مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ (12): باب الشهر


حاولنا في  الجزء السابق من هذه المقالة تسويق فهمنا للتفريق بين مفردتي الريح والرياح كما تجليهما السياقات القرآنية الكثيرة، وكان ذلك بغرض تسليط الضوء على السؤال الذي ربما يطرح بعد قراءة الآية القرآنية الخاصة بريح سليمان:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ                       سبأ (12)
والسؤال هو: لماذا كانت ريح سليمان تجري شهراً بالغدو وآخر بالإياب؟ فما هي المسافة التي يمكن أن تقطعها الريح في فترة شهر كامل؟
وخلصنا إلى تقديم الافتراء الذي هو من عند أنفسنا ومفاده أن الفرق بين الريح والرياح يكمن في القدرة على تميزهما، فالرياح لا تأتي بجديد ويمكن التنبؤ بخبرها من ظاهرها. أما الريح –بالمقابل- فهي تلك التي لا يمكن التنبؤ بما تحمله من ظاهرها، ولابد من وجود العلم بها لمعرفة حقيقتها والخبر الذي تحمله معها.
(للتفصيل انظر الجزء السابق من هذه المقالة)
أما في هذا الجزء، فسنتابع بحثنا للوقوف على معنى مفردة الشهر التي كانت تجري الريح فيه بأمر من سليمان غدواً وتعود إيابا في شهر آخر. لنطرح السؤال الرئيس التالي: ما معنى مفردة الشهر؟
فبعد طرح هذا السؤال وتدارس المفردة قليلاً، خرجنا بتساؤل ربما لم يلقي الكثيرون له بالاً يتعلق بجمع مفردة شهر، فنحن نعرف أن مفردة "شهر" تجمع في العربية على نحو:
1.     أشهر
2.     شهور
عندها طرحنا السؤال على بعض أهل اللغة ليسعفونا بالتفريق بين المفردتين "أشهر" و "شهور"، وعن سبب توافر المفردتين جنباً إلى جنب في اللغة وفي السياقات القرآنية، فكان سؤالنا لهم على النحو التالي: هل هناك فرق بين مفردة أشهر وشهور؟ وإذا كان هناك فرق، فما هو؟
 ولمّا رجعنا بعد البحث – كالعادة – بخفي حنين، وجدنا الضرورة تتطلب منا أن نبحث بأنفسنا في سياقات القرآن الكريم علّنا نستطيع بحول من الله وتوفيق منه أن نستطيع أن نستجلي بعض الفرق بين المفردتين، ولا شك أننا انطلقنا إلى كتاب الله ونحن نحمل العقيدة التي مفادها بأنه لابد من وجود فرق بين المفردتين مادام أنهما وردتا في كتاب الله، ولابد أن كتاب الله يجلي ذلك الفرق بشكل لن يملك معه من يريد الهداية إلا أن يردد في نهاية المطاف قول الحق:
وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)                                                  يونس
وإليك – عزيزي القارئ- ما نظن أن الله قد أذن لنا به من علم عن الفرق بين مفردتي الأشهر والشهور.
أما بعد،
السؤال محرك البحث: ما الفرق بين أشهر وشهور؟
بعد استكشاف السياقات القرآنية كاملة عن المفردتين، وجدنا أن مفردة "أشهر" قد وردت في السياقات القرآنية التالية:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ البقرة 197
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ        البقرة 226
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ            البقرة 234
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ    التوبة 2
فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ التوبة 5
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا                   الطلاق 4
وما وجدنا كلمة شهور قد وردت في كتاب الله إلا في السياق القرآني التالي:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ                                                                           التوبة (36)
وقد قادنا بحثتنا هذا إلى طرح أسئلة لا تقل أهمية عن سابقتها، وشكلت لدينا إرباكاً كبيراً جداً كان لابد من الغوص فيه، لأنها بلا شك تمس جوهر التشريعات والعقائد، نذكر منها على سبيل المثال ما جاء في الآيات الكريمة التالية:
(1)      الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ البقرة 197
السؤال: فهل نحن نحج أشهر؟ وما هي تلك الأشهر؟
(2)      لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ        البقرة (226)
السؤال: هل فعلاً ينتظر الذين يؤلون من نساءهم فترة أربعة أشهر؟
(3)      وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
السؤال: لم تحتاج من يئست من المحيض (والتي من تحض أصلاً) أن تعتد ثلاثة أشهر؟
(4)      وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ                        البقرة 228
السؤال: لماذا جاء الحديث عن انتظار المطلقات بلفظ القروء ولم يأتي بلفظ الأشهر؟
(5)      وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ            البقرة 234
السؤال: وهل فعلا تحتاج من يتوفي عنها زوجها أن تنتظر أربعة أشهر وعشرا؟ لم لا تنتظر ثلاثة قروء كالمطلقة مثلاً؟ ولم لا تنتظر كمن يئست من المحيض (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ)؟ أو لم لا تنتظر أن تضع حملها إن كانت من أولي الأحمال كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية؟   
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
إن هذه التساؤلات تنقلنا إلى قضايا عقائدية عديدة، اختلف أهل العلم فيها كثيراً، فخرجوا للناس بتشريعات غالباً ما كانت متضاربة، والقارئ الكريم مدعو إلى مراجعة كتب الأحكام للنظر في تلك الاختلافات، وأظن أن علماءنا الأجلاء لم يستطيعوا تسويق اختلافاتهم إلا بعد أن أقنعوا العامة بأن في اختلافهم رحمة بالأمة، وأنا لا أعلم من أين سيأتي الخير في الاختلاف، والله نفسه هو الذي شرع لنا هذا الدين وأمرنا أن نقيمه ونهانا عن التفرق فيه:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
فهل يا ترى يمكن أن يكون في شرع الله أكثر من حل واحد لكل حالة من الحالات؟ أو هل يمكن أن يكون هناك أكثر من سبيل إلى الله وهو من أمر نبيه بالدعوة إلى سبيل واحدة:
قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)     
ونهانا عن تتبع السبل حتى لا تتفرق بنا:
وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(دعاء: أسأل الله أن يعلمني سبيله فلا أتبع غيرها إنه هو السميع المجيب).
أما السبب في اختلافهم وبالتالي حصول الفرقة بينهم وانقسامهم شيعاً، كل حزب بما لديهم فرحين:
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
فهو – في رأينا- راجع إلى عدم قدرتهم على فهم المفردات كما يجب، وبالتالي الخروج للناس بالاستنباطات التي لا يمكن الاختلاف فيها. وهذا ما سنحاول النبش فيه من خلال تعرضنا لمفردة الشهر التي جاءت في الآية الكريمة التي تحدثت عن ريح سليمان.
أما بعد
لقد سببت الآية الكريمة التالية لنا الإرباك الذي دفعنا للخوض في هذه القضايا، وسنقدم للقارئ الكريم الآية ألا ولى لنطرح عليه بعد ذلك جملة من التساؤلات:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ            البقرة 234
تساؤلات
-        ما معنى التربص؟ فكيف تتربص من يتوفى عنها زوجها بنفسها؟
-        كيف يختلف تربص المرأة بنفسها عن العدة التي تعتدها؟
-        لماذا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وليس ثلاثة أشهر أو حتى ثلاثة قروء كما في الحالات الأخرى؟
-        وما الفائدة من الزيادة في العشر؟ لماذا أربعة أشهر وعشرا؟ لم لم تكن أربعة أشهر وكفى؟
-        الخ.                       
الطرح
لقد أجاءنا الإرباك الأكبر عندما قرأنا في هذه الآية الكريمة وحاولنا حساب الفترة الزمنية التي تتربص بها المرأة بنفسها في قوله تعالى:
          وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا...
عندها طرحنا السؤال التالي: ما المحذوف المقدّر بعد الرقم " وَعَشْرًا...؟ هل هي عشرة أيام أم عشر ليال أم عشرة أشهر، أم عشر سنين، الخ؟
وعندما رجعنا إلى ما قاله أهل الدراية وما نقله عنهم أهل الرواية وجدنا لب قولهم يدور حول ما ذكره ابن كثير في تفسيره:
هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها فترددوا إليه مرارا في ذلك فقال أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه : لها الصداق كاملا وفي لفظ لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد الله بذلك فرحا شديدا وفي رواية فقام رجال من أشجع فقالوا : نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به في بروع بنت واشق . ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله" وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع أو أربعة أشهر وعشرا للجمع بين الآيتين وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته وفي رواية فوضعت حملها بعده بليال فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها : ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح ؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشرا . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي قال أبو عمر بن عبد البر : وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة يعني لما احتج عليه به قال ويصحح ذلك عنه أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة . وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة فإن عدتها على النصف من عدة الحرة شهران وخمس ليال على قول الجمهور لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد فكذلك فلتكن على النصف منها في العدة . ومن العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية . ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة وقد ذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا لاحتمال اشتمال الرحم على حمل فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودا كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما" إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح" فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه والله أعلم . قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة سألت سعيد بن المسيب ما بال العشرة ؟ قال : فيه ينفخ الروح وقال الربيع بن أنس : قلت لأبي العالية لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال : لأن ينفخ فيه الروح رواهما ابن جرير ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا لأنها صارت فراشا كالحرائر وللحديث الذي رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص أنه قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا : عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا . ورواه أبو داود عن قتيبة عن غندر وعن ابن المثنى عن عبد الأعلى وابن ماجه عن علي بن محمد عن الربيع ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة عن مطر الوراق عن رجاء بن حيوة عن قبيصة عن عمرو بن العاص فذكره وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث وقيل إن قبيصة لم يسمع عمرا وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف منهم سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وأبو عياض والزهري وعمر بن عبد العزيز وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان وهو أمير المؤمنين وبه يقول الأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه وقال طاوس وقتادة : عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح بن حيي تعتد بثلاث حيض وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي وقال : مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه عدتها حيضة وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور قال الليث : ولو مات وهي حائض أجزأتها وقال مالك : فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر وقال الشافعي والجمهور : شهر وثلاثة أحب إلي والله أعلم . وقوله " فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير " يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها لما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " وفي الصحيحين أيضا عن أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال " لا " كل ذلك يقول لا مرتين أو ثلاثا ثم قال " إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة " قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ومن هاهنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " الآية . كما قاله ابن عباس وغيره وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره . والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدا ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدا وهل يجب في عدة البائن فيه قولان : ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن سواء في ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة والمسلمة والكافرة لعموم الآية . وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا إحداد على الكافرة وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك وحجة قائل هذه المقالة قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " قالوا : فجعله تعبدا وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها لعدم التكليف وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع والله الموفق للصواب . وقوله " فإذا بلغن أجلهن " أي انقضت عدتهن قاله الضحاك والربيع بن أنس" فلا جناح عليكم " قال : الزهري أي على أوليائها" فيما فعلن " يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن قال الوني عن ابن عباس إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف وروي عن مقاتل بن حيان نحوه وقال ابن جريج عن مجاهد " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " قال النكاح الحلال الطيب وروي عن الحسن والزهري والسدي نحو ذلك

ولمّا كان ما جاء في أقوالهم لا يتعرض بالتفصيل لهذه الجزئية، وهم يمرون عليها مروراً عابراً لا يجلب انتباه القارئ لتفسيراتهم، ظننا أن لسان حالهم ويكأنه يتراوح بين قولين:
1.     أن هذا أمر محسوم، فقولنا (أي أهل الدراية) صحيح لا يحتاج إلى الخوض فيه أكثر، أو
2.     أن هذه جزئية لا يجلب البحث فيها الخير الكثير ولا يدفع تركها شراً عظيما، فما الداعي للنبش فيها أكثر من ذلك
إن أخطر ما أخشاه أن يصدق بعض ظني في سلوك بعض علمائنا الأجلاء في أنهم يبدون للناس ما يريدون ويخفون عنهم ما لا يريدون أن يظهروه لهم، كما كان سلوك بعض علماء أهل الكتاب:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ                                الأنعام (91)
(للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالاتنا تحت سلسلة والعلماء هم الظالمون)
أما نحن لما ظننا أن علماءنا الأجلاء لا يقدّمون لنا في كتاباتهم الدليل من كتاب الله على ما يزعمون من قول، وجدنا أن الضرورة تستدعي أن نضع هذا السؤال على طاولة البحث لأننا نعتقد جازمين أن تجليته ستجلب خيراً كثيراً وستدفع شراً كبيرا، لذا نبتدئ حديثنا حول هذا الموضوع بالخبر المفترى من عند أنفسنا التالي: كل ما جاء في كتب الأحكام من تفسيرات واجتهادات حول هذه الآية الكريمة لا يدعمه الدليل من كتاب الله.
تبريرات
1.     لم نجد في مؤلفاتهم تعليلاً عن سبب أنهم افترضوا أن المفردة المقدرة في الآية الكريمة بعد الرقم "وعشرا" هي أيام، فبعضهم قال أيام وبعضهم قال ليال، ويكأنهم لا يميزون بين اليوم والليلة، أو كأن لسان حالهم يقول: وما الفرق في أن تكون أياماً أو أن تكون ليال؟ وسنرى لاحقاً بحول الله وتوفيقه أن النص القرآني يميز بشكل لا لبس فيه بين اليوم من جهة والليلة من جهة أخرى، فاليوم هو يوم والليلة هي ليلة ولا يجب الخلط بينهما لمن أراد الفهم.
2.     جاء معظم حديثهم عن هذه الآية الكريمة على أنه حديث عن العدة التي تعتدها المرأة، في حين أن الآية الكريمة – كما نقرأها- لم تذكر العدة إطلاقاً، وإنما هي تتحدث عن التربص فقط (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، لذا نحن نظن أنهم يخلطون بين التربص التي تتحدث عنه الآية الكريمة نفسها:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ            البقرة 234
والعدة التي جاء ذكرها في سياقات قرآنية أخرى:
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
وسنرى لاحقاً (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) أن العدة شيء والتربص شيء آخر مختلف تماماً. ولا يجب الخلط بينهما لمن أراد أن يفهم.
3.     لم نجد في كتاباتهم تميزاً يبين الاختلاف في الفترة الزمنية بين فترة التربص والتي هي (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) والعدة  التي هي (ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) في حالة اللائي يسن من المحيض واللائي لم يحضن ووضع الحمل في حالة أولات الأحمال. فلماذا كانت الفترة الزمنية مختلفة في كل حالة من هذه الحالات؟
4.     الخ

السؤال: لو قارنا بين آية العدة وآية التربص لوجدنا أن الفترة الزمنية في العدة حسب الآية الكريمة التي تتحدث عن العدة هي ثلاث أشهر فقط  (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) بينما جاءت الفترة الزمنية في حالة التربص على أنها "أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"، فلماذا؟
جواب: لمّا لم نجد عند من سبقنا تفريقاً بين الحالتين، ولما لم نجد تفصيلاً عن سبب وجود الزيادة "وَعَشْرًا ..." في حالة التربص وعدم وجود مثل هذه الزيادة في حالة العدة، دعانا هذا كله أن نبحث من جديد في مفردات هذه الآيات الكريمة تاركين وراءنا موروثاتنا العقائدية التشريعية التي نظن أنها غير قادرة على الإجابة على تساؤلات كثيرة مثل التي نطرحها هنا، والاهم من ذلك كله هو أن الشك عندنا بدأ يميل إلى اليقين في أنهم مخطئون جميعاً في تصوراتهم وذلك لأننا لا نجد أن أصحاب الآراء المطروحة يقدمون الدليل من كتاب الله على كل رأي يطرحونه.

أما بعد،
السؤال الأول: ما المقدر بعد العدد "وَعَشْرًا..." في الآية الكريمة التي تتحدث عن تربص النساء بأنفسهن؟ فهل هي فعلاً أيام أم ليال أم أشهر أم سنوات أم ربما ساعات، الخ؟
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ            البقرة 234
رأيهم: لعل أهل العلم قد أجمعوا أمرهم على أنها أيام أو ليال. فهم يظنون أن المرأة التي يتوفي عنها زوجها تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرة أيام (أو ليال)، أليس كذلك؟ (انظر ما جاء في تفسير ابن كثير سابقاً).
رأينا: ذلك لا يمكن أن يصح لأن المحذوف – في ظننا- هو من جنس المقدر منه، لذا نحن نتجرأ أن نقدم الافتراء التالي الذي هو بلا شك من عند أنفسنا: المرأة التي يتوفي عنها زوجها تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرة أشهر، ليصبح المجموع أربعة عشر (أشهراً).
ولكن كيف يصح ذلك؟ ما الذي تقوله يا رجل؟ ألا ترى أنك تهذي؟ فكيف ستتربص المرأة بنفسها كل هذه الفترة الطويلة من الزمن؟
الدليل
لابد لنا أولاً من أن نستكشف القرآن الكريم في قضية تقدير العدد في الآيات التي جاء فيها حذف واضح لرقم مقدّر، فلربما يبين لنا كيفية تقرير المحذوف فيها جميعاً، وإليك عزيزي القارئ بعض هذه السياقات القرآنية:
1. لو رجعنا إلى الآية الكريمة التي تتحدث عن أهل الكهف، لوجدنا أن هناك تركيباً مشابهاً حيث يوجد رقم مقدر، قال تعالى:
          وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا                            الكهف (25)
لنطرح بعدها السؤال التالي: ما هو المقدر بعد العدد "تِسْعًا
جواب: لم يختلف أهل العلم أن المقدر هنا هو السنين لأن الحديث (كما جهدوا في تسويقه للعامة) جاء عن مفردة السنين، فما دام أن الحديث جار عن السنين، فإن المحذوف (في رأي العامة وأهل العلم أنفسهم) هو مفردة السنين نفسها، لذا فإن القوم قد لبثوا في كهفهم ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (أي سنين)، أليس كذلك؟
فهل- يا ترى- خرج علينا أحد من أهل العلم ليقول لنا أن القوم لبثوا في كهفهم ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (أي أشهر أو أيام أو ليال)؟ من يدري!!!
2. ولو استعرضنا السياق القرآني التالي لتعززت الفكرة نفسها:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ                                                         البقرة (196)
3. وعند استعراض السياق القرآني التالي نجد لزاماً أن يكون المحذوف المقدر من جنس المتحدث عنه في السياق نفسه:
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
فالمقدر هو سنين لأن الحديث جار عن السنين.
ولو دققنا في النص أكثر لوجدنا أنه عندما أصبح المقصود شيئاً غير السنين (محور الحديث) جاء الخطاب بصريح لفظ آخر وهي مفردة العام في الآية التي تبعت هذا السياق القرآني:
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
لنخلص إلى نتيجة مفتراة من عند أنفسنا مفادها أنه عندما يكون المحذوف المقدر من غير جنس المقدر منه (محور الحديث) يصبح لزاماً أن يأتي ذكره صريحاً كما في قوله تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
لاحظ – عزيزي القارئ- كيف جاء اللفظ صريحاً عندما اختلفت القيمة، فالمعنى لا يتغير – نحن نظن- إلا بتغير اللفظ.
(للتفصيل في هذه القضية انظر مقالتنا تحت عنوان: كم لبث نوح في قومه؟)
السؤال: لِم لَم يختلف سادتنا العلماء الأجلاء بأن المقدر في آية أهل الكهف هي سنين؟ لم لا يقبلون أن يكون المقدر أشهراً أو أياماً أو ليال أو حتى ساعات؟
ولم لم يشك علماؤنا الأجلاء أن المقدر في حالة يوسف هي سبع سنين؟ لم لا يقبلون أن يكون أشهر أو أياماً أو حتى أعواماً (مادام أن السنة والعام متقاربان زمنياً على الأقل)؟
ولم لا يشكك سادتنا العلماء أن الصوم في الحج هو ثلاثة أيام وعند الرجوع هي سبعة أيام أيضاً بالرغم أن المفردة مقدرة تقديراً ولم تأتي بصريح اللفظ؟
ولكن بالمقابل، لم يظن سادتنا العلماء الأجلاء (نحن نتساءل فقط) أن المقدر هو أيام أو ليال عند الحديث عن آية التربص بالرغم أن الحديث جار أصلاً عن الأشهر؟
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ            البقرة 234
رأينا المفترى: نحن نظن أن سادتنا العلماء (مع خالص تقديرنا واحترامنا لهم) يقرؤون ما في رؤوسهم فقط ولا يتّبعون ما جاء في كتاب الله، إنهم يخضعون ما جاء في كتاب الله لعقائدهم ولا يخضعون عقائدهم لما جاء في كتاب الله، وهم – برأينا- ينقلون عربيتهم (على علاّتها) إلى كتاب الله، ولا ينقلون ما في كتاب الله (بصحته المطلقة) إلى عربيتهم، وشتان بين هذا وذاك؟
أما نحن الذين ما انفككنا عن الإيمان اليقيني أن العقيدة الصحيحة هي التي تخض للنص القرآني وليس العكس، فدعنا نعود إلى آية التربص محور نقاشنا هنا لنطبق منطقنا المفترى بأن المحذوف من جنس المتحدث عنه في السياق القرآني نفسه، فإذا كان الحديث جار عن سنين وجاء شيء محذوف في هذا السياق فإن المحذوف هو أيضاً سنين كما في حالة أهل الكهف أو سنين يوسف الشداد، وإذا كان الحديث جار عن الأيام فإن المحذوف هو من نفس الزمن كما في حالة الصيام بعد الرجوع من الحج. وإذا كان الحديث جار عن أشهر فإن المحذوف هو من نفس جنسه كما في آية التربص محور نقاشنا هنا:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ            البقرة 234
ليصبح لزاما علينا أن نفتري الظن بأن النساء هنا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا (أي أشهر) ليكون المجموع أربعة عشر (أشهرا)ً، ونحن لا نظن أن هذا ممكن إلا بشرط أن نخضع عربيتنا إلى لفظ القرآن الكريم وليس العكس، فالقرآن الكريم لا يحاكم بناء على لغتنا التي ورثناها عن آباءنا لأننا نعتقد أن في عربيتنا الموروثة عن الآباء من البلاء ما لا يصح أن ينقل إلى اللفظ القرآني. ولكن كيف؟
أولا، يجب أن لا ننسى أن نذكر القارئ الكريم بأن النص القرآني في الآية الكريمة محور النقاش تتحدث عن فترة التربص وليس عن العدة (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، والتي غالباً ما تم الخلط بينهما عند العامة وربما أهل العلم والدراية، لذا نتجرأ أن نذكر سادتنا العلماء بتحري الدقة في التمييز بين الحالتين.
نتيجة مفتراة: النساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن يتربصن (وليس يعتدن) بأنفسهن أربعة عشر (أشهرا).
(وهذا ما سنتعرض له لاحقاً بحول من الله وتوفيقه)
ثانياً، عندما نبدأ بإلقاء الشك على عربيتنا الموروثة عن آباءنا وأجدادنا، يصبح لزاماً علينا أن نطرح بعدها السؤال الحاسم التالي: هل هي "أشهر أم شهور"؟ أي هل تتربص النساء بأنفسهن أربعة أشهر أم أربعة شهور؟
جواب: نحن نظن أنها أشهر وليست شهور.
سؤال: وما الفرق؟
رأينا: لو استطعنا أن نستجلي الفرق بين مفردتي الأشهر والشهور، لربما استطعنا أن نحسب فترة التربص تلك بكل سهولة ويسر بحول الله وتوفيقه (لذا فالله أسأل أن يأذن لنا بعلم لا ينبغي لغيرنا إنه هو السميع المجيب)
أما بعد
افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: نحن نظن أن هناك سياقات قرآنية تدلّنا على أن مفردة الأشهر قد لا تدل على الدوام على الفترة المتعارف عليها عند الناس والتي هي ما يقرب من الثلاثين يوماً لكل شهر، فالناس قد جبلوا على الفهم بأن الشهر هو حوالي ثلاثين يوماً، أليس كذلك؟ ولكن لما كانت منهجيتنا تتلخص باستنباط معاني المفردات من الكتاب نفسه، فلابد أن نتأكد من صحة هذه المعلومة التي نظن أنها شعبية (أي مما ألفنا عليه آباءنا)، ويمكننا أن نلقي بظلال الشك على هذا الفكر الشعبي السائد عن معنى مفردة الشهر إن نحن حاولنا أن نقرأ الآية الكريمة التالية بشيء من التدبر، لنطرح بعدها جملة من التساؤلات التي لا يجب أن يغفل عنها أهل العلم بأي حال من الأحوال لأنها ببساطة تمس جوهر العقائد والتشريعات التي نقوم بها، قال تعالى:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ البقرة 197
التساؤلات:
-        ألا تذكر الآية الكريمة أن الحج عبارة عن أشهر معلومات (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ)؟ فهل فعلاً نحج نحن أشهراً معلومات بمعنى الأشهر المتعارف عليها بين الناس؟ وهل يجوز الحج في كل تلك الأشهر؟ ولماذا يتم الحج في وقت محدد من العام إذن؟ وماذا عن العشرة الأوائل من ذي الحجة؟ هل يجوز الحج خلال أشهر الحج في غير هذه الأيام العشرة الأولى من ذي الحجة؟ من يدري!!!
-        وماذا عن الفترة الزمنية التي نؤدي فيها شعائر الحج؟ هل نؤدي شعائر الحج طيلة أشهر الحج كلها؟ وماذا عن الحديث الذي ينقلوه لنا بأن الحج عرفة؟ وماذا عن شهر ذي الحجة نفسه؟ أليس هو من أشهر الحج؟ فلماذا ينتهي الحج في اليوم العاشر من ذي الحجة؟ من يدري!!!
-        وماذا عن تتمة الآية الكريمة؟ فماذا عن الرفث على وجه الخصوص؟ لم نرفث إلى نساءنا في تلك الأشهر ولا نتوقف عن ذلك إلا في وقت الإحرام التي قد لا تتجاوز بضعة أيام وليال؟ ألا ينهانا الله عن الرفث في تلك الأشهر جميعها (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)؟ فهل يجب على من فرض فيهن الحج أن لا يرفث إلى نساءه طلية تلك الأشهر الحرم كاملة؟ فلم يحق للحاج الرفث للنساء قبل الإحرام وهو لا شك في أشهر الحج؟ ولم يحق له (كما يرخص لهم علماؤنا) الرفث إلى نساءهم بعد التحلل من الإحرام مباشرة بالرغم أنهم لازالوا في أشهر الحج؟ ألا تعتبر تلك مخالفة فاضحة لصريح اللفظ القرآني؟ فكيف - يا ترى- ينهانا الله عن الرفث في أشهر الحج، وها نحن نرفث إلى نسائنا طوال أشهر الحج ولا نتوقف عن ذلك إلا في مرحلة الإحرام، وما أن نتحلل من الإحرام حتى نعود إلى الرفث إلى نسائنا، مع العلم أن الوقت لا زال ضمن أشهر الحج نفسها التي نهانا الله عن الرفث إلى نسائنا فيهن (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ")؟ من يدري!!!
-        وماذا عن الفسوق والجدال؟ هل يفسد ذلك حجنا إن نحن فعلناه قبل الأول من ذي الحجة أو بعد العاشر من ذي الحجة مثلاً؟ وماذا عن  الجدال قبل وبعد التحلل من الإحرام، هل يفسد ذلك الحج بأكمله؟ ألا نزال في أشهر الحج بالرغم من التحلل من الإحرام؟ ألا تعتبر تلك مخالفة فاضحة لصريح اللفظ القرآني؟ من يدري!!!
رأينا: كلا وألف كلا. لابد من طرح الملف بأكمله للنقاش من جديد شريطة الوقوف عند ألفاظ القرآن الكريم بعد تجلية معانيها كما يبيّنها النص القرآني نفسه، وليس كما نحب ونشتهي أو كما ألفينا عليه آباءنا (ولو كانوا لا يعقلون شيئا).
أما بعد
الرفث
لنبدأ النقاش بالنبش في قضية الرفث نفسها في شهر رمضان ثم نحاول أن نقارن ذلك بالرفث في أشهر الحج.
نحن نعلم من صريح اللفظ القرآني أنّ الرفث فيه إقامة علاقة جنسية مع النساء، فالله قد نهانا عن الرفث إلى النساء في يوم الصيام ولكنّه أحلّه لنا في ليلة الصيام:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
ولكن الله نهانا عن الرفث في الحج سواء كان ذلك في ليلة الحج أو في يوم الحج:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
لذا، فإن النهي عن الرفث في الحج جاء للفترة الزمنية كاملة ليلها ونهارها (أو بكلمات أكثر دقة في اليوم والليلة)، وهنا يجب مراقبة دقة الألفاظ، فنحن - بناء على ما وجدنا في كتاب الله- نميز بين مفردات ثلاث هي: اليوم، الليلة، النهار. وهو ما سنتحدث عنه بعد قليل بحول الله وتوفيقه للتفريق بين هذه المفردات التي يستخدمها كثير من الناس بطريقة تتعارض مع منطوق الآيات القرآنية.
إن هذا المعلومة على وجه التحديد هي ما دفعنا إلى العودة من جديد للبحث عن معنى مفردة "الشهر" نفسها؟ لنطرح التساؤلات التالية:
-        ما معنى كلمة شهر؟ من أين جاءت؟ وكيف تستخدم؟
-        لم نعت الله الحج بأنه أيام معدودات بالرغم أننا نصوم رمضان شهراً كاملاً (حوالي ثلاثين يوماً)؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
-        لِمَ نتوقف عن الرفث إلى نسائنا في يوم رمضان؟ لِمَ أحلّ الله لنا الرفث إلى نسائنا في ليلة الصيام؟
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
-        لماذا قال الله عن الحج أنه أشهر معلومات بالرغم أن فترة الحج لا تتجاوز أكثر من بضعة أيام وليال؟ ما هي أشهر الحج أصلاً؟
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
-        ولم طلب الله منا أن نذكر الله في أيام الحج وليس في أشهر الحج؟
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
-        متى نتوقف عن الرفث إلى نساءنا في الحج ومتى نعود إلى ذلك؟
-        لِمَ نهانا الله عن الرفث إلى نسائنا طلية أشهر الحج في اليوم وفي الليل؟ لِمَ لا يكون النهي (كما في رمضان) في اليوم فقط فقط؟
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
-        الخ



افتراءات من عند أنفسنا
أولاً، لابد أن نتدبر لِم يختلف الرفث إلى النساء في رمضان عن الرفث إلى النساء في الحج بالرغم أن رمضان والحج هي جميعها أركان الدين. كما يجب علينا أن نتدبر في السبب في أننا منعنا عن الرفث إلى نسائنا في يوم رمضان وليس في ليل رمضان بالرغم أن رمضان في نهاية المطاف شهر واحد.
تفنيد الفكر السائد
لو سالت علماءنا الأجلاء عن السبب الذي من أجله أحل الله لنا الرفث إلى نساءنا في ليل رمضان، لربما وجدتهم يتعللون على الفور بما جاء في الآية الكريمة نفسها والذي يخص عدم طاقة الرجال الصبر على ذلك طوال شهر كامل:
          عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
ولكن لو حاولنا تعدية السؤال إلى الحج، فهل - يا ترى - يمكن أن يطيق الرجال التوقف عن الرفث إلى النساء فترة أشهر الحج الأربعة كاملة وهم الذين لم يطيقوا ذلك لمدة شهر واحد في رمضان؟ أليس الله الذي علم أنهم لا يطيقون التوقف عن الرفث إلى نسائهم طيلة شهر رمضان هو نفسه الذي منعهم عن الرفث إلى نسائهم طيلة فترة الحج؟ فلم – يا ترى- جاءت الرخصة الإلهية للناس بالرفث إلى نسائهم ليلة الصيام؟
جواب: لأن الله علم أنهم يختانون أنفسهم، فرخص لهم الرفث إلى نسائهم في ليل الصيام ومنعهم عن ذلك في يوم الصيام:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
وبالمشابهة، ألم يعلم الله أن الرجال لا يطيقون التوقف عن الرفث إلى نسائهم طيلة أشهر الحج مجتمعة؟ لم إذن لم يرخص لهم الرفث إلى النساء في ليل الحج ويمنعهم عنه في يوم الحج (كما في رمضان)؟
رأينا: نحن نفتري الظن أن الحاجة ملحة لإعادة النظر في مفردة أشهر الحج، لنتعرف من خلالها على الفترة الزمنية التي منع منها الرجال من الرفث إلى نسائهم في أشهر الحج لمن فرض فيهن الحج:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
أما بعد،
لا يتوقف الخلط في الفهم عند العامة وأهل العلم على حد سواء عند مفردة الشهر بل تتجاوزها إلى مفردات أخرى تخص الزمن ربما يصعب الفهم العام دون التعرض لها بالتفصيل نذكر منها على سبيل المثال مفردات مثل اليوم والليلة والنهار، لنطرح الأسئلة التالية:
-        ما هو اليوم؟
-        ما هي الليلة؟
-        ما هو النهار؟
-        كيف يختلف اليوم عن النهار؟
لنخلص بعد ذلك إلى التفريق بينها من جهة ومفردة الشهر من جهة أخرى، لنطرح بعدها التساؤلات التالية:
-        ما هو الشهر؟
-        ما الفرق بين الشهر واليوم والليلة والنهار؟
-        ما الفرق بين الأشهر والشهور؟
-        الخ.
السؤال الأول: ما هو اليوم؟ وما الفرق بين اليوم والليلة؟
رأينا: نحن نظن أن مفردة اليوم لا تعني في النص القرآني فترة الأربع والعشرين ساعة كاملة كما يستخدمها كثير من الناس في حياتهم اليومية. فغالباً ما ظن الكثيرون أن الحديث عن اليوم يعني فترة الأربع والعشرين ساعة ; كاملة. لذا عندما يقرؤون آية في كتاب الله يذكر فيها مفردة اليوم، تطير أذهانهم إلى ما تناقلوه عن المفردة عن السِنة آباءهم، فهم بذلك ينقلون عربيتهم (على علاّتها) إلى كتاب الله، ويفسرون آيات الكتاب الكريم بناء على تلك الأفهام المغلوطة، وهذا من البلاء الذي أصاب الأمة وربما منع أهل العلم من الخروج باستنباطات صحيحة من كتاب الله. أما نحن فتتلخص منهجيتنا بعكس الصورة تماماً وبالتالي الإقرار أن في عربيتنا من العيوب الكثيرة التي لا يجوز أن ننقلها إلى كتاب الله (وبالتالي نحاكم كتاب الله بناء على أفهام مغلوطة ورثناها عن آباءنا)، بل لا بد من تهذيب تلك الأفهام وذلك بإسقاط ما في كتاب الله على عربيتنا، فما يقره كتاب الله هو الحقيقة التي لا يجب المماطلة فيها.
وعند تطبيق هذه المنهجية في تحليل مفردة اليوم في النص القرآني وجدنا أن المفردة تدل فقط على ذلك الجزء من الوقت الذي نصوم فيه، فاليوم ليس أكثر من فترة الصيام في مرة واحدة، والفترة تبدأ عندما يتبين الخيط الأبيض من الأسود من الفجر (أي تقريباً عند رفع الآذان لصلاة الفجر) وتنتهي عند الليل مع مغيب الشمس (أي تقريبا صلاة المغرب)، فالصيام بنص الآيات الكريمة التالية هو بكل تأكيد أياما معدودات، فنحن نصوم اليوم، ولا نصوم أربعة وعشرين ساعة متتابعة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
ولو دققنا النظر أكثر في هذه الآية الكريمة لوجدنا أن الآية الكريمة تثبت لنا بأن الصيام (فعل الامتناع عن الأكل والشرب والرفث إلى النساء) ليس شهراً وإنما هو أيام معدودات، الأمر الذي يدعونا إلى التمييز بين أمرين اثنين وهما:
1.     أن رمضان هو شهر
2.     بينما الصيام أيام معدودات
السؤال: إذا كان رمضان هو شهر كامل، فلِم يخبرنا الله أن الصيام أيام معدودات؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الصيام هو فعل الكف عن الأكل والشرب والرفث إلى النساء مصداقاً لقوله تعالى:
          ... ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ...
أما رمضان فهو ليس أكثر من اسم لذلك الشهر الذي يحتوي على أيام الصيام:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)[1]
وبذلك يكون الصيام أياما معدودات لأننا لا نصوم الأربعة والعشرين ساعة متتابعة، وإنما نصوم فقط تلك الفترة من الزمن التي نتوقف فيها عن تناول الطعام والشراب والرفث إلى النساء وهي ما يطلق عليه باللفظ القرآني اليوم. وبذلك نكون قد أتممنا الصيام إلى الليل:
... ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ...
وما أن يقدم الليل حتى يصبح من حقنا أن نأكل ونشرب ونرفث إلى النساء:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ                                                    البقرة (187)
افتراء من عند أنفسنا: نحن نزعم القول أنه من الاستحالة بمكان أن تكون مفردة اليوم دالة على فترة الأربع والعشرين ساعة كاملة لأن ذلك سيشكل معضلة كبيرة جداً في تطبيق الأمر الإلهي الذي تنص عليه الآيات الكريمة التالية:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
السؤال: إذا كانت مفردة اليوم تعني (كما يظن الكثيرون) أنها تدل على الأربع والعشرين ساعة كاملة، فكيف سنصوم ثلاثة أيام في الحج (أي 3 × 24 = 27 ساعة متتابعة)؟ وإن قدرنا على ذلك، فهل سنقدر على صيام سبعة أيام بعد الرجوع من الحج (أي 7× 24 = 168 ساعة متتابعة)؟ من يدري!!!
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن "اليوم" ليس أكثر من الفترة الزمنية التي يطلب من المسلم فيه الكف عن الطعام والشراب والرفث إلى النساء عند القيام بفعل الصيام، ويتوقف اليوم عند قدوم الليل التي يصبح المسلم مرخصاً له فيه القيام بهذه الأفعال.
اليوم
الفترة الزمنية التي لا نأكل ولا نشرب ولا نرفث إلى النساء فيها (وهي تبدأ عند رفع آذان الفجر وتستمر حتى رفع آذان المغرب)

الليلة
تلك الفترة من الزمن التي يحق لنا أن نأكل ونشرب ونرفث إلى النساء فيها وهي تبدأ من رفع آذن المغرب وتستمر حتى رفع آذان الفجر

السؤال قيد البحث لاحقاً: إذا كنا نعرف أن هناك دورة كاملة من أربع وعشرين ساعة في اليوم والليلة، وإذا كان اليوم يشكل جزء منها (فترة الصيام بالامتناع عن الأكل والشرب والرفث إلى النساء) والليلة (فترة الرخصة بالأكل والشرب والرفث إلى النساء) تكمل الجزء المتبقي منها، فما المفردة التي يمكن أن نستخدمها لتدل على دورة الأربع والعشرين ساعة كاملة؟ من يدري!!!

السؤال الثاني؟ ما هو النهار؟ وما الفرق بين النهار واليوم؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن هناك فرق كبير بين اليوم والنهار، فالنهار يبدأ مع شروق الشمس وينتهي عند غيابها، وذلك لأن النهار مبصرا:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
ولكن الليل هو من يسدل الغشاوة فيذهب بذلك الإبصار الذي كان موجوداً في النهار:
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
وفي الوقت الذي يكون الليل يسدل الغشاوة يكون النهار في حركة انسلاخ:
          وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
والنهار يعاكس الليل (كما يعاكس الحي الميت) لأنّ كل منهما يحل محل الآخر، ويتم ذلك بطريقة الإيلاج:
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
اليوم
الفترة الزمنية التي لا نأكل ولا نشرب ولا نرفث إلى النساء فيها (وهي تبدأ عند رفع آذان الفجر وتستمر حتى رفع آذان المغرب)
الليلة
تلك الفترة من الزمن التي يحق لنا أن نأكل ونشرب ونرفث إلى النساء فيها وهي تبدأ من رفع آذن المغرب وتستمر حتى رفع آذان الفجر
النهار
الفترة الزمنية من طلوع الشمس حتى غيابها

السؤال قيد البحث الآن: إذا كنا نعرف أن هناك دورة كاملة من أربع وعشرين ساعة في النهار والليل معاً، وإذا كان النهار يشكل جزء منها (فترة طلوع الشمس إلى غروبها) والليل (فترة غروب الشمس إلى طلوعها) يكمل الجزء المتبقي منها، فما المفردة التي يمكن أن نستخدمها لتدل على دورة الأربع والعشرين ساعة كاملة؟ من يدري!!!
افتراء خطير جداً من عند أنفسنا: إننا نظن أن دورة الأربع والعشرين ساعة (التي يشكلها اليوم والليلة معاً أو النهار والليل معاً) هي ما يمكن أن نسميه – افتراء من عند أنفسنا- شهرا.
السؤال: ما معنى مفردة "شهر"؟ وكيف تستخدم تلك المفردة؟
رأينا: نحن نظن أن مفردة شهر هي مفردة جامدة بعض الشيء في الاشتقاق، ولكن يمكن أن نربطها بمفردات مثل الاشتهار، والشهرة، والتشهير، والمشهور، والشاهر، والمشاهير، الخ. فلماذا؟
رأينا: إننا نظن أن "فعل الاشتهار" لا يتم إلا بظهور متكرر لصاحب الشهرة، وأظن أن أهم ما يميز الشهرة هو تكرار حصول الفعل. لذا نحن نفتري الظن أن مفردة الشهر تدل على حدث دائم متكرر، ومادام أننا نتحدث في هذا السياق عن زمن فإن تكرار حدوث ذلك الزمن يشكّل ما يشبه "دورة كاملة" (أي كالدائرة)، فالحدث يبدأ من نقطة ويتحرك في مسار ثابت (بغض النظر عن المسافة الزمنية التي يقطعها) ليعود إلى النقطة نفسها، وهذا - في رأينا - ما يمكن أن نطلق عليه – افتراء من عند أنفسنا- لفظة الشهر.
فالنساء يتحدثن عن الدورة الشهرية بالرغم أنها لا تكون في الغالب ثلاثين يوماً (إلا أنها بلا شك حدث متكرر على الدوام)، وفي منزلنا شجرة ليمون شهرية لا يتساقط ثمرها ولا يتجدد بعد اليوم الثلاثين مباشرة (إلا أن إنتاجها دائم متكرر)، ونحن نستلم راتبنا الشهري في السابع والعشرين من الشهر (فهو حدث دائم متكرر)، وهكذا. إن مراد قولنا هنا هو أن ما يميز كل فعل شهري هو أنه متكرر متجدد بنفس الوتيرة.
الدليل
لقد حدد الله لنا الزمن باستخدام كينونتين طبيعيتين هما الشمس والقمر، أليس كذلك؟
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ                            يونس (5)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا                 الإسراء (12)
النتيجة: الشمس والقمر هما الكينونتان اللتان جعلهما الله لنا لنعلم عدد السنين والحساب.
السؤال: كيف يمكن أن نعلم عدد السنين والحساب من خلالهما؟
جواب: لو تدبرنا حركة الشمس وحركة القمر في تحديد الزمن لوجدنا أن كل منهما يسبح في فلك، وبعد البحث عن هذه المعلومة في كتاب الله لم نجد أن هناك كينونات تسبح في فلك إلا الشمس والقمر حيث ارتبط بهما الليل والنهار:
          وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
          لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
نتيجة: الشمس والقمر هما الكينونتان الوحيدتان اللتان تسبحان في فلك، ويصاحبهما في ذلك الليل والنهار، مما يدعونا إلى طرح التساؤلات التالية:
-        ما هو الفلك أصلاً؟ وكيف تتم السباحة فيه؟
-        ما هو فلك الشمس؟ وكيف تسبح الشمس فيه؟
-        ما هو فلك القمر؟ وكيف يسبح القمر فيه؟
-        ما الفرق بين فلك الشمس وفلك القمر؟ وكيف تختلف سباحة الشمس عن سباحة القمر؟
-        كيف يساعدنا فهم ذلك في معرفة الزمن؟
-        الخ.
افتراءات من عند أنفسنا
1.     الفلك: نحن نظن أن الفلك هو ما يشبه شكل الدائرة (وليس بالضرورة التطابق) بغض النظر عن الحجم:
                                                                                       circle,grey,round                     circle,grey,round                                                                                                                                                                                                                                                                    Source: http://findicons.com/icon/69400/circle_grey?id=332952


2.     السباحة: لا يرد "فعل السباحة" في كتاب الله إلا بلفظ (يَسْبَحُونَ) ولا يتلازم هذا اللفظ إلا مع الشمس والقمر والليل والنهار:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ              الأنبياء (33)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ         يس (40)
نتيجة مفتراة: الشمس والقمر والليل والنهار هي فقط ما تقوم بفعل السباحة التي لا تتم إلا في فَلَك. فكيف تتم السباحة في الفَلك؟
رأينا: لمّا كانت الشمس تسبح في فَلك، ينتج عن حركتها تلك فترة زمنية محدد نستطيع أن نلمسها نحن البشر وهي تعاقب الليل والنهار، وتتم تلك الحركة بشكل متكرر كل أربعة وعشرين ساعة مرة واحدة، وبكلمات أخرى نقول أن الشمس تكمل دورة كاملة تتكرر بشكل منتظم كل أربعة وعشرين ساعة، فنستطيع بناء على ذلك معرفة اليوم (لنصوم فيه مثلاً) والليلة (لنتوقف عن الصيام)، ونستطيع تحديد النهار (حيث يكون مبصراً) والليل (حيث يحل الظلام محل النور)، وهذا يدعونا على الفور إلى طرح التساؤل المثير جداً التالي: ماذا يمكن أن نطلق على دورة الشمس في فلكها مرة واحدة كل أربعة وعشرين ساعة؟
فهل يمكن أن نسمي ذلك يوم؟
كلا، لأن اليوم هو فترة الصيام فقط التي يتم فيها الإمساك عن الطعام والشراب والرفث إلى النساء
هل يمكن أن نسمي ذلك نهار؟
كلا، لأن النهار هو مبصراً، لذا فهو لا يكوّن أكثر من جزء من تلك الدورة
هل يمكن أن نسمي ذلك ليل؟
كلا، لأن الليل مظلم متى انسلخ منه النهار، لذا فهو أيضاً لا يكوّن أكثر من الجزء الآخر لتلك الدورة
فماذا يمكن أن نسميه إذاً؟
افتراء من عند أنفسنا: إنه الشهر
فنحن نفتري الظن بأن الشمس تشهر نفسها مرة واحدة كل أربعة وعشرين ساعة في حركة سباحة في فلكها، فيتكون – برأينا- جراء ذلك الشهر الشمسي الذي ينتج عن تعاقب الليل والنهار أو اليوم والليلة، وبذلك تكمل الشمس في فلكها دورة واحدة متكررة بنفس الوتيرة على الدوام فيما يمكن أن نسميه – افتراء من عند أنفسنا- بالشهر.
سؤال: وماذا عن القمر؟
لو راقبنا ما يحدث في حالة القمر لوجدنا أن القمر هو أيضاً يسبح في فلك خاص به، ويتم ذلك بطريقة متكررة بوتيرة ثابتة على الدوام، فما انفك القمر عن إشهار نفسه في وقته المحدد له وذلك لأنه يسبح في فلك خاص به. ويتم تحديد الزمن بناء على منازله، ولكن المفارقة تكمن هنا بأننا لا نستطيع تحديد الزمن من منازل القمر كل يوم وليلة، ولكننا نقدر الزمن بناء على سباحة القمر في دورته الكاملة، والتي تستغرق فترة زمنية أطول من تلك التي تستغرقها الشمس في دورتها لإشهار نفسها، ففي حين أن الشمس تشهر نفسها تقريباً كل أربعة وعشرين ساعة مرة واحدة، فإن القمر يشهر نفسه مرة واحدة كل ثلاثين يوماً تقريباً (أي يكمل دورته في سباحته في فلكه)، فينتج عن ذلك الشهر القمري الذي يعرفه الناس.
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: هناك شهر يتحدد بحركة الشمس الدورية كل أربعة وعشرين ساعة وينتج عنه الليل والنهار (واليوم والليلة)، وهناك بالمقابل – شهر يتحدد بحركة القمر ينتج عنه الأشهر القمرية التي نعرفها كشهر رمضان مثلاً.
نحن نظن أن الفرق الذي نجده في استخدام الشمس والقمر في تحديد الزمن لا يختلف إلا بحجم الفَلَك (أي الدائرة) التي يسبح فيها كل منهما. فالقمر كونه يدور حول الشمس فهو يسبح في فلك واسع، والقمر نفسه كون حجمه ليس كبيراً (كالشمس) فإن حركته في فلكه ليست سريعة، لذا تكون دورته واسعة وتستغرق وقتاً أطول، فينتج عنه الشهر القمري الذي يتراوح بين تسعة وعشرين وثلاثين يوماً (بمعنى اليوم الشائع على ألسنتنا)، وهذا ما يعرفه العامة وأهل العلم على حد سواء. أما بكلماتنا، فنحن نزعم القول أن القمر يشهر نفسه مرة واحدة بعد أن ينهي دورته التي يسبحها في فلكه مرة واحدة.
أما الشمس، فلأنها لا تدور حول القمر وإنما تدور حول نفسها، ولأنها ذات كتلة أضخم بكثير من كتلة القمر، فإن حركتها تكون حركة سريعة جداً، تمكنها من أن تقطع فلَكَها في فترة زمنية أقصر وهي حوالي أربعة وعشرين ساعة. لذا نحن نزعم القول أن الشمس تشهر نفسها مرة واحدة بعد أن تنهي دورتها التي تسبحها في فلكها مرة واحدة.

سؤال للتدبر: كيف نعلم عدد السنين والحساب؟ هل يستطيع الإنسان أن يحدد الفترة الزمنية التي هو فيها بمجرد النظر إلى الشمس والقمر؟
جواب: لو سألنا شخص في أي سنة (أو عام) نحن لما تردد في القول بأننا الآن في سنة 2013 ميلادي، أو العام 1235 هجري، أليس كذلك؟
سؤال: وفي أي سنة كنا العام الماضي؟ (أرجو المعذرة على الخلط في المفردات، فالهدف هنا هو توصيل الفكرة فقط)
جواب: 2012
سؤال: وفي أي سنة سنكون في العام القادم؟
جواب: 2013
سؤال: هل تتكرر السنة أو يتكرر العام في حسابنا للزمن؟
جواب لا؟
والآن لنطرح السؤال التالي: في أي شهر نحن؟
جواب: في شهر شباط
سؤال: وماذا عن الشهر الماضي؟
جواب: كانون ثاني؟
سؤال: وماذا عن الشهر التالي؟
جواب: آذار
سؤال: وماذا عن أشهر السنة القادمة؟
جواب: ستتكرر الأشهر نفسها في كل سنة وفي كل عام، أليس كذلك؟
نتيجة 1: لاحظ أن الشهر القمري الذي ينتج عن سباحة القمر في فلكه هي أثنا عشر شهراً في كل عام وهذه الشهور تتكرر في كل عام منذ أن خلق الله الأرض وحتى يرثها.
فالدورة القمرية (أو بكلماتنا إشهار القمر نفسه بسبب سباحته في فلكه) ينتج عنها: كانون ثاني شباط آذار نيسان أيار حزيران تموز آب أيلول تشرين أول تشرين ثاني كانون أول، وهذه أشهر متكررة على الدوام بشكل منتظم، وهي ليست أكثر من أشهر. (ولا أظن أن الناس على وجه البسيطة كاملة يختلفون في عددها ولكنهم يختلفون فقط في تسمياتها)
نتيجة 2: لاحظ ما يحدث في حالة الشمس أيضاً، فهي تسبح في فلكها بشكل متكرر، فينتج عن ذلك الليل والنهار، (واليوم والليلة)، وهو ما يتعارف عليه الناس باسم "أيام الأسبوع السبعة"، إن ما يجدر ملاحظته هنا هو كيف تتكرر هذه على الدوام منذ أن خلق الله الأرض وحتى يرثها ،
الدورة الشمسية (أو بكلماتنا إشهار الشمس نفسها بسبب سباحتها في فلكها)  ينتج عنها: السبت الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة وهي متكررة على الدوام لذا فهي في نظرنا ليست أكثر من أشهر (ولا أظن أن الناس على وجه البسيطة كاملة يختلفون في عددها ولكنهم يختلفون فقط في تسمياتها)

سؤال: ما علاقة ذلك بعدد السنين والحساب؟
جواب: الناس لا يعرفون في حسابهم للزمن إلا هذه الدورات الشمسية والقمرية، أو بكلماتنا نقول أن الناس يحسبون الزمن بناء على الشهر، ونعني بالشهر الشهر القمري والشهر الشمسي.

عودة على بدء
كيف يساعدنا ذلك في الحساب؟
انطلق هذا النقاش في البداية من التساؤل الذي أثرناه حول معنى مفردة الشهر كما ترد في الآية الكريمة التي تتحدث عن ريح سليمان:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ                       سبأ (12)
وكان السؤال المثار حينئذ هو: لماذا كانت ريح سليمان تجري شهراً بالغدو وآخر بالإياب؟ فما هي المسافة التي يمكن أن تقطعها الريح في فترة شهر كامل؟
وهنا نحاول أن نربط ما تحصل لنا من معرفة عن مفردة الشهر بعد هذا النقاش المطوّل المفترى جله من عند أنفسنا بريح سليمان التي كانت تجري به شهراً بالغدو وآخر بالإياب، لنقدم الافتراء الكبير التالي:لقد كانت ريح سليمان تغدو به شهراً شمسياً وليس شهراً قمرياً.
إن أبسط ما يمكن أن نفهمه نحن من الآية الكريمة هو أن الريح كانت تجري بسليمان بأمر منه إلى الأرض التي باركنا فيها مسيرة يوم وليلة معاً (أي شهراً شمسياً)، وتعود به في رحلة الإياب في شهر شمسياً آخر:
          وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
ويمكن أن يعزز فهمنا هذا ما يمكن أن نطرحه من تساؤلات حول رحلة سليمان:
أولاً نحن نظن أن سليمان كان لا يسكن الأرض التي باركنا فيها، ولكن الريح كانت تجري به إلى هناك (انظر الآية السابقة)، فلماذا – يا ترى- كان يذهب سليمان إلى هناك؟
ثانياً، لمّا كان سليمان لا يسكن الأرض التي باركنا فيها وكان يذهب إلى هناك بواسطة الريح، فأين يا ترى كان موطنه الأصلي؟
ثالثاً، إن صح قول من سبقنا، فهل يعقل أن يترك سليمان ملكه فترة شهرين قمرين (شهر للغدو وآخر للإياب) ليذهب إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين؟ وماذا كان يمكن أن تفعل الشياطين الذين كانوا في عذاب مهين تحت حكم سليمان في غيابه؟
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ                       سبأ (12)
جواب: نحن نفتري القول أن بإمكاننا أن نقدم إجابات على هذه الأسئلة أكثر إقناعاً مما هو سائد من فكر (هذا إن كان هناك أصلاً فكر موجود يخص هذه القضية) إن نحن قرأنا السياق القرآني في سياقه الأوسع خاصة الآية الكريمة التي جاءت مباشرة بعد الحديث عن ريح سليمان بشيء من التدبر:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
 يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
وهي التي أثارت لدينا سؤالاً كبيراً جداً لا أظن أن الفكر الإسلامي حتى الساعة قد وضعه على طاولة البحث، والسؤال مفاده: لماذا كان الجن يعملون لسليمان التماثيل؟ هل يعقل أن يطلب سليمان من الجن أن يعملوا له التماثيل ونحن نعلم أن إبراهيم مثلاً لم يتردد أن يجعلها جذاذاً؟ وهل يعقل أن يطلب سليمان من الجن أن تعمل له التماثيل ونحن نعرف أن أول ما قام به محمد عند عودته إلى مكة هو الإطاحة بها؟ فكيف يا ترى يقدم سليمان على طلب بناء التماثيل من الجن؟ فهل يمكن أن يجيز الفكر الإسلامي فكرة بناء التماثيل كما فعل سليمان عندما طلب من الجن القيام بذلك؟
وإذا كانت تماثيل سليمان مختلفة كما يمكن أن يرد علينا البعض بالقول، فكيف كانت تختلف؟ وأين هي أصلاً تلك التماثيل التي بناها الجن لسليمان؟ وأين كان الجن يبنون التماثيل لسليمان؟ والأهم من ذلك كله هو: لماذا طلب سليمان من الجن بناء التماثيل؟
هذا ما سنتناوله في الجزء القادم من هذه المقالة بحول الله وتوفيقه، لذا فالله أسأل أن يأذن لي بعلم لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع المجيب
المدكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان
بقلم د. رشيد الجراح

13 شباط 2013










[1] السؤال: هل يمكن أن يصوم الإنسان المريض أو المسافر الشهر كله دفعة واحدة (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أو أن يفطره كله دفعة واحدة (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)؟ سنرى لاحقاً أن مفردة الشهر التي وردت في هذه الآية الكريمة مرتين تستخدم للإشارة إلى شيئين اثنين، كل نهما هو في نهاية المطاف شهر.