# قصة يوسف 1: أحسن القصص


قال تعالى:

الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)            يوسف 1-4

نتعرض في الجزء الأول من مقالتنا هذه تحت عنوان قصة يوسف لجزئية جاءت في بداية القص القرآني لهذه القصة العظيمة تتعلق بأن تكون تلك القصة على وجه التحديد هي أحسن القصص، لنطرح سؤالاً رئيسياً وهو: لم كانت قصة يوسف هي أحسن القصص؟





ولا شك أن هذا التساؤل نفسه سيثير تساؤلات فرعية كثيرة نذكر منها:

 ما معنى أحسن القصص؟
وهل فعلاً قصة يوسف هي أحسن القصص؟
وإن كانت كذلك، فلم لا تكون قصة إبراهيم أو موسى أو عيسى أو حتى محمد نفسه هي أحسن القصص؟
وهل هناك فعلاً تفاوت في "الحسن" في القصص القرآني؟
الخ

رأينا المفترى: نحن نعتقد أن قصة يوسف هي فعلاً أحسن القصص، ولا يجاريها في الحسن أي قصة أخرى في كتاب الله، ولكن كيف؟ ولماذا؟

عودة إلى قديم

حاولنا في طرحنا في بعض المقالات السابقة (خاصة ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته) التعرض للملاحظة التي يمكن التوقف عندها في الآية الكريمة التالية:

          قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ                    النمل (41)

وظننا أن التنكير هو عكس المعرفة، وحاولنا استنباط ذلك مما جاء في قصة يوسف مع إخوته، حيث جاء التقابل بين المعرفة من جهة ونكران الشيء من جهة أخرى ظاهراً، فبالرغم من أن يوسف قد عرف إخوته إلا أنهم كانوا له منكرون:

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ                     يوسف (58)

وجاء التقابل ظاهراً أيضاً في الآية الكريمة التالية:

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ                                        المؤمنون (69)

نتيجة مفتراة: نحن نظن أن نكران الشيء تعني عدم معرفته.

باب المعرفة


السؤال: ما هي المعرفة التي يقابلها النكران؟

لقد حاولنا في مقالة سابقة لنا التفريق بين المعرفة من جهة والعلم من جهة أخرى، وقدّمنا الافتراء الخطير بأن الله لا يعرف، وحاولنا تسويق زعمنا بضرورة عدم إلصاق المعرفة بالذات الإلهية، وكان هذا الظن مبنياً على الاعتقاد عندنا بأن المعرفة هي عمل من صنع البشر فقط.

الدليل

بعد أن تفقدنا السياقات القرآنية لم نجد آية واحدة تقرن المعرفة بالذات الإلهية، وجميع آيات الكتاب  في هذا الخصوص تتحدث عن علم الله، ومن وجد غير ذلك، فنحن مدينون له بالمعرفة (ومن أراد التفصيل فلينظر مقالتنا تحت عنوان: هل لعلم الله حدود؟: جدلية القلب والعقل)

وقد أجاءتني هذه الفكرة (وأسأل الله أن يكون إدكاراً) عندما حاولنا أن نرقب التحول باللفظ في الآية الكريمة التالية التي أثارت فضولنا للخوض في هذا الموضوع:

وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)

فبعد أن كان الكلام في بداية الآية الكريمة خاصاً بالمعرفة عند الحديث عن النبي، تحول مباشرة إلى العلم عند الحديث عن رب محمد. ولكن لماذا؟

أولاً، بعد التعرض لآيات كثيرة من كتاب الله زعمنا القول أن السبب يعود في بعضه إلى أنه حتى يتحصل الشخص على المعرفة فلابد أن يبذل جهداً للحصول عليها، فلا شك – عندنا- أن يوسف قد أجهد نفسه لمعرفة أن هؤلاء النفر القادمون من البدو هم أخوته الذين جعلوه في غيابت الجب منذ زمن بعيد.

