مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ (14): وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ



تعرضنا في الجزء السابق من هذه المقالة للسبب الذي دفع بسليمان أن يطلب من الجن أن تعمل له ما يشاء من تماثيل كما جاء في قوله تعالى:

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ سبأ (13)
وحاولنا الإجابة عن السبب الذي يدفع الناس جميعاً للاعتكاف للتماثيل، فظننا – مفترين القول من عند أنفسنا- بأن الاعتكاف إلى التماثيل هي شرعة كل الديانات السماوية، فاليهود يعكفون للتماثيل، والنصارى يعكفون للتماثيل، ونحن المسلمين لا شك نعكف للتماثيل.

فإبراهيم كان يظن أن القوم يعكفون لها:

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) الأنبياء
وظننا أن إبراهيم لم يكن يجد ضيرا في ذلك، فقد أصبحت تلك شرعة فيه وفي من اتبعه:

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
وتابعنا نحن المسلمين (أتباع النبي المصطفى) تلك السنة بالاعتكاف إلى ذلك التمثال الأكبر (أي البيت العتيق)، فأصبحنا (نحن المسلمين) مأمورين بالاعتكاف للتماثيل متبعين ما عهد الله به إلى إبراهيم وإسماعيل من قبل:

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) الحج
وحاولنا تقديم فهمنا المفترى بأن تلك الكينونات التي اتخذت للاعتكاف تسمى تماثيل كالبيت العتيق مثلاً، ولكن عندما تصبح تلك الكينونات تعبد من دون الله تنقلب لتصبح أصناما، فالفرق بين التماثيل والأصنام هو – هو في ظننا- فرق في الوظيفة وليس في الشكل.

فنحن نعلم أن محمدا قد عمد إلى تكسير تلك الأصنام التي عكف عليها القوم، فعبدوها من دون الله عندما عاد فاتحاً مكة، فدمّر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ولكن المفارقة تكمن في أن محمداً في الوقت ذاته لم يدمّر البيت الحرام نفسه الذي كانت ترقد تلك التماثيل فيه وحوله، والسبب في ظننا المفترى هو لأن البيت هو عبارة عن تمثال يتم الاعتكاف له ولكنه ليس صنماً يعكف عليه ليعبد من دون الله مصداقا لقوله تعالى:

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
وزعمنا الفهم بأن الاعتكاف هو المكوث في مكان محدد بعينه كالمساجد مثلاً بغية أداء شعائر العبادة:[1]

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
كما افترينا القول بأن التمثال هو المكان الذي يوجّه الناس وجوههم شطره عند إقامة الصلاة. فلا ننسى أن المؤمنين من عباد الله دائماً يتخذون من مكان محدد بعينه قبلة لهم. فلا شك أن بني إسرائيل في فترة معينة قد اتخذوا من المسجد الأقصى قبلة لهم فوجهوا وجوههم إليه في صلاتهم، وذهبوا إليه لأداء فريضة حجهم هناك، وقد ولّى محمد وجهه قِبَلَ المسجد الأقصى قسطا من الزمن في بداية دعوته، ولكن ذلك لم يكن ليرضيه، فقلّب وجهه في السماء باحثاً عن قبلة جديدة، فمنّ الله عليه بتغيير القبلة الأولى (المسجد الأقصى) إلى القبلة الجديدة (البيت الحرام):

قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
وقد انتهينا في مقالتنا السابقة عند تقديم الافتراء الخطير الذي مفاده أن سليمان لم يكن يتخذ من الأرض المقدسة مسكناً له، ولم يكن يتخذ من البيت الحرام مسكناً له أيضاً، لذا كان على الدوام بحاجة إلى تمثال يجعله قبلة له ليولّي وجهه شطره في صلاته، وليحج إليه. ولكن كانت المشكلة تكمن في ظننا بأن سليمان كان دائم الترحال، لذا كان يأمر الجن بأن تعمل له ما يشاء من تلك المحاريب التي يصلي فيها كما كان يأمرها أيضاً أن تعمل له ما يشاء من تلك التماثيل التي يولي وجهه شطرها في صلاته، ويقيم فيها شعيرة الاعتكاف إذا ما أراد أداء فريضة الحج. وطرحنا في نهاية ذلك الجزء من المقالة التساؤل المثير التالي: أين هي تلك التماثيل التي عملتها الجن لسليمان؟

لذا سنتابع بحول الله وتوفيق منه في هذا الجزء من المقالة بحثنا عن تماثيل سليمان، سألين الله وحده أن ينفذ قوله بمشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه، وأن يعلمني ما لم أكن أعلم، وأسأله وحده أن يجعل فضله عليّ عظيما، إنه هو السميع العليم.

أما بعد

نحن نظن أنه من أجل محاولة الإجابة على هذا التساؤل الكبير، لابد لنا من التعرض أولاً إلى تساؤل أسبق يتعلق بمكان سكن سليمان عليه السلام، فأين - يا ترى- هي بلاد سليمان التي كان يسكنها؟ فهل كان يسكن سليمان فعلاً الأرض المقدسة التي باركنا فيها للعالمين كما تقول أساطير بني إسرائيل وكما حلقت خيالات علمائنا الأجلاء من ورائهم في ذلك دون تدبر ولا تفكر بما جاء في كتاب الله عن هذه الجزئية؟

افتراء خطير من عند أنفسنا: نحن نظن أن سليمان لم يكن يسكن الأرض المقدسة إطلاقاً. فتلك لم تكن بلاده.

الدليل

أولا، عند العودة إلى قصة سليمان كما ترد في جميع السياقات القرآنية نجد من السهل الخروج بالاستنباط بأن سليمان كان رجلاً صاحب ملك عظيم:

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ص 35
نتيجة مفتراة (1): نحن نظن أنه من غير المنطقي أن نحصر ملك سليمان ذاك بتلك البقعة الضيقة من الأرض، فملك سليمان كان يمتد على مسافة هائلة من الأرض.

وقد امتد حكمه ليشمل الجن والإنس والطير:

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ النمل 17
نتيجة مفتراة (2): نحن نفتري القول بأنه من غير المنطقي الظن بأن من كان تحت حكم سليمان هم فقط من سلالة بني إسرائيل المتعارف عليها في أساطيرهم.

ونحن نعلم من مجمل القصة نفسها أن كثيرا من تلك الجن (خاصة الشياطين منهم) كانت كافرة، وكانوا أهل سحر:

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
نتيجة مفتراة (3): نحن نعتقد أنه من الخطأ الظن بأن جميع من كان تحت حكم سليمان كان من المؤمنين.

فكثير من الجن (وخاصة الشياطين منهم) كانوا يعملون بين يديه كراهية لا طواعية:

... وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ
وقد تنفسوا الصعداء بموت سليمان:

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ سبأ [2]14
ثانيا، نحن نعلم كذلك من مجمل أحداث القصة أن ملك سليمان كان واسعا جداً لدرجة أنه كان يتنقل بين أقطاره بالريح التي سخرها الله له غدوها شهرا ورواحها شهر:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ
فكانت تنقله رخاء حيث أصاب:

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ
نتيجة مفتراة (4): نحن نظن أنه من غير المنطقي أن نحصر ملك سليمان بالأرض المقدسة فقط مادام أن الرجل كان يتنقل بواسطة الريح رخاء حيث أصاب.

ولو دققنا في النص القرآني جيداً، لربما وصلنا إلى ملحوظة نظن أنها غاية في الأهمية ستفيد – برأينا- في تحديد موطن سليمان وهي أن هذه الريح المسخرة لسليمان كانت تنقله إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ الأنبياء 81
نتيجة مفتراة (5): سليمان كان ينتقل بالريح إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، ربما لنفهم أن تلك الأرض (أي الأرض التي باركنا فيها) لم تكن أصلاً هي موطنه الدائم بدليل أن الريح كانت تجري به إلى تلك الأرض، فهو إذاً كان متواجدا خارجها عندما كانت الريح تنقله إليها.

السؤال: أين كان سليمان يسكن عندما كان يأمر الريح أن تجري به إلى هناك؟

جواب: لا شك عندنا أن سليمان كان يتواجد في مكان يبعد عن تلك الأرض بمقدار المسافة التي تجري بها الريح في شهر غدوا وشهر آخر رواحاً.

