قصة موسى 10: باب العزير 07


وصلنا في الجزء السابق من هذه المقالة عند الظن بأن صاحب موسى كان متّجها مع موسى إلى مكان محدّد بعينه بعد أن نزلا من السفينة التي خرقها. فظننا أنهما قد نزلا على الجهة المقابلة للمكان الذي سترسو فيه سفينة المساكين الذين كانوا يعملون في البحر. ولم يكونا ذاهبين نحو الجهة التي سيأتي منها الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا، وإلا لما احتاج (نحن نظن) صاحب موسى أن يؤول ذلك لموسى لأن موسى ربما كان سيرى ذلك بأم عينه.
ولمّا كان موسى مرافقا هذا العبد الصالح في رحلة تعليمية، كانا متجهين (نحن نظن) إلى المكان الذي سيتلقى فيه موسى تعليما من هذا العبد الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلّمه من لدنّه علما. وقد طرحنا في نهاية ذاك الجزء من المقالة التساؤل التالي: أين كان صاحب موسى متجها بموسى في تلك الرحلة التعليمية؟
فظننا بداية أن صاحب موسى كان ينوي أن يطوف بموسى في أماكن يخبرها هذا الرجل جيدا، ليعلِّم موسى مما علّمه الله من لدنّه. وقد دعانا هذا الظن إلى العودة لتدبر الآية الكريمة التي ظننا أنها تتحدث عن هذا الرجل، وهي قوله تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)  
منطلقين هذه المرة من التساؤل الجديد التالي: هل كانت هذه هي التجربة الأولى لهذا الرجل مع ربه؟ أي هل كان طلب هذا الرجل من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى هو الطلب الأول والأخير؟ هل جاء طلبه هذا من باب المصادفة؟ من يدري!!!
رأينا: غالبا ما ظن من يقرأ هذه الآية الكريمة بأن ما حصل مع هذا الرجل عندما طلب من ربه أن يريه كيف يحيي القرية بعد موتها كان من قبيل المصادفة، ويكأن القارئ للنص القرآني ربما يظن بأن هذا الرجل قد مرّ على قرية ما بطريق الصدفة، فوجدها خاوية على عروشها، فهاله هذا المنظر، وهناك وقف ليتفكر متسائلا:
          ... أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا...
عندها جاء الرد الإلهي له على نحو ما حصل:
... فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا...
السؤال: إذا كان هذا ما حصل فعلا، فلم حصل هذا الموقف مع هذا الرجل فقط؟ لِم لم يحصل بعد ذلك مع غيره؟ ولِم لم يكن قد حصل مع من جاء قبله؟ ما هي خصوصية هذا الرجل حتى يجعله الله آية للناس؟
          ... وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ...
السؤال: هل كل من ركب حمارا ومر على قرية خاوية على عروشها وتفكر فيها، حصل معه ما حصل مع هذا الرجل؟ وما دخل حماره إذا بالأمر؟ وماذا كان يفعل بطعامه وشرابه حتى جاء ذكرهم جميعا (الرجل، حماره، طعامه، وشرابه) في كتاب يتلى إلى يوم الدين؟
افتراء من عند أنفسنا: لفهم مثل هذه الجزئيات المهمة في القصة، أظن أن علينا بداية أن نتوقف عن الحديث عن هذه المواقف ويكأنها حصلت من قبيل المصادفة. فنحن نؤمن يقينا بأن تلك أحداث عظيمة حدثت بطريقة ما جعلتها مؤهلة أن تكون جزءا من قرآن يتلى إلى يوم الدين، لا بل جزءا من العقيدة التي نؤمن بها، لذا فإن إنكارها (أو ربما التقليل من أهميتها أو تشويهها) ربما يجعل عقيدتنا كلها عرضة للانتقاد الذي ربما لا نقوى على رده، فتكون العقيدة برمتها في مهب الريح. فلو أنت حدّثت بمثل هذه القصص من لا يتخذ من دينك عقيدة لما وجدته سيظن بأنها أكثر من تخاريف الأمم السابقة التي أكل عليها الدهر وشرب، وما عادت تصلح أن تكون مثار نقاش للباحثين عن المعرفة العلمية بأدوات التجريب والقياس، والأخطر من هذا أن البعض (بمن فيهم جزء من أهل العقيدة نفسها) قد ينسبها إلى قصص التسلية والترويح[1] عن النفس في ساعات الفراغ التي تنفق على التندر والضحك وربما التهكم بمعتقدات الآخرين إذا لم يكن هو من المؤمنين بها.
السؤال: ما المخرج من مثل هذه "المطبات" التي أظن أنها كانت صنيعة سادتنا العلماء أهل الدراية والرواية؟
جواب مفترى: لابد من التفكر بمثل هذه المواقف وربطها بالسبب الذي من أجله وردت كآيات تتلى على مسامع الناس وتكون عليهم حجة، فتلاوة هذه الآيات بحد ذاتها هي حجة على الناس حتى لا يكفروا بالله كما جاء بصريح اللفظ القرآني:
          وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)
نتيجة: نحن نظن أن تلاوة هذه الآيات علينا هي حجة كافية كحجة وجود الرسول فينا، لا بل فإننا نظن أنها حجة سابقة لحجة وجود الرسول فينا.
السؤال: ألم تصبح آيات الله هذه (كهذا الرجل الذي جعله الله آية للناس) هي السبب في الكفر بالله؟ دلوني - بالله عليكم- من يقبل من غير أهل هذا الدين أن يسمع مثل هذه الآيات التي تتحدث عن رجل يركب حمارا يحمل عليه طعامه وشرابه فيمر على قرية خاوية على عروشها، وما أن يطرح تساؤله عن بعثها من بعد موتها حتى يميته الله مئة عام ثم يبعثه ليريه كيف يحي الموتى وطعامه لم يتسنه بعد، ثم يرضى أن يؤمن بها كعقيدة صحيحة؟ وما بالك إن وجد هذه العقيدة تزخر بمثل هذه القصص التي لم تعد تربط إلا بالخرافات والأساطير القديمة؟
السؤال: ما الذي أوصلنا إلى هذه الحالة إن كنا نؤمن أن هذه الآيات قد جاءت فعلا من الإله الواحد الأحد؟ وكيف سنبرهن للناس جميعا بأن تلاوة هذه الآيات على مسامعهم هي حجة عليهم إن هم كفروا لا تقل أهمية عن حجة وجود الرسول فيهم؟
          وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)
جواب مفترى: أظن أن الذي أوصلنا إلى هذا الحرج هو منهج السلف الصالح من سادتنا العلماء أهل الدراية الذين وقفوا عند حد فهمهم (الذي لا نثق به وثوقنا بصلاحهم) لهذه الآيات وزعموا أن ذلك هو نهاية المطاف، فأفهموا العامة من الناس أن هذه الآيات ليست أكثر من "معجزات" يجب الإيمان بها دون الحاجة إلى فهمها أو إدراك ماهيتها، وأظن أن دافعهم في ذلك لم يكن أكثر من عجز عقولهم أنفسهم عن إدراكها. فمنطقهم (نحن نتهمهم زورا) كان على النحو التالي: ما دام أن "عقولنا العظيمة" لم تستطع أن تدرك ماهيتها، فكيف ستقدر على ذلك "عقول الآخرين" على بساطتها ؟! من يدري!!!
والأغرب من هذا – يا سادة- هو منطق هؤلاء العلماء ذاته، فأنا شخصيا لا أستطيع أن أفهم التناقض الذي يضعون به أنفسهم بين ليلة وضحاها. فلقد كنت أقلّب محطات الراديو في سيارتي لأجد عالمنا الجليل الذي سيطرت دروسه العظيمة في تفسير القرآن على معظم تلك المحطات، وكان هذا العالم لا ينفك عن التغني بأن هذا الدين (الدين الإسلامي الذي يروّج له) هو دين عقل وتدبر، وأننا مطالبون بإعمال العقل فيه لنصل في النهاية إلى الحقيقة، وهو لا يمل في معظم دروسه من تكرار ما يسميها "الحقائق العلمية" التي توصل إليها "العلم الحديث" (كما يحب أن يصفه)، والتي يظن أنها تؤيد ما جاء في كتاب الله، ليبرهن للمستمعين من الناس كيف أن هذا الكتاب زاخر بالعلم الذي يتطلب فهمه وإدراكه تشغيل العقول، فلا ينفك أن يحثّ الناس على ذلك في كل فرصة تتاح له. ولكن المفارقة العجيبة تكمن في أنه ما أن يصل إلى مثل هذه الآيات من كتاب الله كهذا الرجل الذي مر على قرية، أو كقصة قتل صاحب موسى للغلام، أو قصة البقرة في سورة البقرة حتى تكون الدعوة هذه المرة لديه واضحة جلية: أقفلوا عقولكم أيها المستمعون الأفاضل وعليكم أن تؤمنوا بهذه الأمور دون تدبر لأن الله (حسب ما فهمته من كلامه) أرادنا أن نأخذها على تلك الشاكلة، فهذه أمور تؤخذ بالأيمان (النقل) وليس بالعقل (العلم). سبحان الله العظيم!!!
السؤال الذي كنت على الدوام أرغب أن يصل إلى مسامع شيخنا وعالمنا الجليل (بطل مسلسل تفسير القرآن الحكيم على المحطات الفضائية) هو: متى يا شيخنا علينا أن نشغل عقولنا (switch on)؟ ومتى علينا أن نغلقها (switch off)؟ هل لنا بقائمة من الآيات التي تريدنا أن نشغل عقولنا بها وقائمة أخرى بالتي لا تريدنا أن نشغل عقولنا بها؟ أم هل علينا أن نبقى ننتظر الحلقة القادمة من حلقات مسلسلكم العظيم لتمنّ علينا أنت (وأمثالكم من سادتنا العلماء أهل الدراية) بما ترونه مناسبا لنا من العلم، فنبقى نتناقله نحن بيننا كما تريدوننا أن نفعل؟ هل كتب علينا أن تكونوا أنتم على الدوام أهل الدراية ونبقى نحن أهل الرواية ما حيينا؟ من يدري!!!
ولعلي أتجرأ على اتهامك يا شيخنا الجليل (واتهام كل من سلك طريقك في الفكر) أن هذه ليست أكثر من وسيلة دفاع لديكم عن عقولكم التي (أظن جازما) أنها قد عجزت عن فهم تلك الآيات العظيمة. وذلك لسبب بسيط جدا وهو أنه لو أنكم فهمتم ماهية تلك الآيات فعلا لأثقلتم رؤوسنا بتردادها صباح مساء.
رأينا: نحن نظن (معتذرين لكم يا شيخنا الجليل مقدما) أنكم قد أقنعتم العامة من الناس بعقيدة باطلة، والغاية من ذلك هو صدّ الناس العاديين (من مثلي) عن الخوض فيها لتكون هي شغلكم لا ينافسكم فيها الكثيرون. فأنتم من وضعتم آيات الله البينات في قائمة أحدثتموها بأنفسكم (ما أنزل الله بها من سلطان في زعمنا) تسمى "المعجزات". فأصبح عقل العامة يرتعد خوفا عندما يمر بهذه "المعجزات" المزعومة في كتاب الله، فيرضى أن يبقى مغلقا عقله لا يتدبرها، لتكونوا أنتم على الدوام مرجعيتهم في ذلك، وظن العامة من الناس أنهم بحاجة فقط إلى ترتيل الآيات على مسامعهم، مكتفين بالجرس الموسيقي الرائع لتلاوتها، فأصبح الإنسان العادي لا يبحث إلا عن صاحب الصوت الجميل ليسمع ترتيل الآيات من فمه، علّها تحدث في نفسه شيئا من "الطرب" الذي حرّمه على نفسه من طرق أخرى في حياته. فهو لا يريد أن يطرب من سماع أهل الغناء والمجون (كما سمّاهم أهل الدين) ولكنه يبحث عن حسن الصوت عند المقرئين وبعض المنشدين الدينيين. فراجت تجارة "التغني" بكتاب الله عندما أخذ "المقرئون" يتنافسون في "تلحين" الآيات ربما أكثر من تنافس المغنين في تلحين القصائد الشعرية. والأغرب من ذلك أن هذه الحرفة قد أصبحت في عصر تكنولوجيا الاتصالات وسيلة للتكسب والترزق، ولا يحتاج من يريد الدليل إلى أكثر من تقليب محطات التلفزة التي ترتل فيها آيات الذكر الحكيم.
وربما الأخطر من هذا كله أن هناك في جامعاتنا العتيدة دوائر متخصصة تمنح الدرجة العلمية الأعلى (الدكتوراه) في هذه القراءات. ويكأن لسان حالهم يقول أننا قد فهمنا آيات الكتاب الحكيم وما تبقى علينا إلا أن "نتغنى" في ترتيلها.
السؤال: هل هذه هي ذروة الرفاه الفكري لهذه الأمة؟ هل أفهم سادتنا العلماء أهلُ الدراية العامةَ من الناس آيات كتاب ربهم وما تبقى إلا أن "يلحنوه" (بلغة أهل الطرب والمجون كما ينعتوهم)؟ إن جلّ ما أود إثارته من هذا النقاش (غير المتزن بالطبع) هو التساؤل التالي: هل فعلا وصلنا إلى مرحلة أن يؤمن على الفور من سمع آيات الله تتلى عليه، فلا يكفر كما تصور ذلك الآية الكريمة التالية أحسن تصوير؟
          وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)
إن ما يهمنا قوله هنا في سياق الحديث عن هذا الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه هو: ألم يكن هذا الرجل آية من آيات الله:
          ... وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ...
أليست هذه آية من آيات الله التي يجب أن تكون سببا في عدم الكفر متى ما تليت على مسامع الناس؟ فما بال الناس يسمعونها ولا يؤمنون؟ وما بال بعضهم يكفر عندما يسمعها فلا ينعتها إلا بأساطير الأولين؟
عقيدتنا: نحن نؤمن إيمانا يقينيا بأنه لو استطعنا أن نفهم قصة هذا الرجل الذي جعله الله آية للناس (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ) كما بيّنها الله في كتابه الكريم:
          طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
وكما بيّنها محمد للناس بلسان قومه قرآنا عربيا:
          وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
لأصبحت سببا كافيا في أن لا يكفر الناس:
          وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)
ونحن على يقين أن الفهم الصحيح لقصة هذا الرجل ستجعل كل من يسمعها (متى ما عقلها) لا ينطلق لسانه إلا بكلمة واحدة، ألا وهي ما جاء في الآية الكريمة التالية:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53)
وتصبح العقيدة الدامغة عنده تتمثل بقول الحق في كتابه الكريم:
          وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37)
السؤال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ هل هذا ممكنا؟
جواب مفترى: دعنا نحاول أن تدبر (بحول من الله وتوفيق منه) قصة هذا الرجل الذي جعله الله آية للناس (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ) إلى نهايتها، ثم انظر عزيزي القارئ أنت بنفسك ما ستنتهي إليه الأحداث، لتكون أنت بنفسك حكما على هذه الآية التي ليست أكثر من آية واحدة من آيات الكتاب الحكيم الكثيرة.
(دعاء: فالله وحده أسأل أن يهديني رشدي وأن يعلمني الحق الذي أقوله فلا أفتري عليه الكذب، إنه هو العزيز الحكيم)
أما بعد.
إن نقطة البداية في هذا البحث هي الآية الكريمة نفسها التي تتحدث عن هذا الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
فلو قرأنا هذه الآية الكريمة في سياقها الأوسع لوجدنا أن الآية التي تسبقها تتحدث عن إحياء الموتى (الخاصة بقصة إبراهيم مع ذاك الذي آتاه الله الملك)، وأن الآية التي تليها تتحدث عن إحياء الموتى كذلك (الخاصة بطلب إبراهيم نفسه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى):
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
ولو دققنا في السياق الأوسع أكثر لوجدنا الآية التي سبقت هذه الآيات الثلاث هي الآية رقم 257 التالية:
اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
لنخلص من ذلك إلى النتيجة التي مفادها أن هناك من الذين آمنوا من كان الله هو وليهم (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ)، وهو الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور (يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). فنحن لا نشك قيد أنملة أن الله هو من أخرج إبراهيم من الظلمات إلى النور، وكذلك هي عقيدتنا بالنسبة لهذا الرجل: فالله هو من أخرج هذا الرجل من الظلمات إلى النور. فكما استجاب الله دعوة إبراهيم فأخرجه من الظلمات إلى النور عندما أراه ما كان يَشْكُل عليه من كيفية إحياء الموتى، استجاب الله لطلب هذا الرجل فأخرجه من الظلمات إلى النور عندما أراه كيفية إحياء الموتى.
نتيجة: الله هو من أخرج إبراهيم من الظلمات إلى النور والله هو من أخرج هذا الرجل من الظلمات إلى النور. فلقد كان كلا منهما في ظلام تام فيما يتعلق بكيفية إحياء الموتى، وجاء الفضل من الله لكليهما عندما أراهما كيفية إحياء الموتى، فخرجوا من تلك الظلمة (الجهل وعدم المعرفة والقلق) إلى النور (العلم والمعرفة واليقين).
ولكن هناك فرق بسيط بين الحالتين: ففي حين أن الله قد أرى خليله إبراهيم كيفية إحياء الموتى في مخلوقاته من الطير:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
أرى الله هذا الرجل كيفية إحياء الموتى في نفسه عندما أماته ثم بعثه، كما أراه ذلك في مخلوقاته عندما جعله يشاهد بأم عينه كيف ينشز الله العظام ثم يكسوها لحما:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
وكانت النتيجة عندما تبين له هي قوله:
          فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
نتيجة مفتراة: مادام أن الله قد أخرجه من الظلمات إلى النور، فلابد أن هذا الرجل قد كان من أولياء الله، انظر الآية الكريمة التي تتحدث عن ذلك كما نفهمها:
اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
ولو كان هذا الرجل من أولياء الطاغوت الذين كفروا لأخرجه ذلك الطاغوت من النور إلى الظلمات (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)، وعندها لن تكون ردة فعله على نحو (أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ومادام أن هذا الرجل كان من أولياء الله، فيستحيل (نحن نعتقد) أن يكون من الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهو غرتهم الحياة الدنيا:
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70)
ومادام أنه كذلك فهو إذن من المتقين:
          إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أن هذا الرجل كان من المتقين، فاستحق ولاية الله له، فلم يكن يتخذ دينه لعبا ولهوا ولم يكن من الذين غرتهم الحياة الدنيا، فأخرجه الله من الظلمات إلى النور.
إن هذا المنطق يقودنا إلى التفكر من جديد في قصة هذا الرجل منطلقين من المبدأ العقائدي التالي: إن هذه القصة لم تحدث صدفة، وأن طلب هذا الرجل لم يكن من باب اللهو اللعب، وأن هذا الرجل لم يكن من الذين غرتهم الحياة الدنيا. لنصل إلى النتيجة المفتراة الكبيرة التالية: إن هذا الرجل كان طوّافا (على حماره الذي كان يحمله ويحمل طعامه وشرابه وأسفاره) في الأرض، باحثا عن آيات الله فيها، ليتفكرها ويتدبرها، وكانت آية إحياء الموتى هي آخر الآيات التي أشغلت تفكيره، وأعيته في الوصول إليها، لذا نحن نظن (مفترين القول من عند أنفسنا) أن هذا الرجل قد خبر من آيات الله الكثير، وما أن وصل إلى تلك القرية الخاوية على عروشها حتى كانت آية إحياء الموتى هي منتهى علمه.
نتيجة مهمة جدا جدا سنحتاج إليها لاحقا: ارتبطت قصة هذا الرجل بآية إحياء الموتى.
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن هذا الرجل كان من الباحثين على الدوام عن آيات الله، فعلم منها الكثير وما أشكل عليه في نهاية رحلته إلا كيفية إحياء الموتى. وما أن وصل إلى تلك القرية الخاوية على عروشها حتى جاء استفساره (كمؤمن بآيات الله كلها) عن كيفية إحياء الله لهذه القرية الخاوية على عروشها بعد موتها، فما ترك تلك القرية حتى جاءه الخبر اليقين في ذلك:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
الدليل
نحن نجد الدليل على افترائنا هذا من ملاحظات ثلاثة هي أنه
-        مر على قرية مرورا
-        كان يركب حمارا
-        قال في نهاية المطاف بعدما تبين له "أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
السؤال الأول: كيف مر على تلك القرية؟
رأينا: نحن نظن أنه مادام أن الرجل قد مرّ على تلك القرية مرورا، فهو إذا لم يكن من أهلها، فالمنطق البسيط هو أن أهل القرية لا يمرون على قريتهم مرورا، لذا كان الرجل (نحن نظن) غريبا عن تلك القرية وعن تلك الديار برمتها، لأنه لو كان من أهل الديار لربما سمع بخبر القرية وتفكر فيها قبل أن يمرّ عليها. ولكننا نعتقد جازمين بأن مروره على تلك القرية كانت هي خبرته الأولى فيها لأنه لم يعهدها من ذي قبل.
لنطرح إذن التساؤل التالي: ماذا جاء يفعل هذا الرجل في تلك القرية، أو لماذا مرّ على تلك القرية مرورا؟ ومن أين كان قادما؟ وإلى أين كان متجها؟
جواب مفترى: نحن نظن أن الرجل لم يكن قادما إلى القرية ليمكث فيها، فهو مسافر في الطريق وما كان مروره فيها إلا لأنها (نحن نظن) واقعة في طريقه:
          أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا...
ثانيا، إن هذا الرجل كان طوافا في الأرض باحثا عن آيات الله، وذلك لأن مروره عليها جعله يقف ليتدبر ما حل فيها. فكم من إنسان غير مؤمن يمكن أن يمر على آيات الله فلا يتدبرها:
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
بل على العكس فقد يصبح مرور هؤلاء الناس على آيات الله مثالا للتندر والسخرية كما فعل قوم نوح عندما كانوا يمرون عليه وهو يصنع الفلك التي تركت آية للناس:
          وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (15)
فعلى الرغم أن الفلك التي كان نوح قائما يصنعها قد كانت آية (وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً)، إلا أن القوم كانوا يسخرون منها لأنهم لم يكونوا من المدّكرين (وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).
السؤال: هل من مدّكر؟
جواب: بلى، أسأل الله أن أكون أول المدّكرين، فلا أسخر بآياته، إنه هو السميع المجيب – آمين.
ثالثا، كان هذا الرجل من المؤمنين، لأن الإنسان المؤمن –بالمقابل- إذا ما مرّ على آيات الله وقف ليتدبرها ويتفكر فيها، وتكون الحاجة ملحة لتعقلها إن هو كان من المدّكرين:
وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
نتيجة مفتراة: نحن نظن أنه لمّا كان هذا الرجل مارا بالقرية فهو إذن من المسافرين.
السؤال: ما قصة حماره الذي كان يركبه؟ ولماذا جاء ذكر حماره في هذا السياق؟
نحن نظن أن الرجل كان معه حماره من أجل أن يركبه مادام أنه كان مسافرا، فنحن نعلم من النص القرآني أن الحمير تحجز لغايتين: للركوب وللزينة:
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8)
فلا أظن أن هذا الرجل كان متخذا حماره ذلك للزينة (من يدري!!!)، ولكن الظن أميل عندي أنه كان متخذا حماره للركوب مادام أن نص الآية يبيّن أنه قد مر على قرية لم تكن هي قريته.
ولو تدبرنا قصة الحمير أكثر في كتاب الله لوجدنا أن مثل الحمير قد ضرب في موطنين من كتاب الله الكريم وهما:
1.     الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها، فكان مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
لذا نحن نؤمن أن بالاستحالة بمكان أن يكون مثال هذا الرجل كمثل الحمار الذي كان معه. ولكننا نظن في الوقت ذاته أن الرجل كان متخذا حماره هذا ليحمله وربما ليحمل أسفارا له يستفيد منها هو وإن لم يستفد منها حماره الذي يحملها.
(دعاء: أعوذ بك رب أن يكون مثلي كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا)
2.     أن أنكر الأصوات هو صوت الحمير
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
لذا نحن نظن أن هذا الرجل كان يقصد في مشيته، وكان يغضض من صوته لأنه لا يريد أن يكون صوته كصوت الحمير.
وقد تحدثنا في مقالة سابقة لنا عن سبب أن يكون صوت الحمير هو أنكر الأصوات، فزعمنا القول أن صوت الحمار يصعب تميز مقصده، فسواء كان في الحمار حاجة من جوع أو حاجة من مرض أو عنده رغبة جنسية فهو يطلق الصوت ذاته. فصوت الحمار لا يتغير بتغير حاجة الحمار من إطلاق صوته. وهذا في ظننا يجعله أنكر الأصوات. فلو أنت سمعت صوت قط أو كلب، لوجدت أنه يغيّر نبرة صوته بتغير حاجته، فإذا كان الكلب جائعا مثلا، سمعت له صوتا يختلف بعض الشيء عن صوته في حالة الخوف أو المرض أو الرغبة الجنسية، وهذا الإنكار (صعوبة التمييز) تختلف من حيوان إلى آخر حتى تصل ذروتها عند الحمير. فأنت لا تستطيع أن تميز ما يريده الحمار من الصوت الذي أطلقه.
(دعاء: أعوذ بك رب أن يكون صوتي كصوت الحمار)
لذا فإن صوت هذا الرجل يقع على النقيض تماما من صوت الحمار، لأن درجة التمييز فيه عالية جدا تجعله يقع على الطرف المقابل من صوت الحمار الذي هو إنكارها، ولما كانت المعرفة هي نقيض الإنكار:
          وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69)  
وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50)
فإن الذي لا يعرف الشيء يكون له منكرا، ولو تدبرنا قصة هذا الرجل من بدايتها، لما وجدناه منكرا لشيء، فهو قد أحاط خبرا بالسفينة والمساكين والملك، وأحاط خبرا بالغلام الذي قتله وبأبويه المؤمنين، وأحاط خبرا بالجدار وأهل القرية واليتيمين أهل الجدار، الخ. وليس أدل على إحاطته خبرا بما لم يحط به الآخرون من قدوم نبي الله وكليمه موسى بشخصه الكريم ليتعلم منه، فيكون له تابعا مطيعا لا يعصي له أمرا:
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل أن هذا الرجل كان يمشي في الأرض باحثا عن آيات الله فوجد منها الكثير، وكان يركب حماره الذي يحمل أسفاره وطعامه وشرابه، وما أن وصل إلى تلك القرية الخاوية على عروشها حتى كانت آية إحياء الموتى حينئذ هي الآية الأخيرة التي يبحث عنها ربما ليسجلها في تلك الأسفار التي كانت معه على ظهر حماره. وما أن تبين له ذلك حتى كانت ردة فعله على النحو التالي:
          ... فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
السؤال: من أين كان يعلم أن الله على كل شيء قدير؟ ومادام أنه يعلم ذلك، فلم يطلب من الله أن يريه كيف يحيي الموتى؟
رأينا المفترى: لم يكن طلب الرجل ذاك من أجل التصديق أو الإنكار، وإنما كانت غايته من ذلك الطلب حتى يتبين:
          ... فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
فنحن نفتري الظن بأن هذا الرجل كان مؤمنا بالله، باحثا عن آياته، فكان ممن أخرجهم الله من الظلمات إلى النور لأنه لم يكن من الظالمين، فكان من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لذا جاء طلبه (نحن نتخيل) من أجل العلم بالكيفية، أي بكيفية إحياء الله الموتى، فجاء سؤاله على النحو التالي:
... قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا
فكانت النتيجة أن قدم الله له البرهان العملي على ذلك:
... فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
الدليل:
نحن نجد الدليل على ذلك في صيغة طلب الرجل. ولكن كيف ذلك؟
جواب: لو تدبرنا ما قاله الرجل لوجدنا أنه ابتدأ طلبه بمفردة " أَنَّىَ"
...قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا
ولو تتبعنا هذه الصيغة على وجه التحديد في كتاب الله كله لما وجدنا أن عبدا من عباد الله قد استخدمها إلا وجاءه الرد مباشرة ممن وجه خطابه إليه. فها هم نفر من بني إسرائيل يحاورون نبيهم بهذه الصيغة:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ...
فما كان من نبيهم إلا أن يرد على ما قالوا على الفور:
... قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
وها هو زكريا يخاطب مريم بهذه الصيغة:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ...
فما كان من مريم أن تسكت، بل جاء ردها مباشرة:
... قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
وهذا لا ينطبق فقط في حوارات الناس فيما بينهم، بل ينطبق أيضا في سياق خطاب الناس مع ربهم. فهذا زكريا يحاور ربه باستخدام هذه الصيغة:
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ ...
فجاءه الرد الإلهي الفوري
... قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
وتأكد الخطاب نفسه في موضع ثان من كتاب الله:
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
وجرى حوار مثله بين مريم وربها:
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47)
وجرى حوار مثله بين مريم من جهة وروح ربها من جهة أخرى:
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
وهذا ينطبق على حوارات كل من سأل بمثل هذه الطريقة:
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (156)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أن صيغة "أَنَّى ..." هي  صيغة سؤال من أجل تلقي رد وليست صيغة إنكار.
(دعاء: أنى يكشف الله السوء والضر وهو أرحم الراحمين؟)
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل أنه ما أن وقف ذلك الرجل الصالح على أطلال تلك القرية الخاوية على عروشها حتى انطلق لسانه ليطلب من ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى التي كانت حتى الساعة تَشْكُل عليه. وأظن أنه كان ينوي أن يسجل ذلك في أسفاره التي كان يحملها على حماره متى ما تبين له ذلك. وهناك جاءه البرهان العملي الفوري، فأماته الله مئة عام ثم بعثه، وما أن بعثه حتى أراه عملية إحياء الموتى خطوة بخطوة، وأظن أنه كان يسجل علم ذلك في أسفاره:
... فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
السؤال: إذا كان ما يريده الرجل هو أن يريه الله كيف يحيي الموتى فما الداع أن يميته الله مئة عام ليبعثه بعد كل تلك الأعوام فيريه كيفية إحياء الموتى؟ وما الداع أن تكون الفترة الزمنية هي مئة عام؟ وماذا حصل خلال تلك الفترة من الزمن؟
جواب مفترى: نحن نظن أن السبب الذي من أجله أماته الله مئة عام هي حتى يجعله الله آية للناس:
... فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
ولو دققنا النظر في ترتيب مفردات الآية الكريمة نفسها لوجدنا أن الله قد جعله آية للناس (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ) قبل أن يريه كيف ينشز العظام ثم يكسوها لحما (وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا):
... وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا...
نتيجة: كان الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه هو آية للناس بنفسه.
السؤال: لماذا جعل الله هذا الرجل على وجه التحديد آية للناس؟ ألم يطلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيى الموتى؟
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
لم لم يميته الله مئة عام ثم يبعثه كما فعل مع هذا الرجل؟ لم لم يكن إبراهيم بنفسه آية للناس؟
جواب: لقد كان هذا الرجل آية للناس وكان عيسى بن مريم كذلك آية للناس:
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
السؤال: لماذا كان هذا الرجل وعيسى بن مريم هما فقط آية للناس من دون البشر جميعا؟
جواب: هذا ما تعرضنا لجزئية منه عند حديثنا عن كيفية خلق المسيح عيسى بن مريم، وسنتابع الحديث عنه هناك إن أذن الله لنا بشيء من علمه، ونكتفي هنا أن نذكر القارئ الكريم بالآيات القرآنية التالية التي جاءت خاصة بالمسيح عيسى بن مريم:
إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)
حيث ترتبط آية المسيح بالخلق وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله.
(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان: كيف تم خلق عيسى بن مريم؟)
(دعاء: أللهم أنفذ أمرك بمشيئتك وإرادتك لي الإحاطة بشيء من علمك لا ينبغي لغيري إنك أنت العليم الحكيم - آمين)
أما ما يهمنا الحديث عنه هنا فهو الفرق بين إبراهيم (الذي أراه الله كيفية إحياء الموتى) وهذا الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم أراه كيفية إحياء الموتى، لنطرح التساؤل على النحو التالي: لِم لَم يميت الله إبراهيم مئة عام ثم يبعثه بعد ذلك ليريه كيفية إحياء الموتى كما فعل بهذا الرجل الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها؟
جواب مفترى: نحن نظن أن هذا ربما يعود إلى كيفية صياغة الرجل لطلبه من ربه، فهو الذي طلب برهان ذلك بتطبيقه على نفسه.
السؤال: وكيف ذلك؟
جواب مفترى: لأنه صاغ ذلك باستخدام مفردة "أَنَّىٰ" بينما صاغ إبراهيم طلبه باستخدام "أَرِنِي كَيْفَ"، قارن بين الطلبين:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
الدليل
لو راجعنا كل السياقات القرآنية التي استخدمت فيها هذه الصيغة (أَنَّىٰ) لوجدنا أن الخطاب يخص المتحاورين أنفسهم:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47)
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (156)
(دعاء: رب أرني كيف تكشف السوء والضر وأنت أرحم الراحمين – آمين)
السؤال: ولماذا أماته الله مئة عام على وجه التحديد؟ لِم لَم تكن الفترة يوما واحدا، أو عاما واحد أو عشرة أعوام أو تسع وتسعون عاما أو ألف سنة إلا خمسين عاما، أو سنين عددا، وهكذا؟
جواب مفترى: نحن نظن أن لهذا علاقة بسبب خروج هذا الرجل في رحلته على حماره ووقت مروره على تلك القرية. فلكي نتعرض للسؤال الخاص بالفترة الزمنية نظن أن علينا أن نتعرض لعدة تساؤلات سابقة له تشمل:
-        من هو هذا الرجل؟
-        من هم قوم هذا الرجل؟
-        من أين جاء هذا الرجل راكبا حماره؟
-        وأين كان متجها؟
-        وماذا كان هدفه من تلك الرحلة؟
-        متى خرج في رحلته تلك؟
-        الخ.
الافتراءات التي ننوي أن نقحم أنفسنا فيها هي:
-        كان هذا الرجل هو العزير الذي قالت عنه اليهود أنه ابن الله. وقد تعرضنا لهذا الافتراء بالتفصيل في الأجزاء السابقة.
-        كان هذا الرجل من بني إسرائيل
-        جاء هذا الرجل من مصر
-        كان هذا الرجل قاصدا بيت المقدس
-        كان يهدف أن يذهب إلى ربه ليهديه
-        خرج هذا الرجل من مصر عندما تم استعباد بني إسرائيل في أرض مصر
-        الخ.
تخيلات من عند أنفسنا
نحن نتخيل الذي حصل مع هذا الرجل على النحو التالي: ما أن يهلك يوسف ويدب الخلاف بين بني إسرائيل في أرض مصر، حتى تقوى شوكة المعادين لهم من أبناء مصر الأصليين وعلى رأسهم آل فرعون. فنحن نظن أن آل فرعون لم تكن أكثر من عائلة واحدة من عائلات المصريين وهم السكان الأصليين لهذه الأرض (أي أرض مصر)، وأظن أن آل فرعون كانوا أشد أهل مصر عداء لبني إسرائيل الذين قويت شوكتهم في أرض مصر وسيطروا على مقاليد الحكم في زمن يوسف. فما مات يوسف حتى كان الله قد آتاه بعض الملك:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)  
ولكن جاءت نهاية يوسف على شكل هلاك:
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34)
ونحن نفتري الظن بأن من هلك من الرجال (كيوسف مثلا) هو من لم يكن له ذرية من الذكور لترثه:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
... وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
فلقد كانت وراثة يوسف (نحن نظن) كلالة، وفي تلك الأثناء دب الخلاف بين بني إسرائيل حول قضية مفصلية خاصة بمن سيكون رسولا من بعد يوسف. فلقد عهد بنو إسرائيل النبوة وراثة في بيت من بيوتهم، فقد كان يوسف نفسه هو ابن يعقوب ابن اسحق ابن إبراهيم. لذا أصبح الشغل الشاغل (نحن نتخيل) لعلماء بني إسرائيل (خاصة أحبارهم ورهبانهم) حينئذ هو التنبؤ بمصير الرسالة من بعد هلاك يوسف:
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34)
وهنا أخذ آل فرعون (وهم الأشد عداء لبني إسرائيل في أرض مصر بدليل أن الذي كان يسومون بني إسرائيل أشد العذاب هم آل فرعون وليس فرعون نفسه):
          وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
يجمعون أمرهم للإطاحة بالملوك من بني إسرائيل من بعد يوسف في أرض مصر:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20)
فبنو إسرائيل كانوا في أرض مصر ملوكا من قبل قدوم موسى. وكان ذلك – في ظننا- في الفترة التي أعقبت ملك يوسف. وما أن دبّ الخلاف في ملكهم حتى قويت شوكت آل فرعون واستطاعوا الإطاحة بحكم ملوك بني إسرائيل في أرض مصر. وهنا بدأت الفترة الأشد حرجا في تاريخ بني إسرائيل، وهي استعبادهم في أرض مصر:
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
فأصبح بنو إسرائيل مستضعفين في الأرض، وكان الهدف الأساسي من قدوم موسى وأخيه هارون إلى فرعون هو أن يخرجهم من أرض مصر:
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
بعد أن كان فرعون قد عبّدهم فيها:
          وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
وهنا ننطلق على الفور لطرح التساؤل التالي: كم استمرت فترة استعباد بني إسرائيل في أرض مصر؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: مئة عام.
تخيلات من عند أنفسنا: نحن نتخيل الذي حصل على النحو التالي: ما أن تمت الإطاحة بعهد الملوك من بني إسرائيل في أرض مصر على يد آل فرعون، ووصول الفرعون الأول إلى سدة الحكم، حتى كان القرار الأول له هو استعباد بني إسرائيل في الأرض. وكان هذا الرجل الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها أحد علماء بني إسرائيل حينئذ (من أحبارهم ورهبانهم). وكان هذا العالم من بني إسرائيل عالما بشريعة الله التي لا تبطل، والخاصة بمن وجد نفسه في هذا الوضع وهو الاستعباد في الأرض:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97)
لذا نحن نتخيل أن بني إسرائيل قد انقسموا في أرض مصر حينما آل الحكم إلى آل فرعون إلى قسمين:
-        قسم رضي بأن يستعبد في الأرض، فمكث في أرض مصر ولم يهاجر في أرض الله الواسعة
-        قسم رفض الاستعباد، لأن أرض الله واسعة فهاجر فيها
ويستثنى من هذا من كان من المستضعفين من الرجال والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. انظر الآية الكريمة السابقة في سياقها الأوسع:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)
نتيجة: قضت سنة الله الكونية بإلزام كل من وجد نفسه مستضعفا في الأرض أن يهاجر في أرض الله الواسعة، ويستثنى من ذلك (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)
نتيجة مفتراة: نحن نتخيل أن هذا الرجل لم يكن من المستثنين في الخطاب وليس أدل على ذلك من ركوبه حماره ومروره على القرية الخاوية على عروشها، لذا نحن نتخيل أنه لمّا لم يكن هذا الرجل من المستضعفين من الرجال الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيل اتخذ قراره بالهجرة لأن أرض الله واسعة. وكذلك فعل كل من لا يرضى بأن تتوفاه الملائكة ظالما لنفسه مستضعفا في الأرض. وما تبقى في أرض مصر إلا فئتين من بني إسرائيل، وهما:
-        الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فكان هؤلاء من المعذورين في بقائهم في أرض مصر
-        الذين رضوا بالاستعباد بالأرض من اللذين كانوا قادرين على الهجرة في أرض الله ولم يفعلوا. فلم يكونوا معذورين، فكان لابد أن تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97)
ونحن نفتري الظن بأنه ما كان قدوم موسى وأخيه هارون إلا لإخراج من تبقى من بني إسرائيل من الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. ولو كان في أرض مصر من الرجال القادرين على الخروج لما كان قدوم موسى وأخيه هارون مبررا، لأن الواجب الشرعي يحتّم على هؤلاء الهجرة في أرض الله بأنفسهم، وليس انتظار من يخلصهم من الاستعباد. دقق – عزيزي القارئ- في هذا السياق القرآني جيدا:
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
نتيجة: كانت المنّة من الله خاصة باللذين استضعفوا في الأرض
نتيجة مفتراة: لذا نحن نتخيل أنه لما انتهى حكم مصر إلى آل فرعون خرج من أرض مصر كل من لم يقبل بالعبودية من بني إسرائيل وكان قادرا على الهجرة في أرض الله كهذا الرجل. ولكن في الوقت ذاته تبقي في أرض مصر (نحن نتخيل) نفر من الرجال من بني إسرائيل وقد رضوا بالعبودية عندما لم يهاجروا في أرض الواسعة عندما كانوا قادرين على ذلك.
السؤال: لماذا لم تأت المنة الإلهية مباشرة على بني إسرائيل؟ لم استمر استعباد بني إسرائيل بعضا من الوقت؟ ألم يكن الله يستطيع أن يمنّ عليهم مباشرة فيخلصهم من الاستعباد على الفور؟ لم لم يأت مولد موسى مبكرا بعض الشيء؟ نحن نتساءل.
افتراء خطير جدا: لم تأتي المنّة الإلهية على بني إسرائيل مباشرة ولكنها تأخرت بعض الوقت والسبب في ظننا هو وجود هؤلاء الظالمين لأنفسهم من بينهم اللذين كانوا قادرين على الهجرة في أرض الله فما فعلوا. وما جاءت المنة الإلهية على المستضعفين (نحن نفتري القول) حتى توفت الملائكة كل أولئك اللذين كانوا ظالمي أنفسهم ولم يهاجروا عندما تم استضعافهم في الأرض:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97)
وما أن توفت الملائكة آخر رجل (نحن نفتري القول) من هؤلاء فما تبقي في أرض مصر من بني إسرائيل إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا:
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)
حتى جاءت ساعتها المنّة الإلهية عليهم:
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
نتيجة: لقد كان الأذى الذي لحق ببني إسرائيل في أرض مصر جزاء بما كسبت أيدي بعضهم:
          وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)
فبعث الله موسى وأخاه هارون لإخراج من كان من الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً  من أرض مصر:
          فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
وكان ذلك بعد أن توفت الملائكة كل من كان ظالما لنفسه من بني إسرائيل من الرجال الذين رضوا الاستعباد في الأرض وكانوا قادرين على الهجرة في أرض الله ولم يفعلوا:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97)
نتيجة مفتراة: لا تتخيل عزيزي القارئ أن يرفع الله عنك ظلما قد وقع عليك إذا كنت أنت قادرا على رفعه عن نفسك ولم تفعل. فلا تتخيل مثلا أن يخلصنا الله من حكامنا الطغاة الفاسدين المفسدين الذين ربما تجاوز فسادهم فساد فرعون نفسه، والذين أصبحت البلاد مرتعا لآلهم أكثر مما فعل آل فرعون، فاستضعفونا أكثر مما استضعف آل فرعون بني إسرائيل، ولكن يبقى السؤال: لماذا لا يتدخل الله برفع ذلك عنا؟
جواب: لأن الله لا يتدخل في رفع ظلم عن من رضي أن يقع عليه الظلم، فمادام أننا نشاء الظلم، فلن تتدخل الإرادة الإلهية برفعه، ولن يحصل ذلك إلا في حالتين:
1.     أن لا نرضى نحن بالظلم فنرفعه عن أنفسنا
2.     أن لا يبقى فينا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً بعد أن تميت الملائكة من هم ظالمي لأنفسهم من القادرين منا على ذلك.
(دعاء: أعوذ بك رب أن أكون ممن تتوفاهم الملائكة ظالمي لأنفسهم - آمين)
تخيلات من عند أنفسنا: نشأ خلال تلك الفترة في أرض مصر جيل من المستضعفين في الأرض، جلّهم من النساء لأن فرعون كان يقتل أبناءهم:
          وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)  
فكان آل فرعون يسومونهم سوء العذاب، وكان هذا سابقا لقدوم موسى ولاحقا لمجيئه:
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
نتيجة مفتراة من عند أنفسنا: نحن نظن أنه لمّا كان هذا الرجل الذي أماته الله مئة عام من بني إسرائيل الذين لم يكونوا ليرضوا بالاستعباد في الأرض اتخذ قراره بالهجرة في أرض الله الواسعة، ربما راكبا حماره  بعد أن جعل عليه طعامه وشرابه، سائلا ربه أن يهديه سواء السبيل كما فعل موسى عندما خرج هاربا من المدينة:
          وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)
لأنه (نحن نعتقد) لم يكن ليقبل بغير الله ربا، ولأنه لم يكن يقبل من دون الله ربا. فلا أظن أن مثل هذا الرجل سيرضى بأن يعيش في بلاد يقول سيدها أنه هو إلههم:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
ولا أظن أنه سيرضى أن يكون من بين القوم الذين يمكن لفرعون أن يستخفهم:
          فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
افتراء من عند أنفسنا: خرج ذلك العبد الصالح من أرض مصر لأنه رفض أن يكون من المستضعفين في الأرض وهو قادر على الهجرة في أرض الله الواسعة، فكانت وجهته إلى ربه ليهديه، ربما كما فعل إبراهيم من ذي قبل بعد أن أخرجه قومه:
          وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
فسار في الأرض لينظر في آيات الله فيها، متمثلا قول الله تعالى في كتابه الكريم:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23)
 فكان هذا الرجل طوّافا في الأرض لينظر كيف كان عاقبة الذين من قبلهم باحثا عن أثارة من علم:
قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4)
فمكث فترة من الزمن يبحث عن آيات الله، فعثر (نحن نفتري القول) على ذلك الحوت الذي لبث في بطنه ذو النون فترة من الزمن:
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
فأصبح هو وسيلة تنقله في البحر، وهو الحوت الذي افترينا القول سابقا أنه قد جاء به إلى تلك الصخرة حيث كان لقاءه مع موسى (للتفصيل انظر الأجزاء السابقة).
واستمر ذلك الرجل في بحثه عن آيات الله، وما أن وصل إلى تلك القرية الخاوية على عروشها في طريقه نحو بيت المقدس حتى وقف على أطلال تلك القرية الخاوية على عروشها:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
فوجدها هناك:
فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وهي (في ظننا) بلاد ثمود الذين جابوا الصخر بالواد التي تقع بين عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد وبلاد فرعون ذي الأوتاد:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
وهي البلاد التي بقيت مساكنهم شاهدة عليهم:
          وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
نتيجة مفتراة خطيرة جدا: إنها البتراء في جنوب الأردن. وهناك أماته الله مئة عام، ثم بعثه.
السؤال: لماذا مئة عام؟
جواب مفترى من عند أنفسنا: إنها فترة استعباد بني إسرائيل في أرض مصر، فما أن كانت المنّة الإلهية ببعث موسى وأخيه هارون لإخراج بني إسرائيل من أرض مصر وهلاك عدوهم:
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
حتى كان بعث هذا الرجل من موته، فأصبحت سيرته مصاحبة لسيرة بني إسرائيل، حتى نعته اليهود في يوم من الأيام على أنه ابن الله بالضبط كما فعلت النصارى عندما نعتت المسيح عيسى بن مريم على أنه ابن الله:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
راقب – عزيزي القارئ- هذه الآيات الكريمة جيدا لتجد أن الذين اتخذهم اليهود والنصارى أربابا من دون الله هم فئتين:
-        أحبارهم ورهبانهم (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ)
-        المسيح بن مريم (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)
لنخلص من خلال ذلك إلى النتائج التالية:
نتيجة (1): لما قالت النصارى أن المسيح هو ابن الله، فهم بذلك قد اتخذوا المسيح ابن مريم ربا من دون الله (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)
نتيجة (2) لم تتخذ اليهود المسيح ابن مريم ربا من دون الله ولكنهم (لا شك) اتخذوا من أحبارهم ورهبانهم ربا من دون الله (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ)
وعند ربط هذا الاستنباط من الآية الكريمة بما جاء في السياق الأوسع:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
نجد أن العزير هو من اتخذه اليهود ربا من دون الله. لنخلص من خلال ذلك إلى النتيجة المفتراة من عند أنفسنا التالية: لمّا كان العزير هو من اتخذه اليهود ربا من دون الله، كان إذا من أحبارهم ورهبانهم الذين اتخذوهم ربا من دون الله.
نتيجة مفتراة مهمة جدا: العزير هو من أحبار اليهود ورهبانهم الذين اتخذوه ربا من دون الله.
السؤال الخطير جدا جدا: من هو العزير هذا؟ وأين يمكن أن نجده اليوم؟ وما دام أنه آية للناس، هل سيكون العلم به دليلا كافيا لمن أراد الإيمان إذا تليت عليه هذه الآية من بين آيات الله الكثيرة؟
          وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)
السؤال: إذا لم يعد رسول الله موجود فينا ليكون سببا في عدم كفرنا، فهل ستكون مثل هذه الآية كافية لكي لا نكفر؟ هل ستكون هذه الآية حجة علينا لكي نعتصم بالله ليهدينا صراطه المستقيم؟ هل ستكون هذه الآية بينة كافية على صدق كلام الله في كتابه العزيز هذا لمن أراد أن يجادل؟ إذا كان هذا ممكنا، فمن هو العزير هذا إذن؟
جواب خطير جدا جدا نطلب من القارئ الكريم عدم الوثوق به ما لم يجد أن الدليل يدعمه من كتاب الله، والجواب هو: إنه ما يسميه الناس (خاصة علماء الآثار) بـ أوزريس أو Osiris باللسان الأعجمي.
اعتراف: لابد من الاعتراف قبل كل شيء أن هذه النتيجة لا تخصني ولست أنا من توصّل إليها، فهذه النتيجة قد جاءتني من أرض مصر من عند صاحبنا الذي يقضي جلّ وقته وجهده البدني والفكري بين القبور وأمام جدران المعابد في أرض الكنانة، يتأملها ليخرج منها بقصة صحيحة خالية من تشويهات الأجيال وأهل العلم الذين ما انفكوا يوما عن تحريف الكلم عن مواضعه حتى ضاعت الحقيقة، وما عاد الناس يجدون منها إلا ما خطه لهم بأقلامهم أهل العلم الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا. المهم أن صاحبنا الذي توصل إلى هذه النتيجة التي نظن أنها غير مسبوقة هو عالم الآثار المصري السيد عصام درويش. والقصة من صاحبنا حصلت على النحو التالي:
لا أدري بداية كيف توصل السيد عصام درويش إلى كتاباتي المتوافرة على موقع جامعة اليرموك، أو على جزء منها من مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، المهم بالموضوع أن الرجل بدأ يقرأ تلك التخريفات، ربما مدفوعا في البداية بغرابة الأفكار، وما أن وصل إلى حكايتنا عن قصة موسى وقصة يوسف حتى شدّه الكلام، فأخذ يربط الأحداث كما فهمها من كتاباتنا مع ما توافر عنده من معرفة متراكمة بآثار مصر عبر سنين طويلة من الشغل والبحث فيها، وقد أدهشتني ردة فعله الأولى على الموضوعات المتعددة، حيث فهمت من رسائله الالكترونية الأولى أنه بدأ يشعر بأن رابطا بين تلك الرسومات والكتابات أخذ يتبلور بطريقة أكثر وضوحا في مخيلته مما سبق. وكانت أولى تلك الخيوط تتعلق بقصة صاحب موسى هذا الذي ظننا أنه العزير، وهو الذي قالت عنه اليهود أنه ابن الله.
وكانت النتيجة المذهلة التي بعث بها لي صاحبنا عصام درويش من أرض مصر هي أن هذا الرجل المسمى بالعزير هو ما خلدته آثار السابقين، ولكن الأمم المتعاقبة (خاصة اليهود منهم) قد حرفته من بعدهم شيئا فشيئا كعادتهم:
مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
حتى وصلنا اليوم تحت مسمى أوزريس (أي Osiris, Usiris, Asar, Asari, Aser, Ausar, Ausir, Wesir, Usir, Usire or Ausare)، وهو الوحيد من بين جميع الآلهة المصريين (كما يحب علماء الآثار أن يسمونهم) الذي يظهر بوجه آدمي وبشرة خضراء اللون في جميع أشكاله المرسومة (وربما يكون هذا هو - فيما أظن- السبب الذي دفع بكثير من أهل العلم ممن سبقنا بأن يسمونه بـ الخضر وإن كنا على يقين أنهم لا يعلمون السبب من وراء ذلك) كما يظهر في الشكل التالي:




http://www.dr-rasheed.com/2014/02/10-07.html
فهو صاحب اللحية واللباس الفرعوني (أو اليوسفي)[2] والوجه الأخضر، وهو إله الموت والبعث في كتاباتهم التي نظن أنهم أساءوا قراءتها، وها هو صاحبنا من مصر السيد عصام درويش يطلق الدعوة عالية لنعود فنقرأ تلك الكتابات على الجدران بعين جديدة، لننظر أيهما أكثر وجاهة: ما قاله من سبقنا من أهل تحريف الكلم عن مواضعه أم ما فهمه صاحبنا عصام درويش مما قاله ربنا في كتابه الكريم؟
السؤال: إن صح ما ظنه صاحبنا عصام درويش، ألا تكون تلك آية من آيات الله التي تدعونا تلاوتها أن لا نكفر؟
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)
والآن لنقرأ هذه الآية الكريمة في سياقها الأوسع لنجد الدعوة واضحة إلى الكف عن الصد عن سبيل الله من قبل أهل الكتاب الذين يبغونها عوجا:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)
وسيكون الحكم بيننا وبينكم ما يتلى علينا في هذا القرآن الذي جاءنا من عند ربنا:
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
دعاء: اللهم أسألك أن أكون ممن يرون آياتك فيعرفونها إنك أنت الواسع العليم.

دعاء: أسألك رب أن تنفذ أمرك بمشيئتك وإرادتك لي ولأخي علي محمود الشرمان وصاحبنا من مصر عصام درويش الإحاطة بشيء من علمك اللدنّي لا ينبغي لأحد من بعدنا إنك أنت العليم الحكيم. وأسألك وحدك أن تؤتينا رحمة من عندك وأن تعلِّمنا ما لم نكن نعلم وأن تجعل فضلك عليّنا عظيما، ونعوذ بك أن نفتري عليك الكذب أو أن نقول عليك ما ليس لنا بحق - آمين
والله أعلم

وللحديث بقية

المدّكرون:        رشيد سليم الجراح           &
                   عصام درويش              &
علي محمود سالم الشرمان

بقلم: د. رشيد الجراح
26 شباط 2014






ما هو العقم؟
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
 أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

العقيم هي عبارة عن ما يشبه الشيء الذي يدفع (كالريح) أو كمني الرجل أتى على شيء جعله كالرميم
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
 مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
والرميم هو عبارة عن تفتيت الشيء إلى جزيئاته المكونة له:
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
ما الذي يحصل في حالة الرجل العقيم؟
ينحدر ماء الرجل إلى رحم الأنثى بقوة دافعة (كحالة الريح) فإذا كان الرجل عقيما كانت عملية القذف تشبه حركة الريح العقيم، فتأتي على بويضات المرأة وبدل أن تلقحها تقوم بتفتيتها لتجعلها كالرميم، أي تحيل بويضات المرأة إلى ركام هامد، عندها يصحب من الاستحالة بمكان أن يحدث الحمل.
فمن يستطيع تصليح الأمر؟
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
 قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
 الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
 أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
 إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
 فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)




[1] وكم من أهل العلم من ظن بأن بعض قصص القرآن (كقصة يوسف مثلا) جاءت لتسلية النبي والترويح على صحبه؟! من يدري!!!
[2] نحن نظن أن ذلك اللباس الذي يظهر في الآثار الفرعونية لم يكن صنيعة مصرية، وإنما هو لباس يوسف في أرض مصر؛ إنه قميص يوسف (انظر مقالاتنا تحت عنوان قصة يوسف). فما أن انتشر خبر قميص يوسف في أرض مصر حتى أصبح الجميع يقلده، وأصبح يظهر ويكأنه تراث فرعوني مصري الطابع.