افتراء 1: المعرفة تحتاج إلى بذل للجهد للحصول عليها

ثانياً، وزعمنا أيضاً أن حصول المعرفة تتطلب وجود الدليل، فلا شك – عندنا- أن يوسف قد توافر لديه دليل يرشده أنهم إخوته (كأن يكون قد عرفهم من عددهم أو من شكلهم أو من المكان الذي قدموا منه، الخ). ولا شك أيضاً أن معرفة النبي بالمنافقين تتطلب التدقيق في قولهم وفي سيماهم:

          وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)

افتراء 2: المعرفة تحتاج إلى دليل[1]

ثالثاً، كما زعمنا أن المعرفة تراكمية، يمكن أن يطرأ عليها التعديل من وقت إلى آخر، فهي محكومة بالجهد الذي تبذله وبالدليل الذي تملكه، فإن أنت ضاعفت في جهدك، وهذّبت دليلك، زادت المعرفة عندك، ومتى تقاعست عن بذل الجهد، واكتفيت بأدلة باهتة، اضمحلت عندك المعرفة.

افتراء 3: المعرفة تراكمية تزيد وتنقص

لذا نحن نزعم أن كل ما تحصل عند الناس من خبرات بشرية هي محصلة تراكمية تقع في باب المعرفة ولا تقع في باب العلم، وذلك لأننا نفتري الظن أن العلم – على عكس المعرفة- لا يتطلب الحصول عليه إلى جهد ولا إلى دليل وهو- في رأينا- ليس تراكمي، فهو يأتي دفعة واحدة في صورته النهائية، يستحيل بعدها أن يضاف إليه شيء ليحسّنه. فمتى كان الخبر ناتجاً عن علم فهو إذاً نهائي، ولكن إن كان الخبر ناتجاً عن معرفة فيمكن حينئذ أن يحدث عليه تحسين (وربما تغيير).

افتراء من عند أنفسنا: كل ما تحصل للبشر (غير الذين منّ الله عليهم بالعلم) بطريقة البحث والتجربة والدليل يقع في باب المعرفة وليس في باب العلم، فالجامعات والمعاهد كلها مبنية على مبدأ المعرفة، ولا يوجد حتى الساعة مؤسسات علمية مبنية على أساس العلم، فما تحصل للغرب حتى الساعة من خبرات لا تتعدى أن تكون معرفة، ولكن ما نحاول البحث عنه في هذا الكتاب العظيم فهو العلم، لذا فالله أسأل أن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه كما كان لصاحب موسى مثلاً:

          فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا                 الكهف (65)

أو كما كان لبعض ملأ سليمان:

قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

والله أسأل أن أكون من الذين آتاهم الله العلم:

وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)                        الإسراء

ونحن نتجرأ على القول بأن الصراع الحقيقي لن يكون بين من تحصل على معرفة ومن يتحصل على معرفة أكثر (س مقابل س+1)، بل يجب أن يكون بين من تحصل على المعرفة (هم) ومن تحصل له العلم (نحن).

دعاء: أسأل الله أن يأذن لنا الإحاطة بشيء من علمه إنه هو السميع المجيب.

(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان النظرية العالمية الإسلامية في كشف أسرار الكون)



الدليل

وفي خضم حديثنا ومحاولتنا التفريق بين المعرفة من جهة والعلم من جهة أخرى، استوقفتنا الآية الكريمة التي ترد في بداية سورة يوسف التي تفصّل قصة نبي الله يوسف قرآناً عربياً لقوم يعقلون على وجه الخصوص، قال تعالى:

          نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ                                                                                                          يوسف (3)       

وطرحنا على أنفسنا حينئذ التساؤلات التالية:

-        لم جاءت هذه الآية في بداية سورة يوسف على وجه التحديد؟

-         وهل فعلاً قصة يوسف هي أحسن القصص؟

-        وهل هناك مفاضلة في قصص كتاب الله؟ أي هل يمكن أن تكون قصة أحسن من قصة أخرى؟ أو هل يمكن أن تكون طريقة قص تلك القصة أحسن من طريقة قص القصص الأخرى؟

-        ألم يتحدث القرآن الكريم عن قصة إبراهيم؟ لِم لَم تكن هي أحسن القصص؟

-        ألم يتحدث القرآن الكريم عن قصة موسى؟ لِم لَم تصبح أحسن القصص؟

-        ألم يتحدث القرآن الكريم عن قصة نبي الله نوح وصالح وشعيب وزكريا وعيسى، الخ؟ فلِم لَم تكن أي منها أحسن القصص كما هو الحال بالنسبة لقصة يوسف؟

-        الخ.