ثالثا، نحن نعلم من مجمل تفاصيل القصة بأن سليمان هو وريث داوود الشرعي:

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ النمل - الآية 16
كما أننا نعلم في الوقت ذاته أن الحكم الذي وصل إلى داوود (والد سليمان) قد جاء عن طريق طالوت الذي (نظن أنه) لم يكن أصلاً من بني إسرائيل، فها هم بنو إسرائيل يطلبون من نبي لهم أن يبعث الله لهم ملكاً:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ البقرة 246
فقضت حكمة الله أن يبعث لهم طالوت ملكاً:

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ ...
فما يكون من الملأ من بني إسرائيل الذي طلبوا وجود ملك لهم إلا أن يظهروا اعتراضهم على الفور على طالوت وذلك لسببين، أولهما أنهم (أي بني إسرائيل) هم الأحق بالملك من طالوت:

... قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ...
وثانياً، لأن طالوت لم يؤت سعة من المال:

... وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ ...
فلم يكذب الله دعواهم تلك، ولكنه اصطفاه واختصه بأشياء أخرى وهي البسطة في العلم والجسم:

قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ البقرة 247
نتيجة مفتراة (6): نحن نفتري الظن بأن طالوت لم يكن من الملأ من بني إسرائيل أصحاب الأرض المقدسة، وإلا لما أبدوا اعتراضهم على حكمة الله في أنه هو من آتاه الله الملك من دونهم جميعاً[3]. ولكنه كان فقط ملكاً عليهم. فهو الذي أعاد بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة بعد أن كانوا قد أخرجوا منها، انظر السياق القرآني نفسه الذي طلب فيه بنو إسرائيل من نبي لهم أن يبعث الله لهم ملكا، لتجد أنهم فعلاً كانوا قد أخرجوا من الأرض التي كتب الله لهم:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ البقرة 246
وما عادوا إليها إلا بعد ذلك النصر المؤزر من الله لطالوت وجنوده (ومنهم داوود) على جالوت:

فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ البقرة 251
نتيجة مفتراة (7): عاد بنو إسرائيل إلى الأرض المقدسة بعد أن قتل داوود جالوت الخصم العنيد لطالوت. وما أن حصل ذلك حتى انتقل الملك من طالوت الملك إلى داوود الذي آتاه الله الملك والحكمة وأخذ يحكم بين الناس بالقسط:

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ص 26
فأصبحت تلك مهمة داوود في الأرض، ونشأ سليمان مع والده داوود وهو يقيم الحكم بين الناس بالعدل، وقد آتاهما الله حكما وعلماً:

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ النمل 15
وبقي الأمر على حاله حتى حصلت تلك الفتنة لداوود:

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
وكانت مشكلتهم على النحو التالي:

إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ (24)
ثم ما لبثت أن نشبت مشكلة أخرى مع داوود تخص حكمه بين الناس وكانت على النحو التالي:

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ الأنبياء (78)
وعلى الرغم من صغر سن سليمان مقارنة مع والده داوود إلا أن الله كان قد فهمهما لسليمان:

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ الأنبياء (79)
وما أن قضى الله بالموت على داوود حتى كان سليمان هو الوريث الشرعي لوالده:

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ النمل 16
فكان أول ما فعله سليمان هو أن يحشر إليه جنوده من الجن والإنس والطير:

وما ترك سليمان بلاداً يصل إليها علمه حتى أخضعها لملكه كبلاد النمل مثلاً:

حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ النمل 18
وحاولت تلك المرأة في سبأ (بسبب ما لديها من أسباب العلم: العرش العظيم) أن تتجنب بطش سليمان وجنوده ولكنها لم تستطع، بعد أن اكتشفها أحد جنود سليمان وهو الهدهد:

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ النمل (22)
نتيجة مفتراة (8): لقد شمل ملك سليمان سبأ وهي البلاد التي جاءت منها المرأة صاحبة العرش العظيم التي كانت تملك قومها، ومن ثم أسلمت مع سليمان لله رب العالمين:

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ النمل 44
نتيجة مفتراة (9): سليمان لم يكن يسكن سبأ لأن تلك المرأة جاءته وقومها من هناك.

السؤال: أين تقع سبأ بالنسبة للأرض التي بارك الله فيها للعالمين؟

جواب: نحن نظن أن السياق القرآني التالي يسلط الضوء على سبأ التي جاءت منها تلك المرأة صاحبة العرش العظيم لتسلم مع سليمان لله رب العالمين:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
يشير السياق القرآني إلى العلاقة الوطيدة بين سليمان (كملك) وسبأ (كأرض). فسليمان هو من دانت له سبأ حتى موته، وما أن قضى الله على سليمان بالموت حتى حل بسبأ الدمار، فبعد أن كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ)، وبعد أن كانوا يأكلون من رزق الله ويشكرون له (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)، لم تدم تلك النعم عليهم بعد إعراضهم (فَأَعْرَضُوا)، وما أن أعرضوا حتى أرسل عليهم سيل العرم الذي دمر بلادهم (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ)، فبدّلهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ). فتلك هي قصتهم، ولكن يبقى السؤال قائماً: فأين كان موطنهم؟

رأينا: نحن نظن أن تتمة السياق القرآني تجيب على هذا التساؤل، فانظر - عزيزي القارئ- إلى السياق الذي يكمل قصتهم بعد سليمان:

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
نتيجة: نحن نستطيع أن نستنبط من هذا النص القرآني وجود ثلاث مناطق جغرافية محدده بذاتها، ألا وهي:
سبأ (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ)
القرى التي باركنا فيه (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)
القرى الظاهرة (قُرًى ظَاهِرَةً)

ولو دققنا في النص جيداً لوجدنا أن القرى الظاهرة تقع بين سبأ من جهة والأرض التي باركنا فيها من الجهة المقابلة، فيصبح الترتيب على النحو التالي:
- سبأ
- القرى الظاهرة
- القرى التي باركنا فيها

ولعلنا بحاجة أن نبحث عن هذه المناطق بشيء من التفصيل علّنا نستطيع بحول الله وتوفيق منه أن نحددها على الخريطة الجغرافية، لذا سنبدأ بها الواحدة تلو الأخرى، ولنبدأ بالقرى التي باركنا فيها.

القرى التي باركنا فيها (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)

السؤال: أين تقع الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا؟

رأينا: لو حاولنا إسقاط ذلك على الخارطة الجغرافية، لربما ما اختلفنا بأن القرى التي باركنا فيها هي المنطقة التي تحيط بالأقصى، أليس كذلك؟

الدليل

فالأقصى يقع في تلك الأرض:

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
فتلك هي الأرض التي أورثناها للذين كانوا مستضعفين في الأرض من بني إسرائيل:

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن الأرض التي تقع إلى الشرق كله (مَشَارِقَ) وإلى الغرب كله (وَمَغَارِبَهَا) من الأقصى هي الأرض التي باركنا فيها، وهي نفسها التي أورثها الله للمستضعفين من بني إسرائيل.

وهي الأرض التي نجّا الله إليها إبراهيم ولوط:

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
وهي الأرض نفسها التي كانت الريح تحمل سليمان إليها:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن بأن سليمان لم يكن يسكن مشارق ومغارب الأرض التي باركنا فيها للعالمين، فتلك هي أرض المستضعفين من بني إسرائيل، وإذا ما علمنا أن موسى قد وصل مجمع البحرين (وهو برأينا الملتقى بين خليج العقبة وخليج السويس (انظر الخارطة)، فإن منطقة سيناء (أي فلسطين التاريخية) تصبح هي منطقة القرى التي باركنا فيها، وهناك تقع القرى إلى الشرق وإلى الغرب من نهر الأردن حيث بيت المقدس.
فنحن نفتري الظن بأن تلك المنطقة (إلى الشرق وإلى الغرب من بيت المقدس) كانت تسمى بأكملها سيناء، وصحراء سيناء الحالية (في ظننا) ليست إلا جزءا مما تبقى من التسمية القديمة من سيناء المنطقة الكلية، فأنت عندما تقول صحراء مصر، فإن تلك الصحراء هي جزء من مصر، وإذا ما قلت صحراء جزيرة العرب، فإن تلك الصحراء هي جزء من جزيرة العرب، وهكذا.

