النظرية العالمية الإسلامية لكشف أسرار الكون (1)




الفصل الأول
إلى القارئ

بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة للقارئ الكريم إلى أنّ هذا الكتاب يثير تساؤلات غاية في الخطورة كثيراً ما ترددت في ذهنه، وظنّ أحياناً أنّ من الحرج أو الخطأ إثارتها، واعتقد جازماً أنّ من الصعب أو حتى من المستحيل إيجاد التفسيرات المرضية لها، فآثر ألاّ تشغل تفكيره أكثر مما يجب، فرضي أنْ يصرف ذهنه إلى ما هو دونها، فمثله في ذلك كالذي أضاع متاعاً له في مكان مظلم، فأخذ يبحث عنه في مكان آخر بحجة توافر الإضاءة في هذا المكان، فهل يا ترى سيجد ضالته في يوم ما؟! إنّنا ننوي أنْ نقحم أنفسنا البحث عن ضالتنا في المكان الذي أضعناها فيه حتى وإنْ كان (حسب ظن الكثيرين) شديد الظلمة.

ولعلي أجد من الضروري أنْ أشير أيضاً إلى أنّ إثارة هذه التساؤلات تعني رفع سقف التفكير وسقف التوقعات، فلقد دَرَسنا المنهجية الغربيّة ودرّسناها في مدارسنا وجامعاتنا، وانبهرنا في البداية بما حققته من نجاحات، ولكنّا كلما ازددنا التفكر وإمعان النظر فيها، كلما رسخت لدينا القناعة أنّ منهجيتهم تلك لن توصلنا إلى ضالتنا المنشودة، فهي كما سنعرض لاحقاً تحددنا بسقف أعلى للتفكير لا يمكن تجاوزه – وهو ما لا يرضي العقول الباحثة عن الحقيقة المطلقة.

ولمّا كان هذا الكتاب يثير أسئلة كبيرة جداً، كان لزاماً تقبّل الرأي وإنْ كان مخالفاً لما نشأنا عليه، فنحن جميعاّ ندرك صعوبة تصحيح فكرة خاطئة إنْ كانت هي سائدة، فكم هو صعب حتى إلقاء ظلال الشك على ما أصبح من المسلمات! فليس سراً أنْ أبوح أنّه وخلال خبرتي التدريسية كانت ردة الفعل الأولى لإثارة هذه التساؤلات في قاعة الدرس (حتى مع طلبة الدراسات العليا) هي المقاومة والتشكيك حتى لغرض طرحها، فالتفكير جُبِل على مسلمات قديمة صمّت الآذان عن سماع غيرها، وأغشت الأبصار عن النظر من غير زاويتها، فأقفلت القلوب عن فهمها.


ولكنّنا أيضاً وجدنا أنّه بمجرد وضعها على طاولة البحث أخذ المدافعون عن تلك المسلمات يدركون ضعف حجتهم وقلة حيلتهم في الدفاع عنها، وكلما ازداد البحث تعمقا، كلما وجدنا التحول في مواقفهم حتى أصبحوا هم المنتقدين لتلك المسلّمات، الباحثين عن الحقيقة، المدافعين عن المنهجية الجديدة التي نضع الخطوط العريضة لها في هذا الكتاب.

ولمّا كانت التساؤلات التي تثار في هذا الكتاب تمس عقيدة كل شخص، ولمّا كانت النتائج المترتبة على ذلك جمّة، كان لا بد من التبسيط في الطرح والإسهاب أحيانا في الشرح، لتعم الفائدة، فتجنبنا (إلاّ في نادر الأحوال) استخدام المصطلحات العلمية، وآثرنا استخدام المفاهيم الدارجة حتى على لسان العامة، وإنّنا على يقين أنّ القارئ سيجد في أكثر من مكان متعة القراءة إنْ هو منح نفسه فرصة النظر إلى الأمور من زاوية أخرى.

تمهيد
يلحظ القارئ، حتى غير المتدبر، للقرآن كثرة ذكر الآيات الدالة على قدرة الله اللامتناهية في الكون وفي النفس البشرية - يرصد القرآن المفهرس ما يزيد عن (300) موقعاً وردت فيه لفظ الآيات والبيّنات-، قال تعالى:

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فصلت 53
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ النمل 93

وعندما اختار الله سبحانه أنْ يجري بعض تلك الآيات على أيدي بعض عباده، احتار بها العقل البشري بين مكذّب ومصدّق، وتفاوتت ردود أفعال حتى الذين رأوها بأم أعينهم، فنعتوها (ومن جاء بها) تارة بالكذب، ومرات بالشعوذة والدجل، قال تعالى:

قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ يس 15
فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ" النمل 13
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3)" القمر 1-3
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ" سبإ 43
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ الأنعام (4)
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ يس 46
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً
يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (15) الصافات 12-15
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ لأنفال 31
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم يونس 15


ولكنّ المثير للانتباه أنّ الذين صدّقوا بها (على قلتهم) ذهبوا إلى أنّ هذه أمور خارقة للعادة، وفوق قدرة العقل البشري على الإحاطة بها، فدرجوا على تسميتها "بالمعجزات"، ومراد القول في ذلك أنّ تلك أمور سخرها الله سبحانه وأجراها على أيدي عباد له، وهي غير قابلة للتطبيق مرة أخرى، وهنا يبرز تساؤل مقلق قلما تصدى له علماء الفكر الديني (إما درءاً للجدل أو لعدم امتلاكهم الإجابة الشافية له)،

 تساؤل مفاده: "لِمَ اختص الله سبحانه أقواماً معينين بهذه المعجزات دون أقوام كثيرين؟" وهل من العدل أنْ يرى أهل قرية من الزمن الغابر آيات الله ليطلب منهم بعدئذٍ تصديق رسله بينما يحرم هذا العالم بملياراته فرصة أنْ يروا تلك الآيات بأم أعينهم ليطلب منهم الإيمان وتصديق رسالات الله لهم؟

 وتصور معي – عزيزي القارئ- لو أنّ آية من آيات الله (كناقة صالح مثلاً) جاءت قرية في زمننا الحاضر، وتم بثها باستخدام أجهزة الاتصال الحديثة كالتلفاز والإنترنت والأجهزة الخلوية... الخ، إلى العالم كله، ألا تكون الفائدة أكبر والنتائج أفضل والحجة أقوم؟
 
والاستنتاج الأكثر غرابة –في ظننا- هو ما ذهب إليه علماء الفكر الديني في عقيدة مفادها أنّ تلك الآيات هي معجزات لا يمكن للعقل البشري الإحاطة بها، وذهب أكثرهم إلى عبثية البحث فيها، وهم بذلك يهدمون أكثر مما يبنون، ويسيئون من حيث لا يدرون (كما أكون قد أفعل أنا الآن)، لأنهم يفتحون الباب على مصراعيه لاستنتاج غاية في الخطورة مفاده عبثية تلك الآيات، 

فما دامت تلك الآيات غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع في أماكن وأزمنة متقاربة أو متباعدة، فلِمَ يخبرنا الله بها؟ 
وما دام أغلبية الذين رأوها بأم أعينهم لم يؤمنوا بها، فكيف يقيم الله بها الحجة حتى على الذين لم يروها؟!
 
ويكمن الخطر الأكبر – نحن نفتري الظن- في أنّ بعض المتشككين قد يذهبون إلى أبعد من ذلك متسلحين بتلك الآيات نفسها للهجوم على العقيدة الدينية برمتها، لا للدفاع عن مواقفهم الهزيلة، فافترضوا عبثية الله (إنْ صحّ وجوده أصلاً) في الخلق، فهم يفترضون أنّ الإله يتصرف بالكون حسب هواه، وهو إذاً كون غير مسيّر بقانون، وكل ما فيه جزء من تلك العبثية، وقادهم هذا الافتراض إلى الحديث عن عبثية الكون، وعبثية الخلق، وعبثية الوجود، وعبثية المنتهى، الخ. 

وخلاصة القول أنّ الآيات التي أنزلها الله سبحانه لتقيم الحجة على الناس وتكون مكمن قوة في العقيدة، انقلبت بمرور الزمن لتصبح مجال اتهام للعقيدة برمتها، وأصبح الإنسان المؤمن مديناً بتفسير تلك الآيات للعقل غير المصدق بها.
 
ولم يتوقفوا عند آيات القرآن الكريم، فلقد اقتبسوا بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ليتحدوا المؤمنين بها مطالبين بالبرهان العملي، ومرادهم في ذلك لا لبس فيه، وملخصه أنّ هذه العقيدة تحوي في ثناياها أموراً يصعب تصديقها، 

ولنورد بعض تلك الأحاديث:
 
حديث مقاتلة بني إسرآئيل
‏حدثنا ‏ ‏الحكم بن نافع ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏شعيب ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏قال أخبرني ‏ ‏سالم بن عبد الله ‏ ‏أن ‏ ‏عبد الله بن عمر ‏ ‏رضي الله عنهما ‏ ‏قال "‏سمعت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول ‏ ‏تقاتلكم ‏ ‏اليهود ‏ ‏فتسلطون عليهم ثم يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله"
 
حديث مخاطبة الرجل شراك نعله
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله فتخبره بما أحدث بعده"
 
حديث مخاطبة الراعي الذئب (صحيح البخاري المجلد الخامس حديث رقم 15، وكذلك حديث مسند أحمد المجلد الثالث صفحة 83، وصحيح ابن حبان في كتاب المعجزات حديث رقم 6514)
أخبرنا أبو يعلى ، حدثنا هدبة بن خالد القيسي ، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني ، حدثنا الحريري ، حدثنا أبو نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : : (بينا راع يرعى بالحرة إذ عرض ذئب لشاة من شائه ، فجاء الراعي يسعى ، فانتزعها منه ، فقال للراعي : ألا تتقي الله، تحول بيني وبين رزق ساقه لله إلي ؟ قال الراعي : العجب للذئب ـ والذئب مقع على ذنبه ـ يكلمني بكلام الإنس ؟ قال الذئب للراعي : ألا أحدثك بأعجب من هذا ؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق ، فساق الراعي شاءه إلى المدينة ، فزواها في زاوية من زواياها ، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له ما قال الذئب ، فخرج رسول الله ، وقال للراعي : ( قم فأخبر ) ، فأخبر الناس بما قال الذئب ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( صدق الراعي ، ألا من أشراط الساعة كلام السباع الإنس والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الأنس ، ويكلم الرجل نعله وعذبة سوطه ، ويخبره فخذه بحديث أهله بعده ) .).
 
حديث الدجال (من سنن الترمذي)
‏حدثنا ‏ ‏علي بن حجر ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏الوليد بن مسلم ‏ ‏وعبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ‏ ‏دخل حديث أحدهما في حديث الآخر ‏ ‏عن ‏ ‏عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ‏ ‏عن ‏ ‏يحيى بن جابر الطائي ‏ ‏عن ‏ ‏عبد الرحمن بن جبير ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏جبير بن نفير ‏ ‏عن ‏ ‏النواس بن سمعان الكلابي ‏ ‏قال ‏
‏ذكر رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏الدجال ‏ ‏ذات ‏ ‏غداة ‏ ‏فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل قال فانصرفنا من عند رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ثم رجعنا إليه فعرف ذلك فينا فقال ما شأنكم قال قلنا يا رسول الله ‏ ‏ذكرت ‏ ‏الدجال ‏ ‏الغداة ‏ ‏فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل قال غير ‏ ‏الدجال ‏ ‏أخوف لي عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا ‏ ‏حجيجه ‏ ‏دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ ‏ ‏حجيج ‏ ‏نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب ‏ ‏قطط ‏ ‏عينه ‏ ‏طافئة ‏ ‏شبيه ‏ ‏بعبد العزى بن قطن ‏ ‏فمن رآه منكم فليقرأ فواتح سورة ‏ ‏أصحاب الكهف ‏ ‏قال يخرج ما بين ‏ ‏الشام ‏ ‏والعراق ‏ ‏فعاث ‏ ‏يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا قال قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال أربعين يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قال قلنا يا رسول الله أرأيت اليوم الذي كالسنة ‏ ‏أتكفينا فيه صلاة يوم قال لا ولكن اقدروا له قال قلنا يا رسول الله فما سرعته في الأرض قال كالغيث ‏ ‏استدبرته ‏ ‏الريح فيأتي القوم فيدعوهم فيكذبونه ويردون عليه قوله فينصرف عنهم فتتبعه أموالهم ويصبحون ليس بأيديهم شيء ثم يأتي القوم فيدعوهم فيستجيبون له ويصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ‏ ‏فتروح ‏ ‏عليهم ‏ ‏سارحتهم ‏ ‏كأطول ما كانت ‏ ‏ذرا ‏ ‏وأمده خواصر ‏ ‏وأدره ضروعا قال ثم يأتي الخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فينصرف منها فيتبعه ‏ ‏كيعاسيب ‏ ‏النحل ثم ‏ ‏يدعو ‏ ‏رجلا شابا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه ‏ ‏جزلتين ‏ ‏ثم يدعوه فيقبل ‏ ‏يتهلل ‏ ‏وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ هبط ‏ ‏عيسى ابن مريم ‏ ‏عليه السلام ‏ ‏بشرقي ‏ ‏دمشق ‏ ‏عند المنارة البيضاء بين ‏ ‏مهرودتين ‏ ‏واضعا يديه على أجنحة ملكين إذا ‏ ‏طأطأ ‏ ‏رأسه ‏ ‏قطر ‏ ‏وإذا رفعه ‏ ‏تحدر ‏ ‏منه ‏ ‏جمان ‏ ‏كاللؤلؤ قال ولا يجد ريح نفسه ‏ ‏يعني أحدا إلا مات وريح نفسه منتهى بصره قال فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله قال فيلبث كذلك ما شاء الله قال ثم يوحي الله إليه أن ‏ ‏حوز ‏ ‏عبادي إلى ‏ ‏الطور ‏ ‏فإني قد أنزلت عبادا لي ‏ ‏لا يدان ‏ ‏لأحد بقتالهم قال ويبعث الله ‏ ‏يأجوج ‏ ‏ومأجوج ‏ ‏وهم كما قال الله ‏

*** *** ***
 
وقد كانت وسيلة الدفاع عند بعض أبناء المسلمين أنْ وصلت عند بعضهم الجرأة إلى إنكار أو التشكيك بصحة تلك الأحاديث (كما أفعل أنا أحياناً)، وذهب أكثرهم "إيماناً" إلى أخذ تلك الأمور إيماناً غيبياً، واستندوا في دفاعهم عن عقيدتهم أنّ مثل تلك الأمور موجودة في جميع الشرائع السماوية الأخرى، فاقتبسوا قصصا مشابهة من التوراة والإنجيل. 

والسؤال الذي نوجهه لأبناء المسلمين قبل غيرهم هو: هل إذا شككنا بمثل هذه الأحاديث أو تجنبنا الخوض فيها، فهل نستطيع التشكيك أو تجنب الخوض بمثل تلك الآيات التي وردت في القرآن الكريم؟
 
- فهل إذا شككنا مثلاً بحديث الدجال نستطيع التشكيك بالآيات القرآنية التي تحدثت عن عيسى بن مريم عليه السلام؟

وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ آل عمران 49
 
وهل إنْ شككنا بحديث مقاتلة بني إسرائيل نستطيع التشكيك بمقاتلة موسى عليه السلام لفرعون وجنوده وشق موسى البحر بعصاه، أو بقصته مع السحرة؟

فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ الشعراء 63
 
وهل إنْ شككنا بحديث الراعي للذئب، أو مخاطبة الرجل شراك نعله، هل نستطيع التشكيك بمخاطبة سليمان عليه السلام للنمل أو الهدهد؟
 
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) النمل 18-22

*** *** ***

 
نحن نفتري الظن بأنّ مشكلة ما جرى حتى الساعة من نقاش في هذا الموضوع تكمن في أنّه لا يجيب على التساؤل الحقيقي وهو الذي نطرحه هنا: 

هل فعلاً أنّ تلك الآيات "معجزات" حدثت أو ستحدث لمرة واحدة، وهي غير مسيرة بقانون لتكون قابلة للتطبيق مرات ومرات؟ 

وإنْ كان كذلك، فما الحكمة في أنْ يخبرنا الله بها ويقيم بها الحجة على الناس في كل زمان ومكان حتى على الذين لم يروها بأم أعينهم؟

 فهل من العدل أنْ تكون الحجة علينا في صدق رسالة إبراهيم عليه السلام مثل الحجة على أولئك الذين رأوه يخرج من نار قومه العظيمة وكأنه في نزهه؟

 وهل من العدل أنْ تكون الحجة علينا في صدق رسالة موسى عليه السلام مثل الحجة على أولئك الذين رأوه يشق البحر بعصاه بأم أعينهم؟ 

وهل من العدل أنْ تكون الحجة علينا في صدق رسالة عيسى بن مريم عليه السلام مثل الحجة على أولئك الذين رأوه يحيي الموتى ويشفي الأبرص والأكمه بأم أعينهم؟

 وهل من العدل أنْ تكون الحجة علينا في صدق رسالة محمد عليه الصلاة السلام مثل الحجة على أولئك الذين رأوا القمر ينشق نصفين بأم أعينهم؟
 
نحن نعتقد جازمين أن أصحاب الفكر الديني قد أوقعوا أنفسهم في مصيدة أصحاب الفكر التشكيكي والإلحادي، نتيجة فهمهم الخاطئ لآيات الله سبحانه في الكون وفي النفس البشرية، فهم قد أصبحوا مدينين للطرف الآخر بالتدليل بالبرهان العملي على صدق تلك الآيات التي غدت مجال اتهام للتفكير الديني يوجهه أصحاب العقول التي لا ترضى بأقل من الطريقة العلمية في التفكير واستخلاص النتائج. 

فهم يرون أنّ الفكر الديني يضم في ثناياه أموراً غير قابلة للتطبيق أو التجريب، ومن هنا جاءت مسيرتهم في البحث عن الحقيقة بعيداً عن الدين، معتقدين أنّ في الدين من الغيبيات التي لا تساعدنا في حياتنا اليومية، وذهب الكثير منهم إلى نعت تلك الغيبيات بالخرافات، وما كان رد أصحاب الفكر الديني سوى الثبات على موقفهم العقائدي القائل بأنّ تلك الغيبيات هي معجزات تؤخذ بالتسليم وليس بالتفكير، واستمر الجدل مئات (لا بل آلاف) السنوات بين هذين الاتجاهين المتعاكسين، وكان الضحية الإنسان العادي الذي أُشكل الأمر عليه وأصبح من الصعب عليه أنْ يحسم أمره إلى أي الفريقين ينتمي، ففي حين تجذبه فطرته وشعوره الداخلي إلى موقف علماء الدين، كان عقله ومنطقه يجره على الدوام إلى جانب الإلحاديين والتشكيكين، فتولّد ذلك الانفصام في الشخصية والسلوك بين ما يميل إليه الطبع والفطرة السليمة وما يرجحه العقل والمنطق، فغلبت الفطرة عند البسطاء، وغلب المنطق عند من تسموا بالمتعلمين، وقلّما ظهر بين المتعلمين من يميل إلى فطرته وينكر ما ذهب إليه منطقه.
 
والسؤال الذي نطرحه هنا هو: 
ألا يمكن أنْ يتلازم التفكير الفطري مع التفكير العلمي؟ هل يمكن أنْ نصل إلى المرحلة التي لا يتنافى فيها التفكير العلمي الصحيح مع الفطرة السليمة ليصبح علمنا مبنياً على إيمان يقيني، ويصبح إيماننا مبنياً على تفكير علمي؟
 
إنّ الجواب الذي نقدمه هنا هو نعم بكل تأكيد، شريطة ردم الهوة بين الطرفين، أي إنْ استطعنا أنْ نثبت أنّ ما يسميه علماء الدين "بالمعجزات" وعلماء الإلحاد "بالخرافات" هي في الحقيقة لا هذا ولا ذاك، بل هي أمور علمية مبنية على أصول ومبادئ قابلة للتجريب والتطبيق، ولكنّ ذلك لن يتم إلا بتبني إطار نظري يمكن من خلاله تفسير تلك الأمور ومن ثم العمل على إمكانية تطبيقها على أرض الواقع،

 إنّ ما نحاول تقديمه هنا هو نظرية فكرية علمية عالمية مبنية على التصور القرآني لتكون منافسة وبالبرهان النظري والدليل العملي لجميع نظريات الفكر المادي.

 ونحن نعتقد جازمين أنّ تبني هذا الفكر الجديد إيمانياً في المقام الأول، ومن ثم العمل على تطبيقه على أرض الواقع ستمكننا من تحقيق أضعاف أضعاف ما حققه الفكر المادي، وسنتمكن من تغيير التفكير على وجه الأرض، لا بل ستمكننا من أنْ ننفذ من أقطار السموات والأرض.

 ولكن قبل الولوج في ثنايا تلك النظرية هناك عدة تساؤلات لا بد من التعرض لها.

*** *** ***

 
أولاً،

 ألا يتساءل البعض أنّ تكشف تلك المعرفة (أي أنّ ما يسمى بالمعجزات هي في الحقيقة أمور قابلة للتجريب والتطبيق) يمكن استخدامها إما لهداية الناس جميعا لمعرفتهم حينئذٍ بصدق الرسالة الدينية أو لضلالهم جميعا لأنهم يصبحوا حينئذ في غنى عن العبادة؟

 إنّ الجواب هو النفي في الحالتين، فتكشف تلك المعرفة لن يكون سبباً في هداية الناس جميعاً، ولن تكون كذلك سبباً في ضلالهم جميعاً، والدليل على ما نذهب إليه آيات عديدة في كتاب الله تؤكد جميعها أنّه لو جاءت كل آية وحتى لو جاء الله نفسه والملائكة معه ما اهتدى من لم تنفذ مشيئة الله له بالهداية، قال تعالى:
 
وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) الأنعام 109-111
 
أما الدليل الآخر الذي نقدمه على ذلك فيكمن في أن القرآن الكريم يخبرنا بما لا يدع مجالاً للشك أنّ جميع رسل الله تعالى جاءوا أقوامهم بآيات وبينّات، ولكن هل شكلت تلك الآيات سبباً لهداية الناس جميعاً حينئذ؟

 فكيف رد أولئك الناس على رسالة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؟ 
ألم يكذبوا رسل الله جميعاً وينعتوا الآيات التي جاءوا بها بالسحر والشعوذة؟
 ألم يروا إبراهيم عليه السلام يخرج من نارهم "العظيمة" ويكأنه في نزهة؟
 ألم يذكروا أنّ عصا موسى وإخراج يده من جيبه بيضاء من غير سوء ليست أكثر من السحر الأكبر لإخراجهم من ديارهم؟
 ألم يروه يشق البحر بعصاه نصفين؟
 ألم يروا بأم أعينهم عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد؟
 ألم يروه يحيي الموتى ويشفي الأكمه والأبرص؟
 وألم يروا القمر ينشق نصفين لمحمد عليه الصلاة والسلام؟
 فهل زاد أولئك عن القول أنّ ذلك ليس إلا السحر الأكبر؟ وهل شكلت تلك الآيات سبباً في هدايتهم جميعاً؟!

 
ثانياً، 

قد يرد الطرف ألآخر بالقول أنّ تكشف تلك الحقائق والوصول إلى تلك المعرفة قد تكون سبباً لضلال الناس جميعاً حيث يصبح الناس حينئذٍ في غنىً عن العبادة، لأن الحياة الدنيا تصبح أقرب إلى حياة الرغد حيث يستطيع الإنسان الحصول على ما يريد، فتكون الحياة حينئذٍ أقرب إلى الجنة أو ربما أقرب إلى الفوضى؟
 
نحن نظن أنّ الجواب على هذا السؤال هو أيضاً النفي، مع تأكيدنا أنّ الغالبية العظمى (ولكن ليس كل الناس) سيكونون أقرب إلى جانب الضلال منهم إلى جانب الهداية، مصداقاً لقوله تعالى:
 
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ يوسف 103
... وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون البقرة 243
... وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ الأعراف (187)
... وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ هود (17)
... وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ سبأ (13)
 
ولن يكون تكشف ذلك العلم سبباً لضلال الناس جميعاً وذلك لسبب بسيط: 
أنّ الإنسان سيبقى دائماً بحاجة إلى خالقه لعجزه عن الوصول إلى المعرفة المطلقة، وستبقى فئة (ولو قليلة) دائمة التفكر في صاحب القوة المطلقة المسيّرة للكون، وبكلمات أخرى إنّ علم الله سبحانه هو أكبر من الدنيا وما فيها، فعلم الله أكبر من أنْ يحيط به بنو البشر، فالله عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، قال تعالى:
 
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ الأنعام 59
 
وكذلك ما كان الله ليطلعنا على الغيب، قال تعالى:
 
... وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ... آل عمران 179
... وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ... الأعراف 188
 
فهذا العلم هو علم الله وحده، وهو ما لا نكلف أنفسنا عناء البحث عنه وذلك لأنّ أمره محسوم بالنسبة لنا، أما العلم الذي نبحث عنه فهو العلم الذي اطلع الله بعض عباده عليه، وهو ما يخص الإنسان على هذه الأرض، وهي الآيات والبينات التي جاء بها نوح وموسى وعيسى وداود وسليمان ويوسف وحتى لقمان والخضر، قال تعالى:
 
... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ البقرة (187)
... كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ البقرة (219)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ البقرة (242)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ آل عمران (103)
... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة (89)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ النمل 93
 
فنحن إذاً مؤهلون للحصول على جزء من علم الله وليس علم الله كله، قال تعالى:
 
... وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً الإسراء (85)
قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ... النمل (40)
 
ونحن كذلك ندرك أنّ تكشف تلك الحقائق لن يأتي دفعة واحدة مصداقاً لقوله تعالى:
 
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ص 88
 
وهذا بالضرورة يعني أنّه لن ينكشف من تلك الحقائق إلا ما شاء الله له أنْ يبين، قال تعالى:
 
... وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء البقرة (255)
 
(دعاء: أسأل الله أن ينفذ قوله بمشيئته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لأحد غيري، إنه هو السميع العليم)
 
فكما تذكر الآيات السابقة فإن ما سينكشف من العلم إذاً هو شيء من علم الله وليس علم الله كله، فنحن نطلق العنان لخيالنا ولقدرتنا التي وهبنا الله إياها،
 فما دام الله سبحانه قد منحنا القدرة على التفكر بها حتى بيننا وبين أنفسنا، فلِمَ نحرم أنفسنا فرصة التفكر بها بصوت مرتفع أو بصوت جماعي؟
 ولِمَ لا نضعها على أجندة أبحاثنا العلمية مادامت الغاية كريمة والطريقة مشروعة؟

 
الافتراض النظري الذي نطرحه:

 يجب أنْ نتوقف عن النظر إلى تلك الآيات والبينات على أنها معجزات تحددت بمكان وزمان وارتبطت بأشخاص معينين، فنحرم أنفسنا وأجيالنا (لا بل) والعالم أجمع فرصة التفكر بها والاستفادة منها، إنّنا مدعوون نحن كمسلمين في المقام الأول والعالم من بعدنا للنظر إلى تلك الآيات والبينات على أنها أمور قد تكون قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان وعلى أيدي أشخاص كثيرين، وبكلمات أدق نحن نفتري الظن بأنّ تلك الآيات والبينات يجب أنْ تشكل الحد الأقصى لخيال المسلم العلمي، وكيف لا وكتاب الله ما زاد على نعتها على أنّها علم، فهي في كتاب الله ليست خرافات كما يصفها الإلحاديون، وهي ليست معجزات كما يظنها علماء الدين،

 قال تعالى:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ آل عمران 48
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يوسف (68)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يوسف (101)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا الكهف (65)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ النمل 15
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ النمل 16
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا" النساء 54
 
وهنا ربما يسرع البعض لطرح التساؤل التالي: وهل يمكن أنْ يتوافر هذا العلم للناس العاديين؟
 أي لنفترض أنّ ذلك حقاً هو علم (وليس خرافات ولا معجزات)، فهل سيؤتيننا الله ذلك العلم كما آتاه الله لعيسى وموسى وداود وسليمان مثلاً؟
 إنّ الجواب المفاجئ الذي نقدمه هو نعم، والدليل الأكبر الذي نقدمه على أنّ هذا العلم قد يتوافر لنا نحن المسلمين هو أنه كما اختص الله هؤلاء الناس بهذا العلم اختصنا كذلك نحن المسلمين به، وهذا الأمر مثبت بما لا يترك مجالاً للريبة في كتاب الله،
 فالله سبحانه قد اختص رسله بالآيات والبينات وتفضل على بعضهم بالعلم المقترن بها والحكمة المصاحبة لها:

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ الأعراف (101)

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ التوبة 70

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ يونس (13) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ إبراهيم (9)

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ الروم (9)

وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ فاطر (25)

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ غافر (22)

فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون غافر (83)

ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ التغابن (6)

وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ العنكبوت 39


وقد جاء في معرض الحديث عن ابن مريم عليه السلام:

وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ الزخرف 63
 
وجميع الآيات في هذا السياق جاءت في مجملها لتؤكد أنّ الله قد تفضل على رسله وأقوامهم السابقين بالبينات (وليست المعجزات)، ولنربط ذلك بما تفضل الله به على هذه الأمة:
فلقد جاءت دعوة إبراهيم عليه السلام لهذه الأمة على النحو التالي:
 
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ البقرة 129
 
فما كان الله ليرد دعوة إبراهيم عليه السلام لهذه الأمة، فقال تعالى:
 
لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ آل عمران 164
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ الجمعة 2
وقال الله سبحانه مخاطباً هذه الأمة:
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ البقرة 151


*** *** ***
 
إنّ الاستنتاج الكبير الذي نجهد أنفسنا للوصول إليه هو على النحو التالي:

 لقد أيّد الله رسله وبعض عباده السابقين بالعلم والحكمة، وقدموا الدليل العملي لأقوامهم على ذاك التأييد الإلهي على شكل الآيات والبينات، ولكن أقوامهم لم يتعلموا تلك الحكمة وذلك العلم عندما آثروا أن يربطوها بالشخص نفسه، فارتبط العلم بالشخص وانتهى بموت أو بنهاية ذلك الشخص، فانتهى علم موسى بموته، وكذلك انتهى علم يوسف وداود وسليمان، وارتفع علم عيسى إلى السماء عندما رفعه الله إليه، فكانت الحاجة متجددة إلى أنْ ينزّل الله بعض آياته إلى الأرض حتى جاءت الرسالة الخاتمة، فأنزل الله آياته وأنزل تلك الحكمة وذلك العلم على رسوله:

"... وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" البقرة 231
 
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا النساء 113
 
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا الإسراء (39)
 
ولم يختزل تلك الحكمة لشخص النبي بل تفضل بها على أمته:
 
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ البقرة (151)
 
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ الجمعة (2)
 
ولكن لم تنته الحكمة والعلم بموته عليه الصلاة والسلام، بل علّمها لقومه وتركها فيهم ليكونوا هم رسلا للعالمين من بعده:
 
لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ آل عمران 164
 
فأصبحت الحكمة متاحة للأمة بأكملها:
 
يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ البقرة (269)

*** *** ***
 
وهنا لا بد من التعرض لملحوظ غاية في الروعة لهذا التصوير القرآني، فلعل البعض قد يلاحظ أنّ هناك شيئاً من التفاوت بين دعوة إبراهيم عليه السلام لهذه الأمة واستجابة ربه لدعوته، والتي قد يظنها البعض نوعاً من عدم الدقة:
دعاء إبراهيم
 
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ البقرة 129


إجابة الله
 
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ البقرة (151)
 
لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ آل عمران 164
 
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ الجمعة 2
 
فلعل القارئ الكريم قد لاحظ التفاوت في ترتيب الأولويات،

 فإبراهيم يطلب من ربه أنْ تكون مهمة الرسول لهذه الأمة على الترتيب التالي:
- يتلو عليهم الآيات
- يعلمهم الكتاب والحكمة
- يزكيهم
 
فكان الرد الإلهي على الترتيب التالي:
- يتلو عليهم الآيات
- يزكيهم
- يعلمهم الكتاب والحكمة
 
والسؤال الذي قد يتبادر للذهن هو:
 لِمَ اختلف الترتيب بين دعوة إبراهيم واستجابة الله لهذه الدعوة؟ 
وهل هي من باب المصادفة والتبديل غير المقصود؟
 نقول كلا وألف كلا، إنّها دقة وروعة في التصوير القرآني الذي يحمل المعاني الجمة التي لها علاقة مباشرة بفحوى الموضوع الذي نتصدى له هنا، فأولاً وقبل كل شيء لم يتغير الترتيب في الآيات التي تصور الرد الإلهي لدعوة إبراهيم، فجميعها جاءت بالترتيب ذاته، بينما جاءت دعوة إبراهيم بترتيب مغاير نقرأه نحن على النحو التالي:
 لقد كان الهدف الأقصى في ذهن إبراهيم عليه السلام لهذه الأمة هي "الزكوة" أي الطهارة وكان ظن إبراهيم أنّ تلك الزكوة تكون عن طريق
 (1) تلاوة الآيات ومن
 ثم (2) تعلم الكتاب والحكمة،

 وهذا يعني بمنظور إبراهيم عليه السلام أنّ من يتلوا الآيات أولاً يحصل على علم الكتاب ثانياً،
 الذي إنْ حصل جاءت الزكوة (أي الطهارة) المنشودة لهذه الأمة كما في الشكل التالي:
 



تلاوة الآيات 
علم الكتاب الحكمة
 الزكوة
 
ولننظر الآن إلى الرد الإلهي،
 فلقد جاء الرد من الله بالمنّة على هذه الأمة "لقد منّ الله على المؤمنين"، فالسؤال هو كيف كانت المنّة من الله على هذه الأمة؟

 نقول أنّه بالإضافة إلى ما ذكره الأقدمون بأنّ المنّة كانت ببعث الرسول إليهم (أي إجابة الدعاء أولاً وقبل كل شيء)، كانت المنّة أيضاً ظاهرة بهذا الترتيب في الأولويات، فالله سبحانه قدّم "الزكوة" (يزكيهم) على علم الكتاب والحكمة كما في الشكل التالي:
 



تلاوة الآيات
 الزكوة 
علم الكتاب والحكمة
 
وهذا بقراءتنا يعني أنّ ما هو مطلوب من هذه الأمة هو فقط
 تلاوة الآيات لتتحقق الزكوة (الطهارة)،
 وهذه منّة عظيمة من الله على هذه الأمة، 
وتصور معي لو أنّ الطهارة (أي الزكوة) المنشودة لا تتحقق لهذه الأمة إلا بترتيب إبراهيم عليه السلام (تلاوة الآيات، فعلم الكتاب والحكمة، فالزكوة)
 لشق ذلك على الأمة، أي لأصبح العلم بالكتاب والحكمة شرطاً إضافيا لتلاوة الآيات لتتحقق الطهارة، لكننا نظن أن التخفيف جاء من الله (أي المنّة) على نحو أنّ تأتي الزكوة مباشرة بعد تلاوة الآيات ويأتي علم الكتاب والحكمة لمن أراد الاستزادة.
 فآيات الله موجودة للجميع، وعلمها ممكن لمن أراد الزيادة في الفضل.




*** *** ***
 
أما الاستنتاج الأكبر لتوافر هذا العلم والحكمة لهذه الأمة يأتي على النحو التالي:
 فما دامت آيات الله موجودة بين أيدينا وعلمها ممكن (أنظر الآية 2 سورة الجمعة)، لم يعد العالم بحاجة لرسل من الله كما كانت الحاجة في العصور التي سبقت الرسالة المحمدية،

 فخلاصة القول أنّ محمداً (صلى الله عليه وسلم) قد جاء بتلك الآيات من ربه كما جاء الرسل والأنبياء السابقون، ولكنّه تميّز عنهم أنّه ترك علم تلك الآيات والحكمة منها في أمته، فهم (أي أتباع الرسالة المحمدية) إذاً إنْ حملوا تلك الرسالة وتعلموا ذاك العلم وتلك الحكمة أصبحوا رسلاً للعالمين تجري على أيديهم تلك الآيات والبينات كما جرت على أيدي الرسل الذين حملوا الرسالة إلى أقوامهم قبل هذه الرسالة الخاتمة، وبكلمات أخرى،

 نحن نفتري الظن أنه إنْ نحن توافر لنا علم الآيات والحكمة منها وذاك بنص الآيات السابقة،
 ألا نكون إذاً نحمل ما حمله الرسل في أقوامهم السابقين؟ 
نعم هذا ما نفهمه من الافتراض أنّنا نحن (أمة محمد) رسل للعالمين، فكيف يكون الواحد منّا رسولاً إنْ لم تتوافر له الآيات والبينات التي جاء بها الرسل السابقون أقوامهم؟!
 
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ التوبة (70)
 
وهذا يدعونا أيضاً للتساؤل عن سبب أنْ نكون نحن أمة محمد (عليه الصلاة والسلام) من دون الأمم جميعاً رسل للناس.

 أي لِمَ لَمْ تُكَلَّف الأمم الأخرى كما كلفت هذه الأمة بحمل الرسالة الدينية للناس؟ 

لقد درج البعض على اعتبار أنّ هذه الأمة قد تشرفت بهذه المهمة تميزاً وتكريماً لها مصداقاً لقوله تعالى:
 
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ آل عمران 110
 
وكان رد الأطراف الأخرى أنهم هم الأمم المصطفاة، وتباينت الآراء حتى غدا كل طرف معتد بنفسه مفاخراً بتمييز الله له، فنقول أنّ ذلك فيه من الشوفانية التي قد تغطى الحقيقة عن التجلي، ففي عقيدتنا نجد أنّ الله قد ميّز أمماً أخرى:
 
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ البقرة 40
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ البقرة 47
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ البقرة 122
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا النساء 54
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ آل عمران (55)
 
فأين تكمن الحقيقة إذاً؟ من هي الأمة المميزة؟
 والأهم من ذلك كله من هي الأمة المكلفة بحمل الرسالة السماوية إلى العالمين؟ 
وهل حقاً كانت الأمم السابقة غير مكلفة بالدعوة إلى الله؟ 
وما القول إذاً في ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة ينصح قومه بإتباع دعوة الرسل؟
 
وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ يس 20
 
وما القول كذلك في ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه من آل فرعون؟
 
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) غافر 28-33
 
والسؤال يكون إذاً: 
وأي دعوة إلى الله أعظم من دعوة هذا الرجل خصوصاً أنها كانت بوجه من كان يدّعي لنفسه الأولوهية؟
 فهل حقاً تميزت هذه الأمة عن غيرها بحمل الرسالة إلى الناس؟ 
وإنْ كان كذلك فكيف يمكن فهم الأمر بوجود مثل هذه الحقائق في قرآننا؟

 إنْ القول بهذه البساطة أنّ الله قد ميزنا عن غيرنا وأنّ الله كلفنا شرف حمل الرسالة للناس كافة ولم يكن ذلك لغيرنا يعني أنّ الله سبحانه منع هذا الأمر عن الأمم السابقة، إنّنا ندعي بأنّ في هذا الفهم تجني على الله، ويكأننا إذاً ندعي أنّ الإله قد غيَّر بمجيء هذه الأمة إستراتيجيته في حمل رسالته إلى العالمين، 
وهو ما لا يجب أنْ يكون وذلك لأنّ الله قد قضى:
 
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا الأحزاب 62
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا الفتح 23
 
إنّنا نفهم أنّ هذه الأمة غدت حاملة لرسالة الله للعالمين من منظور آخر لا يحمل الشوفانية التي قد ننتقد من خلالها ولا يكون في الأمر تجنّن على سنن الله الكونية. 

إنّنا ندعي أنّ كل الأمم السابقة المؤمنة قد ميزها الله كما ميّز هذه الأمة، وكان عليها حمل رسالته إلى العالمين وقد فعلوا ذلك وأنبياءهم بين ظهرانيهم

 " وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" وكذلك "وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ"،

 ولكنّ انفردت هذه الأمة من دون الأمم الأخرى بهذا الشرف للسبب البسيط التالي:

 لقد ضاعت الآيات والبينات التي كان يحملها الرسل كدليل على صدق رسالتهم للناس مع نهاية حياة ذلك الرسول، فذهبت ناقة صالح مع نبي ثمود:
 
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ الأعراف 73
 
وذهبت بيّنات يوسف بهلاكه:
 
وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ غافر 34
 
وجحد قوم عاد بالآيات التي جاءهم بها نبيهم هود:
 
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) هود 59-60
 
وكذلك حصل للأقوام السابقة الأخرى، فجاء على لسان شعيب في نصحه لقومه:
 
وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ هود 89
 
وكذلك حُرِّفَت نصوص الكتب بعد موت الرسل الذي يُسِّرت تلك الكتب بألسنتهم، فَحُرِّفت عبرانية كتب وفرقان موسى، وضاعت آرامية إنجيل عيسى:
 
أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ البقرة 75
 
ونحن نتحدى إنْ يقدموها لنا كاملة غير منقوصة،

 ولم يعد القوم يملكوا الآيات التي جاء بها رسلهم، فكيف إذاً سيحملون رسالتهم إلى العالمين؟
 أليس من أراد أنْ يدّعي الرسالة بحاجة إلى الآيات والبينات التي تكون دليلاً على صدق الرسالة التي يدعو لها؟
 
أما هذه الأمة، فهي لا زالت تحظى بشرف الرسالة لأنّها لازالت تملك الآيات التي جاء بها نبيهم ألا وهو القرآن الكريم،
 وحتى يستبين القارئ وجاهة ما ندَّعي، ندعوه لتخيل السيناريو التالي:

 تصور معي لو أنّ القرآن الكريم (لا قدر الله) قد ضاع النص نصه الأصلي الذي جاء به محمد، فهل سنكون حينئذ مؤهلين لحمل تلك الرسالة الضائعة إلى الأمم الأخرى؟
 وهل سنكون نملك ما يمكن أنْ نقدمه للعالمين حتى وإنْ كنا مؤمنين بها؟!
 نعم إنّ الأمم الأخرى تؤمن برسالة الأنبياء السابقين ولكنها لا تحمل الآيات والبينات التي جاء بها أولئك الأنبياء والرسل، فلذا تعجز أنْ تكون مبلغة للرسالة الحق.
 
فخلاصة القول تساؤل بسيط هو: ما هي سلعة الرسل غير الآيات والبينات الدّالة على صدق رسالتهم؟
 وإنْ صح هذا التساؤل فكيف بنا نكون رسلاً إنْ لم نملك سلعتهم؟ 
ومن هنا جاءت دعوة الله لهذه الأمة للتفكر بهذه الآيات في كل وقت وحين:
 
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ص 29
 
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا النساء 82
 
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا محمد (24)
 
وهذا التدبر كفيل بأنْ يهدي الإنسان إلى خالقه فيعبده عن علم ويقين لا يساورهما شك ولا مساءلة، وينتج عن ذلك بالضرورة فهم آيات الله والعلم الذي انطوت عليه، ويكون ذلك الفهم هو الوسيلة الأقوم للرد على دعوى الإلحاديين والتشكيكين، فنحن نعلم أنّ هؤلاء قد استخدموا آيات الله للتشكيك بالفكر الديني،
 وهم يعلمون يقيناً صدق الرسالة الدينية، ونحن ندرك كذلك أنّ دعواهم تلك ليست أكثر من الحجة التي يبررون بها فجورهم ومعصيتهم، فهم قد أسروا الكفر وأظهروا التحدي والمفاجرة، والله أعلم بهم حيث يقول:
 
وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ الأنعام 109

وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ البقرة 118

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا فاطر 42
 
فتلك الآيات التي، حسب ظنهم، تبرر فجورهم ليست السبب الحقيقي لدعواهم، فالله سبحانه وهو الأعلم بحالهم يعطينا السبب الحقيقي لضلالهم:
 
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ الأنعام 111
 
وهذا دليل واضح على أنّ حجتهم داحضة، وما تخفي نفوسهم أكبر، فالله سبحانه العالم بنفوس عباده يؤكد أنّ قلوبهم قد أُقفلت وأذانهم قد صمت وأبصارهم قد أغشيت، فتعطلت بذلك لديهم الحواس التي، إنْ عملت، كانت ستهديهم إلى الطريق المستقيم، قال تعالى:
 
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ الأنعام 25
 
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ الأعراف 146
 
فآيات الله بالنسبة لهم أساطير الأولين، فهم عندما وثقوا بأذانهم التي صمت وأعينهم التي أغشيت وقلوبهم التي أقفلت، لم تكن النتيجة التي توصلوا إليها إلا الضلال والخسران، وهو ما سيعترفون به يوم القيامة أمام الأشهاد:
 
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ الملك 10
 
فاعترافهم سيكون ليس بخطأ استنتاجهم، ولكن بسب ضلالهم، فآيات الله أكبر من أنْ ينكروها في أنفسهم، فقد ينكرونها على الملأ ويتخذونها حجة للمجادلة، ولكن لا يستطيعون إنكارها في أنفسهم:
 
فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل 13-14
 
فحتى أشد الناس إنكاراً لآيات الله وأكثرهم ثقة بالتفكير المادي المجرد تستطيع الإيقاع به في شرك تفكيره بكل يسر وسهوله، حاول أنْ تتخيل معي ردة فعل ذاك المكابر المفاجر لو أنّك أخذته على حين غفلة منه بالدعاء عليه بقطيعة الرزق والأهل والولد وأغلظت له في ذلك، ألا يثير ذلك حفيظته، وقد تثور ثائرته ويرد عليك بأغلظ من ذلك؟
 فالسؤال البسيط هو لم يثير مثل ذلك الدعاء حفيظته ما دام هو أصلاً لا يؤمن بفاعليته؟ 
ألا يفضح ذلك ما يُخفي في نفسه؟
 أليس هذا بالضبط ما يطلبه الله لفضح ما تخفي النفس الكاذبة (النفس التي تظهر ما لا تبطن)؟
 
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ آل عمران 61
 
وكانت هذه قصة البشرية منذ بدء الخلق، وهي قصة الرسل جميعاً، جاءوا أقوامهم بالبينات ولكنّ أصحاب القلوب التي أُقفلت، والأذان التي صُمت، والأبصار التي أُغشيت، لم تكن النتيجة بالنسبة لهم ستختلف سواء بوجود الآيات أو بعدم وجودها:
 
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7) البقرة 6-7
 
وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يس 10
 
نخلص إذاً إلى نتائج جمّة. 

أولاً، 

إنّ استخدام الكافرين لآيات الله ليست أكثر من الحجة الواهية التي يجادلوا بها ليصدوا عن سبيل الله، فكان السواد الأعظم من الناس ضحية أصحاب الحجج التي تبدوا في ظاهرها مقنعة ولكن في باطنها واهية هزيلة لأنهم هم أنفسهم غير مقتنعين بها، ولكنهم استخدموها ليصدوا عن سبيل الله:
 
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) الأنعام 25-26
 
والله سبحانه يبين لنا أنّ هؤلاء ليسوا أكثر من كاذبين، فهم حتى لو رأوا الحقيقة المطلقة (وهي سوء عملهم يوم القيامة) لأصروا على الكذب، فهم كعادتهم يظهرون الصدق ولكن ما تخفي نفوسهم أكبر، قال تعالى:
 
وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيات رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنعام 27
 
ويأتي الرد الإلهي المباشر ليفضح حقيقة نفوسهم:

بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ الأنعام 28
 
فالله (رغم علمه بكذب دعواهم) قد منحهم هذه الفرصة في الحياة الدنيا:
 
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ الأعراف 134
 
ولكن ما الذي حصل فعلاً بعدما دعا موسى ربه ليكشف عنهم السوء:
 
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ الأعراف 135
 
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ الزخرف 50
 
فحقيقة أمرهم هي ما كانوا قد ذكروه من ذي قبل لموسى:
 
وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ الأعراف 132
 
ثانياً:

 ولما كانت الحالة كذلك جاءت آيات الله فقط للفئة المؤمنة ليتدبروها، وهم المؤهلون فقط الوصول إلى المعرفة التي تنطوي عليها تلك الآيات:
 
وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) يس 10-11
 
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ الزمر 9
 
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ الزمر 18
 
فالمؤمنون بتلك الآيات هم فقط المؤهلون لتلك المعرفة، وهم من يجب أنْ يتصدوا للكشف عن ذلك العلم، ولكن من يريد التصدي للكشف عن تلك الآيات بحاجة أولاً إلى الإطار النظري الذي من خلاله ستجري الدراسات النظرية والتطبيقية، وإلاّ ما كان أكثر من مجادل ظالم لنفسه ولغيره:
 
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) الحج 8-9
 
وهذا بالضبط ما نحاول تقديمه في هذا البحث، نظرية علمية مستندة في جوهرها وأدواتها على المنهج القرآني في محاولة لكشف أسرار الكون.
 
ثالثاً: نستنتج إذاً أنّ هذه الآيات ليست لهداية الناس وهي كذلك ليست لضلالهم، بل هي لتمييز الفئتين (الفئة المؤمنة والفئة الضالة)، ومصداق ذلك في كتاب الله:
 
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ البقرة 213
 
فلذا نسأل الله أنْ يهدينا لما اختلف فيه الناس من الحق، وأنْ يجعلنا من المؤهلين لتلقي آيات الله، المستكشفين للعلم الذي انطوت عليه تلك الآيات، لاسيّما ونحن نرى أنّ الله سبحانه لم يقفل الباب على المؤمنين لامتلاك أدوات العلم ثم الكشف عنه، فالله سبحانه قد ترك الباب مفتوحاً لامتلاك الحكمة مثلاً:
 
يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ البقرة 269
 
وهو كذلك قد صرّف الآيات للعالمين:
 
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الأنعام 105
 
والله سبحانه قد تعهد بكشف تلك الآيات لنا:
 
... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ البقرة (187)
... كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ البقرة (219)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ البقرة (242)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ آل عمران (103)
... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة (89)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ النمل 93
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ص 88
 
وفي الوقت ذاته تعهد الله أن يبقي هذا العلم بعيداً عن أيدي المستكبرين المفاجرين:
 
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ الأعراف 146

*** *** ***
 
إنّ الغاية المرجوة تتمثل بأنْ يتوقف المؤمنون بهذه الآيات عن وصفها بالمعجزات حتى لا يكون هذا الفهم دافعاً لهم للتوقف عن التفكر بها، ومن ثم العجز عن تبيانها ومعرفتها، وفي ذلك يتسلح من يتربص بهم للانقضاض عليها فيصفها حينئذ بالخرافات التي لا ترضى عقولهم الباحثة عن الحقيقة حسب زعمهم، والمفارقة العجيبة كيف استطاع أولئك التغرير والإيقاع بأبناء المسلمين أنفسهم في هذا الشرك، فبإلقاء حتى نظرة سريعة في أدبياتهم كأعمالهم التلفزيونية والسينمائية والروائية وحتى قصص الأطفال نجدها مليئة بما يسمونها هم أنفسهم بالخرافات، ففي حين أنّ أفلام جيمس بوند وميكي ماوس والسوبرمان ومختبر دكستر هي قصص خيال علمي (ومطلوب منا أنْ نفهمها كذلك)، ينظر إلى قصة موسى وسليمان وداود في قرآننا على أنّها خرافات، وفي حين أنّ غزو الفضاء أمر لا مفر منه لمستقبلهم، يُطلب منّا أنْ ننظر إلى رحلة الإسراء والمعراج في ماضينا على أنّها حلم حصل وصاحبها في عميق نومه، يا الله كم هو التفكر حتى في أعظم ما نؤمن به (وهي أبجديات عقيدتنا) محرم علينا!!!


لقد حان الوقت أنْ نرجع إلى التفكير الصحيح، ولا أعتقد (وقد يشاركني الكثيرون الرأي) أنّ هناك بداية أفضل من مسلمات عقيدتنا، فمن غير المفهوم أنْ نؤمن بصدق المصدر الذي جاءت منه هذه العقيدة، ومن ثم صحة آياتها وبيّناتها، لنبدأ البحث عن الحقيقة في كل مكان إلا بين سطورها، متعذرين باستحالة الوصول إليها، فهي في ظن حتى أبناء هذا الدين معجزات يصعب التوصل إلى قرارها.

 والسؤال الأبسط هو: هل فعلاً حصل وأمعنا التفكير في تلك الآيات كما أمرنا من أنزلها؟ 
وهل فعلاً اجتهدنا في التوصل إلى الاستنتاجات لفهمها؟ 
أم هل توقفنا واكتفينا بفهم أسلافنا لها وحرمنا على أنفسنا انتهاك فهمهم لها؟

 إنّ ما نحتاج إليه ليس أكثر من الجرأة في البحث عن الحقيقة، وإطلاق العنان لخيالنا للخوض في آيات الله في الكون وفي أنفسنا لاستكشاف عجائب الله وقدرته فيها، لندرك أنّها مبنية على أصول وقواعد متينة وليست جزءاً من عبثية توهمها من أخذته العزة بالإثم وأصر على الإنكار والمجادلة، وهي ليست معجزات توهمها من آمن بها ولم يسعفه فكره ولا علمه على فهمها بأنفسهم ومن ثم إفهامها غيرهم.

 فنحن نعتقد جازمين إنْ كانوا هم عجزوا عن فهمها لأنهم لم يعطوا أنفسهم فرصة التفكر بها، فلن نعدم نحن الوسيلة لفهمها بحول الله إنْ نحن منحنا أنفسنا فرصة سبر أغوارها بالمنهج الصحيح. وهذا الاعتقاد صادر عن عقيدة مفادها أنّ ما يصدر عن عليم خبير لا يجوز أنْ يكون فيه عبثية، فهو نفسه ينفي عن ذاته وعن كل ما يصدر عنه في مواضع كثيرة أي شكل من أشكال العبثية:
 
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ القمر 49
 
فنحن إذاً نحتاج إلى الوسيلة المشروعة للوصول إلى الغاية الكريمة، إنّنا بحاجة إلى السفينة التي تنقلنا في أعالي البحار المظلمة إلى الشاطئ الآمن.

 وبكلمات أخرى فحتى نخوض في بحور تلك المعرفة الهائلة لابد من الاستناد على الحجة والبرهان، وهي التي لا تتأتى إلا بالتأطير النظري والتدليل العملي، فما نحن بحاجة إليه هي نظرية علمية تستند إلى مرجعية ثابتة ترسم خلالها الخطوط العريضة للتفكير السليم في الوصول إلى النتائج المعقولة بناءً على مقدمات صحيحة.

 وهذا ما نحاول تقديمه في هذا الكتاب، نظرية فكرية علمية مبنية على المرجعية العقائدية لكشف العلم الذي انطوت عليه آيات الله في الكون وفي النفس البشرية، وسيكون المثال العملي الذي نقدمه للتدليل على الحاجة لاستبدال التفكير العقائدي بالتفكير المادي هو علم اللغة بصبغته الغربية المادية.
 
*** *** ***
 
إلى الباحث
نقدم في هذا الكتاب مثالاً على طريقة جديدة في التفكير العلمي التي، إنْ صحت حسب ظننا، تفتح آفاقاً لا حدود لها لخيالنا العلمي، وهذه الطريقة الجديدة مستندة على المرجعية العقائدية التي لطالما استثنيت في مسيرة بحثنا عن الحقيقة العلمية، فلقد أصبح ما يسمى بالطريقة العلمية في البحث العلمي من المسلّمات التي لا توضع على طاولة النقاش أو المساءلة، وأصبحت القناعة راسخة لدى الكثيرين أنّ المعرفة لن تتأتى إلاّ إذا رشحت عن استخدام تلك الطريقة. ونحن في هذا الكتاب نقدم الدليل على وجود البديل الأمثل لما يسمى الطريقة العلمية للبحث العلمي وهي الطريقة العقائدية (القرآنية على وجه الخصوص) للبحث العلمي.
 
وربما يدرك جميعنا أنّ قوة النظرية (أي نظرية) تقاس بما تستطيع تقديمه من تفسيرات لظواهر تبدو في ظاهرها متباعدة وغير مترابطة، فإذا استطعنا استخدام الفرضيات نفسها لتفسير الظواهر المتعددة والمتباعدة، ازدادت القدرة التفسيرية للنظرية، ولكنّ الأهم من ذلك أنّ النظرية الأمثل هي التي تستطيع تفسير ما لم تستطع النظريات المنافسة أنْ تفسره، وهذا ما يسمى بالقدرة التنبؤية للنظرية. إنّنا نحاول أنْ نبين أنّ القدرة التنبؤية للطريقة العقائدية في البحث العلمي تفوق أضعاف أضعاف القدرة التنبؤية للطريقة العلمية المادية في البحث العلمي. إنّ ما هو مطلوب من أيّ باحث في شتى مجالات الفكر الإنساني أنْ يحاول استخدام الأسلوب والمنهجية نفسها (أو حتى تصحيح هفوات هذه المنهجية) لاختبار الفرضيات العلمية ومحاولة الإجابة على الأسئلة المطروحة على طاولة البحث في مجال تخصصه.
 
إنّنا على يقين أنّ أول ما سيفاجئ الباحث (إن هو اتبع هذه المنهجية) هو الشك الذي سيلقي ظلاله على العديد من المسلّمات التي قلما تم التشكيك بصحتها، وسيأخذ النقاش منحى جديداً يتم من خلاله إلقاء الضوء على الأسئلة من زوايا جديدة، وستفهم الأمور بطرق جديدة، وستتكشف المبهمات تباعاً، ولن يتم عندها جر المسائل لتوافق التصورات، بل هو العكس تماماً حيث ستوافق التصورات (أي الافتراضات النظرية) المسائل الموضوعة على طاولة البحث.

 إنّ ما هو مطلوب هو عرض المسائل في شتى مجالات الفكر الإنساني بالطريقة العلمية العقائدية، وإذا ما تراكمت المعرفة وبدأت خطوط التفكير تتشابك، تجلت الصورة عن فكر علمي عقائدي تميّز عن غيره من أنماط التفكير المادية، وهو بلا شك ما هو مطلوب أولاً وقبل كل شيء حتى تتحقق للأمة استقلاليتها في التفكير لتكون أمة متبوعة لا أمة تابعة مقلدة حتى لمن هم دونها من الأمم، فضاعت هويتها واستحكم الجدل حتى على أبجديات تفكيرها.

 ولا شكّ أنّ الباحثين عن الحقيقة المستكشفين لها هم المعوّل عليهم ليشكلوا الهوية الفكرية والطابع المميز للأمة.
 
ولعلي أجد من الضروري التنبيه إلى خطر عظيم ألمّ بالأمة وهو الانقياد وراء الأمم الأخرى ليس فقط سياسياً واقتصاديا واجتماعيا وإنما (وللأسف الشديد) فكرياً، فلقد أصبح من المسلمات لدى أبناء الأمة (حتى أشدهم تمسكاً بعقيدته) أنّ النجاة كل النجاة لن تكون لهذه الأمة إلاّ إذا تفوقت على الأمم الأخرى، وقد يرد البعض على الفور بالقول: وما المشكلة في ذلك؟ ألا يجب أنْ نبحث عن التفوق لنتمكن من منافسة الأمم الأخرى؟ فنقول ليس في ذلك مشكلة، وإنما يكمن الخطر أننا نبحث عن التفوق باستخدام أدوات وطرق الأمم الأخرى، وبكلمات أكثر دقة لقد آمن الكثير من أبناء هذه الأمة أننا لن نتفوق على الغرب الذي بنا الأسلحة الذرية والنووية إلا إذا استطعنا بناء أسلحة ذرية ونووية مثلهم، وآمن الكثيرون أننا لن نتمكن من السيطرة على الفضاء إلاّ إذا استطعنا بناء الطائرات والمركبات الفضائية كما فعل الغرب، ولن نتمكن من السيطرة على البحار إلا إذا استطعنا بناء الغواصات والسفن العملاقة كما فعل الغرب، والقائمة لا تنتهي، ولكن ألم يخطر ببال أبناء هذه الأمة سؤال واحد وهو: هل من الممكن أنْ نسيطر على البحار بدون الغواصات والسفن؟ وهل من الممكن أنْ نسيطر على الفضاء بدون الطائرات والمركبات الفضائية؟ وهل من الممكن امتلاك أسلحة (وإن لم تكن نووية وذرية) تفوق أسلحة الغرب الذرية والنووية؟
فهل أشغل أبناء المسلمين فكرهم بشيء لا يكون الغرب قد قطع فيه أشواطاً وأشواطا؟

 نعم ذلك ما ندعو إليه: أن نشغل فكر الناشئة من أبناء المسلمين بما لم يشغل الغرب فكرهم فيه، إننا نطلب من علمائنا ومعلمينا ومربينا ومدارسنا وجامعاتنا وإعلامنا توجيه الناشئة إلى أنّ بالإمكان البحث عن الحلول ولكن ليس بمنهجية وأدوات الفكر الغربي لأننا بكل بساطة لن نلحق به، وإنما بأدوات ومنهجية فكرنا العقائدي المستقل والمتفرد عن غيره، نعم إننا بحاجة أنْ نغرس في أذهان أبنائنا أننا يمكن أنْ نسيطر على الفضاء بغير الطائرات والمركبات الفضائية، وأننا سنسيطر على البحار بغير الغواصات والسفن العملاقة وأننا سنوقف تهديد الأمم الأخرى لنا بغير الأسلحة الذرية والنووية.
 
إنّ الصراع بينا وبينهم ليس بمن يملك طائرة أكثر تطورا أو قنبلة أكثر تدميراً أو غواصة أعظم خطراً، أي (س مقابل س+1)،

 ولكن الصراع بيننا وبينهم هو بين من يملك طائرة مدمرة (هم) ومن يملك طيراً أبابيل (نحن)، 

بين من يملك القنبلة الذرية (هم) ومن يملك الريح العقيم (نحن)،

 أي بين (س مقابل ص)،

 وقد يقول علماء وباحثوا الأمة: وهل هذا ممكن؟ 

فنرد عليهم متسلحين بقوله تعالى:
 
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ الأنفال (59)
 
فلينفق الغرب والشرق ما شاءوا على بناء ترسانتهم من الأسلحة الفتاكة،
 ولينفذوا (إن استطاعوا) من أقطار السموات والأرض، ولكنّا على يقين أنهم لن يسبقونا وإلى الأبد،
 فسيذهب كل ما بذلوا من جهد ومال في ذلك هباءً منثورا يوم تتجلى لهذه الأمة ما اختصها الله به من آيات وبيّنات وصرف عنها غيرهم. 
فماذا ستكون قدرة أطبائهم مقارنة مع طب عيسى بن مريم؟
 وماذا ستفعل سفنهم مقارنة مع عصا موسى، وماذا ستفعل دباباتهم حيال جبال داوود؟
 وماذا ستفعل عساكرهم وجيوشهم مقارنة بجيوش سليمان؟ 
وماذا ستكون قدرة طائراتهم ومركباتهم الفضائية مقارنة مع قدرة البراق الذي امتطاه المصطفى يوم أسري به؟
 
بقلم: د. رشيد الجراح
آب 2005