وبعد أن حاولنا النبش في التراث وجدنا السؤال مطروحاً عند البعض، ولكن – الذي قد لا يثلج الصدور- هو أن جلّ الإجابات المطروحة تدور في مضامين ما جاء في أمهات كتب التفاسير كتفسير القرطبي الذي جاء فيه مثلاً:

واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص ؟ فقيل : لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة ; وبيانه قوله في آخرها : " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب " [ يوسف : 111 ] . وقيل : سماها أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته , وصبره على أذاهم , وعفوه عنهم - بعد الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه , وكرمه في العفو عنهم , حتى قال : " لا تثريب عليكم اليوم " [ يوسف : 92 ] . وقيل : لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين , والجن والإنس والأنعام والطير , وسير الملوك والممالك , والتجار والعلماء والجهال , والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن , وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا , والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش , وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا . وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما . وقيل : " أحسن " هنا بمعنى أعجب . وقال بعض أهل المعاني : إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة ; انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته , وامرأة العزيز ; قيل : والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه , ومستعبر الرؤيا الساقي , والشاهد فيما يقال : فما كان أمر الجميع إلا إلى خير .

ولمّا كان هذا الكلام لا يروقنا على الأقل لسببين رئيسيين، أولهما أنه مجرد كلام قد "قيل"، وثانيهما أن هذا "القيل" من الكلام لا يثبته الدليل ولا تشده الحجة، وجدنا – والحالة هذه حسب زعمنا - أن الحاجة ملحّة (كما هي على الدوام) أن نسأل الله (كما نفعل دائماً) أن يأذن لنا بشيء من علمه، فكان (ولله المنّة) ما نظن أنه تفسير يمكن أن يكون أكثر إقناعاً من أقوال من سبقونا، وربما تدعمه الحجة المستنبطة من كتاب الله



أما بعد

نحن نظن أن المشكلة في الأفهام السابقة تكمن في عدم إعطاء الكلمات حقها من التدقيق والتفكر، ربما لظن سادتنا من أهل الدراية أنهم قد ألفوها وأحاطوا بها علما، فما شغلتهم كثيراً. ولكنهم – لا شك عندنا- قد أخطئوها، فظلوا الطريق قروناً طويلة، والكلمة التي نظن أنها لم تلق هنا الانتباه الكافي من السادة العلماء أهل الدراية في البداية وأهل الرواية من بعدهم هي مفردة "أَحْسَنَ" نفسها في قوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)، ليصير السؤال الذي كان يجب أن يطرح منذ قرون على النحو التالي: ما معنى كلمة " أَحْسَنَ"؟ ويكون سؤال البحث بعد ذلك على النحو التالي: لم كانت قصة يوسف على وجه التحديد هي أحسن القصص؟ أو بكلمات أكثر دقة نسأل: لم جاءت هذه العبارة "أَحْسَنَ الْقَصَصِ" في بداية سورة يوسف على وجه التحديد؟ لم لم ترد في بداية سورة القصص مثلاً حيث تفاصيل قصة موسى؟ أو في بداية سورة النمل حيث تفاصيل قصة سليمان، أو في بداية سورة نوح حيث تفاصيل قصة نوح، وهكذا؟

رأينا: نحن نظن أن مفردة أَحْسَنَ تعني الوصول إلى مرحلة الاكتمال، فهي – في ظننا- يجب أن تفهم من باب إجراء التحسينات أو إدخال التعديلات، فعندما تقوم شركة بصناعة سيارة مثلاً – ولله المثل الأعلى- تبقى تلك السيارة (كمنتج للشركة التي صنعتها) في حالة تطوير دائم،  وذلك بإدخال تحسينات عليها بعد كل حين، ولا يمكن أن تصل سيارتهم تلك إلى مرتبة السيارة "الأحسن" مادام أن الفرصة باحتمالية إضافة شيء من التعديلات عليها لاحقاً قائمة، لأنها متى ما وصلت إلى مرتبة الأحسن ينتفي مع تلك المرحلة الحاجة (وربما القدرة) على إجراء تحسينات أو إدخال إضافات عليها. ومن هذا الجانب نحن نفهم قوله تعالى:

          الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ                          السجدة (7)

فمادام أن الله قد أحسن كل شيء خلقه فيستحيل إذاً إجراء إضافات أو تعديلات على خلق الله، لأن الله هو أحسن الخالقين:

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ                                        المؤمنون (14)

أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ                                       الصافات (125)

ومادام أن الله هو أحسن الخالقين، فإن خلقة لا يمكن أن يجرى عليه تعديلات، أما لمّا كنا نحن البشر لسنا أحسن الخالقين (وإن كنا فعلاً خالقين) كان بالإمكان إجراء التعديلات وإدخال الإضافات على ما نخلق على الدوام.

ولما كان خلق الله قد أصبح أحسن الخلق وانعدمت احتمالية إجراء التحسينات على ذلك الخلق، فإن ذلك الخلق يمكن أن يتراجع إلى الوراء ولكنه لن يتقدم إلى الأمام قيد أنملة (وهذا هو – في رأينا- ما يرقى أن يقع في باب العلم):

          لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)                  التين

وفي هذا رد (نظن أنه) واضح على من صّدق وتبنى نظرية داروين في النشوء التي تقدم الافتراض بأن الإنسان في حالة تطور ورقي على الدوام، فنحن نرد عليه بالمنطق المعاكس بالظن بأن خلق الإنسان جاء منذ اللحظة الأولى في أحسن تقويم (أي باستحالة إضافة تحسينات على هذا الخلق على وجه التحديد)، لذا فنحن نرى الصورة معاكسة لنظرية داروين: ففي حين يرى داروين أن الإنسان نشأ من كائن أقل مرتبة (كسلالة القردة مثلاً)، نظن نحن احتمالية أن تكون مثل تلك السلالات قد انحدرت من الإنسان مادام أن خلق الإنسان كان هو الأحسن منذ اللحظة الأولى:

          وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ               البقرة (65)

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ                      المائدة (60)

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)                  الأعراف

(للتفصيل انظر مقالتنا تحت عنوان تحريم لحم الخنزير)

ولو دققنا بآيات سورة التين لوجدنا أنها تصور أن خلق الإنسان قد بدأ منذ اللحظة الأولى في أحسن تقويم، أي بالصورة النهائية (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، ولربما وجدنا أيضاً أنها تثبت احتمالية أن ينزل ذلك الخلق لا أن يرتقي (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ).

وسنحاول لاحقاً – إن أذن الله لنا الإحاطة بشيء من علمه- أن نبين علاقة ذلك بذكر التين والزيتون على وجه التحديد في هذه الآية الكريمة، ومن ثم محاولة توضيح العلاقة التي يجب أن تفهم لتربط خاتمة السورة الكريمة (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)) مع مقدمتها (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2))، جاهدين أن نبرز كيف تكون تلك نتيجة حتمية لهذه المقدمة البديهية، ولكن –حتى الساعة، تأمل - عزيزي القارئ- السورة الكريمة جيداً وحاول أن تربط آياتها بعضها مع بعض:

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)

          وَطُورِ سِينِينَ (2)

وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)

          لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

          ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)

          إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)

          فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)

          أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

وحاول التفكر بالسؤال التالي: هل في هذه الآية الكريمة دليل كاف نستطيع أن نستنبط من خلاله التصديق بالدين وعدم تكذيبه؟

فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)

و أن الله هو أحكم الحاكمين؟

 أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

(هذا ما سنحاول التعرض له لاحقاً بحول من الله وتوفيق منه)

نتيجة مفتراة: إن ما نود أن نجلب انتباه القارئ الكريم له هنا هو ما يخص خلق الإنسان من قبل الله الذي هو أحسن الخالقين لنفتري القول أن هذا يقع في باب العلم ولا يقع في باب المعرفة، أما ما يخص ما يخلقه الناس، فلا يمكن أن يكون قد وصل إلى درجة الأحسن، لذا فهو على الدوام قابل للإضافة والتعديل، لذا فهو يقع في باب المعرفة وليس في باب العلم.

ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم قوله تعالى:

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)

فعندما يبادرك شخص بالسلام على نحو "السلام عليكم" ترد عليه بأحسن منها وذلك بزيادة شيء على ما قال، كأن تقول له مثلاً "وعليكم السلام ورحمة الله"، وهكذا.

ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم جانباً من قول الحق في الآية الكريمة التالية:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)[2]                                                الفرقان

فهل يمكن أن يضاف شيء ليزيد على تفسيرٍ جاء من ربنا؟ كلا وألف كلا، فما دام أن التفسير قد جاء من عند الله فهو نهاية المطاف ومقصد العلم وغايته، والمهم أنه سيكون نهائياً وذلك باستحالة الزيادة عليه، فالزيادة عليه ستفسده ولن تزيده حسنا.

ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم بعض ما جاء في الآية الكريمة التالية:

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ                                           العنكبوت (46)

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ                                           النحل (125)

فهذه دعوة إلى كل من قام بواجب الدعوة لغير المسلمين أو المجادلة: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وهو ما حدده ربنا في الآية نفسها، فقولوا:

1.     آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ

2.     وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ

3.     وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

ولا أظن أن زيادة شيء على ذلك (كما يفعل كثير من الدعاة) يمكن أن تفيد الدعوة إلى الله في شيء، بل على العكس، فقد تؤدي –في ظننا- بمردود عكسي، فأنا لا أظن أن جدال أهل الكتاب يكون مثلاً بأمور العبادات (كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها) وذلك لأن الله جعل لكل منّا شرعةً ومنهاجا:

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ                                                                     المائدة (48)

ولا تظن أخي الداع أن شريعتك ومنهاجك المختلفة عن شريعتهم ومنهاجهم هي أفضل، فالله خلقنا لنكون مختلفين:

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)                  هود

فنحن نصلي وهم يصلون، ونحن نزكي وهم يزكون، ونحن نحج وهم يحجون، ونحن نصوم وهم يصومون:

          يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة (183)

ولكن كلٌ يفعل ذلك على شرعته ومنهاجه الذي جعله الله لهم. فلا تظن عزيزي الداع أن طريقتك في الصيام مثلاً هي أفضل من طريقة صيامهم، ولا تظن عزيزي الداع أن حجك أفضل من حجهم، فكل طائفة من أهل الإيمان تصوم بطريقتها وتحج بطريقتها، فنحن نحج إلى الكعبة وهم يحجون إلى نهر أو إلى حائط أو إلى...الخ.

خلاصة القول: لا تظن عزيزي الداع أن شِرْعَتك (أي طريقتك في تأدية الشعائر) حجة عليهم، لأنهم هم أيضاً يظنون أن شرعتهم (أي منهاجهم في تأدية الشعائر) حجة عليك، وسنعرض لهذه القضايا بتفصيل أكثر في مقالات مستقلة بحول الله وتوفيقه خاصة عندما نتعرض لموضوع تماثيل سليمان لاحقاً، لنطرح تساؤلاً كبيراً حول الآية الكريمة التالية التي جاءت لتصور لنا ما كان يفعل الشياطين لسليمان:

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ                                                           سبأ (13)

وسيكون سؤالنا على النحو التالي: لِمَ كانت الشياطين تعمل التماثيل لسليمان؟ ماذا كان يفعل سليمان بتلك التماثيل؟ ألم يستنكر إبراهيم على قومه وجود التماثيل بينهم؟

          إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ                           الأنبياء (52)

ألم يجعل إبراهيم تلك التماثيل جذاذا عندما تولوا عنه مدبرين؟ ثم، ألم يحطم محمد كل تلك التماثيل التي كانت في البيت وحوله عندما دخل مكة فاتحاً؟

السؤال: كيف بسليمان يأمر الجن أن تعمل له التماثيل في حين أن محمد وإبراهيم يحطمون التماثيل؟

(هذا ما سنتناوله في تلك المقالة بحول الله وتوفيقه، لذا فالله أسأل أن يأذن لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع المجيب).

