بسبب عمل الشيطان متى غاب ذكر الله:
إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن موسى لم يكن قادراً بنفسه أن يراقب حركة الحيتان في البحر بشيء من الدقة وذلك لأن العمر قد تقدم به، فأوكل المهمة إلى ذلك الفتى الذي صحبه إلى المكان المنشود وترك هناك عندما وجد الرجل الذي سيتبعه ليتعلم منه، ولكن ما أن وصل الفتى مع موسى إلى مجمع البحرين حتى وقع في فعل النسيان، فانشغل بنفسه، ربما لأنه وجد هناك ما يمكن أن يجلب انتباهه أكثر من مجرد مراقبة حركة الحيتان في البحر، عندها لم يدقق الغلام جيداً في المهمة التي أوكلها موسى إليه، لذا عندما جاء ذلك الحوت واتخذ سبيله في البحر عجبا، ظن الفتى بسبب عدم تركيزه أن ذلك من باب الحركة الاعتيادية للحيتان (أي سربا). ولكن بعد أن أخذ يسترجع الفتى شريط الأحداث مرة أخرى في نفسه بعد أن أخذ قسطاً من الراحة تذكر أنه قد رأى الحوت المنشود فعلاً، وأنه قد اتخذ سبيله في البحر عَجَبًا، فأخبر موسى بذلك على الفور، فارتدا على آثارهما قصصا يطلبان هذه المرة ليس الحوت وإنما المكان الذي وجدا فيه الحوت عندما وصلا إلى مجمع البحر، وكان ذلك عند الصخرة:
          قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
السؤال: لماذا كان الحوت هو علامة "ميقات" موسى مع ذلك الرجل؟
رأينا: نحن نظن أن إشارة لقاء موسى مع ذلك الرجل كانت ذلك الحوت الذي يتخذ سبيله في البحر عَجَبًا لأن ذلك الحوت –ببساطة- سيقوم بشيء عجبا أمام ناظريهما، والعجب – برأينا- هو ما يصعب على الناس تصديقه كالأمثلة التي ترد في الآيات الكريمة التالية:
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ                                                                                         يونس 2
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا                                             الكهف 9
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا                                     الجن 1
السؤال: ما هو الشيء العجب الذي قام به الحوت وسيصعب عليكم تصديقه إن نحن صرحنا به:
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا                                                                                                              الكهف 63

افتراء خطير جدا جداً هو بلا شك من عند أنفسنا: لقد جاء ذلك الرجل الذي ذهب موسى ليطلب العلم عنده من ما وراء مجمع البحرين عن طريق البحر راكباً على الحوت، فأنزله الحوت عند الصخرة، وعاد ليتخذ سبيله في البحر سربا مع مجموعة من الحيتان بعد أن قام بما هو عجبا عندما أنزل الرجل من على ظهره عند الصخرة.ففتى موسى لم يلاحظ في البداية كيف قام ذلك الحوت بإنزال الرجل عند الصخرة، وانتبه فقط عندما عاد الحوت في ربه، ولكن بعد أن حاول استرجاع الشريط في ذهنه مرة أخرى تذكر أن ذلك الحوت الذي دخل في سربه (سَرَبًا) كان قد نزل إلى الماء من اليابسة (أي من عند الصخرة) بعد أن أنزل من كان يحمله على ظهره (عَجَبًا). فهل تصدق ذلك عزيزي القارئ؟

وللحديث بقية

المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان
بقلم: د. رشيد الجراح
 7 أيار 2013



















[1] إن هذا الطرح سيقودنا فورا إلى التساؤل المثير التالي: ماذا عن فرعون؟ ألم ينجي الله فرعون ببدنه ليكون آية للناس؟
رأينا: نظن أن الإجابة على هذا السؤال بعد قليل ستكون صاعقة، لذا نطلب من القارئ الكريم أن يتوقف عن القراءة عند هذه اللحظة لكي لا يتشكك بمعتقدات آباءه وأجداده، لأننا نظن أن طرحنا هنا سينسف جملة وتفصيلاً كل ما ألفناه في الكتب الصفراء. والله وحده أسأل أن يجمع بيننا ثم يفتح بيننا بالحق:
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ
[2] فلقد طلب يوسف من الفتى الذي ظن أنه ناج أن يذكره عند ربه:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
[3] وسنرى (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) عند الحديث عن قصة يوسف من هم هؤلاء الفتيان اللذان دخلا السجن معه، ولم دخلا السجن مع يوسف بالذات، فالله أسأل أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع العليم.
[4] سنتعرض بحول الله وتوفيقه لهؤلاء الفتية عند الحديث عن قصة عيسى بن مريم، فالله أسأل أن يختصني برحمة من عنده وأن يعلمني من لدنه علما إنه هو السميع العليم.
[5] وسنرى لاحقاً أن موسى (المعهود عنه بمساعدة من بحاجة إلى المساعدة) لم يقم بمساعدة صاحبه في بناء الجدار. فالذي أقام الجدار هو صاحب موسى ولم يتدخل موسى في ذلك بدليل التناوب في الضمائر في الآية الكريمة نفسها:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا
لاحظ ضمير الغائب المثنى في الفعل " فَوَجَدَا " مقابل ضمير الغائب المفرد في الفعل " فَأَقَامَهُ "، ففي حين أن كلاهما وجد الجدار إلا أن من قام ببنائه هو واحد، وأظن أن السبب ربما يعود إلى أن موسى ما عاد قادراً على القيام بالأعمال التي تتطلب مجهوداً جسمياً لأن العمر قد تقدم به إلى درجة أصبح من المتعذر عليه القيام بمثل هذه الأفعال بنفسه.
[6] فلكي أعرف نفسي إن كنت متبعاً للحق أم مجرد متبع لما ألفيت عليه آبائي وأجدادي فأنا أحاول أن أتخيل ما يمكن أن يكون قد بدر مني لو كنت من أهل مكة يوم أن جاءها محمد بالرسالة طالباً منهم أن يتركوا دين آبائهم وأجدادهم، فهل كنت سأتقبل دعوته؟
جواب شخصي: إذا كان من الصعب عليّ أحياناً أن أتخلى عن فكرة ولو جزئية ورثتها عن آبائي وأجدادي، فهل أتوقع من نفسي أن أكون قادراً  وعندي الجرأة الكافية أن أتخلى عن دين آبائي وأجدادي كله مرة واحدة وإلى الأبد بتلك البساطة، إن أعظم ما يمكن أن أكون قد فعلته أنا شخصياً لو وضعت في ذلك الموقف ربما كنت من المذبذبين الذين ينتمون "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"
مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
دعاء: اللهم أسألك وحدك أن أكون على الدوام ممن يتبع الحق حيثما كان. وأسألك أن أكون ممن يتخذون إليك سبيلا، فاجعل اللهم لي إليك سبيلا.
[7] سنرى لاحقاً (بحول الله وتوفيقه) الحاجة إلى دراسة التقابل بين ما وعد به الرجل موسى وهو أن يحدث له ذكرا وما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا                  طه 113
فالله وحده أسأل أن أكون ممن يحدث لهم القرآن الذي أنزله الله عربياً ذكرا
[8] وهنا نطلب من القارئ الكريم أن يتفكر بقصة موسى مع الأكل، فما أن يبلغ مكان ما حتى يطلب الطعام، فعندما هرب إلى مدين وسقى للمرأتين تولى إلى الظل ودعا ربه أن يرزقه:
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
وها هو يطلب من فتاه أن يحضر الغداء:
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا
ولما وصل إلى القرية حتى طلبا الطعام قبل أن يقيما الجدار:
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا
السؤال: ما بال موسى ينشغل كثيراً بالأكل؟
[9] يعرّف أحد قواميس اللغة الإنجليزية كلمة school التي تستخدم مع الكائنات البحرية على النحو التالي:
a large number of fish or other sea animals swimming in a group  (a school of dolphins/whales)