قصة يوسف 11: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ



نعود مع بداية هذا الجزء من المقالة للحديث عن مفردة "فَذَلِكُنَّ" في قصة يوسف، لنجيب على التساؤل الذي طرحناه في بداية الجزء السابق وهو: ما معنى مفردة "فَذَلِكُنَّ"؟ ولماذا استخدمت امرأة العزيز اسم الإشارة "فَذَلِكُنَّ" في حديثها هذه المرة عن يوسف بحضور النسوة في مجلسها كما تصور ذلك الآية رقم (32) من سورة يوسف:
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)


ولا ننسى أن هذا الاستخدام من قبل امرأة العزيز قد جاء مباشرة بعد حديث النسوة عن يوسف باستخدام اسم الإشارة هَذَا كما يرد في الآية (31) من السورة نفسها:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
وقد دعانا هذا الطرح أن نتخيل القصة وقد حدثت على النحو التالي:
تجمع امرأة العزيز النسوة، وتعدّ لهن متكأ واحدا، وتؤتي كل واحدة منهن سكينا، ثم تطلب من يوسف أن يخرج عليهن من ذلك المتكأ (أي غرفة النوم)، فيخرج من هناك لتراه النسوة بأم أعينهن، وما أن ترى النسوة يوسف حتى يعبّرن عن دهشتهن بما رأينه، فيجري حديثهن بحضور يوسف نفسه، فيكون استخدام لفظ الإشارة هَذَا ربما ليدلّ (كما نفهمه) على أن يوسف لازال حاضرا في مجلسهن حينئذ:
          وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
وهنا تطلب امرأة العزيز من يوسف (نحن نتخيل) العودة إلى المكان الذي خرج منه (وهو في ظننا المتكأ نفسه). وتمضي النسوة معا في الحديث قدما عن الفتى الذي رأينه للتو ولكن دون حضور يوسف بينهن، فما يكون من امرأة العزيز نفسها إلا أن تشير إلى يوسف في غيابه، فتستخدم ما يشير إلى أن يوسف لم يعد حاضرا في مجلس النسوة، فجاء اللفظ على لسانها على نحو (فَذَلِكُنَّ)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن امرأة العزيز قد استخدمت لفظ الإشارة "فَذَلِكُنَّ" ليدل – برأينا- على أن يوسف لم يكن حاضرا بين النسوة في تلك اللحظة التي تحدثت بها امرأة العزيز واعترفت للنسوة صراحة بأنها هي من راودته عن نفسه وأنه هو من استعصم.
لكن طرحنا هذا لا يحل الإشكالية برمتها، فيبقى هناك تساؤل مشروع لابد من طرحه وهو: لماذا استخدمت امرأة العزيز اللفظ على نحو "فَذَلِكُنَّ"؟ لِم لم تستخدم اللفظ على نحو فذلك، مثلا، وكفى؟
السؤال: ما قصة فَذَلِكُنَّ؟
جواب مفترى: نحن نفتري الظن أن امرأة العزيز قد استخدمت اللفظ على نحو فَذَلِكُنَّ ربما لتشير ليس ليوسف كشخص فقط، وإنما لتشير ليوسف مع شيء آخر في الوقت ذاته. فلو كانت الإشارة خاصة بيوسف فقط لجاء اللفظ (نحن نفتري القول) على نحو:
          فذلك الذي لمتنني فيه
لذا لابد أن يكون هناك شيء آخر اشترك مع يوسف في إشارة امرأة العزيز. فما هو؟
افتراء من عند أنفسنا: إنه القميص.
نعم، نحن نفتري الظن بأن امرأة العزيز لم تكن تشير إلى يوسف الشخص وإنما كانت تشير إلى يوسف لابسا ذلك القميص. فكان يوسف شيئا وكان القميص شيئا آخر، ولكن لم يكونا منفصلين عن بعضهما البعض لتتم الإشارة إليهما بضمير المثنى "فَذَانِكَ" كما يرد في قصة موسى:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
فلقد كان سلوك موسى يده في جيبه لتخرج بيضاء من غير سوء برهانا واحد، وكان ضم جناحه إليه من الرهب برهانا آخر، فكانا معا برهانان اثنان، وتمت الإشارة إليهما باسم الإشارة "فَذَانِكَ".
لذا نحن نتخيل بأنه لو كان يوسف خالعا القميص حينئذ لكان يوسف شيئا ولكان القميص شيئا آخر، ولربما تمت الإشارة إليهما باسم الإشارة "فَذَانِكَ". ولكن لمّا كان يوسف (نحن نتخيل) لازال لابسا القميص، وأرادت امرأة العزيز أن تشير إليهما (يوسف والقميص معا) كوحدة واحدة هي التي كانت سببا في فتنتها، أشارت إلى تلك الكينونة التي رأتها النسوة بأم أعينهن باللفظ "فَذَلِكُنَّ".
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: إن الذي جعل امرأة العزيز نفسها (بمكانتها المعلومة للجميع) تراود فتاها (غير المعروف للناس حينئذ) عن نفسه هو شيء أكبر من أن يكون بشريا (إنسان)، فلقد أقرت النسوة بملء ألفيه أن الذي رأينه لم يكن بشريا، ولكنه شيء خاص بالملك الكريم.

الدليل
نحن نقرأ الدليل على ذلك من الآية الكريمة نفسها في قوله تعالى فَلَمَّا رَأَيْنَهُ الذي جاء على لسان النسوة:
 فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
السؤال: ما الداعي أن تأتي هذه العبارة في الآية الكريمة؟ سألني صاحبي وابن أخي العزيز السيد مروان الجراح الذي يحاول جاهدا أن يتابع مقالاتنا جميعها كما يحاول أحيانا أن يشارك في بعض أفكارها بالنقاش الذي لا شك يثري الموضوع؟ فكان مراد قوله هو:
- ألا تدل فَلَمَّا رَأَيْنَهُ على أن هناك زيادة غير ضرورية في النص القرآني؟
- أليس من المؤكد أنه ما أن يخرج يوسف على تلك النسوة حتى يرينه؟
- ألا تكون رؤيتك لا محالة حاصلة عندما تخرج على شخص ما؟
- فلم إذا نجد النص القرآني يقول "فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
- هل كان هناك احتمال أن لا يرينه وقد خرج عليهن؟ وكيف يمكن أن يكون ذلك؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نعم، نحن نظن أن هناك احتمالية أن يخرج يوسف على النسوة وأن لا يرينه في الوقت ذاته، ولكن كيف يمكن ذلك؟ هل كانت النسوة نائمات؟ أم هل كن مغلقات أعينهن؟ أم هل كنا كفيفات البصر (أو كظيمات بمفردات الكتاب الحكيم كما نفهمه)؟
جواب مفترى من عند أنفسنا إلى السيد مروان الذي أثار هذه التساؤلات الجميلة: كلا، لقد كانت النسوة متيقظات متلهفات لرؤية الفتى، وقد كانت أعينهن في أشد حالات اليقظة والترقب، فكيف يمكن تخريج الأمر إذن؟ ربما سيسأل مروان.
جواب مفترى: نحن نظن أن الضمير في عبارة فَلَمَّا رَأَيْنَهُ لا يعود على يوسف وذلك لأن رؤية يوسف لابد أن تقع بمجرد خروجه عليهن، ويصبح الظن عندنا أميل إلى الاعتقاد بأن الضمير في عبارة فَلَمَّا رَأَيْنَهُ إنما يعود على القميص الذي كان يوسف يرتديه ولم يكن ظاهرا في لحظة خروج يوسف على النسوة. لذا نحن نتخيل القصة وقد حصلت على النحو المفترى من عند أنفسنا التالي:
تطلب امرأة العزيز من يوسف الخروج على النسوة، وما أن يخرج عليهن حتى ترى النسوة الفتى يوسف، وفي هذه الحالة يكون فعل رؤية يوسف مستنبطا من فعل خروجه عليهن، فما أن يخرج عليهن حتى يرينه (أي يوسف)، ولكن الذي استوقفنا في الآية الكريمة هنا هو عبارة "فَلَمَّا رَأَيْنَهُ"، لنطرح عندها التساؤلات التالية:
1.     من الذي رأى؟              - النسوة
2.     ما الذي تمت رؤيته؟       - القميص (أو ربما يوسف لابسا القميص)   
3.     متى تمت رؤيته؟           - بعد أن خرج عليهن (وليس بمجرد خروجه عليهن)
4.     وكيف تمت رؤيته؟          - لابد أن يوسف قد كشف للنسوة عن ذلك القميص بعد أن خرج عليهن
نعم، لقد كانت تلك حفلة استعراضية، فاستعراض يوسف أمام النسوة كان لغاية واحدة ألا وهي: من أجل أن تنفي امرأة العزيز (للنسوة أولا وللناس أجمعين بعد ذلك) البشرية المطلقة عن الشيء الذي جعلها تفتن ومن ثم تراود فتاها عن نفسه، فتحقق لها ذلك على لسان النسوة أنفسهن:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
السؤال الذي لا شك كان سيثيره مروان في هذه اللحظة هو: لماذا لم يأت قول النسوة بالأسلوب نفسه الذي جاء فيه قول امرأة العزيز؟ أي لماذا لم تشير النسوة إلى يوسف لابسا القميص باسم إشارة يدل على الاثنين معا (يوسف والقميص)؟ فلماذا أشارة النسوة إلى يوسف فقط باستخدام اسم الإشارة "هَذَا
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن النسوة لم يشرن إلى يوسف فقط في هذه الآية وإنما أشرن إلى يوسف والقميص في الآية الكريمة نفسها؟
سؤال: وأين ذلك؟ سيرد مروان قائلا.
جواب مفترى: دقق - عزيزي مروان- كم مرة استخدمت النسوة اسم الإشارة هَذَا. ألم تستخدم النسوة مفردة هذا مرتين مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ؟ فلماذا؟ أليس ذلك من باب الإطناب والتكرار غير المرغوب فيه؟ ألم يكن ممكنا أن يأتي قول النسوة مثلا على نحو
          ما هذا بشرا إنه ملك كريم؟
فلم إذن قالت النسوة مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: نحن نفتري القول (على غير ما ظن سادتنا العلماء أهل الدراية) أن اسم الإشارة هذا يعود في كل مرة على كينونة مختلفة، فنفتري الظن بأن هَذَا الأولى (مَا هَذَا بَشَرًا) تعود على القميص:
مَا هَذَا بَشَرًا
لتنفي النسوة البشرية عن هذا الشيء من اللباس الذي لم يعتاده البشر. ويكأن النسوة يقلن بملء الفيه أن هذا اللباس ليس من صناعة البشر. فكان اللباس فتنة النسوة الأولى (كما كان فتنة امرأة العزيز نفسها).
كما نفتري القول في الوقت ذاته أن اسم الإشارة هذا يعود في المرة الثانية على يوسف:
إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
فتمت الإشارة إلى القميص وإلى يوسف على أنهما كينونتان منفصلتان، وحصل كل هذا ويوسف لازال حاضرا مجلس النسوة ذاك:
... وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
وما أن غاب يوسف عن مجلس النسوة وعاد إلى المكان الذي خرج على النسوة منه حتى أخذت امرأة العزيز زمام المبادرة بالكلام، فكان أول شيء قالته هو اعترافها للنسوة بأن هي التي راودته وأنه هو الذي استعصم، ولكن نحن نظن أن الرسالة التي كانت امرأة العزيز توصيلها لمن حولها حينئذ هو أن الذي شغفها حبا لم يكن الفتى نفسه، ولم يكن القميص نفسه، ولكنهما الاثنان معا، فجاءت الإشارة – في ظننا- بهذه الصيغة لهذا الغرض:
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
وقبل أن نقفل النقاش في هذه الجزئية نود أن نلفت انتباه القارئ الكريم (بما فيهم العزيز مروان) إلى ما جاء في الآية الكريمة التالية:
وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)
لنقول بأن ذلك الملك سيكون (لو أنه أنزل) رجلا يلبس عليه ما يلبس الناس الذين كان من الممكن أن ينزل بينهم، ولكن ما أن يخلع ذلك الملك ما ألبس عليه من لباس الناس العاديين حتى يعود على الفور إلى طبيعته الحقيقية بلباسه "الملكي الحقيقي" (وهي هيئة الملك الذي لا تبان فيه عورته). فالملك الكريم يكون إذا يلبس نوعان من اللباس:
1.     لباسه الملكي الحقيقي
2.     ما ألبس عليه من لباس البشر
السؤال: كيف يمكن تطبيق ذلك في حالة يوسف؟
جواب: نحن نظن أنه بإمكاننا أن نتخيل يوسف على تلك الشاكلة على النحو التالي:
نحن نفتري الظن بأن يوسف كان في هيئة الملك الكريم وهو لابسا ذلك القميص فقط، ولكنه كان في الوقت ذاته يلبس عليه ما يلبس الناس في زمنه، فلم يكن يستطيع أحد أن يميز يوسف "الملك" ما لم يخلع عنه ذلك اللباس البشري الذي كان يلبسه فوق قميصه. لذا نحن نتخيل أن الذي حصل في اجتماع النسوة ذاك كان على نحو أن يوسف كان يلبس القميص وكان يلبس عليه في الوقت ذاته ما يلبس الناس في ذلك الزمن، فخرج على النسوة في تلك الهيئة البشرية، ولم يكن ذلك (نحن نظن) ليثير حفيظة النساء بعد، ولكن ما هي إلا لحظات حتى خلع يوسف (ربما بطلب من امرأة العزيز، أو ربما بفعل منها) عنه ما يلبس من لباس الناس العاديين. وما أن خلع يوسف ذلك اللباس البشري حتى بان للنسوة على الفور ما ليس ببشري وهو يوسف لابسا ذلك القميص، وهنا بالضبط ثارت لدى النسوة الدهشة والاستغراب، فقالت النسوة بملء الفيه بعد أن رأينه (أي يوسف لابسا ذلك القميص فقط) بأن هذا ليس بالبشري ولكنه ملك كريم:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
ولمّا كنت – عزيزي مروان- تدرس الآن في برنامج الدكتوراه في أحد جامعات إنجلترا العريقة لتتخصص في علم التراكيب (Syntax)، فإنك لا شك تعرف معرفة جيدة أن أحد فروع ذلك العلم هو دراسة (indexicality) و (anaphoric expressions). وأنا لا شك أنتظر أن أرى إلى أين يمكن أن تذهب بمثل هذه الافتراءات التي نسوقها من عند أنفسنا بين سطور تلك المؤلفات العظيمة حول هذا الموضوع. من يدري!!!

على أي حال، ربما يرشدنا مثل هذا الطرح الذي نظن أنه غير مسبوق إلى التعرض للتساؤل التالي: كيف صرف الله كيد النسوة عن يوسف؟
رأينا: نحن نظن أن يوسف هو من طلب من ربه أن يصرف عنه كيد النسوة اللاتي راودنه عن نفسه:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)
فكانت الاستجابة الإلهية ليوسف بالخيار الأول وهو السجن، فصرف عنه كيدهن:
          فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
السؤال: كيف تمت آلية صرف كيد النسوة عن يوسف؟
جواب: نحن نؤمن بداية أن يوسف كان لازال يسمع ما تدبره النسوة له عندما تعهدت امرأة العزيز بسجنه إن هو لم ينزل عند رغبتها فيه:
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
فالفتى لازال موجودا في المتكأ الذي خرج منه لتراه النسوة بأم أعينهن، وعاد إليه بعد أن فرغ من ذلك بطلب من امرأة العزيز نفسها. فسمع أن القرار النهائي للنسوة هو ما تطلبه امرأة العزيز ويتمثل بواحدة من خيارين:
1.     النزول عند رغبة المرأة بما تريده منه أو
2.     السجن
وهناك في ذلك المتكأ حيث لا زال يوسف يقبع وحيدا (كما نتخيل الأمر) توجه إلى ربه بدعاء المضطر مختارا السجن على المراودة ولكن بشرط واحد وهو أن يصرف الله عنه كيدهن:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)
السؤال: كيف صرف الله كيد النسوة عن يوسف؟
جواب مفترى: عندما تفقدنا السياقات القرآنية الخاصة بالصرف، وجدنا أن الصرف ينطوي على تغير المكان،  فالله هو من صرف إلى محمد نفر من الجن ليستمعوا القرآن:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)
والله هو من صرف عن يوسف كيد النسوة، لتكون النتيجة الأولى هي أن الصرف إلى شيء ما تحوي في ثناياها معنى الذهاب إليه، ولكن الصرف عن الشيء تعني الابتعاد عنه. لذا حصل (كما نتخيل الأمر) أن أبعد الله النسوة عن يوسف، فغادرن المكان في تلك الساعة مقطّعات الأيادي بعد أن فشلن (فشلا ذريعا) في إيقاع الفتى في كيدهن، ولكن الملفت للانتباه هو أن يوسف بقي في المكان نفسه منتظرا ما سيحل به، فكانت النتيجة على النحو التالي:
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
ولو راقبنا مفردة ثُمَّ في هذا السياق القرآني، لوجدنا أن هناك فارقا زمنيا بين أن صرف الله عنه كيد النسوة وإيداعه السجن من بعد ما رأوا الآيات. فما الذي حصل حينها؟ وأين كان يوسف يتواجد طوال تلك الفترة من الزمن؟
رأينا: إن المنطق البسيط كان يقضي بأن يبتعد يوسف كليا عن مكان تواجد امرأة العزيز منذ اللحظة التي ألفيا فيها سيدها لدى الباب بعد حادثة الهمّ الشهيرة:
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
فما أن رأى يوسف البرهان بأمّ عينه حتى ركض مستبقا المرأة الباب، وهناك ألفيا سيدها:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
فحاولت المرأة أن تلقي باللائمة على يوسف في أنه قد أراد بها سوءا:
... قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
فدافع يوسف عن نفسه قائلا:
          قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي...
وتعززت شهادة يوسف في ذلك بشهادة الشاهد الذي شهد من أهلها:
... وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26)
وأظن جازما أن الخبر قد كان يقينيا عند سيدها أن يوسف لم يرد بها سوءا وأنها هي من راودته عن نفسه:
          فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
فجاء طلبه مباشرا ليوسف بأن يعرض عن هذا، وأن تستغفر هي لذنبها، لأنه قد ثبت لديه (أي سيدها) أنها هي من أخطأت:
          يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
السؤال المثير: مادام أن الأمر قد تأكد لسيدها بأنها هي من تراود يوسف عن نفسه، فلماذا (نحن نسأل) بقي يوسف في بيت المرأة؟ فلماذا تواجد يوسف معها في المكان الذي جمعت فيه النسوة؟ كيف بسيدها أن يسمح لها أن تجتمع بيوسف ثانية؟ لم لم يتم إبعاد يوسف كليا عن المكان؟ ألم يكن سيدها يستطيع أن يضع العيون على امرأته لمراقبتها؟ الخ.
السؤال المثير هو: لماذا بقي يوسف في بيتها بعد أن تم ضبطهما بـ "الجرم المشهود"؟
جواب مفترى: نحن نظن أن لهذا علاقة بمكانة هذه المرأة في قومها، وله علاقة مباشرة جدا بشخصية سيدها الذي ألفياه لدى الباب. ونحن نتجرأ على تقديم الافتراءين الخطيرين التاليين:
1.     أن الذي ألفياه لدى الباب لم يكن زوجها ولكنه كان سيدها، فنحن نفرق بين الزوج والسيد ما دام أن اللفظين قد وردا في كتاب الله
2.     أن تلك المرأة (امرأة العزيز) هي ابنة الملك نفسه

باب: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ
يجد القارئ للنص القرآني الحقيقة الثابتة التي لا يمكن المماطلة فيها والمتمثلة بأن التي راودت يوسف عن نفسه وقد شغفها حبا هي امرأة العزيز، فجاء ذلك في كلام النسوة في المدينة اللاتي مكرن بها:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
وجاء ذلك على لسانها يوم أن اعترفت بذلك صراحة في مجلس الملك:
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
وهنا لا نتوقف عن طرح التساؤل التالي: إذا كانت التي راودت يوسف عن نفسه هي امرأة العزيز، فهل الذي ألفياه لدى الباب هو العزيز نفسه (أي زوجها أو بعلها)؟
جواب مفترى: كلا وألف كلا، نحن نفتري الظن بأن ذلك غير ممكن لأن النص القرآني قد استخدم مفردتين لتصوير علاقة الرجل بامرأته، وهما:
1.     الزوج
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
2.     البعل
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
لذا لو أن الذي ألفياه لدى الباب كان زوجها أو بعلها لجاء اللفظ (نحن نفتري القول) على نحو ذلك. لذا نحن نعتقد نتجرأ على الظن بأن الذي ألفياه لدى الباب لم يكن زوجها، ونعتقد جازمين بأنه سيدها فقط بدليل صريح اللفظ القرآني:
           وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ
السؤال: وما الفرق بين الزوج (أو البعل) من جهة والسيد من جهة أخرى؟
جواب: لو راقبنا ردة فعل سيدها الذي ألفياه لدى الباب لوجدنا في ذلك العجب. فالرجل الذي ألفياه لدى الباب لم تتحصل عنده ردة فعل طبيعية كتلك التي يمكن أن تحصل من قبل أي رجل ربما يجد امرأته في موقف كهذا. فبرودة الأعصاب والتأني والحذر كانت صفات ملازمة لردة فعله. ويتأكد ذلك بالمشاهدات التالي:
1.     أن سيدها هذا لم يكن هو المبادر بالكلام أو بالفعل، بل على العكس فالمرأة هي من ابتدأته بالكلام:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
ويوسف هو من ثنىّ على كلامها:
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26)
2.     وعلى الرغم من صمته عن الكلام، بقي أيضا رابط الجأش في فعله، فكان أول شيء قام به هو أنه ذهب ليجلب الدليل، ليتثبّت بنفسه من الأمر ويتخذ بعد ذلك قراراه بمن هو المخطئ: يوسف أم المرأة:
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
3.     ما أن استقر في ضمير سيدها أن المرأة هي التي أخطأت فعلا حتى كانت ردة فعله أكثر هدوءا، فطلب من يوسف أن يعرض عن هذا، وطلب منها أن تستغفر لذنبها:
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
السؤال المحرج: ألا ترى – عزيزي القارئ- أن هذا زوج حمش (كما نقول بالأردنية)؟ ألا ترى كم هو غيور على عرضه؟ ألا ترى أنه فعلا رجل ولا كل الرجالة (بالمصري البلدي)؟
ما شاء الله! رجل يجد امرأته بصحبة "عشيقها"، تعترف لبعلها بأن هذا الفتى (أي عشيقها) يريد بها سوءا، فلا يصدر منه أي كلام، يستمع للطرفين بكل رباطة جأش، يبحث عن الدليل ليجد أن امرأته هي من تخونه، فما يكون منه إلا أن يطلب من عشيقها أن يعرض عن هذا، ويطلب منها أن تستغفر لذنبها، وكفى.
السؤال: أي نوع من الأزواج هذا؟ من يدري!!! ربما نجد في جعبة سادتنا العلماء أهل الدراية تفسيرا لتصرفات هذا "الزوج المزعوم" متى وصلت إليهم صرخاتنا هذه.
أما الأكثر إثارة في الموضوع هو بالرغم من تكشف كل هذه الحقائق لهذا الزوج "المزعوم"، إلا أنه لم يتخذ قرارا بأبعاد هذا الفتى عن امرأته أو إبعاد امرأته عن هذا الفتى؟ فها هي تبقي يوسف في بيتها، وتجمع النسوة وتحدثهن بالخبر، وتعترف لهن بملء الفيه أنها لازالت مصممة على ما هي مقدمة عليه، فلا تكف عن مراودة الفتى والتخطيط للإيقاع به، وكل هذا يحصل في بيتها. السؤال مرة أخرى: أي نوع من الأزواج هذا الذي يسمح لزوجته أن تبقى على اتصال "بعشيقها" بعدما ينكشف له الأمر؟
جواب مفترى: نحن نظن أن هذا غير موجود إلا في مخيال علمائنا أهل الدراية كما نقلوه (وهم منكرون) من قصص وتحريفات اليهود. فتخرصات وشطحات يهود واضحة تماما في كل تفسيرات أهل العلم من أبناء المسلمين، والأخطر من هذا كله أنهم قد أخذوا تفسيرات محرفة من الأمم الأخرى ولم يتوقفوا (نحن نفتري القول) عند ذلك بل زادوا الطين بلّة، فحرفوا ما هو أصلا محرف، فانتهينا في بلاد لا نعرف تضاريسها، وربما لا زلنا لا نعرف الخروج منها بعد قرون من هذا التيه العظيم.
دعاء: اللهم أبرأ إليك من كل ما كتبناه بيميننا وزعمنا أنه موجود في كتابك وهو منه براء. اللهم اهدنا إلى الحق الذي قلته، فقولك الحق، واقذف به الباطل الذي افتريناه من عند أنفسنا ليدمغه فإذا فهو زاهق – أمين.
أما بعد،
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نؤمن أن الذي ألفياه لدى الباب
1.     قد كان سيدها (فقط) ولم يكن سيد يوسف: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ
2.     لو أن ذلك الشخص الذي ألفياه لدى الباب كان سيد يوسف لربما جاء اللفظ بالتثنية على نحو: وألفيا سيدهما لدى الباب
3.     وأن سيدها هذا لم يكن هو زوجها أو بعلها، وإلا لربما جاء اللفظ على نحو: ولفووو وكانت وألفيا زوجها لدى الباب أو وألفيا بعلها لدى الباب
4.     ولو كان زوجها (بعلها) هو الذي ألفياه لدى الباب لربما كانت ردة فعله مختلفة تماما.
الدليل.
أولا، كانت الأبواب مغلّقة تماما، بدليل أنها هي من غلّقت بنفسها الأبواب لكي تهمّ بيوسف، عندما هيئت نفسها له:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
السؤال: كيف ألفياه لدى الباب؟ من الذي فتح له الباب؟
ثانيا، لم يكن سيدها هو من ألفاهما لدى الباب، ولكنهما (يوسف والمرأة) هما من ألفياه هناك:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
لنفتري الظن بسبب ذلك أن سيدها هذا لم يكن قادما باتجاه الأبواب مادام أنها كانت مغلّقة، وبدليل أنهما (يوسف والمرأة) من ألفياه لدى الباب وليس هو من ألفاهما لدى الباب. فالذي يلفي هو الذي يقوم بالفعل بدليل الآية الكريمة التالية:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170)
فالذين ألفوا آباءهم كانوا هم الذين لحقوا بآبائهم لأن آباءهم كانوا هم المدبرين.
نتيجة مفتراة: نحن نتخيل أن المرأة ويوسف هما اللذان توجها نحو سيدها، ولم يكن سيدها متوجها نحوهما حينئذ.
ثالثا، نحن نظن أن سيدها لم يكن هو زوجها وذلك لأنهما ألفياه لدى الباب، فلو كان ذلك الشخص هو زوجها الذي جاء في تلك اللحظة لكان داخلا عليهما الباب:
قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23)
فلا أظن أن الزوج بحاجة أن يستأذن ليدخل بيته، ولا أظن أن الزوج لا يعرف كيف يفتح باب بيته.
رابعا، ما هذه الصدفة العجيبة أن يأتي سيدها (إن كان هو زوجها) بالضبط في تلك اللحظة؟ لِم لَم يأت والأبواب لازالت مغلّقة؟ ولِم لَم يدق الباب عليهما مادام أن الأبواب كانت أصلا مغلّقة؟ والأهم من هذا كله هو: مادام أنه قد وجدهما لدى الباب، فما الغريب الذي سيجده الرجل؟ أليس من المفترض أن يتواجد يوسف مع امرأته هناك مادام أنه فتاها؟!
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نتخيل الذي حصل على النحو التالي:
يهرب يوسف من المكان الذي حصل فيه الهمّ، فيتوجه نحو الباب، فتلحق به المرأة طالبة إياه، يفتح يوسف الباب طالبا الهروب والفرار من الموقف كله بعد أن رأى برهان ربه الذي حال بينه وبين الوقع في الفاحشة. تلحق المرأة يوسف عند الباب وهو يحاول فتحه للخروج منه، وهناك تقدّ المرأة قميص يوسف من الدبر لتثنيه عن فتح الباب والخروج منه، فلم تفلح في ذلك، فيستطيع يوسف أن يفك تغليق الباب والخروج منه، ولو كان الباب لا زال مغلقا لما خرجا (يوسف والمرأة) من المكان ولما ألفيا سيدها لدى الباب.
افتراء من عند أنفسنا: أن تغليق الباب يكون في مثل هذه الحادثة من الداخل على الأقل لسببين
1.     أن الذي راودته عن نفسه قد قامت في ذلك في بيتها:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
2.     أن فعل مراودة المرأة للرجل (أو العكس) لا يحصل عادة على مرأى ومسمع من الناس
لذا قامت تلك المرأة بداية بتغليق الأبواب كجزء من مخططها للإيقاع بيوسف:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
فهي قد قامت بغلق أكثر من باب (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ)، ويستحيل أن تكون عملية التغليق هذه قد حصلت دفعة واحدة (إلا إذا كانت تستخدم الريموت كنترول حينئذ- من يدري!!!)، وإنما كان التغليق – برأينا- تدرجي: بابا بعد باب، ونحن نتخيل أن آخر باب قامت المرأة بغلقه هو الباب الذي دخل منه يوسف عليها حينئذ، وما أن دخل يوسف إلى هناك حتى أغلقت المرأة آخر تلك الأبواب، وكانت قد هيئت كل شيء له:
          وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ
فيحاول يوسف أن يمنع نفسه عنها، ولكن ما أن همت به بخلع ملابسها كاملة، حتى استطاعت أن تزعزع ثقة الفتى بنفسه، فما يكون منه إلا أن ينزل عند رغبتها مدفوعا برغبته الطبيعية كشاب في عنفوان شبابه، فيحاول أن بهمّ بها بخلع ملابسه شيئا فشيئا، ولا يوقفه عن متابعة الهمّ بها إلا ذلك البرهان الذي رءاه وهو القميص الذي تحدثنا عنه سابقا.
ما أن يرى يوسف ذلك القميص بأمِّ عينه حتى يتذكر أنه من تلك السلالة الطيبة (إبراهيم – إسحق- يعقوب) فما يكون لمكمّل هذه السلالة الطاهرة أن يقع في هذا الإثم الكبير، فيهرب على الفور من المكان متجها إلى الباب الذي دخل منه. ومستبقا المرأة إليه:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
وهنا يجد يوسف الباب وقد أغلق. فما يكون منه إلا أن يتوقف عنده بعض الوقت ليتمكن من فتحه ليخرج منه. وهناك (نحن نتخيل) استطاعت المرأة أن تلحق به، ونحن نفتري الظن بأنه لو كان ذلك الباب مفتوحا أصلا لما استطاعت المرأة أن تلحق بيوسف وذلك على الأقل لسببين اثنين:
1.     أولا لأن يوسف هو من سبقها في الهروب إلى الباب، فلا شك أنه وصل إلى الباب قبل أن تصل هي إليه
2.     أن يوسف هو الرجل وأنها هي الأنثى، ونحن نظن أن الوضع الطبيعي يقضي بأن يكون الرجل أسرع من المرأة في الجري مادام أن يوسف في تلك اللحظة الزمنية كان قد بلغ أشده. فهل يعقل أن تسبق امرأة شابا في الجري (خاصة إذا كنا نتحدث عن جري المسافات القصيرة في الأولمبياد)؟ من يدري!!!
إن ما يهمنا في هذا الطرح هو القول المفترى من عند أنفسنا بأن السبب الذي جعل المرأة تلحق بيوسف بالرغم أنه هو من استبقها إلى الباب هو الحقيقة الثابتة بصريح اللفظ القرآني بأن ذلك الباب كان مغلقا. فكان لابد ليوسف أن يتوقف عنده (ولو للحظات) لكي يفتحه ليخرج من المكان كله. وهناك بالضبط استطاعت المرأة أن تلحق به، فتمسك بقميصه من دبره. انظر الآية الكريمة جيدا:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
ولكن هذا لم يكن ليثني يوسف عن فتح الباب من الداخل ليخرج من المكان وقد قدّت قميصه من دبر، فاستطاع أن يفتح ذلك الباب كما في الشكل التالي (لو سمحت دقق في صورة الباب وليس الطفل الذي يحاول فتحه):
          





خاصة إذا ما علمنا أن الأبواب عادة ما تغلق من الداخل لأغراض السلامة العامة كما في الشكل التالي:






فلقد أعاق ذلك الباب المغلق هروب يوسف من المكان لفترة من الزمن، فكان يوسف مولّيا وجه شطر الباب، وكان دبره من قبل المرأة التي كانت تركض وراءه لتلحق به، فاستطاعت في تلك اللحظة أن تمسك به من الخلف لتقد قميصه من دبره هناك.
ما أن استطاع يوسف أن يخرج من الباب وقد كان قميصه قد قدّ من دبر حتى كان سيد تلك المرأة متواجدا هناك. فكان ألفا يوسف سيد تلك المرأة لدى الباب، وكانت المرأة (نحن نتخيل) لازالت لاحقة بيوسف بعد أن خرج من الباب، فكانت المرأة هي من ألفت سيدها لدى الباب، ويصور القرآن الكريم هذا المشهد بكل دقة لنجد أن يوسف والمرأة معا هما من ألفيا شخصا لدى الباب، وكان ذلك الشخص هو سيد المرأة ولكنه لم يكن سيد يوسف:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
لنخرج من هذا التصور المفترى من عند أنفسنا بالافتراءات التالية:
1.     لم يكن سيدها متجها نحو باب المكان الذي كانت المرأة تراود فيه يوسف عن نفسه.
2.     لم يكن سيدها هناك لغرض الدخول إلى البيت ولكنه كان متواجدا هناك لغرض آخر
3.     لم يكن هو من ضبطها مع يوسف متلبسان بالجرم المشهود
وربما يحل مثل هذا الطرح التساؤل التالي: لم كانت المرأة هي من بادرت سيدها بالكلام؟ ولم كان يوسف هو من تحدّث ثانية؟ ولم لم ينطق سيدها بكلمة واحدة في ذلك الموقف مباشرة؟ ولم بحث عن الدليل قبل النطق برأيه بالأمر؟ ولم كانت ردة فعله على نحو أن يكتفي بالقول ليوسف بأن يعرض عن هذا وأن يتوجه إليها بطلب الاستغفار لذنبها؟ ولم بقي يوسف ملازما المرأة في بيتها بالرغم من هذه "الفضيحة" الكبيرة؟
للإجابة على كل هذه التساؤلات فلابد (نحن نظن) من التعرض للسؤال الحتمي التالي وهو: من هو سيدها الذي ألفياه لدى الباب؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نعتقد جازمين بأن الذي ألفياه لدى الباب لم يكن زوجها أو بعلها ولكنه كان سيدها، بدليل اللفظ نفسه:
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ
وفي الوقت ذاته فإننا نفتري الظن من عند أنفسنا أن سيدها هو أخوها وليس زوجها (أو بعلها).
ما الذي تقوله يا رجل؟ هل يعقل ذلك؟ وأين الدليل على هذا الهذيان غير المسبوق؟

الدليل
نحن نظن أننا قد وجدنا الدليل على ذلك في الآية الكريمة نفسها في عبارة " بِأَهْلِكَ" في الآية الكريمة نفسها:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
ولكن كيف ذلك؟
جواب مفترى: عندما تفقدنا السياقات القرآنية لهذه المفردة وجدناها في حالتين اثنتين:
1.     في حالة موسى الذي سار بأهله بعد أن فرغ من عقده مع شعيب:
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
2.     في حالة موسى الذي طلب وزيرا من أهله أخاه هارون:
وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)
لنخرج من ذلك بالافتراء الكبير الخطير التالي: لا تطلق مفردة الأهل في النص القرآني على الزوج وأهل بيته فقط، ولكنها تطلق على العائلة الكبيرة لتشمل الإخوة كما في حالة موسى الذي تحدّث على أن هارون من أهله. وهذا المنطق ينطبق بكل يسر وسهولة على حالة مريم التي كان لها أهل بالرغم أننا نعلم يقينا أنه لم يكن له زوج أو بعل في يوم من الأيام، فهي التي انتبذت من أهلها مكانا شرقيا:
          وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
وهي التي أحصنت فرجها فلم تتزوج:
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
وبالرغم من ذلك، إلا أن القرآن الكريم يثبت أنه كان لمريم أخ، فتحدث بصريخ اللفظ عن أخيها هارون:
          يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
لذا، فعندما نتحدث عن أهل مريم فإن أول أهلها الذي يمكن أن نتفكر به هو أخوها هارون، وعندما نتفكر بأهل موسى لا يجب أن يطير ذهننا فقط إلى زوجته وأبناءه على أنهم هم أهله، ولكن يجب أن لا ننسى أخاه هارون[1].
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن أهل الرجل هم زوجته وأبناءه وبعض أقرباءه كما في الآية الكريمة التالية:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
هذا بالنسبة لأهل الرجل. فماذا عن أهل المرأة؟ فهل الزوج من أهل المرأة؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: كلا وألف كلا. فبالرغم أن الزوجة هي من أهل زوجها إلا أن الزوج ليس من أهل زوجته، فأهل المرأة هم بعض أقربائها كما نفهم ذلك من الآية الكريمة التالية:
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
ما علاقة هذا كله بامرأة العزيز؟
افتراء خطير جدا جدا من عند أنفسنا: إن الذي ألفياه (يوسف والمرأة) عند الباب كان من أهلها بدليل أنها قد خاطبته بالصيغة التالية:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
فالمرأة كانت جزءا من أهل سيدها الذي ألفياه لدى الباب. ولا يعني هذا بالضرورة أن تكون زوجته، وإنما هي بعض أقرباءه. وما أن يدب الخلاف حتى يكون أحد الأهل هو حكم (مذكر) في ذلك الخلاف:
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
ولو تدبرنا ما قام به سيدها، لما وجدنا أن دوره كان أكثر مما يمكن أن يقوم به الحكم الذي يقضي بين المتخاصمين. فما كان منه إلا أن يستمع إلى شهادة كل طرف، فاستمع لما قالته المرأة وأنصت لما قاله يوسف. ولم يتوقف عند ذلك، بل بحث عن الدليل، فوجده عند شاهد آخر من أهلها:
... وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26)
وما أن سمع شهادة الاثنين (المرأة ويوسف)، وما أن وجد الدليل القطعي على إدانة المرأة بالتهمة، حتى نطق في نهاية الأمر بالحكم الفصل:
          يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)

قصة يوسف المفتراة من عند أنفسنا: تصور جديد
تحاول المرأة الإيقاع بيوسف، فتنفرد بيوسف في بيتها (وسنتحدث لاحقا بحول الله وتوفيق منه عن السبب في أن تكون المراودة في بيتها)، فتغلق الأبواب قبل مجيء يوسف إلى المكان (وسنتحدث لاحقا إن أذن الله لنا بشيء من علمه عن سبب قدوم يوسف إلى هناك)، وما أن يدخل يوسف من باب محدد حتى  تغلقه عليه، فتكون بذلك قد غلقت الأبواب كلها (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ)، وتعرض نفسها عليه بعد أن هيئت كل شيء (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ).
يحاول يوسف أن يمنع نفسه عنها (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)، إلا أن الغريزة كانت أقوى منه عندما شاهدها وقد همت به، أي خلعت كل ملابسها (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، فما يكون من يوسف الإنسان والشاب الذي كان قد بلغ أشده حتى يهم بها (وَهَمَّ بِهَا)، فيبدأ بخلع ملابسه شيئا فشيئا، وما أن يصل إلى ذلك القميص حتى يرى برهان ربه (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) ، فيحجز ذلك البرهان بينه وبين متابعة الهم بالمرأة.
فيستبق يوسف المرأة إلى الباب طالبا الهروب من المكان كله، فتلحق به المرأة (وَاسُتَبَقَا الْبَابَ)، ولا أظن أنها كانت تستطيع اللحاق به لولا ذلك الباب الذي كان مغلقا. فيتوقف يوسف عند الباب لفتحه، فيكون موليا وجهه شطره، فتلحق به المرأة هناك، وتمسك به من الخلف، فتقد قميصه من دبر (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ). ولكن هذا لم يكن ليمنع يوسف عن فتح الباب والخروج منه. وهناك بالضبط يجد يوسف والمرأة معا شخصا لدى الباب وهو سيدها، فيلفياه هناك (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ).
ونحن نزعم الظن بأن ذلك الشخص لم يكن زوجها وإنما هو من أهلها، ونظن أنه أخوها لأسباب سنعرض لها لاحقا بحول الله. فتبادره المرأة سيدها بالكلام لتوقع بيوسف وترفع التهمة عن نفسها (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). فما يكون من يوسف إلا أن يحاول رد تهمتها بالدفاع عن نفسه (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي)، فيبقى سيدها ذاك صامتا لا ينطق ببنت شفة (على فكرة أنا لا أعرف ما معنى العبارة سوى أنه بقي صامتا)، فيحاول أن ينظر في الدليل، فيجده عند واحد من أهل المرأة نفسها (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ)، وسنتحدث لاحقا عن هذا الشاهد (إن أذن الله لنا بشيء من علمه). وما أن يتبين سيدها الحقيقة، ويقتنع بالدليل حتى ينطق بالحكم بينهما، فيطلب من يوسف أن يعرض عن هذا ويطلب منها أن تستغفر لذنبها لأنها هي من كانت من الخاطئين.
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
المعضلة الأكبر: فعلى الرغم من هذا كله، يجد القارئ للنص القرآني أن يوسف لازال متواجدا في بيت المرأة، يعمل لديها على أنه فتاها، فلا يتم إبعاد يوسف عن المكان بدليل أنها بعد أن سمعت بمكر النسوة في المدينة أرسلت لهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا، وطلبت من يوسف أن يخرج عليهن:
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
السؤال: هل لو كان الذي ألفياه لدى الباب هو زوجها (أو بعلها)، هل كان سيسمح (نحن نسأل) أن يبقى يوسف في بيته مع امرأته بعد تلك الحادثة؟
رأينا المفترى: نحن نظن أن يوسف لم يكن ليبقى في ذلك المكان لحظة واحدة لو أن الذي ألفياه لدى الباب هو زوجها. ولكن لماذا؟
جواب مفترى: لأن جل الذي طلبه سيدها منهما بعد أن استجلى الحقيقة هو
1.     أن يعرض يوسف عن هذا: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا
2.     أن تستغفر هي لذنبها:  وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ
ولم يتم اتخاذ أي إجراء تحفظي حتى الساعة على يوسف أو على المرأة التي ثبت أنها قد راودته عن نفسه.
السؤال: لماذا؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: لأن سيدها (ونحن نظن أنه أخوها) كان يريد أن يخفي ما حصل مع المرأة (أخته) وفتاها (يوسف) عن العزيز نفسه (زوج المرأة). فهو لا يريد لزوج المرأة (أو لبعلها) وهو العزيز نفسه أن يعلم بما حصل من المرأة مع فتاها. ولكن لماذا؟
رأينا: لأنه من أهلها. فسيدها هو واحد من أهلها الذي أراد أن تموت الحكاية في مهدها فلا تنتشر، ولا يسبب انتشارها فضيحة للعائلة بأكملها. ونحن نجد الدليل على ذلك في الخطاب الذي وجهه لليوسف ولم يوجهه إليها وهو أن يعرض يوسف عن هذا:
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا
فما معنى أن يطلب سيد المرأة من يوسف أن يعرض عن هذا؟ فما معنى الإعراض عن هذا؟ هل يعني ذلك أن يكف يوسف عن مراودة المرأة؟ ألم يثبت لسيدها أنها هي من كانت تراود يوسف عن نفسه؟ لِم لَم يطلب منها أن تعرض هي عن هذا؟ أليست هي من ثبت له أنها قد شغفت بالفتى حبا؟ الخ.
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن "الإعراض عن هذا" يعني السكوت عليه فلا يحدث الناس به. فالرجل (أي سيدها) يعلم تماما أن المرأة ما كانت لتخرج فتحدث الناس بما حصل مادام أن التهمت قد التصقت بها وأنها هي من راودت فتاها عن نفسه، وأنها هي من غلّقت عليه الأبواب، وأنها هي من همّت به وأنها هي من قدّت قميصه من دبر، ولكنه توجه بهذا الطلب إلى يوسف مباشرة (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) مادام أنه بريء ومادام أنه لم يراود المرأة عن نفسها. فلو انتشر الخبر لكانت الفضيحة لا محالة واقعة على رأس المرأة أولا والعائلة بأكملها ثانية. لذا جاء طلب سيدها من يوسف – نحن نفتري القول- على نحو أن يسكت على الأمر (الإعراض عنه) فلا يحدّث به أحدا من الناس. فيموت الخبر في مهده.
الدليل
لقد كان محمد يعرف المنافقين في لحن القول:
          وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
ولكن بالرغم من ذلك، طلب الله منه أن يعرض عنهم:
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)
السؤال: كيف كان محمد يعرض عنهم؟
ولو تدبرنا الآية الكريمة التالية جيدا، لوجدنا أن من الظلم الشنيع أن يعرض الإنسان عن آيات الله بعد أن يكون قد ذُكِّر بها:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22)
السؤال: كيف يمكن أن تعرض عن آيات الله بعد التذكير بها؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن في الإعراض عن الشيء سكوت عنه. فقد تعلم أنت شيئا جديدا من آيات الله، فلا يحق لك أن تعرض عنه، أي أن تسكت عنه فلا تخبر الآخرين به، لأن ذلك – نحن نفتري الظن- يصبح من باب الإعراض عن الآيات بعد التذكير بها، فيصبح من يفعل ذلك من الذين ظلموا، ومن الذين أجرموا (خاصة إذا ما علمنا أن البعض يأخذ أفكار الآخرين وينسب العلم بها إلى نفسه، ويكأنه هو صاحبها، وهل هناك إجراما أكبر من ذلك؟ فليعلم كل من يفعل ذلك (بمن فيهم أنا نفسي) أن العاقبة لا محالة كارثية):
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22)
والذي يعرض عن ذكر الله – نحن نظن- هو الذي لا يتحدث به:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
والله هو من طلب من إبراهيم أن يعرض عن خبر قوم لوط:
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
وها هو النبي يحدّث ببعض الحديث ويعرض عن بعضه:
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
نتيجة: لو دققنا جيدا في الآية السابقة لوجدنا – ربما بما لا يترك مجالا للشك- بأن الإعراض عن الشيء يقابله التعريف به (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ)

عودة على قصة يوسف: كيف كان ليوسف أن يعرض عن هذا الذي حصل بينه وبين امرأة العزيز؟
رأينا المفترى: نعم، نحن نظن أن سيد المرأة الذي ألفياه (يوسف والمرأة لدى الباب) طلب من يوسف أن يعرض عن ما حصل فلا يعرّف به، لكي لا يطلع على ذلك الخبر الآخرين بمن فيهم (نحن نفتري الظن) زوج المرأة (أو بعلها) - العزيز نفسه. ولكن لماذا؟
رأينا: لأن سيدها الذي ألفياه لدى الباب هو أخوها الذي هو من أهلها
الدليل
لكي نستجلي الدليل على ذلك فلابد من التعرض لمفردة سيدها نفسها، لنتعرف لم كان ذلك الشخص هو سيدها؟ لم لم يكن سيدهما؟ ماذا كان يفعل في المكان عندما ألفياه لدى الباب؟ ولما ابتدأته هي بالكلام؟ ولم سمح لهما بالدفاع عن نفسيهما أمامه؟ الخ.
بداية نحن نود إثارة التساؤل التالي: أين حصلت مراودة المرأة ليوسف؟
جواب: في بيتها:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
لو تدبرنا الآية الكريمة التالية لربما خرجنا ببعض الاستنباطات المفتراة من عند أنفسنا:
1.     أن المراودة قد حصلت في بيت المرأة
2.     أن يوسف لم يكن متواجدا مع المرأة في بيتها الذي هو بيت زوجها (أو بعلها)
3.     أن يوسف كان يعمل في البيت: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ
4.     أن المرأة هي التي جاءت ليوسف هناك
5.     أن بيت المرأة كان قريبا من بيت سيدها
السؤال: لماذا نسب البيت إلى المرأة؟ لم لم ينسب البيت إلى زوجها (أو بعلها)؟ ماذا كان يعمل يوسف في بيت تلك المرأة؟
رأينا: بداية يجب أن ندرك حقيقة قرآنية وهو أن مفردة البيت ربما تطلق على المكان الذي يضم حجرة واحدة على أقل تقدير. فـالبيت العتيق ليس أكثر من حجرة واحدة:
          ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
وللعنكبوت بيت:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
ويتم جمع مفردة بيت في النص القرآني على " بيوت"، فكان للنحل مثلا بيوتا:
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
وكان الناس ينحتون من الجبال بيوتا:
          وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
نتيجة: من يسكن البيت الواحد هم أهل:
          قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73)
وبالرغم من أن جميع سكان البيت الواحد هم أهل، إلا أنه كان لكل زوجه من أزواج النبي بيتها الذي تسكن فيه فلا تشاركها نساؤه الأخريات بذلك:
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
نتيجة: نحن نظن أن المكان بحجراته المختلفة تسمى بيوتا، والحجرة الواحدة التي تضم زوجة واحدة هي بيتا.
لذا نحن نظن أن امرأة العزيز كانت تسكن حجرة (بيتا) خاصا بها من بين مجموعة من الغرف الأخرى التي كانت بيوتا لغيرها. ولو حاولنا أن نربط الآيتين التاليتين معا لوجدنا أن التباين واضح في اللفظ:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
السؤال: لماذا نسب مكان المراودة إلى المرأة نفسها؟ ولماذا تحدثت النسوة في المدينة عن امرأة العزيز؟
افتراء من عند أنفسنا (1): لما كانت المرأة التي راودت يوسف عن نفسه (نحن نزعم القول) هي ابنة الملك نفسه كان لها بيتا في قصر الملك، فنسب ذلك البيت إلى المرأة ولم ينسب إلى زوجها، لأنه ببساطة بيت المرأة نفسها.
افتراء من عند أنفسنا (2): لما كان للملك أكثر من ابنة واحدة جاء خطاب النسوة في المدينة ليبرز المرأة التي راودت يوسف عن نفسه، فلم تقل النسوة شيئا كهذا مثلا:
          ابنة الملك تراود فتاها عن نفسه
وذلك لأنه سيحصل حينها لبسا في أي واحدة من بنات الملك كان الخطاب سيشمل (وسنتحدث عن تبعات هذا الظن بحول الله وتوفيقه لاحقا)، عندها سيكون لزاما إبراز ما يدل على أي منهن، ولكن لما قالت النسوة:
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ
يستحيل بذلك أن يحدث لبس في شخصية المرأة التي راودت يوسف عن نفسه.
السؤال: ومن هي امرأة العزيز أصلا؟
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن امرأة العزيز هي واحدة من بنات الملك نفسه، وكانت تسكن في قصر الملك مع بقية إخوانها وأخواتها، المتزوجات منهن وغير المتزوجات، فكان لكل واحدة (كما كان لكل واحد) بيتا في ذلك القصر الكبير، فكان البيت بيتها ولم يكن بيت زوجها أو بعلها؟
وقد كان ذلك البيت على مقربة من بيت آخر هو (نحن نظن) بيت سيدها الذي ألفياه لدى الباب. ونحن نتجرأ على افتراء القول بأن سيدها هذا كان أخوها وريث الحكم وولي عهد الملك.
الدليل
لجلب الدليل على هذا القول المفترى من عند أنفسنا، فلابد من إيجاد جواب على تساؤلنا التالي: من هو السيد في النص القرآني؟
رأينا المفترى من عند أنفسنا: نحن نظن أن السيد في النص القرآني (كما نفهمه) هو الوريث في الحكم بغض النظر عن عمره.
الدليل
نحن نقرأ الدليل على ذلك في قصة زكريا في الآية التالية:
فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)
فلقد كان زكريا منذ يومه الأول سيدا. فلماذا؟
نحن نعلم أن زكريا هو من طلب من الله الولي الذي يرثه ويرث من آل يعقوب:
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
فكانت الاستجابة الربانية على نحو ما طلب الرجل من ربه، فوهب الله له يحيى وليا، فكان وارثه ووارث من آل يعقوب، وقد كان يحيى سيدا منذ يومه الأول:
فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)
ولما كان يحيى حصورا لم يكن لزكريا ذرية غيره. فكان هو الوارث لوالده منذ اللحظة الأولى لولادته.
وبمثل هذا الفهم المفترى من عند أنفسنا فإننا نتجرأ على الظن بأن سيد المرأة الذي ألفياه لدى الباب قد كان سيدها، لأنه هو الرجل الثاني في الدولة (بغض النظر عن عمره) مادام أنه هو وريث الحكم:
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
ليكون النظام الإداري في مصر في زمن يوسف حينئذ (كما زعمنا في الجزء السابق من هذه المقالة) على النحو التالي:
-        الملك
-        السيد (ولي العهد)
-        العزيز (الصهر: زوج ابنة الملك)
نحاول أن ننهي هذا الجزء من المقالة بتقديم إجابات مفتراة من عند أنفسنا للتساؤلات التي أثرناها في بداية هذا الجزء من المقالة وهي:  
-         من هي تلك المرأة؟                   أنها ابنت الملك وامرأة العزيز
-         أين كانت تسكن؟                     في قصر والدها حيث كان لها بيتا فيه
-         من هو زوجها (أو بعلها)؟           العزيز (الذي لم يكن من العائلة المالكة ولكنه اكتسب ذلك الشرف
اكتستبا بالمصاهرة)        
-         من هو سيدها؟                       أخوها ولي عهد الملك
وسنحاول في الجزء القادم (إن أذن الله لنا بشيء من علمه) أن نتعرف أكثر على شخصية هذين الرجلين وهما (1) سيد المرأة (ولي عهد الملك) و (2) زوجها أو بعلها (العزيز)، محاولين النبش في دور كل منهما في قصة يوسف منذ بدايتها هناك في أرض مصر وحتى نهايتها. فالله وحده أسأله أن يعلمني (وصاحبي في الادكار علي) ما لم نكن نعلم، فيأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيرنا، وأن يعلمنا الحق الذي نقوله فلا نفتري عليه الكذب، ونسأله وحده أن يهدينا إلى نوره الذي أبى إلاّ أن يتمه ولو كره الكافرين، إنه هو الواسع العليم – آمين.

وللحديث بقية

المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح
17 كانون أول 2013





[1] نحن نفتري الظن بأن ليس هناك علاقة بين هارون أخ موسى وهارون أخ مريم، فهذا شخص وهذا شخص آخر، وسنتناول الحديث عنهما بحول الله وتوفيقه في مقالات لاحقة إن أذن الله لنا بشيء من علمه.