وحذاري أخي الداع أن تجلب من أقول العلماء والسلف (أو حتى الأحاديث المنقولة) في مجادلتك أهل الكتاب لأن ذلك لن يزيد الطين إلا بلة. فالحجة يجب أن تكون من الكلام الذي هو أحسن فقط:

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)

لأن الذين يستمعون القول (إن كان هدفهم تجلية الحقيقة طبعاً) سيتبعون بكل تأكيد أحسنه:

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)

فقد شاهدت بأم عيني بعض مجادلات علماء المسلمين مع أهل الكتاب، ولا زلت أذكر كيف كانت حجة علماء المسلمين منصبة على افتراء النصارى بأن المسيح هو ابن الله، وكان جل ما يحاول علماء المسلمين إثباته أن عيسى بن مريم ليس إلهاً وإنما هو إنسان مثلنا مادام أنه قد ولد من امرأة، فكانت حجتهم – على ما أظن- أن عيسى ابن مريم هو إنسان، وقد كنت أتمنى أن يكون المجادل من أهل الكتاب على علم بما في كتابنا ليقرأ على علماء المسلمين قول الله في كتابه الكريم:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

ليسأل بعدها علماء الإسلام كيف يظنون أن عيسى بن مريم إنساناً (كما يروجون لذلك صباح مساء) في حين أن القرآن الكريم يثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأن الإنسان مخلوق من ذكر وأنثى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ)، فأين - يا ترى- هو الذكر الذي خلق منه عيسى بن مريم ليكون إنسان مثلي ومثلك؟

أرجو أن لا تقتبس هذه الفقرة بمعزل عن سياقها للترويج لفكرة أني مؤمن بالفكر المسيحي الذي يدّعي أن عيسى بن مريم هو إله، فهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، فأنا على عقيدة مفادها أن عيسى بن مريم ليس إلهاً وليس ابن إله لأن الله قد كذّب دعوى النصارى كما كذب دعوى اليهود من ذي قبل عندما زعموا أن العزير هو ابن الله:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)

فالقول بأن عزيرا ابن الله أو أن المسيح ابن الله ليس إلا إفك مفترى.

ولكن ما نود أن نثيره هنا هو في حين أن إدعاء النصارى هو إدعاء كاذب وهو ليس إلا إفك مفترى، فإن ذلك لا يجب أن يشكل دليلاً على أن ما يزعمه علماء المسلمين هو الحق بعينه، لا بل، فنحن نظن أن دعوى علماء المسلمين في عيسى بن مريم هي أيضاً إفك مفترى، فنحن نتحدى أن يقدم لنا أي مسلم (سواء كان من أهل الدراية أو من أهل الرواية) دليلاً واحداً من كتاب الله يثبت أن عيسى بن مريم هو إنسان (أي من جنس الناس). وسنتعرض (بحول الله وتوفيقه) بالتفصيل لهذه القضية عند الحديث عن قصة المسيح عيسى بن مريم، كما سنحاول التعرض لمثل هذه القضية عندما نتحدث عن العزير عند الحديث عن قصة موسى، وعندها سنطرح بحول الله وتوفيقه السؤال المثير التالي: لماذا قالت اليهود أن العزير هو ابن الله ولم يفعلوا كما فعل النصارى بأن ينسبوا ذلك لنبيهم؟ أي لماذا لم تدعي اليهود أن موسى (نبيهم) هو ابن الله كما فعلت النصارى عندما زعموا أن عيسى (نبيهم) هو ابن الله؟

نتيجة: إن ما نحاول أن نبيّنه هنا هو أن مجادلة أهل الكتاب لا يجب أن تكون بالتفاصيل حسب رواية كل فرقة، وإنما بالتي هي أحسن:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ                                           النحل (125)

والأحسن كما ذكرنا سابقاً هو ما جاء في كتاب الله خاصة:

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ                                           العنكبوت (46)

عودة على بدء

ولكن ما علاقة ذلك كله بقصة يوسف؟ أي لم كانت قصة يوسف هي أحسن القصص؟

افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن قصة يوسف هي أحسن القصص لأنها – افتراء من عند أنفسنا- قد وردت كاملة غير منقوصة جملة واحدة في مكان واحد من كتاب الله، فلم يجري عليها تحسين (أي إضافات) في أي مكان آخر من كتاب الله.