ونحن نفتري الظن أنها هي الأرض نفسها التي جاء ذكرها في الآية الكريمة التالية:

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20)
فالطور هو جزء من سيناء. وهو المكان الذي آنس عنده موسى النار:

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
وهو الطور الذي نادى الله موسى عنده:

وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
وهو المكان نفسه الذي واعد الله بني إسرائيل جانبه:

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
وهو الطور نفسه الذي رفعه الله فوق بني إسرائيل:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة (63)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ البقرة (93)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا النساء (154)
والطور هو الذي نظن أنه قد جاء ذكره في سورة التين:

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2)
وسنتعرض لهذه السورة الكريمة في نهاية هذه المقالة لنحدد من خلالها المناطق الأربعة موطن الرسالات السماوية الرئيسية.

وإلى الجنوب الغربي من سيناء التاريخية تقع مصر التي رحل إليها يعقوب النبي مع أبناءه وأهله أجمعين يوم كان يوسف هو حاكمها. وهناك تم استضعاف بني إسرائيل بعد وصول الفراعنة إلى الحكم (انظر الخريطة مرة أخرى) وهي الأرض التي ولد فيها موسى من سلالة المستضعفين من بني إسرائيل في أرض مصر. وسنعود إلى قصة الطور لاحقاً ولكن نطلب من القارئ الكريم تديق النظر في الخريطة الجغرافية مرة أخرى:
وإلى الشرق (والجنوب الشرقي) تقع مدين التي هرب إليها موسى من فرعون:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) القصص
ومدين هي بلاد نبي الله شعيب:

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
وهي الأرض التي لا تبتعد كثيراً عن قرية لوط التي وقع عليها العذاب، كما جاء ذلك على لسان شعيب الذي حذر قومه من مغبة ما يفعلون:

قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (89) هود
نتيجة: مدين تقع إلى الشرق والجنوب من الأرض التي بارك الله فيها للعالمين وهي ليست بعيدة عن قرية قوم لوط الذي كان يسكن أصلا مع إبراهيم الأرض التي باركنا فيها للعالمين:

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
نتيجة مفتراة: نحن نفتري الظن بأن المنطقة الجغرافية التي تقع في شمال جزيرة العرب تنقسم إلى ثلاث أجزاء حسب تسميات القرآن الكريم وهي:
مصر التاريخية وهي الأرض التي استعبد فيها آل فرعون بني إسرائيل وتقع إلى الشمال الغربي من جزيرة العرب
سيناء التاريخية وهي الأرض التي أعاد موسى بني إسرائيل إليها بعد أن كان يعقوب ويوسف قد أخرجوهم منها، وتقع إلى الشمال المباشر لجزيرة العرب
مدين (أرض شعيب) وهي المنطقة القريبة من قرية لوط والتي هرب إليها موسى ومكث فيها سنين من عمره وتقع إلى الشمال الشرقي من جزيرة العرب

نتيجة مفتراة: نحن نظن أن تلك المناطق الثلاثة قد خضعت جميعها لحكم سليمان وإن لم يكن أيا منها موطنه الأصلي

السؤال: أين كان موطن سليمان؟

جواب: لم يكن يسكن مصر، ولم يكن يسكن مدين، ولم يكن يسكن الأرض التي باركنا فيها.

سبأ

كما أن سليمان لم يكن يسكن سبأ، فسليمان أرسل إليهم رسالته طالباً أن يأتوه مسلمين:

إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
فجاءته المرأة وقومها من هناك:

قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
فأين ومن أين قدموا وإلى أين توجهوا؟

جواب: لقد قدموا من سبأ؟

وأين هي سبأ؟

جواب: تقع ما بعد القرى الظاهرة؟

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
نتيجة: نحن نفهم من السياق القرآني أن هناك القرى الظاهرة التي تقع بين سبأ من جهة والأرض التي باركنا فيها للعالمين. وإذا ما ظننا أن القرى التي باركنا فيها تقع إلى الشمالل من جزيرة العرب فإن سبأ تقع إلى الجنوب من جزيرة العرب. ولكن أين الدليل على ذلك؟

القرى الظاهرة

السؤال: من هم أهل القرى؟

جواب: هم كل الذين جاء بعدهم موسى:

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
فمن هم؟

جواب: هي القرى التي أهلكها الله بذنوبهم:

ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)
وهم من جاء خبرهم على لسان الذي آمن من آل فرعون لموسى:

يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31)
نتيجة: نحن نظن أنها تلك القرى التي لازالت بيوتهم شاهدة (ظاهرة) على وجودهم الذي انتهى بالعذاب:

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن المنطقة التي تقع في وسط جزيرة العرب هي ديار عاد وثمود وغيرهم من القرى التي أهلكها الله بذنوبهم

كما نظن أنها المنطقة التي كان السير فيها آمنا:

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ
وأين تقع سبأ؟

رأينا: نحن نظن أن الجزء الجنوبي من جزيرة العرب هي منطقة سبأ التي جاءت منها تلك المرأة صاحبة العرش العظيم إلى سليمان. انظر الخريطة مرة أخرى:
ولكن هذا الظن يعيدنا على الفور إلى التساؤل الرئيس وهو: أين كان سليمان يتواجد عندما قدمت إليه تلك المرأة مادام أنها أتته من سبأ؟

رأينا: نحن نظن أن سليمان لم يكن موطنه أياً من تلك المناطق الجغرافية سالفة الذكر وإن كانت جميعاً قد وقعت تحت حكمه.
فشمال جزيرة العرب (التي تشمل الأرض التي باركنا فيها ومدين إلى الشرق منها ومصر إلى الغرب منها) وقعت جميعها تحت حكم سليمان
ومنطقة وسط جزيرة العرب (القرى الظاهرة) وقعت تحت حكم سليمان
ومنطقة جنوب جزيرة العرب (سبأ) وقعت تحت حكم سليمان

فأين كان يسكن سليمان إذن؟

رأينا: إنها المنطقة الجغرافية التي تبعد عن الأرض التي باركنا فيها مسيرة الريح شهرا في الذهاب وشهر آخر في الإياب:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36)
(انظر الجزء السابق من هذه المقالة تحت باب الشهر)[4]

ولكن هذه المنطقة لها مواصفات محددة:
نحن نظن أن موطن سليمان كان يقع في منطقة جغرافية مطلة على البحر بدليل أن الشياطين كانت تغوص له:

وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن الشياطين كانت تعمل لسليمان في البر والبحر، وقد شيّدت له في البر كما شيدت له في البحر
هي المنطقة التي شيدت فيها الجن لسليمان الصرح:

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
وقد افترينا الظن في جزء سابق من هذه المقالة بأنه مادام أن الصرح كان لجة (كما حسبته المرأة) فلابد أنه كان قريباً من الماء أو على الأقل كان للماء دخل في تلك اللجة:

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
فظننا بأن انعكاس أشعة الشمس على الماء هو الذي يسبب تلك اللجة، كما ظننا بأن ذلك الصرح كان بناء يرتفع عن الأرض بدليل ما طلبه فرعون من موسى:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
كما افترينا بأن الصرح يتطلب إشعال النار تحته، ففرعون يطلب من فرعون أن يوقد على الطين حتى يجعل له صرحاً ليبلغ به الأسباب:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)
وقد خلصنا إلى القول بأن صرح سليمان كان بناء يشبه الشمس في إضاءته وارتفاعه بدليل أن أول ردة فعل المرأة (التي كانت وقومها تسجد للشمس) كان أن كشفت عن ساقيها لتقوم بفعل السجود عندما رأته:

يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
فالمرأة لم تكشف ساقها ولكنها كشفت عن ساقها (انظر الجزء السابق تحت باب الساق)

نحن نظن أن منطقة بلاد سليمان هي التي أسيل له فيها عَيْنَ الْقِطْرِ موضوع البحث الرئيسي في هذا الجزء من المقالة:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
فـ لكي نستطيع أن نحدد المكان الجغرافي الذي كان يتواجد فيه سليمان فلابد من معرفة المكان الذي أسيل لسليمان فيه عين القطر، فأين هو ذلك المكان؟

عَيْنَ الْقِطْرِ
للوصول إلى جواب على هذا التساؤل الكبير، فنحن بحاجة أولا أن نطرح التساؤلات المبدئية التالية:

ما هي عين القطر؟ 

ولماذا أسالها الله لسليمان؟ 

ومن الذي كان يعمل فيها؟

ما هي عين القطر؟

جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن بأن عين القطر لها علاقة وطيدة بصناعة الحديد، ولكن كيف؟

رأينا: نحن نتفق جميعاً بأن سليمان هو وريث داوود، أليس كذلك؟

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ النمل (16)
سؤال: مادام أن سليمان كان وريثاً لداوود، فماذا ورث عنه؟

جواب: كل شيء (وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ).

افتراء من عند أنفسنا: مادام أن سليمان قد ورث داوود في كل شيء، فلا ضير إذاً أن نفتري القول بأنه قد ورث عنه الصنعة (أي الحرفة) ـ فنحن نعلم من السياق القرآني التالي بأن الله هو من علم داوود "وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ":

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80)
ولكن سليمان – في ظننا- قد ورث تلك الصنعة عن والده (كما ورث أشياء أخرى من كل شيء). ولما كانت الغاية من تعليم داوود تلك الصنعة هي لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ، فإننا نعتقد جازمين أن لها علاقة بالحديد، لأن الحديد هو الذي فيه البأس:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
وربما لهذا نقرأ في كتاب الله آية صريحة تبين كيف ألآن الله الحديد لداوود:

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
السؤال: ولكن ما علاقة الحديد الذي ألانه الله لداوود بعين القطر التي أسلها الله لسليمان؟

افتراء خطير من عند أنفسنا: نحن نظن أن التلازم بين الحديد والقطر قد جاء في كتاب الله في الآية الكريمة التالية التي تتحدث عن ذي القرنين:

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
فالآية الكريمة تدلنا على أن ذا القرنين قد استخدم زبر الحديد (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) وقد أفرغ عليه القطر (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا

السؤال: ما هو زبر الحديد؟ وما هو القطر؟

جواب مفترى: نحن نظن أن زبر الحديد هو المادة المصنّعة من الحديد، فالله أنزل الحديد كله:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
وكانت مهمة الناس أن يشكلوه بالطريقة التي يريدونها، فيجعلونه زبرا. فالحديد هو – في ظننا- المصدر، وزبر الحديد هو ما يمكن لكل أمة أن تشكل من تلك المادة الخام ما تشاء، بالضبط كما تفعل كل أمة عندما يتقطعون أمرهم زبرا بالرغم أنها أمة واحدة وأن ربهم هو الله:

وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
سؤال: ما هو القِطر؟

نحن نظن أن القِطر هو المادة التي يمكن أن تجعل الحديد يتماسك مع بعضه البعض، ولكن كيف؟

جواب: عندما نقرأ ذلك في قصة ذي القرنين، نجد أنه قد وضع الحديد أولاً (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)، ثم قام بعد ذلك بتسوية ما بين الصدفين (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)، وطلب منهم أن ينفخوا (قَالَ انفُخُوا)، وما أن جعله ناراً (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا) حتى أفرغ عليه القطر (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا):

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتصور أن المشهد على النحو التالي: كان ذو القرنين يقوم على ردم الطريق التي توصل يأجوج ومأجوج إلى الأرض حتى لا يعيثوا بها فساداً، فقام ببناء تسوية من حديد لتلك الطريق، بالضبط كما يفعل رجل البناء، وعندما أكمل الهيكل الحديدي قام بالنفخ عليه حتى أصبح نار، وما أن أصبح ناراً حتى أفرغ عليه القطر، فأصبح الحديد متماسكاً مع بعضه البعض بطريقة يصعب إحداث النقب فيه.

ولكن يبقى السؤال قائماً: ما هو القطر الذي أفرغه ذو القرنين على زبر الحديد المشتعل؟

جواب: عندما حاولنا الإجابة على هذا التساؤل، وجدنا أن من الضروري طرح سؤال لغوي بحت يخص مفردة القِطر، وكان السؤال الذي طرحناه هو: هل مفردة القِطر هي مفردة تدل على المفرد أم على الجمع؟

لقد أجاءتنا المفاجأة من معظم الذين وجهنا لهم السؤال من العامة ومن أهل الاختصاص اللغوي على حد سواء حيث كانت جل إجابتهم على نحو أن المفردة تدل على المفرد. وعندها فاجأنا أهلَ اللغة بالتساؤل المثير التالي: إذا كانت مفردة "القِطر" تدل على المفرد، فما الجمع منها؟ أي كيف يمكن أن تجمع؟ فلم نجد عندهم جواباً يسد عطشنا للمعرفة.

والحالة هذه، عدنا نبحث كالعادة في كتاب الله عن مخرج مما نحن فيه من الضيق، فسألنا الله أن يهدينا رشدنا، وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، فوجدنا الجواب الذي نظن أنه صحيحاً في الآية الكريمة التالية من سورة الرحمن:

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) الرحمن
افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: نحن نظن أن مفردة "قطر" تجمع على أقطار (أَقْطَارِ)، ولكن أين الدليل على ذلك؟

رأينا: نحن نظن أن الدليل على افترائنا هذا يأتي من تدبر الآية الكريمة نفسها، لنطرح بعد ذلك على القارئ الكريم سؤالاً بسيطاً جداً وهو: كيف يمكن أن تتم عملية النفاذ من أقطار السموات والأرض؟ وأين هي أقطار السموات والأرض؟

عندما حاولنا أن نطرح مثل هذه التساؤلات على الناس وجدنا أن الصورة التي تتشكل في أذهانهم للآية الكريمة هي على نحو أنه يوجد حول الكرة الأرضية مجالات افتراضية تحيط بالأرض داخل وخارج غلافها الجوي كما في الشكل التالي:
Source: http://www.google.jo/search?q=The+Globe+image+free+download&tbm=isch&tbo=u&source=univ&sa=X&ei=sTinUdnrB8GihgeY1IGYAQ&ved=0CDcQsAQ&biw=1708&bih=813

فالصورة الذهنية عند الناس هي على نحو أن أقطار الأرض هي كينونات محيطة بالأرض، بينما لم يستطع الكثيرون أن يرسموا لنا صورة ذهنية عن أقطار السموات.

رأينا: إن أكثر ما يهمنا هنا هو الصورة الذهنية التي شكّلها الكثيرون لنا لأقطار الأرض، ونحن نفتري الظن بأن هذه الصورة الذهنية هي مغلوطة تماماً، فأقطار الأرض – برأينا لا تحيط بالأرض إطلاقاً.

السؤال: إذا كان ظننا هذا صحيحاً، فعلينا أن نجيب على التساؤل التالي على الفور: أين هي أقطار الأرض إذن؟

جواب خطير جداً مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن أقطار الأرض موجودة داخل الأرض وليس خارجها.

الدليل

نحن نظن أن الدليل على ظننا هذا ربما يمكن أن يستنبط من الآية الكريمة نفسها التي تتحدث عن أقطار السموات والأرض:

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) الرحمن
ولكن كيف ذلك؟

رأينا: تدبر -عزيزي القارئ- الآية الكريمة جيداً خاصة ترتيب المفردات فيها، لنطرح عليك التساؤل التالي:

السؤال: ألا ترى عزيزي القارئ أن الله يطلب منا أن نحاول أن ننفذ من أقطار السموات قبل أن ننفذ من أقطار الأرض؟ انظر الترتيب في الآية الكريمة جيداً:

إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا

ألم يكن الأولى (إن صحت الصورة الذهنية التقليدية التي تشكلت في أذهان الناس) أن نحاول أن ننفذ أولاً من أقطار الأرض ثم نحاول بعد ذلك أن ننفذ من أقطار السموات؟ ألم يكن الأولى أن تكون الآية الكريمة على نحو:

إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار الأرض والسماوات فانفذوا

الصورة التقليدية القديمة: لا تنسى - عزيزي القارئ- أننا (على الأقل نحن الإنس) متواجدون على سطح الأرض، فإن أردنا أن ننفذ، فعلينا أن نحاول أن ننفذ من أقطار الأرض، وما أن نتخلص من أقطار الأرض حتى نحاول بعد ذلك أن ننفذ من أقطار السموات. أليس كذلك؟

السؤال: كيف إذن سنستطيع أن ننفذ من أقطار السموات ثم من أقطار الأرض بعد ذلك (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

الصورة البديلة المفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن أقطار الأرض ليست متواجدة حولها وإنما هي كينونات متواجدة في داخل الأرض، فالنفاذ من أقطار الأرض يتطلب – برأينا- الدخول في باطنها، أي هي حركة باتجاه باطن الأرض، أما النفاذ من أقطار السموات فهي حركة إلى الأعلى باتجاه الفضاء الخارجي.

الدليل

نحن نظن أن السماء بالنص القرآني هي كل ارتفاع عن سطح الأرض بغض النظر عن مقداره، فالله ينزل لنا الماء من السماء بالرغم أنها تأتي من الغيوم:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
فالسحاب الذي يحمل المطر مبسوط في السماء:

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
والسماء تبدأ بوجود الغازات الضرورية لعملية التنفس وتستمر السماء مع تناقص تلك الغازات:

فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125)
وتبدأ السماء مع فرع الشجرة:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24)
والطيور مسخرات في جو السماء:

أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
وباختصار نقول أن كل ما فوقنا فهو سماء:

أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6)
نتيجة مفتراة: إن الحركة إلى أعلى (صعوداً أو رقياً أو عروجاً)[5] تأخذنا إلى أقطار السموات.

السؤال: كيف سيكون النفاذ من أقطار الأرض والسماء متواجدة فوق رؤوسنا؟

رأينا: نحن نظن أن ذلك يتم ليس بالخروج منها ولكن بالولوج فيها:

يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
نتيجة: إن أي حركة من الأرض إلى الأعلى تؤدي بك إلى الخروج منها إلى السماء، لذا نحن نفتري الظن بأن أقطار الأرض ليست موجودة خارجها وإنما موجودة في داخلها:

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ الرحمن (33)
ولو راقبنا التحدي الموجود في الآية الكريمة لوجدنا أن النفاذ من أقطار السماوات ربما يكون أسهل من النفاذ من أقطار الأرض، فالناس جبلوا على التفكير بالخروج من الأرض إلى السماء في مسافات بعيدة جداً (فقطعت مركباتهم الفضائية ملايين الأميال في الفضاء، ولكنهم عجزوا عن قطع بضع كيلومترات في باطن الأرض. لذا نحن نظن أن التحدي في الآية الكريمة ربما جاء ليبين لنا أننا قد نستطيع أن نحاول أن ننفذ من أقطار السموات قبل أن نستطيع أن (نحاول أن) ننفذ من أقطار الأرض. فالرحلة إلى باطن الأرض لم تبدأ بعد بالرغم من التطور الهائل في مجال رحلات الفضاء باتجاه أقطار السموات

عودة على بدء: ما علاقة ذلك كله بعين القطر التي أسالها الله لسليمان؟

رأينا: لما كان الله قد أسال لسليمان عين القطر، فنحن نفهم أن الله قد أخرج لسليمان عين تجري بالقطر الموجود في باطنها ليظهر على سطحها:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
فكانت مهمة الجن تكمن في أن يعملون له منها ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات

نتيجة مفتراة: لقد كانت المحاريب والتماثيل والجفان التي كالجواب والقدور الراسيات التي كانت تعملها الجن لسليمان مصنوعة من عين القطر.

لسؤال: ما هو عين القطر إذن؟

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الجواب على هذا السؤال موجود في الآيات الكريمة التي تبين التحدي الإلهي للإنس والجن بالنفاذ من أقطار السموات والأرض:

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ (35)
نحن نفهم الآية الكريمة على النحو التالي: إن مجرد محاولة الجن والإنس الاقتراب من أقطار السموات والأرض ستؤدي إلى أن يرسل عليهم (شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ) لكي لا ينتصران (فَلَا تَنتَصِرَانِ)

نتيجة مفتراة: لذا نحن نظن أن القطر هو عبارة عن خليط من "شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ"[6]

السؤال: وأين أسال الله تلك المادة المنصهرة من النحاس بشواظ النار لسليمان؟

جواب: في عين القطر؟

سؤال: وأين هي تلك العين؟

جواب: للإجابة على هذا التساؤل لابد من التعرض أولاً لمفردة العين لنفهم ما هي، لذا نحن نطرح التساؤل التالي: ما هي العين؟

جواب: العين هي عين الإنسان التي نعرفها.

أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ (13)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (195)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
ونحن نظن أن ذلك الجزء من الإنسان الموجود في الرأس[7] قد سميت بالعين على الأقل لسببين:

أولهما، لأنها مكان يجري فيه السائل:

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)
ويكون هذا الجريان أحياناً غزيرا:

وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92)
وهذا بالضبط ما نجده من عين الماء:

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)[8]
وثانيهما لشكلها:

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
والانبجاس برأينا هو بروز من الداخل إلى الخارج.

سؤال: وكيف هو شكل العين أصلاً؟

جواب: انظر الشكل التالي:
source: http://all-free-download.com/free-vector/human-eyes-pictures.html


فتلك هي صورة العين التي يخرج منها السائل سواء كان دمعاً كما في حالة العين البشرية أو الماء كما في حالة عين الماء[9].

أين هي تلك عين القطر التي أسالها الله لسليمان؟

رأينا: نحن نظن أن العين إذا ما خرجت من باطن الأرض فإنها تنبجس:

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
والانبجاس برأينا هو خروج الشيء من مكانه في الداخل إلى الخارج شيئا قليلا، فقد خرج من باطن الأرض – في ظننا- ما يشبه العين في الشكل (وكان ذلك انبجاساً لعين الماء) وما أن انبجست تلك العين من باطن الأرض حتى انفجرت بعد ذلك بالماء:

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: إذا صح هذا الزعم المفترى من عند أنفسنا، فإننا بحاجة أن نبحث في الكرة الأرضية عن كتلة من اليابسة تشبه في شكلها العين والتي تبدو ويكأنها قد خرجت (أي انبجست) من باطن الأرض. ونحن نفتري الظن أنه إن استطعنا أن نحددها بطريقة صحيحة فإننا سنجد أن القطر الذي أسالها الله لسليمان (وعملت به الشياطين لسليمان ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) قد كانت تخرج من تلك العين. فأين هي إذن؟

رأينا: هي المنطقة التي توجهت إليها المرأة من سبأ مع قومها حيث كان يتواجد سليمان؟

سؤال: وما هي تلك المنطقة؟

جواب: هي ليست سبأ بالتأكيد، لأن المرأة قد جاءت أصلاً من سبأ، وهي ليست الأرض التي باركنا فيها للعالمين، لأن سليمان كان يذهب إليها بالريح، وهي ليست القرى الظاهرة التي تقع بين سبأ والأرض التي باركنا فيها (فتلك بلاد عاد وثمود). لكنها بلا شك منطقة تقع على مسطحات مائية لأن الشياطين كان منهم كل بناء وغواص، فما هي؟

رأينا: نحن نظن أننا بحاجة أن بحث حول المسطحات المائية عن كتلة من اليابسة يبدو أنها قد خرجت من اليابسة لتشبه في شكلها العين (عين الإنسان)، فأين يا ترى يمكن أن نجدها؟

افتراء خطير جداً جداً من عند أنفسنا: انظر – عزيزي القارئ- الخارطة الجغرافية التالية جيدا، ثم حاول أن تخمن الإجابة بنفسك:
هل تعرف عزيزي القارئ ما هذه الخريطة؟

جواب: إنها جزء من خريطة شبه الجزيرة العربية:
Source: http://www.google.jo/imgres?imgurl=http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/8/86/Arabian_Peninsula_dust_SeaWiFS-2.jpg/220px-Arabian_Peninsula_dust_SeaWiFS-2.jpg&imgrefurl=http://en.wikipedia.org/wiki/Peninsula&h=160&w=176&sz=1&tbnid=8uYiwAB4K-z6sM:&tbnh=160&tbnw=176&prev=/search%3Fq%3Darab%2Bpeninsula%26tbm%3Disch%26tbo%3Du&zoom=1&q=arab+peninsula&usg=__Uq73ebK7cWFJKdB5-t5OXMVQmug=&docid=QIPonBqYanHZ9M&itg=1&sa=X&ei=nU6rUayfLomjhgeyxYGQDg&sqi=2&ved=0CIMBEPwdMAo


السؤال: أين هي تلك العين التي أسال الله منها القطر لسليمان؟

افتراء خطير جداً جداً من عند أنفسنا: إننا نفتري الظن أنها ما يسمى الآن بدولة قطر العظيمة.

نعم، نحن نفتري الظن بأن تلك التسمية لتلك البقعة الجغرافية (أي قطر) هي مما تبقى من قصة سليمان، فسليمان كان موطنه الأصلي على أطراف المسطحات المائية للخليج العربي مع بحر العرب والمحيط الهندي. فهناك كانت مملكة سليمان، وهناك كانت الجن تغوص له في البحر ليجنوا له من كنوز تلك البحار الثرية وهناك أسال الله القطر لسليمان من تلك العين، وإلى هناك جاءته المرأة من سبأ مع قومها لتسلم لله رب العالمين، وهناك كان صرح سليمان الذي كان صرحاً ممرداً من قوارير والذي حسبته المرأة أنه لجة فكشفت عن ساقيها لتسجد له، ومن هناك حكم سليمان الأرض كلها حتى وصل حكمه إلى كل أصقاع الأرض بما فيها التماثيل التي لا زالت موجودة حتى يومنا هذا في أمريكيا اللاتينية (وسنتعرض لهذه الجزئية في نهاية هذه المقالة بحول الله وتوفيقه)

تبعات هذا الظن

لما كان القطر هو مادة النحاس المسال بالحرارة من باطن الأرض، ولما كان الله هو من أساله لسليمان من باطن الأرض، فقد نفذ ذلك السائل عن طريق فتحة أحدثها الله من باطن الأرض لتنقل ذلك السائل إلى ظاهره، فشق طريق له يصل بين باطنها وظاهرها، وأخذت تلك الفتحة بالاقتراب شيئاً فشيئاً إلى سطح الأرض، وما أن وصلت تلك الفتحة إلى منتهاها إلى سطح الأرض حتى انفجرت وشكلت جسماً يشبه في شكله العين، وما كان من تلك الفتحة إلا أن أخرجت ما في باطن الأرض من الكنوز إلى ظاهرها، ونحن نتجرأ بناء على هذا الفهم المغلوط على تقديم الافتراء التالي الذي هو بلا شك من عند أنفسنا:

إن الغازات السائلة (بما فيها الغاز والنفط) التي ظهرت على سطح الأرض هي غازات دفينة في باطن الأرض (أي في أقطار الأرض) وليست عبارة عن متحجرات كائنات عضوية، انظر كيف تعرف الويكبيديا في نسختها الإنجليزية مفردة CRUDE OIL:

Crude oil, or petroleum, and its refined components, collectively termed petrochemicals, are crucial resources in the modern economy. Crude oil originates from ancientfossilized organic materials, such as zooplankton and algae, which geochemical processes convert into oil.[7] The name is a misnomer, in that minerals are not the source of the oil - ancient plants and animals are. Mineral oil is organic. However, it is classified as "mineral oil" instead of as "organic oil" because its organic origin is remote (and was unknown at the time of its discovery), and because it is obtained in the vicinity of rocks, underground traps, and sands. Mineral oil also refers to several specific distillates of crude oil

وكيف تعرفه في نسختها العربية:

النفط أو البترول ويطلق عليه أيضا الزيت الخام الذهب الأسود كمصطلح ادبي، عبارة عن سائل كثيف، قابل للاشتعال، بني غامق أو بني مخضر، يوجد في الطبقة العليا من القشرة الأرضية. ويتكون النفط من خليط معقد من الهيدروكربونات، وخاصة من سلسلة الألكانات الثمينة كيميائيا، ولكنه يختلف في مظهره وتركيبه ونقاوته بشدة بحسب مكان استخراجه. وهو مصدر من مصادر الطاقة الأولية الهامة طبقا ل إحصائيات الطاقة في العالم. ولكن العالم يحرقه ويستغله في إنتاج الطاقة الكهربائية وتشغيل المصانع وتحريك وسائل النقل وتشغيل المحركات المعدة لحركة وفي إنتاج الطاقة الكهربائية التي يمكن أن تُوّلد بطرق أخرى توفر على البشرية حرق هذه المادة القيمة كيميائيا. النفط هو المادة الخام لعديد من المنتجات الكيماوية، بما فيها الأسمدة، مبيدات الحشرات، اللدائن وكثير من الأدوات البلاستيك والرقائقوالأنابيب والأقمشة والنايلون والحرير الاصطناعي والجلود الاصطناعية والأدوية.


رأينا المفترى: نحن نظن أن تلك الغازات هي عبارة عن ما هو متواجد في أقطار الأرض، فكل قطر من أقطار الأرض يحتوي في طياته على نوع أو أنواع محدده من المعادن، فجميع معادن الأرض موجودة في باطنها وقد تنفذ إلى السطح في أي مكان على الأرض يمكن أن يتسرب منها ذلك المخزون الدفين في باطن الأرض باستثناء معدن واحد وهو الحديد الذي أنزله الله إنزالاً:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ الحديد (25)
وقد حصلت - في ظننا- أكبر عملية إسالة (تهريب) لهذا المخزون في التاريخ بفعل عين القطر تلك التي أسالها الله لسليمان، فنفذت إلى السطح بفعل تلك الفتحة الهائلة التي أحدثها الله لسليمان من باطن الأرض إلى ظاهرها لينقل له من خلالها القطر. ولما كانت تلك الفتحة ترتفع شيئاً فشيئا إلى سطح الأرض أخذت معها كميات هائلة من الغازات والدفائن فنقلتها من باطن الأرض إلى سطحها. ولو راقبنا على الخارطة الجغرافية المناطق التي تعتبر مواطن الغاز والنفط في العالم لوجدنا أنها تبدأ من مناطق أواسط روسيا (ما وراء جبال الهملايا) وتمتد إلى بلاد القوقاز ومنا إلى إيران والعراق حتى تنهي أخيرا إلى منطقة شرق جزيرة العرب:
ولكن المهم في الأمر أن ذروة تلك الكميات قد ظهرت في المناطق التي تقترب منها تلك العين (أي قطر) من سطح الأرض، فظهرت الكميات الأضخم في شرق جزيرة العرب (العراق، الكويت، الإمارات، وشرق السعودية).

كما يجدر الإشارة بأن أسهل عمليات اكتشاف لتلك الدفائن كانت في هذه المنطقة الجغرافية، وذلك لأن عملية الاستكشاف لا تتطلب الحفر في باطن الأرض إلى أعماق كبيرة، فبعض تلك الكميات ظهرت على السطح بطريقة السيلان الطبيعي (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)[10] منذ زمن بعيد، ولكن لكي يتم استخراج تلك الدفائن في مناطق الأرض الأخرى كان لابد من الحفر إلى أعماق هائلة للوصول إلى منافذ ومصائد لتلك الغازات والدفائن الأرضية.

وهذا يعني بمنظورنا المكذوب هذا استحالة نفاذ كميات الغاز والنفط وذلك لأنها قادمة من أقطار الأرض التي تحتوي الكثير منه، فالكميات المقدرة حتى الساعة هي مبنية فقط على اجتهادات بناء على ما تم اكتشافه حتى الساعة، ولكن العلم سيكشف لنا- نحن نفتري الظن- بأن هناك كميات هائلة جداً لازالت في طريقها من باطن الأرض (أقطارها) إلى سطحها.

ثانياً، نحن نظن أن وجود ملك سليمان في تلك البقعة الجغرافية من الكرة الأرضية قد مكّنه من حكم الأرض بأكملها، فنحن نقرأ في كتاب الله أن سليمان قد دعا ربه أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد بعده:

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)

لذا من الاستحالة عندنا أن نؤمن أن ملك سليمان قد اقتصر على بقعة جغرافية محددة، وذلك لأن هناك من حكم من بعد سليمان مناطق شاسعة جداً من الأرض، فهذا هارون الرشيد مثلاً ينادي الغيمة – كما تقول قصصنا الشعبية- بأنها مهما ذهبت فإن خراجها سيأتيه دلالة على سعة الرقعة الجغرافية التي كانت تقع تحت حكمه، وأظن أن تشرشل (أحد رؤساء وزراء بريطانيا) كان يحكم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وليس أدل على ذلك من الأغنية البريطانية الشهيرة حيث يتكرر مقطعها الشهير التالي عدة مرات:


Rule Britannia!


Britannia rule the waves.


Britons never, never, never shall be slaves.


Rule Britannia!


Britannia rule the waves.


Britons never, never, never shall be slaves

فهل - يا ترى- اقتصر ملك سليمان العظيم على بقعة محددة من الأرض؟ هل حكم هارون رشيد أو تشرشل مثلاً منطقة جغرافية أوسع من تلك التي كانت تقع تحت حكم من وهب الله له ملكاً لم ينبغي لأحد من بعده؟

رأينا: كلا وألف كلا، نحن نظن أن سليمان بجنده من الجن والإنس والطير قد وصل حكمه إلى كل أصقاع الأرض. ولكن كيف ذلك؟

انظر الخريطة التالية:


فإلقاء نظرة على خريطة الكرة الأرضية تبين لنا أن سليمان قد حكم القارة الآسيوية والإفريقية والأوروبية بكل سهوله، وذلك للترابط البري بين تلك الكينونات، لذا نحن لا نتردد أن نفهم أن حكم سليمان قد امتد على كل تلك المساحة الجغرافية الشاسعة، ولكن لمّا كان سليمان يتحكم بالطير وبالجن، فنحن نظن أن حكمه قد ابتعد أكثر من ذلك، لنفتري بأنه قد وصل إلى الأمريكيتين: الجنوبية والشمالية.

تخيلات من عند أنفسنا بغير دليل
دعنا نطرح التساؤلات التالية:

أولاً، ما أصل الهنود الحمر الذين وجدهم الأوربيون في الأمريكيتين عندما وصلوا إلى هناك؟ من أين جاء أولئك البشر؟ وكيف وصلوا إلى هناك؟ ولم لم يحدث اتصال بينهم وبين العالم إلا بعد أن وصل الأوربيون إلى هناك؟

ثانيا، ما أصل الحضارات ذات الآثار العظيمة المتواجدة حتى يومنا هذا في تلك البلاد خاصة أمريكيا اللاتينية؟ وما أصل التراث الديني الهائل الموجود هناك؟ ومن أين جاء؟ وما أصل الأساطير الكثيرة جداً التي تتوافر في تلك البلاد؟ ثم مادام أن هؤلاء الناس متواجدون هناك منذ زمن بعيد، فأين هم رسلهم؟ ألم يقل الله في كتابه الكريم؟

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
فمن هم رسلهم؟

رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن كل تلك الحضارة قد شيدت في عهد سليمان. ولكن كيف؟

افتراء من عند أنفسنا: تجمع معظم الدراسات المادية الغربية التي أجريت حتى الساعة في هذا الصدد أن الهنود الحمر (أهل الأمريكيتين الأصليين) قد جاءوا فعلاً من الهند، وقد عبروا خلال رحلتهم إلى هناك عن طريق البر الذي يربط أسيا بأمريكا الشمالية عبر ألاسكا (انظر الخريطة السابقة). لكننا لا نتردد أن نكذّب دعواهم هذه، وذلك لأن الواقع يناقضه، ولأسباب عديدة نذكر منها:
صعوبة وصول الجنس البشري بحضارته القديمة من خلال تلك الطريق المهلكة بمناخها، فحتى يومنا هذا يصعب على الإنسان أن يقطع ألآلاف الأميال في تلك الصحارى المتجمدة.
لو حصل أن وصلت الرحلات البشرية من هناك لاستمرت هذه الرحلات في حقبات الزمن المتعاقبة، فمن غير المنطقي أن تحصل مرة واحدة ثم تنقطع بعد ذلك وإلى الأبد. والأهم من ذلك – برأينا- هو لو أنه فعلاً استطاع من وصل من هناك عبور تلك الطريق لاستطاع أيضا أن يعود سالكاً الطريق نفسها إن هو أراد ذلك، فهل يعقل أن يصل البشر من هناك ثم ينقطع خبرهم وإلى الأبد؟ فإن كنا نحن لم نصل إليهم، كان على بعضهم أن يعود إلينا بخبر في يوم ما، وهذا ما لم يحصل قط. لذا نحن نفتري الظن بأن من وصل إلى هناك كان قد وصل بطريقة لم تمكنه من العودة مرة أخرى. وهذا ما سنحاول أن تبيانه بعد قليل بحول الله وتوفيقه.
لو جاءت الرحلة من هناك لكانت الحضارة المادية (بآثارها المعمارية) تنتشر في أمريكيا الشمالية أكثر من انتشارها في أمريكيا الجنوبية. فالعارف بتضاريس الأمريكيتين يجد أن هناك في أمريكيا الشمالية جغرافية أكثر ملائمة للحياة البدائية من أمريكيا الجنوبية، فالغابات الاستوائية والكائنات المفترسة، والأمطار والفيضانات الغزيرة في أمريكيا الجنوبية تجعل الحياة البدائية أقل قدرة على التكيف. فالسؤال المطروح هو: لماذا تكثر الآثار في أمريكيا الجنوبية أكثر منها في أمريكيا الشمالية؟

رأينا: لأن حضارة الهنود الحمر (أهل البلاد الأصلين) بدأت – برأينا- من أمريكيا الجنوبية وانتشرت بعد ذلك إلى أمريكيا الشمالية (وهذا بالضبط ربما يعاكس جميع النظريات البشرية المادية المتوافرة حتى الآن)، فنحن نظن أن انتشار الهنود الحمر جاء من الجنوب (من أمريكيا الجنوبية) إلى الشمال (أمريكيا الشمالية) وليس من الشمال إلى الجنوب كما تروج لذلك النظريات المادية، ولكن كيف حصل ذلك؟

رأينا: لقد حصل كل ذلك بسبب ملك سليمان. ولكن كيف؟

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن سليمان كان صاحب ثروة عظيمة بسبب ملكه وقد بنت له الجن المحاريب والتماثيل والجفان التي كالجواب والقدور الراسيات في كل مكان على المعمورة. فسليمان كان هو من دعا ربه أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده:

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ص (35)
فكان أول ثمرات ذلك الدعاء أن سخر الله له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب:

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ ص (36)
وهنا نتخيل سليمان يركب الريح لتجري به رخاء حيث أصاب، فينظر إلى الأرض من فوق، فتطوف به الريح الأرض، وعندها يقع بصره على منطقة جغرافية يصعب على الناس الوصول إليها لتكون هي مخازن سليمان التي ستحتوي الكنوز العظيمة التي كانت في ملكه. فنحن نتخيل أن سليمان يختار منطقة لا يمكن أن تصل إليها أيد الناس بسهوله لتكون هي المكان الأكثر أمنا ليضع فيها ثروات ملكه العظيم، لذا نحن ننفي أن تكون أي بقعة متصلة باليابسة التي كان يسكنها الناس حينئذ يمكن أن يتم اختيارها لتكون فيها جفون سليمان التي كالجواب. لذا نحن نفتري الظن بأنه من غير المنطقي – بالنسبة لنا- أن يضع سليمان كنوزه في أي مكان في العالم القديم (أسيا أو إفريقيا أو أوروبا) لأن الناس يستطيعون الوصول إليه ولو بعد حين. لذا كان في ذهن سليمان – برأينا- عاملان رئيسيان في الاختيار وهما:
البعد المكاني حيث لا تصل إليه أيدي الناس
قسوة المنطقة الجغرافية.

ولمّا كان سليمان ينظر إلى الأرض من أعلى عندما كانت الريح تجري به رخاء حيث أصاب، كان يستطيع أن يحدد بكل بساطة المنطقة التي تنقطع فيه رجل الإنسان فلا يصل إليها، ثم لابد من اختيار المكان الذي يتم الوصول إليه من أعلى وليس من أسفل، لذا نحن نظن أن اختيار سليمان قد وقع على رؤوس الجبال الشاهقة هناك ليبني فيها ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفون كالجواب وقدور راسيات بأيدي الجن. وذلك في ظننا لسببين:
كان سليمان – في ظننا- يريد أن تصل عن طريقه كلمة الله إلى أقصى منطقة يمكن أن يصلها الإنسان على الأرض
كما كان يريد أن يشيّد مملكة يصعب اختراقها مهما بلغ الإنسان من قوة.

لذا عندما جرت الريح بسليمان فوق الأرض، مر بالبحار المفتوحة، وما أن وصل إلى الأرض الواقعة ما وراء البحار حتى وقع بصره على الجبال الشاهقة المتواجدة فيما نعرفه اليوم بأمريكا الجنوبية، حيث تكثر الغابات والحيوانات المفترسة، فاختار رؤوس جبالها الشاهقة فشيدت له الجن هناك المحاريب، فأقام الصلاة فيها، وشيدت له التماثيل، فوجه وجهه إليها، وشيدت له الجفون التي كالجواب، فكنز فيها ثروات مملكته، وشيدت له فيه القدور الراسيات، فأطعم الطير والحيوانات، وكل ما كان متواجداً هناك، لذا نحن نقول باختصار أن سليمان قد أقام شعائر الله في أرض لم تطأها قدم الإنسان من قبل.

سؤال: وما علاقة هذا كله بالهنود الحمر أصحاب البلاد الأصليين؟

جواب: لمّا كان لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير، استعمل سليمان بعض جنوده في تلك الأرض، لتقوم على تلك البنايات العملاقة التي شيدتها له الجن على رؤوس تلك الجبال. فكانت اليد العاملة من الإنس عنده من أصول هندية (فلا زالت العمالة الهندية حتى الساعة هي من تقوم على عمارة الخليج العربي). فترك منهم في تلك البلاد من يقوم على خدمتها، ويقيم فيها شعائر الله. ولا يجب أن ننسى أن عملية نقل تلك الأيدي من العمالة ونقل تلك الثروات على يد سليمان لم تكن تكلف جهداً، فنحن لم ننس بعد من كان عند سليمان من جنده من استطاع أن يحضر عرش بلقيس له قبل أن يرتد إليه طرفه:

قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
ولكن ما الذي حصل يوم أن قضى الله بالموت على سليمان؟

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
تخيلات مفتراة من عند أنفسنا بغير دليل: نحن نظن أنه ما أن قضى الله بالموت على سليمان فجأة حتى انقطع الاتصال بين تلك البلاد (أمريكيا الجنوبية) والعالم البشري آنذاك في الجزء الشرقي من المعمورة. وعندها عاثت الجن فساداً في الأرض. ولكن بقى من استعملهم سليمان في تلك البلاد البعيدة من الإنس في موطنهم الجديد منقطعين عن أصولهم في الشرق. فعاشوا حياة الإنسان الأول في تلك البلاد لافتقارهم للعلم وللقدرة على الرجوع إلى موطنهم. فملك سليمان قد نفذ، والعلم المصاحب له قد ذهب مع أصحابه كجليس سليمان الذي نقل له عرش بلقيس. والحالة هذه، استقرت حياة الهنود هناك، وبدءوا بالانتشار من الجنوب إلى الشمال، باحثين عن أسباب الحياة كغيرهم، ولكنّ الذي كان يميزهم هو تلك القصص التي هي أقرب إلى قصص الخيال والجن بما تركهم سليمان فيه. وبقيت تلك القصص متوارثة في أجيالهم حتى أصبحت مع مرور الزمن قصص محرّفة غير صحيحة وإن كانت في الأصل قادمة من أصول دينية حقيقية.

والله أعلم.

(دعاء: اللهم رب سليمان وربي، أسألك كما وهبت لسليمان ملكاً لم ينبغي لأحد من بعده، أسألك وحدك أن تعلمني وعليا علماً من لدنك لا يكون لأحد من بعدنا إنك أنت العليم الحكيم)


المدّكرون: رشيد سليم الجراح     &      علي محمود سالم الشرمان


بقلم: د. رشيد الجراح


3/6/ 2013

د. رشيد الجراح مركز اللغات

rsaljarrah@yahoo.com أو rsaljarrah@yu.edu.jo جامعة اليرموك


http://faculty.yu.edu.jo/raljjara/default.aspx?pg=bf322587-7a53-4485-b9ca-6c0583bf5748


[1] فالمسلمون يعكفون على بيت في الصحراء فيجعلوه قبلة لهم ليحجوا إليه، واليهود يعكفون إلى حائط المبكى، والنصارى تحج إلى المغطس ليتعمدوا فيه، والبوذيون يغتسلون بماء نهر في حجهم إلى مناطقهم المقدسة. ولكن الملفت للنظر - برأينا- هو في حين أن الجميع يقوم بالعمل نفسه على طريقته الخاصة به، إلا أن الجميع ينظر إلى الآخرين (أي إلى غيره) بعين السخرية والتندر، فيسخر غير المسلمين من المسلمين عندما يلفون حول الكعبة في الحج، ويسخر المسلمون أنفسهم من غيرهم حين يعمدون إلى مكان بعينه في حجهم ويقومون بطقوس عبادتهم أي مناسكهم الخاصة بهم، ولكنهم غفلوا جميعاً – في ظننا- عن قول الحق:

وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ المائدة 48
وعن قوله تعالى بحق كل أمة:

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الحج 34
[2] لو دققنا في ما كان يلقى الجن من سليمان لوجدنا أنه يشبه تماما ما كان يلقى بنو إسرائيل على أيدي آل فرعون، بدليل أنهم كانوا في العذاب المهين:

وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ الدخان 30
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ سبأ 14
[3] إن هذا سيقودنا لاحقاً إلى افتراض واحد من سيناريوهين اثنين يخصان نسب طالوت وهما:
أن طالوت لم يكن من بني إسرائيل إطلاقاً، أو
أنه كان من عامة بني إسرائيل ولكنه لم يكن من الملأ من بني إسرائيل.

وسنتعرض لتبعات كل واحد من هذين السيناريوهين لاحقاً بحول الله وتوفيقه، فالله أسأل أن يعلمني ما لم أكن أعلم.

[4] فلقد افترينا القول في تلك المقالة أن الشهر (الذي يجمع على شهور) يعني اليوم واللية معاً (أي فترة أربع وعشرين ساعة كاملة).

[5] سنتحدث عن هذه الحركة في مقالة قادمة بحول الله وتوفيقه، فالله اسأل أن يأذن لي الإحاطة بشيء من علمه وأن يعلمني ما لم أكن أعلم إنه هو العليم الحكيم.

[6] لذا نحن نظن أن بان الأرض يتكون من أقطار، وفي كل قطر يوجد نوع (وربما) أنواع محددة من المعادن. فجميع معادن الأرض تخرج من باطنها (أي من أقطارها) باستثناء معدن واحد فقط وهو الحديد الذي أنزله الله إنزالا:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
[7] نحن نظن أن العين هي جزء من الرأس وليست جزءا من الوجه (انظر مقالتنا تحت عنوان لماذا نصلي خمس مرات في اليوم والليلة)، وذلك لأن غسل العينين ليست جزءاً من الاغتسال للصلاة، فالمسلم عندما يقوم للصلاة يغسل وجهه (بما في ذلك فمه وأنفه) ولكنه لا يغسل عيناه. ولو راقبنا قصة يعقوب مع ولده يوسف لوجدنا أن عينا الوالد يعقوب قد ابيضت من الحزن على ولده يوسف:

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
فبياض العينين يعني ذهاب بصرهما بدليل أنه عندما أرسل يوسف قميصه إلى والده وألقاه على وجهه ارتد بصيرا:

فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96)
لذا نحن نظن أن العينين ليست من الوجه لأنه لو كانت العينان من الوجه لذهب بصرهما يوم القيامة عندما تبيض وجوه وتسود وجوه:

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
ففي تلك اللحظة عندما تبيض وجوه المؤمنين لا تذهب أبصارهم لأن عيونهم لا تبيض مع بياض وجوهم لأنها ببساطة ليست من الوجه.

[8] لذا نحن نظن أن الماء المعين هو الماء الذي يخرج من عين الماء:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (30)
[9] ونحن نظن أن الشمس تغرب فيما يشبه العين في الشكل، وإن كانت مختلفة في درجة حرارتها:

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
[10] لو راقبنا الآية الكريمة لوجدنا أن عذاب الجن الذي كان يزغ عن الأمر بالسعير:

وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ
فكيف يكون ذلك؟ لو دققنا لو جدنا أن الجن هي أصلاً مخلوقات من نار، لذا فإن عذابهم يتطلب أكثر من مجرد وجو النار، لذا لما كانت الجن تعمل لسليمان على ذلك القطر الذي يسيل من باطن الأرض، فإنه أقرب إلى المادة البركانية المنصهرة شديدة الحرارة، لذا فإن من كان يزغ عن الأمر من الجن كان عذابه يتم بإلقائه في تلك المادة المنصهرة ذات الحرارة العالية جداً.