الدليل

لو تدبرنا ما جاء في القرآن الكريم على شكل قصص كقصة موسى أو صالح أو شعيب أو زكريا، الخ:

          وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا                                                                                                               النساء (164)

لوجدنا أنها جميعاً كانت ترد في أكثر من مكان في كتاب الله، وليس أدل على ذلك من قصة موسى عليه السلام، فقصة موسى جاءت في كثير من سور الكتاب الكريم مثل البقرة والأعراف والكهف وطه والنمل والقصص، الخ. فهل كانت قصة موسى أحسن القصص؟

رأينا: لا لم تكن أحسن القصص. ولكن لماذا؟

جواب: لو تفقدنا تلك القصة في أي من تلك السور القرآنية التي وردت فيها لما وجدنا أنها جاءت بجميع تفاصيلها، فبعض التفاصيل التي ترد عن قصة موسى في البقرة لا ترد في الأعراف أو في الكهف أو في طه أو في النمل أو في القصص. والعكس صحيح، فبعض تفاصيل قصة موسى في الكهف لا توجد في غيرها، وهكذا. فبقيت قصة موسى في كل سورة يضاف إليها ما يجعلها مختلفة في كل مرة تقص في كتاب الله، ولم ترد كقصة متكاملة محتوية جميع التفاصيل جملة واحدة في موضع واحد، والحالة كذلك لم تكن هي – في رأينا- القصة الأحسن، ولكن بالمقابل كانت قصة يوسف (دون قصص القرآن جميعاً) هي أحسن القصص لأنها جاءت – نحن نفتري الظن- جملة واحدة بجميع تفاصيلها في سورة واحدة، فلم يتم قصها في موقع آخر غير سورة يوسف نفسها، فجاءت في تلك السورة بنسختها النهائية (أي الأحسن). فالقصص برأينا هو تتبع التفاصيل خطوة بخطوة كحال الذي يتتبع الأثر:

          قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) 

ولما كانت قصة يوسف قد جاءت مرتبة مرة واحدة بجميع تفاصيلها في موطن واحد كانت – نحن نزعم القول- هي القصة الأحسن، والله أعلم.

المدّكرون: رشيد سليم الجراح        &        علي محمود سالم الشرمان



بقلم: د. رشيد الجراح

15 كانون ثاني 2013







[1] لاحظ كيف جاء اللفظ بصيغة المجهول في الآية الكريمة التالية:

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)

ربما لتدل بأن فعل المعرفة لا يتعلق بالذات الإلهية وإنما بكل الناظرين إلى المجرمين في ذلك اليوم الرهيب.

[2] ولو دققنا في الآية الكريمة لوجدنا أن الكافرين يطلبون تفسيراً عن سبب أن هذا القرآن لم ينزل جملة واحدة، فيأتي التفسير الرباني بأن القرآن قد نزل على تلك الشاكلة التي نزل بها (كَذَٰلِكَ) لسببين وهما (1) لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ و (2) لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. ولو أمعنا التفكر في هذين السببين لوجدنا أنه من الاستحالة تقديم إجابة أحسن من هذه الإجابة، ولكننا بحاجة أولاً وقبل كل شيء أن نفهم مراد القول فيهما، ونحن نؤمن إيماناً يقينياً أن فهم ذلك على الحقيقة سيفتح آفاقاً من العلم يصعب على القارئ تصديقها لو نحن نثرنا بعضها على عجل هنا. لذا أسأل الله وحده أن يؤتيني من لدنه علماً لا ينبغي لأحد غيري وأسأله جل وعلا أن يقضي أمره بإرادته ومشيئته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري إنه هو السميع المجيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق