مصادر التشريع في الفكر الإسلامي


لقد أنشغل أهل العلم بالمصادر التي يرتكز عليها في استنباط التشريعات، العقائدية منها والفقهية، في الدين الإسلامي، وكانت خلاصة بحثهم عبر السنوات تتلخص في الاعتقاد الجازم بأن مصادر التشريع الرئيسية في الفكر الإسلامي هي أربعة مرتبة تنازلياً على النحو التالي:
  1. القرآن الكريم
  2. السنة النبوية
  3. الإجماع
  4. القياس
فأهل العلم يعودون أولاً إلى كتاب الله للتدليل على التشريعات (المستنبطة) التي يقدّمونها للناس، فإن تعذر عليهم حل الإشكال من القرآن الكريم لجاءوا إلى المصدر الثاني من مصادر التشريع وهو الحديث الشريف، فإن أشكل الأمر عليهم ذهبوا إلى إجماع أهل العلم وفي مقدمتهم صحابة رسول الله، وإن تعذر الأمر عليهم راح كل عالم منهم يقدّم رأيه بالدليل المقاس على الأحكام الأخرى. وبقي هذا منهج أهل العلم لقرون عديدة، وقلّ من يشكك بمثل هذه المنهجية من بين أبناء المسلمين، ونحن –كغيرنا- إذا لا نشكك بهذه المنهجية إلاّ أننا نود أن نسلط في بحثنا هذا الضوء على الإشكالية التي نجمت عن التطبيق العملي لهذه المنهجية عند أهل العلم عبر العصور، ضانين بأن الغلط الذي حصل في التطبيق نجمت عنه أثار سلبية عديدة نذكر منها على سبيل المثال: (1) ركود الفكر الإسلامي وجموده لقرون طويلة و (2) تفتت الأمة إلى فرق وجماعات متصارعة ومتناحرة فيما بينها و (3) زج الناس في إشكاليات أصبح من المتعذر مع مرور الزمن التغلب عليها، وهذا ما سنحاول تبيانه في بحثنا هذا.
إن مراد القول هنا هو أنّ الفكر الإسلامي الذي وضع إطاراً نظرياً ليتمسك به كمرجعية ثابتة يهتدي بها من تصدى للتشريع هو نفسه الذي نقض ذاك الإطار النظري عند التطبيق، وبكلمات أكثر دقة فإننا نقول أن الفكر الإسلامي يرتب مصادر التشريع ترتيباً تنازلياً يبدأ بالقرآن الكريم وينتهي بالقياس، معتبراً أن الدليل المشتق من القرآن الكريم مقدماً على الدليل المأخوذ من السنّة المطهرة والتي بدورها مقدمة على الإجماع أو حتى القياس، ولكنّ الإشكالية تكمن أنه مع مرور الزمن استقرت كثير من تلك الأحكام والتشريعات بغض النظر عن الدليل الذي استندت إليه، لتأخذ تلك المصادر أهمية (تكاد تكون) متساوية عند التطبيق، فالتشريعات المستنبطة التي استندت إلى الدليل من السنة المطهرة أو إلى إجماع أهل العلم أو حتى القياس قبل مئات السنين لم ينقضها الدليل من القرآن الكريم حتى بعد حصول التشكيك في تلك التشريعات والدليل الذي ذهب إليه، ولتبسيط الفكرة فإننا نقول: لقد ظهر في الفكر الإسلامي (عند أهل السنة والجماعة مثلاً) مذاهب أربعة رئيسية وهي المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية، ولم تتفق تلك المذاهب الفقهية حول كثير من التشريعات العقائدية والفقهية، والغريب في الأمر هو أن سلوك أهل العلم لم يتمثل في تمحيص تلك الاختلافات على مر الزمان وإنما اكتفوا بالقبول بها كما هي، وأخذوا ذلك من باب القول (الذي نظن أنه قول خاطئ) أن اختلاف الأئمة رحمة بالأمة. ويكأن لسان حالهم يقول لا ضير في الاختلاف حول هذه الأمور. وقد روّج كثير من أهل العلم لهذا الاختلاف وجعلوه (في نظرهم) مصدر قوة في العقيدة، وتغنوا بذلك في كتاباتهم ومؤلفاتهم، ونحن لا ننكر عليهم صنيعهم هذا وحسب، بل نعتقد جازمين أن تلك لم تكن أكثر من أكذوبة استخدمها أهل العلم لتسويق بضاعتهم الفاسدة على الناس (وخصوصاً العامة منهم)، وهذا هو موقفنا الذي سنحاول الدفاع عنه في هذه المقالة.
إن هذا المبدأ نابع من عقيدة مفادها أن الاختلاف بين أهل العلم أمر مذموم في النص القرآني مصداقاً لقول الحق في أكثر من سياق في كتابه الكريم:
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ البقرة (176)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ البقرة (213)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ البقرة (253)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ آل عمران (19)


وقد جاءت الدعوة صريحة في القرآن الكريم إلى الابتعاد عن الاختلاف في الدين، فقال تعالى:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ آل عمران (105)
وذلك لأن الاختلاف لا ينبع من حقيقة الدين نفسه وإنما من إتباع الناس لظنهم وأهوائهم:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا النساء (157)
وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ ۖ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) الجاثية


فطريق الناس جميعاً إلى الله هي طريق واحدة لا تحتمل الاختلاف:
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
يونس (19)
ولكن الاختلاف نبع من عند الناس أنفسهم، وليس من الكتاب الذي أنزله الله على أنبياءه ورسله:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ هود (110)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ۗ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فصلت (45)
وذلك لأن الله قد أنزل الكتاب أصلاً لتبيان الأمور التي اختلف الناس فيها:
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ النحل (64)
وقد طلب الله منا أن نرد كل ما اختلفنا فيه إليه:
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ الشورى (10)
وما ظهر التحزب في أمة إلا بسبب الاختلاف، فكانت العاقبة عند الله وخيمة:
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ مريم (37)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ الزخرف (65)


إن العقيدة التي نؤمن بها تؤكد أن سبيل الله واحدة لا مجال للاختلاف فيها، قال تعالى:
قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
يوسف (108)
فسبيل أهل العلم يجب أن تكون واحدة، وهم لن يعدموا سلوكها إن هم طلبوها وبحثوا عنها:
إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا المزمل (19)
إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا الإنسان (29)


فالهداية إلى الحق لا محالة حاصلة للذين امنوا:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ البقرة (213)
دعاء: رب اهدني لما اختلف فيه الناس من الحق بإذنك
ولكنها أبعد ما تكون عن من ابتعد عن الطريق ولم يطلبها:
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا النساء (88)


خلاصة: نحن نفهم من مجمل هذه الآيات الكريمة أن في الاختلاف ضياع للحقيقة التي نبحث عنها، وما دام أن الحقيقة صادرة من إله واحد، فإن للإله سبيل واحدة لا يجوز تسويق فكرة الاختلاف فيها، وأهل العلم مطالبين بالبحث عن تلك الحقيقة وليس الوقوف عند اختلافاتهم، أو قبول تلك الاختلافات على أنها تحمل جميعها الحقيقة التي انطوت عليها شريعة الله. إنّ الدعوة التي نقدمها تتمثل فيما يلي: عندما نفتح كتب الأحكام ونجد فيها اختلافاً في الاستنباط فلابد أن نخلص إلى نتيجة بسيطة مفادها أن الحقيقة لم تستجلى بعد، ولا بد من تكثيف البحث في الموضوع لتجلية الحقيقة التي لا اختلاف فيها، فلا يجب إذاً أن نقف عند هذه الاختلافات وكأنها أراء جميعها صحيحة، لأنّ الوقوف عند الاختلافات والظن بصحتها تؤدي – في رأينا- إلى نتائج كارثية في مقدمتها تفتت الأمة إلى مذاهب وفرق متصارعة متناحرة تسعى كل طائفة وكل فرقة إلى الترويج لفكرهم ويكأنهم الفرقة الناجية، فعلى الرغم من الترويج لفكرة الاختلاف في الفكر الديني الإسلامي إلا أن الواقع الحقيقي لهذه الأمة يدل على تعصب أعمي يقفل القلوب ويغشي الأبصار ويصم الآذان، يظن كل طرف أنه هو من يملك الحقيقة المطلقة، وأن غيره ليس أكثر من ضال مضل (يؤسف لحاله، ويخشى عليه من الهلاك والانتهاء في نار السعير)، وموقفنا هذا لا يتطلب جهدا كبيرا لإثباته، فنظرة سريعة على حال الأمة تدعوك إلى التساؤل عن السبب الذي أدى بها إلى هذا التشرذم العقائدي (بالضبط) كما حصل عند الأمم السابقة، وهي الهوّة التي حذرنا الله من الانزلاق فيها:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ آل عمران (105)
ما هو المخرج؟
إننا نظن أن المخرج الحقيقي من أزمة الأمة الفكرية هذه يتمثل في العودة إلى مصادر التشريع والالتزام ليس فقط بها كمصادر موثوقة بل والالتزام كذلك بالترتيب الذي بنيت عليه في الأساس، فهذه المصادر هي على النحو التالي:
  1. القرآن الكريم
  2. السنة النبوية
  3. الإجماع
  4. القياس
وقد يقول قائل وما الجديد في ما تقول؟
الجواب: إننا نظن أن الالتزام بهذا الترتيب لمصادر التشريع يعني أن القرآن الكريم هو المصدر التشريعي الأوحد لهذا الدين، ولا تأتي الاستعانة بالمصادر الأخرى إلا في غياب الدليل القرآني، وفي اللحظة التي يتوافر فيها الدليل القرآني تغيب الحاجة إلى اللجوء إلى المصادر الأخرى، فلا داعي للدليل من السنة أو من الإجماع أو من القياس في ظل وجود دليل من كتاب الله.
*** *** ***
إنّ الذي دفع بأهل العلم إلى الزج بالمصادر الثلاث الأخرى (السنة والإجماع والقياس) في استنباط الأحكام هو – في رأينا- عدم قدرتهم على استنباط الدليل على كل الأحكام التي طرحت بين أيديهم من كتاب الله، لذا كان اللجوء إلى مصدر آخر للتشريع أمراً لا مناص منه. وإننا على يقين أنه لو توافر لهم الدليل من كتاب الله على كل تشريع تعرضوا له لما كانوا أصلاً بحاجة إلى اللجوء إلى مصادر أخرى للتشريع. إنّ هذا الزعم مبني على الاعتقادات التالية
  1. أن كتاب الله كامل، لا نقص فيه ولا زيادة، قال تعالى:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الأنعام (38)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) فصلت
  1. يستحيل على بشر الإحاطة الكليّة بما في كتاب الله، فالظن بأن فئة من الناس قد امتلكت العلم، ولا بد من الرجوع إليهم في كل صغيرة وكبيرة، والوقوف عند أرائهم مخالفة فاضحة للاعتقاد بأن كتاب الله لا يمكن الإحاطة بعلمه، قال تعالى:
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
البقرة (255)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الإسراء (85)
  1. أن العلم من كتاب الله لا ينقضي، فما زال العلم المكنوز في ذلك الكتاب تتوالى صفحاته مع تقدم الزمان
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) ص


إن كارثة الأمة تتمثل – في رأينا- أنهم وقفوا عند أفهام السلف لهذا الكتاب، وهم بذلك مقتنعون (وإن كانوا لا يجهروا القول بذلك) أن أولئك السلف قد أحاطوا علماً بكل ما في كتاب الله. وفي الوقت الذي يدافعون عن موقفهم أنهم لا يزعمون ذلك لا تنفك تصرفاتهم عن التأكيد على مثل هذا السلوك، فمن يتجرأ (غير رشيد الجراح بالتأكيد) الزعم أن أبن عمر قد أخطأ أو أن ابن عباس قد شطح بعيداً عن الحق، أو أن مالك و أبو حنيفة و الشافعي وابن حنبل قد عجزوا جميعاً عن حل إشكالية ما في الفكر الديني؟ إن مثل هذا التساؤل لوحده كفيل أن يخرج من يقوله (رشيد الجراح) – في نظرهم – من الملة بأكملها.
أقول لمثل هؤلاء إن كانت مفاتيح الجنة بأيديكم (كما تظهر في فتاواكم)، فلا تسمحوا لمن يخالفكم الرأي دخولها، ولكني لن أتوقف عن الإيمان اليقيني بأن السلف الصالح قد أخطأ ولم يمسك بناصية الحقيقة في الكثير الكثير من قضايا الأمة الفقهية والعقائدية، وسنحاول التعرض لبعض الأمثلة للتدليل على صحة ما نزعم، ومخالفتهم جميعاً ضرورة لا مفر منها لحل إشكالات كثيرة جداً، ومن ثم التقدم بالفكر الديني إلى الإمام.


مثال
لقد أختلف أهل العلم كثيراً في قضية مثل زواج المتعة مثلاً، واتخذ كل طرف موقفاً يعارض الطرف الآخر، أليس كذلك؟ وهنا يتساءل العامة من مثلي: أين يا ترى تكمن الحقيقة؟ لا شك أن كل طرف يظن أن الحق لم يجانبه، وأن الطرف الآخر هو طرف ضال بنفسه ومضل لغيره؟ فما الذي أدى إلى هذا الموقف الذي قسم الأمة إلى مشجع حاث على زواج المتعة (كغالبية الفرق الشيعية)، ورافض راغب عن التمتع محذراً منه (ككل الفرق السنيّة)؟
الجواب: إنه اللجوء إلى مصدر تشريعي غير القرآن الكريم. ولكن كيف؟
إن المدقق في آراء العلماء حول موضوع التمتع يجد أنها تخلو جميعاً من دليل واحد مستند إلى مصدر التشريع الأول وهو كتاب الله، وعندما عجز أهل العلم عن فهم التمتع من كتاب الله وذلك لندرة الآيات الكريمة المفصّلة له، أو لصعوبة فهم ما هو متوافر منها، لجاءوا إلى المصدر الثاني من مصادر التشريع وهو السنة النبوية، ولكن الغريب في الموضوع أنهم في اللحظة التي لجاءوا فيها إلى ذلك المصدر التشريعي للتدليل على مواقفهم لم يعدم كل طرف القدرة عن الإتيان بعشرات الأحاديث (إن لم يكن بالمئات منها) التي تؤيد موقفه، فظهر من الأحاديث ما يشجع ويحث على المتعة (انظر كتب أهل التشيع) وظهر منها ما يمنع التمتع ويحذر منه (انظر كتب أهل السنة والجماعة)، فانبرى كل فريق يقدح بصحة الأحاديث التي يستدل بها الطرف الآخر، الأمر الذي أدى بالعامة (خصوصاً الراغب الباحث عن الحقيقة، وليس المعتد المتعصب لفرقته) إلى صعوبة التمييز إلى أي الطرفين يجب أن ينحاز في مثل هذه القضية.
وحتى يدعم كل طرف موقفه الذي اتخذه لجاءوا إلى الإجماع وإلى القياس (مصادر التشريع المكملة للكتاب والسنة)، ولكن المفارقة العجيبة أن كل طرف استطاع أن يحشد لرأيه من أهل العلم ما يصعب على العامة (الباحثين عن الحق) إنكار الدليل في ذلك. فضاعت قضية الأمة هذه (أي التمتع) في سجال فكري نابع من مخيلة العلماء لا أساس له في ديننا وفي تشريعنا.
الخلاصة: إننا نعتقد جازمين أنه لو تم الاحتكام إلى كتاب الله، وبحثنا عن الدليل على جواز أو عدم جواز التمتع في كتاب الله لما عدمنا الحل والخروج إلى الناس كأمة متفقة لا مختلفة ولا متناحرة بعد الذي جاءنا من الحق في الكتاب (للتفصيل في هذا الموضوع انظر مقالتنا تحت عنوان زواج المتعة)


هل فعلاً الاختلاف ممنوع في الدين؟
نعم، الاختلاف في الدين مرفوض، وذلك لأنّ الله – في رأينا- قد جعل لكل الأمم سنن لا تبديل لها، فسنة الله لم تتغير ولم تتبدل منذ أن بدأ الله الخلق، وهي نفسها التي جاءت بها جميع الديانات السماوية، فسنّة الله التي جاء بها إبراهيم هي نفسها التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد من بعدة، وكانت هي نفسها التي جاء بها نوح من قبلهم، وذلك مصداقاً لقول الحق في كتابه الكريم في أكثر من موضع:
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا الأحزاب (38)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا الأحزاب (62)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا الفتح (23)
ولكن الله الذي جعل سنته ثابتة لا تتغير في جميع الشرائع قد جعل في الوقت ذاته لكل أمة تشريعاً ومنهجا:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ المائدة (48)
إن من أبسط المعاني التي يمكن استنباطها من هذه الآيات الكريمة هو أنه في الوقت الذي جعل الله الأمم جميعاً تشترك في سننه جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً لا تقتضي التعددية، فيقتضي الحق أن يكون لهذه الأمة شرعة ومنهاجاً واحداً. لذا كان السؤال الذي يجب طرحه عند التصدي لكل قضية في الفكر الديني الإسلامي هو التالي:
ما هو شرعة ومنهاج الإسلام في ..............؟
فمن المستحيل أن يكون شرعة الإسلام في زواج المتعة مثلاً رأيان متضادان متناحران: جواز زواج المتعة (كما تروج له بعض الفرق) وعدم جواز زواج المتعة (كما تروج له فرق أخرى) في آن واحد. إننا كمسلمين مطالبين أن نحسم أمرنا في مثل هذه القضية، فديننا له شرعة ومنهاجاً يتوجب على أهل العلم تبيانه للناس جميعاً. وهذا التشخيص ينطبق على كل قضايا الفكر الديني صغيرة كانت أم كبيرة.
ومما يؤسف له أن أهل العلم روجوا لفكرة الاختلاف في القضايا البسيطة التي ظنوا أنها لا تؤثر في العقيدة، ونحن نعتقد جازمين أن هذا ليس أكثر من مهرب للتنصل من واجبهم وهو استجلاء الحقيقة في كل شيء.
إننا نظن أن البحث عن الحقيقة تتطلب العودة إلى مصدر التشريع الأول في ديننا وهو كتاب الله لاستنباط الحكم في هذه القضايا، والكف عن الوقوف عند الاختلاف والرضا بواقع الحال، فمما لا شك فيه أن العلم الذي يحتويه هذا الكتاب كفيل بحل كل هذه الإشكالات إن نحن جهدنا للوصول إليها، ولكن الكارثة تكمن في أننا آثرنا الوقوف عند أفهام غيرنا، وظننا أن ما خلصت إلية بنات أفكارهم هي الحقيقة المطلقة التي لا جدال فيها.
كان الأجدر بعلماء الأمة أن لا يتوقفوا عند أراء العلماء السابقين في مثل هذه القضايا، أو الكف عن البحث عن حل لها من كتاب الله، فذاك يؤدي إلى جمود الفكر الديني عند فترة السابقين ثم لا يكون من يأتي بعدهم أكثر من مقلد متبع، لا يفيد الأمة في شيء.


هل نكف عن الأخذ بالحديث؟
قد يقول البعض أننا نفهم من كلامك هذا أنك تدعونا للكف عن الأخذ بالحديث الشريف، أليس كذلك؟ لا ليس بالضرورة أن نكف عن الأخذ بالحديث، ولكنّنا يجب أن لا نغالي في الأخذ فيه، ونحن نظن أن الأخذ بالحديث الشريف في كل صغيرة وكبيرة قد أوقع الأمة في إشكالات أصبح من المتعذر مع مرور الزمن (بعد أن ترسخت في أذهان العامة) التخلص من المغلوط منها. فأهل الحديث قد أدخلوا في أذهان العامة عقائد وتشريعات ظن الكثيرون أنها من صلب الدين وحقيقته، وما هي إلا لحظات حتى أدت إلى الاختلاف والفرقة، فتضاربت الآراء حولها ونشب الجدل الفكري، واستند جله إلى أدلة من غير مصدر التشريع الأول وهو كتاب الله (للتفصيل حول هذه القضية انظر مقالتنا تحت عنوان جدلية عذاب القبر)


هل فعلاً يتضارب الدليل من القرآن مع الدليل من السنة؟
إننا لا نعتقد أن التضارب موجود أصلاً بين ما في كتاب الله وما قاله أو فعله أو أقره نبي الله. فرسول الله لا يقول ولا يفعل أو يقر ما يتعارض مع ما في كتاب الله، ولكن الإشكالية وقعت في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذا ربما حصل التضارب بسبب هذا النقل في حالتين اثنتين وهما:
  1. النقل الخاطئ (أو ربما النقل الكاذب) عن رسول الله
  2. الفهم الخاطئ لما في كتاب الله أو لما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم
وسنقدّم فيما يأتي بعض الأمثلة للتدليل على هذا الزعم


النقل الخاطئ عن رسول الله
لقد ذهب أهل الحديث إلى تصنيفات لما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقروا بأنفسهم حقيقة مفادها بأن ليس كل ما نقل عن النبي مطلق الحقيقة والصحة والثبوت، فظهرت في تصنيفاتهم الأحاديث المتواترة وأحاديث الآحاد، والأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة وحتى المدسوسة. وكانت نقطة القوة في تصنيفاتهم منصبة على علم ظهر تحت مسمى علم الجرح والتعديل، فكانت صحة الحديث نابعة من قوة سند الحديث، فما رواه الثقات من الناس (حسب معرفتهم هم بالرجال) ارتقى أن يكون حديثاً صحيحاً، وقد يضعف الحديث إن وجد خلل في سلسة رواته، ونحن إذ لا ننكر عليهم صنيعهم هذا (لا بل ونحمده) لأنه قد حدّ من مشاكل النقل عن النبي، إلا أننا نظن أن هذه المنهجية وحدها لم تكن كافية لتمحيص ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، إننا نزعم أنه في الوقت الذي أعطي سند الحديث أهمية كافية في البحث لم تعط مثل هذه الأهمية لمتن (أي نص) الحديث نفسه. إننا نعتقد أنه عندما لم يعط أهل الحديث الاهتمام الكافي لنص الحديث ظهرت أحاديث –نظن نحن- أنها تتعارض مع السياقات القرآنية، وهنا تكمن مشكلة أهل العلم عندما يتخذوا من مثل هذه الأحاديث دليلاً تبنى عليه أحكاماً وتشريعات وعقائد تمس حياة المسلمين في كل زمان ومكان.
وحتى لا يبقى كلامنا هذا في إطاره النظري فإننا سنقدم بعض الأمثلة للتدليل على صحة زعمنا هذا. ومثالنا الذي نقدمه للتدليل على ظننا هذا هو الحديث التالي:
حديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه"
روي عن النبي في بعض كتب الصحاح حديث آحاد عن طريق أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه"، وقد نشب الخلاف بين أهل السنة وأهل التشيّع حول متن هذا الحديث لأنه يخالف صريح اللفظ في كتاب الله في أكثر من موضع، فقد ورث سليمان داود:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ النمل (16)
وطلب زكريا الذرية الصالحة لكي يرثه ويرث من آل يعقوب
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا مريم (6)
وحتى يوفق أهل الحديث بين ذاك الحديث وهذه الآيات الكريمة ذهبوا إلى التفسيرات المجازية، فانطلقت أفهامهم في كل اتجاه ونسوا (أو تناسوا) الحقيقة البسيطة أنه في حين أن نص الحديث ونص الآيات الكريمة متطابقة، إلا أنهما متعارضان في المعنى والدلالة: فكيف يقول الرسول مثل هذا الكلام وهو الذي يقرأ هذه الآيات على الناس من كتاب الله الذي أنزل عليه؟ لقد ذهب بعضهم إلى القول أن الورثة في حالة الأنبياء (كداوود وسليمان) مقتصرة على الميراث الديني وليس المادي, ولكننا نقول لهم: وماذا تفعلون بكل آيات الميراث التي جاءت في كتاب الله باللفظ ذاته؟ ألم ترد كل الآيات التي تتحدث عن الميراث المادي بلفظة "ورث" ويرث" ومشتقاتها؟
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ۚ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ۗ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النساء (176)


وذهب أهل التشيع إلى استخدام هذا الحديث ليصبوا لجام غضبهم على أبي بكر وعمر، وتناقلوا خبر فاطمة تطلب ورثة أبيها من أبي بكر فيمنعها أبو بكر من ذلك بحجة هذا الحديث، والقارئ الباحث عن الحقيقة يجد في مؤلفات أهل التشيع نصرة لمواقفهم العقائدية لا بحثاً عن الحقيقة، وكأنهم وجدوا ضالتهم في هذا الحديث للوقوف مع طرف ضد طرف آخر، ولكنهم نسوا حقيقة بسيطة مفادها أن أبا بكر أو عمر (أو حتى كل من على الأرض من الناس) ليسوا مصدراً من مصادر التشريع الذي تبنى العقائد على موقفه أو فهمه لآية كريمة أو حديث شريف.
إننا نعتقد أنه كان الأولى بأهل السنة والجماعة أن لا يأخذوا بمثل هذا الحديث حتى لو صح سنده وإن ورد في كتب البخاري ومسلم وذلك لأن متنه يتعارض مع صريح اللفظ القرآني. لقد كانت الدقة تستدعي من أهل الحديث ليس الوقوف على سند الحديث وتفقده فقط وإنما تمحيص المتن كي لا يتعارض مع صريح اللفظ القرآني.
إننا نظن أن مشكلة النقل لهذا الحديث (ومثله من الأحاديث الأخرى) تتمثل في واحدة من أمرين:
  1. أن النبي لم يقل شيئاً كهذا (يتعارض مع صريح اللفظ القرآني)
  2. أن النقل عن النبي لم يكن دقيقاً، فلربما نقل الراوي حديث النبي بتصرف، أي لقد فهم الناقل شيئاً من كلام النبي ولكنه صاغه بلغته هو وليس باللفظ الدقيق كما قاله النبي. وليس أدل على وجاهة زعمنا هذا من النتيجة التي انتهى إليها هذا الحديث (وهي أن هذا الحديث ليس أكثر من حديث من أحاديث الآحاد)
إن هذا التشخيص ينطبق على كل قضايا الأمة العقائدية منها والفقهية، ولو تمحصنا الجدال الذي دار بين العلماء في بطون مؤلفاتهم لوجدنا أنّ جلّه يتمحور حول الدليل المستند إلى مصادر التشريع الثلاث الأخرى وهي الحديث والإجماع والاجتهاد، وقلما حصل الجدال حول الدليل المستمد من مصدر التشريع الأول وهو القرآن الكريم. فلا نجد خلافاً بين العلماء حول حد السرقة وذلك لأن الدليل صريح في كتاب الله:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
ولكنّ الخلاف كان شائكاً في حد الرجم للزاني المحصن، وذلك –في رأينا- لأن الدليل من القرآن غير متوافر، وقد بني الحكم على حديث منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نستطيع إثارة تساؤل حول حد الرجم للزاني المحصن أو الزانية المحصنة عندما نطالب علمائنا الأجلاء توضيح حد الرجم في مثل هذه الحالة التي تثيرها الآية الكريمة التالية::
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
الأحزاب (30)
فكيف يمكن أن يقع العذاب (ضعفين) بحد الرجم على نساء النبي إن هي جاءت بفاحشة مبينة؟! وقد يقول البعض بأن هؤلاء نساء النبي فلا يمكن أن يقعن بمثل هذه الفاحشة ليطبّق عليها الحد المنصوص عليه في الآية الكريمة. وقد يقول آخر أن ضعفين العذاب يقع عليهن من الله وليس من الناس، والله لا شك يعلم كيف يعاقب بضعفين من العذاب المنصوص عليه.
لنفترض أننا نوافقكم الرأي هنا، ولكن ألا نستطيع التشكيك بحد الرجم عندما نطرح سؤالاً مشابهاً يتعلق بتطبيق قوله تعالى بحق ما ملكت اليمين من المؤمنات:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ۚ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ۚ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ النساء (25)
وسؤالنا موجهاً لمن آمن بحد الرجم على الزاني المحصن أو الزانية المحصنة: كيف سيعاقب مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ بنصف الحد الذي يقع على المحصنة المؤمنة؟ أي كيف يمكن أن نرجمها نصف رجمة؟ وسنكون شاكرين لهم إن هم دلّونا كيف يمكن تطبيق نصف الحد في حالة الرجم هذه؟!
*** *** ***


إننا نؤمن أنّ الدليل من القرآن الكريم لا يجاريه دليل آخر، حتى لو كان ذاك الدليل هو عشرات الأحاديث المرويّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لسبب بسيط (تعرضنا له في أكثر من موضوع في كتاباتنا السابقة) وهو أن النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مباشراً، فأهل الحديث أنفسهم يضعّفوا الكثير الكثير مما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وغالباً ما ناقضت تلك الأحاديث بعضها بعضاً، وعارضت ما جاء في كتاب الله، وقد قدمنا أمثلة عديدة على مثل هذه الأحاديث في أماكن أخرى (انظر مقالتنا تحت عنوان جدلية عذاب القبر وسلسلة مقالاتنا تحت عنوان صلاة الاستسقاء).
إن الملفت للانتباه أن الكثيرين ربما لا يميّزون بين الإيمان بما قال النبي والإيمان بما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشتان بين الاثنين، فنحن كمسلمين مطالبين بنص القرآن الكريم الإيمان والتمسك بكل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مطلب جاء صريحاً في كتاب الله:
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الحشر (7)
كيف لا والله قد قال في حقه:
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) النجم
ولكننا في الوقت ذاته غير مطالبين بتصديق كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد نقل عن النبي ما لا يمكن قبوله أو الأخذ به (كما أكده أهل العلم والخاصة منهم في كثير من مؤلفاتهم).
كان الأولى بأهل العلم أن يتمسكوا بمصدر التشريع الأول وهو القرآن الكريم وأن لا يساووا أي مصدر آخر مهما عظم بهذا المصدر، ولكن التطبيق على أرض الواقع شهد عكس هذا المنطق تماماً، فغالباً ما تم التمسك بإجماع أهل العلم منذ اليوم الأول لذاك الإجماع، ولم يتم التنازل عنه تحت أي ظرف آخر، فنحن لا نعلم (كعامة المسلمين) أن أهل العلم قد أجمعوا على أمر ما بان خطأه لاحقاً في ضوء ما تكشف من علم الكتاب. وسأكون ممتناً لمن يدلنا على مثال واحد ينقض زعمي هذا.
إن هذا الموقف نابع من العقيدة التي مفادها استحالة الإحاطة بكل ما في كتاب الله في وقت أو زمن واحد، إن فهم كتاب الله يتطلب أجيالا عديدة وأزمنة طويلة، وعندما تظهر أفهام جيدة لما في كتاب الله فيجب الكف عن قبول ما حصل من أفهام سابقة، وهذا في نظرنا السبب الآخر للتضارب الذي قد يحصل بين بعض الأحاديث المروية مع ما جاء في كتاب الله، وقد قدمنا في مقالاتنا السابقة كثير من الأمثلة على الأفهام الجديدة لما جاء في كتاب الله، والقارئ مدعو لقراءة مقالتنا تحت عنوان تعدد الزوجات و زواج المتعة، وجدلية الذكر والأنثى مثلاً ليرى كيف أدى الفهم المغلوط لآيات الكتاب الكريم إلى التناقض الفاضح بين ما في كتاب الله :
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا النساء (3)
والحقيقة التي لا جدال فيها أن النبي نفسه قد تزوج بأكثر من هذا العدد. وقد ظهرت نتيجة لهذا التضارب الفاضح تعليلات لا ترقى أن تقنع من قدمها ناهيك عن من يتربص بهذا الدين ويحاول الانقضاض عليه من كل ثغرة يجدها في طريقه (للتفصيل حول هذا الموضوع انظر تعدد الزوجات و زواج المتعة و جدلية الذكر والأنثى).
*** *** ***
سنحاول في هذه العجالة تبيان أن فهم ما جاء في كتاب الله لا يتوقف عند زمن محدد أو جيل معين، لذا كان لزاماً البحث الدءوب عن هذه الأفهام حتى تنجلي الحقائق للناس، وسنقدم مثال قصة ذي القرنيين التي وردت في كتاب الله لنبين من خلال عرضنا هذا كيف يمكن أن تكون الصورة على غير ما ظن الأقدمون وزعموا.


قصة ذي القرنين
لقد تعرضنا لهذه القصة في مقالة سابقة تحت عنوان جدلية الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم، وكانت الغاية حينئذ إثبات شيء واحد وهو حتمية قراءة النص القرآني – في نظرنا- على الحقيقة وخلو القران الكريم بأكمله من المجازات، ولمّا كانت الغاية هنا تبيان كيف يمكن أن تختلف الأفهام مع مرور الزمن لا نجد ضيراً في إعادة جزء مما ذكرناه سابقاً لنبني عليه في متابعة تفاصيل القصة ومطاردتها من زاوية أخرى.


لقد أكّدنا سابقاً أن النص القرآني يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ ذي القرنين قد بلغ مغرب الشمس مصداقاً لقوله تعالى:
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
وطرحنا حينها التساؤل التالي: كيف يثبت القرآن الكريم بلوغ ذي القرنيين مغرب الشمس ونحن نعرف يقيناً أن الشمس لا تغيب في مكان واحد؟ فمغيب الشمس يختلف باختلاف المكان، فهل مغيب الشمس بالنسبة لأهل المشرق هو نفس المغيب بالنسبة لأهل المغرب، والمنطق نفسه ينطبق على مطلع الشمس، فلا شك أن للشمس مطلع يختلف باختلاف المكان الذي يتواجد فيه الإنسان، وهنا جاء دور المفسرين في إدخال الاستعارة والمجاز في التفسير، ولكن تبقى الحقيقة صارخة: إذا كان المغرب أو المشرق يختلف باختلاف المكان، فأي مشرق وأي مغرب بلغه ذو القرنين؟ فلو ظن أهل الشرق الأوسط مثلاً أنه مغربهم أو مطلعهم، لنبرى أهل الصين أو أهل أوروبا ليقولوا أن القرآن لا يخصنا، وإن صح هذا القول فلم يثبت القرآن أن للشمس مغرب ومطلع واحد في هذه الآية (وهو ما بلغه ذو القرنين) في حين أنه يثبت في مكان آخر أن هناك مشارق ومغارب؟
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ الصافات (5)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ المعارج (40)
لا بل ويثبت القرآن الكريم أن للمكان الواحد عدة مشارق (باختلاف أوقات السنة)، فلا شك أن الشمس تشرق من مكان في فصل الصيف يختلف عن مشرقها في الربيع أو الخريف أو الشتاء، لا بل فإن الشمس تشرق في كل يوم في مشرق يختلف عن اليوم الذي يليه أو الذي سبقه كما يراه أهل المكان الواحد، قال تعالى:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ الأعراف (137)


الدليل الأول
إن الجواب يكمن –في رأينا- في فهم الآيات على حقيقتها، نعم للشمس مشارق ومغارب ولكن ذي القرنين بلغ مشرقاً واحداً للشمس وبلغ مطلعاً واحداً للشمس، ولكن كيف؟
إن نزعم الفهم أن الجواب على هذا التساؤل يكمن في إعادة فهم الآيات القرآنية التي تتحدث عن قصة ذي القرنين نفسها، والتي أظن أن الفكر الديني السائد أخفق في فهمها فهماً حقيقاً، وأخص هنا على وجه التحديد عبارة "أتبع سببا" في قوله تعالى:
فَأَتْبَعَ سَبَبًا الكهف (85)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا الكهف (89)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا الكهف (92)
لقد وردت هذه العبارة ثلاث مرات في قصة ذي القرنين، ومما لا شك فيه أنها كانت ترد في بداية انتقاله من مكان إلى مكان آخر، فجاءت في المرة الأولى وكانت النتيجة بلوغه مغرب الشمس،
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا  قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
ووردت مرة أخرى فكانت النتيجة وصوله مطلع الشمس:
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
ثم وردت مرة ثالثة فكانت النتيجة أن بلغ بين السدين:
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
إنّ المتدبر للنص القرآني يجد أن تلك العبارة (أَتْبَعَ سَبَبًا)  تدل على حركة ذي القرنين من مكان إلى مكان آخر، ولب القول هو أنه كلما كان ذو القرنين بحاجة إلى الانتقال إلى مكان آخر (غير المكان الذي هو فيه) كان عليه أن يتبع سبباً، أليس كذلك؟ فما معنى أن يتبع ذو القرنين سببا؟
لقد وردت هذه المفردة في مواطن أخرى من كناب الله لتدل على طريقة الحركة، فها هو فرعون يطلب من هامان أن يمكنه ليبلغ الأسباب:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) غافر
لا شك أنّ فرعون طلب من هامان أن يبني له صرحاً أفقياً ليصعد إلى الأعلى لظنه – كما يقول موسى- أن الإله في السموات، أي في الأعلى، فمن كان بحاجة إلى الحركة إلى السماء لا شك هو بحاجة إلى الأسباب، ومن هنا جاء قول الحق:
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ص (10)
فالأسباب (ومفردها سبب) هي – حسب فهمنا لهذه النصوص- الطريق الفضائية بين السماء والأرض، ومن أراد أن يسلكها فعليه أن يرتقي إلى الأعلى، وقد يرد البعض بالقول: هل وردت مفردة "سبب" بصيغة المفرد في القرآن الكريم لتدل على الطريق الفضائية؟ الجواب: نعم، ولنتدبر قوله تعالى:
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ الحج (15)
وبعد، هل هناك قول أوضح من هذا القول؟ لذا فإن مراد القول هو أن الحركة بالأسباب (ومفردها سبب) هي حركة خارج نطاق الحركة الأرضية (أي حركة ارتقاء)، لهذا جاء قول الحق على النحو التالي:
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
وبذلك فعندما كان ذو القرنين يتبع سببا كان يرتقي في السماء، فيتنقل بالطرق الفضائية (أي يتبع سببا)، لذا كانت حركته –كما يبينها القرآن الكريم- غاية في السرعة، فبلغ مغرب الشمس وبلغ مطلع الشمس وبلغ بين السدين وكأن ذلك يحصل بين ليلة وضحاها، ولو لم يكن يتبع سببا لما استطاع القيام بذلك بتلك السرعة والقوة التي يصوّرها النص القرآني.
ما يهمنا هنا هو إنّ الفهم أن ذا القرنين كان يتبع سببا (أي يسلك طريقاً فضائية) يمكننا من الفهم الحقيقي للآيات الكريمات، فالحركة بطريقة " أَتْبَعَ سَبَبًا" يخرجه من نطاق الكرة الأرضية، وبالتالي يخرجه من نطاق اختلاف مغارب الشمس ومطالعها، وبالتالي فهو سيصل إلى مغرب واحد للشمس ومطلع واحد للشمس كما ووردت بصريح اللفظ القرآني


الدليل الثاني
أما الدليل الثاني الذي نقدمه لإعادة تغليف قصة ذي القرنين بأفهام جديدة فيأتي من طلب القوم ورده عليهم، أما طلب القوم فقد جاء في قوله تعالى:
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا الكهف (94)
وجاء رده على النحو التالي:
... أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا الكهف (95)
فلماذا لم يجعل ذو القرنين بينهم سداً كما طلبوا؟ لقد جاء الجواب من ذي القرنين واضحا:
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ... الكهف (95)
نعم لقد مكن الله ذا القرنين بشيء خير من طلبهم ذلك، فجاءت تكملة الآية الكريمة على نحو:
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
نعم، إن ما فعله ذو القرنين هو الردم، لكن ردم ماذا؟ إنه ردم السبب، أي الطريق الفضائية التي يستطيع من خلالها أن تصل يأجوج ومأجوج إلى الأرض لتفسد فيها، لقد أغلق ذو القرنين بما مكّنه الله فيه الطريق التي بدونها لن تستطيع يأجوج ومأجوج الوصول إلى الأرض، ومن ذلك الوقت ويأجوج ومأجوج يموج بعضهم ببعض لعدم قدرتهم الوصول إلى الأرض.
ولكن متى ستفتح يأجوج ومأجوج؟
لا شك أن القرآن الكريم يثبت أن يأجوج ومأجوج سيبقون يموجون في بعضهم بعضا حتى النفخ في الصور:
قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) الكهف
وتتأكد الصورة نفسها في موطن آخر من كتاب الله،، فلقد ورد الحديث عن يأجوج ومأجوج في سورة الأنبياء على النحو التالي:
حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) الأنبياء
إن ما يهمنا هنا هو أن الفتح على يأجوج ومأجوج لن يتحصل إلا مع اقتراب الوعد الحق كما في هذه الآية الكريمة أو مع النفخ في الصور كما في آية الكهف السابقة. ونحن نتساءل هنا عن المكان الذي يمكن أن يتواجد فيه يأجوج ومأجوج (على كثرتهم وبطشهم كما يصورها القرآن الكريم) ولا يتم لهم الخروج منه إلا مع اقتراب الوعد الحق (أو النفخ في الصور). إن أبسط ما يمكن أن نخرج به من هذا الفهم هو استحالة أن يكون مأجوج ومأجوج قد خرجوا من موطنهم ذاك كما صورتها بعض التفسيرات السابقة للنص القرآني. أو احتمالية وجودهم في مكان ما على سطح الأرض بعد أن تجلت الأرض بكليتها للناس مع هذا التقدم الهائل في الاستكشاف والبحث.


الدليل الثالث
وهنا نتوقف مع القارئ الكريم على جزئية مهمة في الآيات التي تصور خبر يأجوج ومأجوج كما وردت في سورة الأنبياء وهي قول الحق " وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ"، لنسأل: كيف سينسل يأجوج ومأجوج من كل حدب. إن الفهم السابق الذي ظن أن يأجوج ومأجوج هم قوم على هذه الأرض لا يمكن أن يتماشى مع هذه العبارة القرآنية، فكيف يمكن لقوم موجودون في مكان محدد على وجه الكرة الأرضية أن ينسلوا من كل حدب؟ صحيح أنهم قد يذهبوا في كل اتجاه/ فتلك وجهتهم ولكننا نتساءل عن مصدر خروجهم، فلا يمكن أن يأتوا من كل حدب (جهة) ماداموا أنهم موجودون أصلاً في مكان محدد على سطح هذا الكوكب كما في التصوير التالي:


ولكن لننظر الآن إلى الفكرة التي نحاول الترويج لها وهي أن يأجوج ومأجوج هم قوم خارج نطاق الأرض، إن هذا الافتراض يحل الإشكالية برمتها فمن كان خارج نطاق الأرض يمكن أن يصل إليها من كل اتجاه كما في التصوير التالي:


ثم لننظر إلى الدقة القرآنية التي تصف الحركة على شكل حدب "وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ"، فكيف ستكون الحركة من مكان على سطح الأرض إلى مكان آخر على سطح الأرض؟ الجواب لا يمكن أن تكون على شكل حدب، ولكن كيف يكون الانتقال بالطرق الفضائية؟ الجواب إن الحركة من الفضاء الخارجي إلى مكان آخر لا يمكن أن تتم إلا بطريقة الحدب (ولتسهيل الفكرة ما على القارئ الكريم إلا أن يتصور عملية هبوط أو إقلاع الطائرة). فنحن نفهم أن الحركة الفضائية مهما كانت لا تتم إلا بطريقة الأحداب.
ما يهمنا في هذا الطرح هو التالي: عندما يتحصل فهم جديد لما في كتاب الله لا بد من ترك والتخلي عن ما فهمه أسلافنا، فكثير من علمائنا الإجلاء يضفون شيئاً من القدسية (وإن لم يقولوها صراحة) عندما لا يتنازلون عن ما قاله الأقدمون لا لشيء وإنما لظنهم أن أولئك القوم هم الأقدر على فهم ما جاء في كتاب الله.


الإجماع والقياس:
لقد كانت الحجة الزائفة – في رأينا- عند كثير من أهل العلم أن يتحدوا من يتمسك بمثل موقفي هذا بظنهم الذي مفاده أن هناك من الأمور المستحدثة في حياة الناس التي لم يأتي ذكرها في كتاب الله، فكيف يمكن – حسب ظنهم- الاستدلال عليها (أو استنباط الأحكام فيها) من القرآن؟ فـ هم بمثل هذا الموقف يروّجون للمنطق القائل باستحالة حل إشكالات كثيرة دون الرجوع إلى إجماع العلماء أو القياس. ولنقدم مثالاً لتوضيح زعمهم هذا.
مثال: حقنة الدواء
ظنّ الكثير من أهل العلم أن حقنة الدواء – مثلاً- تفطّر الصائم في نهار رمضان، وأجمع الكثير من أهل العلم على مثل هذا الموقف، وظن الكثيرون أن مثل هذا الأمر هو مما استحدث في حياة الناس التي – في نظرهم- يستحيل وجود الدليل عليه من كتاب الله أو حتى من السنة المطهّرة. فلسان حالهم يقول: أين الحديث عن حقنة الدواء في القرآن الكريم أو في السنة النبوية؟ وهل كانت حقنة الدواء موجودة في ذاك العصر الذي نزل به القرآن الكريم؟ لذا كان لزاماً –في رأيهم- اللجوء إلى الإجماع أو القياس.
وبالرغم من حجتهم التي قد تبدو للوهلة الأولى أنها مقنعة وفيها شيء من الحقيقة، لم تعدم الأمة بعض أصوات العلماء الذين ذهبوا إلى المخالفة في الموقف، فظهرت دعوات من بعض أهل العلم تظن أن الحقنة الدوائية التي يأخذها المريض في نهار رمضان لا تفطّر الصائم، وجرى نقاش بعد ذلك حول أنواع الحقن الدوائية، وطلب أهل العلم الشرعي الاستعانة بأهل الاختصاص، وذهبت مجموعات من أهل العلم إلى تفعيل مقاصد الشريعة (للتفصيل حول هذا الجدل انظر ....)، ولكن ظلت الحقيقة صارخة وهي أن الجدال لم يحل المشكل، (لاحظ كيف لم يحصل جدال بين العلماء بخصوص الدواء الذي يتم تناوله على شكل أقراص أو على شكل شراب سائل، فجميعهم يؤمن يقيناً أن تناول الدواء على هذه الشاكلة يفطّر الصائم في نهار رمضان)، لكننا لم نصل إلى مثل هذا الإجماع عند الحديث عن حقنة الدواء التي يتم حقنها للمريض عن طريق الجلد أو الأوردة والشرايين، لم نعثر حتى اللحظة على الجواب الذي يرضي الجميع، فأين يا ترى تكمن الحقيقة؟ وبكلمات أخرى: أين هي شرعة ومنهاج الإسلام في ذلك؟ فلو كان محمد بن عبد الله بين ظهرانينا ماذا كان يمكن أن يكون موقفه؟ وأي الفريقين سيرجح محمد بن عبد الله رأيه؟
سيرد الكثيرون بالقول: لو كان محمد بين ظهرانينا لما احتجنا إلى ذلك الاجتهاد والقياس؟
  • سنرد عليهم بالقول: ولكن ألم يترك فينا محمد ما إن تمسكنا به لن نظل أبدا؟ أليس كتاب الله الذي جاء به محمد بين ظهرانينا؟ ألا يوجد في ذلك الكتاب الذي تركه فينا محمد ما يحل مثل هذه الإشكالية البسيطة؟
الجواب: بلى، لابد أن الكتاب الذي تركه محمد فينا يحل هذه الإشكالية (لا بل وكل إشكالية)، ولكن كيف؟ هل يوجد في كتاب الله حديث عن حقن المريض؟
  • نعم يوجد.
  • أين هو إذن؟
نقول إن المنطق بسيط للغاية يتمثل في السيناريو التالي:
  • إذا قلت لك أن جهاد هو طفل ذكر، فهل أنا بحاجة أن أقول لك أنه ليس بأنثى؟
  • الجواب كلا، فلقد عرفت أنه ليس بأنثى دون أن أذكر اللفظ نفسه.
  • وبالمنطق نفسه هل يجب على القرآن أن يذكر كل شيء بلفظه لنعرف أنه من المفطرات مثلاً؟ فهل تحدث القرآن الكريم عن اللبن والحليب واللحم والخضروات والفواكه عندما تحدث عن المفطرات في نهار رمضان؟ وأين الحديث عن البصل الفوم والبقل والقثاء عند الحديث عن مفطرات رمضان كما جاء ذكرها عندما طلبها بنو إسرائيل من نبيهم؟
  • لكننا لا نختلف في أن جميعها من المفطرات لو تم تناولها في نهار رمضان، أليس كذلك؟ فهل تجادلنا يوماً حول الفرق بين الخضروات والفواكه في أنها من الأطعمة التي تفطر الصائم في نهار رمضان؟
  • كلا
إذاً، نستنتج من هذا الطرح حقيقة بسيطة وهي: ليس من الضروري أن يرد كل شيء بلفظه لنعلم أنه موجود في القرآن الكريم، فالقرآن يتحدث عن كل شيء حتى ولو لم يذكر كل شيء، لذا جاء قول الحق على النحو التالي:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الأنعام (38)
فما معنى قوله تعالى "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ" في حين أننا نعلم يقيناً أن كثيراً من الأشياء لم تذكر في القرآن الكريم؟ إننا نؤمن بلزوم التمييز بين مفهومين رئيسيين في كتاب الله وهما:
  1. عدم التفريط
  2. عدم الذكر
فعدم ذكر شيء ما في كتاب الله لا يعني أنه غير موجود، أو أن القرآن لم يتحدث عنه، فهذا – في نظرنا معنى عدم التفريط- فعدم التفريط لا يعني بالضرورة ذكر الشيء بلفظة، وإلاّ لأصبح لزاماً أن يتحدث القرآن الكريم عن كل لفظة بعينها، وهو ما لا يمكن تصوره:
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لقمان (27)
فكيف بالقرآن أو بأي كتاب أنزله الله على بشر أن يحتوي على كل الألفاظ؟ ألست أنا شيء وأنت شيء، فأين أنا وأين أنت في كتاب الله؟ هل نحن مذكورون باللفظ؟
الجواب: يستحيل ذلك
- ولكن بالرغم من ذلك، فالله لم يفرط في الكتاب من شيء، فعدم التفريط يعني وجود العلم بالشيء (أي خبره) في كتاب الله حتى ولو لم يذكر الشيء بلفظه في كتاب الله، وبهذا الفهم نعود إلى حديثنا عن خبر الحقنة الدوائية في كتاب الله بالقول: إن العلم بك (أو خبر) الحقنة الدوائية موجود في كتاب الله حتى لو لم تذكر الحقنة الدوائية بلفظها، والعلم بالتدخين مثلاً موجود في كتاب الله حتى وإن لم يكن هناك لفظة تدل على التدخين والمدخنين في كتاب الله، والعلم بالقنبلة الذرية موجودة في كتاب الله حتى ولو لم تذكر بلفظها، والتفاح موجود في كتاب الله وإن لم يذكر بلفظه، والبرتقال موجود في كتاب الله ولو لم يوجد بلفظه، وهكذا.
وهنا ربما يقول البعض: وكيف ذلك؟ أين هو العلم بك (أو خبر) الحقنة الدوائية في القرآن الكريم؟
- لنحاول ألآن تبيان العلم (أو خبر) الحقنة الدوائية في القرآن الكريم، وذلك بربطها بقضية المفطرات في نهار رمضان.
المفطرات في نهار رمضان
إن الحديث عن المفطرات في نهار رمضان جاء في كتاب الله في الآية الكريمة التالية:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ البقرة (187)
والمدقّق في هذه الآية الكريمة يجد أنّ المفطرات هما نوعان:
  1. الجماع: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم
  2. الأكل والشرب: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر
وبتفصيل ذلك نجد أن المفطرات في رمضان هي ثلاثة:
  1. الجماع في غير ليلة الصيام
  2. الأكل بعد أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود
  3. الشرب بعد أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود
إن المدقق في النص القرآني يجد أن الأمر جاء على المعكوس، فالله لم يقل لنا لا ترفثوا إلى نسائكم في نهار رمضان بل قال لنا أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، وهو لم يأمرنا أن لا نأكل أو أن لا نشرب في نهار رمضان، بل أتاح لنا الأكل والشرب قبل أن يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وهذا يدلّنا أن الله لا يقدم لنا كل ما يجب علينا أن لا نفعله، بل يبين لنا ما يجوز لنا أن نفعله، وهو على النحو التالي:
  1. الجماع في ليلة الصيام (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ)
  2. الأكل حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)
  3. الشرب حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)
ويأتي استنتاجنا على النحو التالي: إن أي شيء يمكن أن يكون من المفطرات يجب أن يندرج تحت واحدة من هذه الأبواب الثلاثة، فإما أن يكون في باب الجماع أو في باب الأكل أو في باب الشرب، ولا نجد في كتاب الله شيئاً آخر يعتبر من المفطرات حتى لو كان قتل رجل في واضحة النهار، فالغيبة والنميمة والكذب والسرقة والغش وحتى القتل لا تفطر الصائم بالرغم من عظم الذنب، صحيح أن القاتل قد أهدر نفساً ربما تكون بريئة لكن ذلك لا يفطّره في نهار رمضان، والمنطق نفسه ينطبق على ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
فـ فقه الصيام لا يتعلق بارتكاب ذنب أو عدم ارتكاب الذنب، بل هو النهي عن ما هو حلال كالجماع والأكل والشرب (وهي ملذات الحياة).
وبهذا الفهم يأتي سؤالنا على النحو التالي: أي من هذه المجموعات الثلاثة يمكن أن تندرج حقنة الدواء تحته؟
فهل ذكر الله في كتابه أن تناول البطاطا (على وجه التحديد) تفطر الصائم في رمضان؟ ولكن هل اختلف العلماء في أمر البطاطا أو تناول البندورة (الطماطم في لغة غير أهل الشام)؟ لماذا؟
  • لأنها جميعاً تندرج تحت باب ما يؤكل
هل ذكر الله في كتابه أن شرب عصير البرتقال (على وجه التحديد) يفطر في شهر رمضان؟ ولكن هل تجادل العلماء في الفرق بين شرب عصير البرتقال أو شرب الحليب؟ لماذا؟
- لأنها جميعاً تندرج تحت باب ما يشرب.
هل ذكر القرآن أن جماع الزوجة الأولى (على وجه التحديد) يفطر الصائم في رمضان؟ ولكن هل تجادل العلماء في أي جماع يفطر وأي جماع لا يفطر الصائم في نهار رمضان؟
وهنا نكرر السؤال الذي طرحناه سابقاً بخصوص حقنة الدواء: أي من هذه المجموعات الثلاثة يمكن أن تندرج حقنة الدواء تحته؟
مما لا شك فيه أنها لا تقع تحت باب الرفث، فلا يمكن لعاقل أن يظن أن حقنة الدواء تقع في هذا الباب (حتى ولو تشابهت في الطريقة!)
لذا، فإننا نعتقد أن الذي أفتى بان حقنة الدواء تفطر الصائم في نهار رمضان قد ظن بأن حقنة الدواء تقع في باب الأكل أو الشرب، فأفتوا بأنها تقع ضمن المفطرات في نهار رمضان.
ولكننا نرد عليهم بمنطق (سؤال) سهل بسيط: لم ظننتم أن حقنة الدواء هي طعام أو شراب؟ ما الذي دفعكم إلى هذا الاعتقاد؟


هل حقنة الدواء طعام؟
إذا تبين لنا من كتاب الله أن حقنة الدواء هي طعام يؤكل فيجب القطع بأنها من المفطرات في نهار رمضان، ولكن إن تبيّن لنا أنها ليست طعاماً يؤكل فيجب القطع بأنها ليست من المفطرات في نهار رمضان.
هل حقنة الدواء شراب
إذا تبين لنا من كتاب الله أنّ حقنة الدواء هي شراب يشرب فيجب القطع بأنها من المفطرات في نهار رمضان، ولكن إن تبيّن لنا أنها ليست شراباً يشرب فيجب القطع بأنها ليست من المفطرات في نهار رمضان.


رأينا: أما نحن فإننا نظن أن الذي يعتقد أن حقنة الدواء تقع في باب الطعام أو الشراب لا يختلف كثيراً عن من يظن أن حقنة الدواء تقع في باب الرفث.
النتيجة: حقنة الدواء ليست من الرفث وهي بالتأكيد ليست من الشراب وليست من الطعام، إن الذي يمكن أن يفطر الصائم في نهار رمضان هو واحدة من ثلاث: الرفث أو الأكل أو الشرب، وما دام أن حقنة الدواء لا تقع ضمن أي من هذه المجموعات الثلاث، فهي غير مفطرة في نهار رمضان.


التبرير
إن المدقق في النصوص التي تتحدث عن ما يفطر الصائم في نهار رمضان يجد أمرين أثنين وهما
  1. توافر القصد
  2. القيام بواحدة من هذه الأفعال الثلاث (الرفث، الأكل، الشرب)
فإن لم يتوافر القصد (فلا يمكن أن يحدث الإفطار وليس أدل على ذلك من الذي يأكل ويشرب ناسياً في نهار رمضان)، وثانياً القيام بالرفث عن قصد أو الأكل عن قصد أو الشرب عن قصد.


لماذا لا تعتبر حقنة الدواء من الأكل أو الشرب؟
إن هذا السؤال يدعونا إلى تفقد السياقات القرآنية التي تتحدث عن الأكل والشرب في كتاب الله لنفهم معنى الأكل والشرب كما قصده الإله في الكتاب لا كما نظنه نحن. لنخلص إلى نتيجة واحدة وهي أن كل ما يؤكل وكل ما يشرب يقع ضمن المفطرات، وبالمقابل فإن الذي لا يؤكل أكلاً ولا يشرب شرباً لا يقع ضمن المفطرات، فالإله تحدت عن المفطرات بلفظ الأكل والشرب وهو يعي ما يقول (وإلا كان الأجدر به أن ينتبه إلى ألفاظه- إن صح زعم الفريق الآخر- حاشاه جل وعلا)
ألا يؤكل التفاح؟
-نعم فهو يفطر
ولكن ماذا عن الورق مثلاً؟
فبالرغم أن الناس لا تأكل الورق إلا أنه لو قام شخص بأكل ورقة لأفطر في رمضان لأن تلك العملية تسمى أكلاً، فما يتم تناوله عن طريق الفم ودخل إلى الجوف هو فقط ما يسمى أكلاً.
هل يشرب العصير؟
-نعم، فهو إذا يفطر الصائم.
وكن ماذا عن السم أو زيت وقود السيارات؟
-كلا لا يشرب
ولكن لو قام شخص بشرب السم أو زيت السيارات فإن ذلك يفطره في رمضان لأن تلك العملية تسمى شرباً، فما تم تناوله عن طريق الفم ودخل الجوف من السوائل يسمى شرباً، ولا شيء غير ذلك.


هل التدخين يفطر الصائم في نهار رمضان؟
إن كل ما يؤكل أكلاً أو يشرب شرباَ يفطر الصائم في رمضان، فماذا عن التدخين؟ هل التدخين يقع في واحدة من هذه المجموعات؟
نعم لأن المدخن يشرب الدخان شرباً،
ولكن ماذا لو استنشق الصائم الدخان المنبعث من السجائر أو السيارات أو المصانع، هل يفطره ذلك في نهار رمضان؟
الجواب، لا، لان ذلك لا يسمى شرباً.
فاللغة العربية تستخدم الفعل شرب مع التدخين، فنقول فلان يشرب دخاناَ أو يشرب سيجارة، ولمّا كان القرآن الكريم قد نزل مفصلاً بالعربية، فلا داعي أن يرد ذكر التدخين بلفظه في القرآن لأنّه (كما العصير أو الحليب) يشرب شرباً.
ولكن ماذا لو نزل هذا القرآن بغير اللسان العربي، فلو نزل هذا القرآن باللغة الانجليزية –مثلاً- لوجدنا لزاماً تفصيل الدخان بلفظه في ذلك الكتاب، أي لكان لزاماً ذكر التدخين بلفظه في ذلك الكتاب وذلك لأنّ التدخين في اللغة الانجليزية لا يقع ضمن المشروبات، فاللغة الانجليزية لا تستخدم لفظة drink للدخان، فلو كانت هذه الآية منزلة باللغة الانجليزية لكان لزاما تفصيلها على النحو التالي:
وكلوا وشربوا ودخنوا حتى يتبين ....
أي لجاء التفصيل في ذلك القرآن الإنجليزي بألفاظ ثلاثة الشرب والأكل والتدخين بدلاً من اثنتين "الأكل والشرب:
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ
وماذا لو نزل القرآن بلغة لا تستخدم فعل الشرب للحليب مثلاً؟ لنتصور أن لغة ما لا يستخدم الفعل "شرب" ومشتقاته لتناول الحليب، ولنفترض أن الفعل "يمص" ومشتقاته هو فقط ما يستخدم في تصوير عملية تناول الحليب، فكيف سينزل التوجيه الإلهي في ذلك القرآن؟
الجواب: سيكون الأمر الإلهي مفصلاً على النحو التالي:
وكلوا واشربوا ومصوا حتى يتبين
وماذا لو نزل القرآن بلغة تستخدم مفردة واحدة فقط (مثل : تناول" ومشتقاتها)  للأكل والشرب والتدخين، الخ؟ الجواب سيأتي تفصيل ذاك القرآن عند الحديث عن المفطرات بلفظة واحدة على نحو:
"وتناولوا حتى يتبين...."
وقد يرد البعض بالقول: لماذا لم ينزل القرآن في اللغة العربية بمفردة واحدة مثل "تناول" ومشتقاتها مادام أننا في العربية يمكن أن نستخدم المفردة في حالة الأكل والشرب (فنقول: تناول فلان الطعام وتناول فلان الشراب)؟
الجواب لان ذلك كان سيشمل الطعام وسيشمل الشراب ولكنه لن يشمل التدخين (عندها لا يكون التدخين من المفطرات) لأننا لا نقول في العربية فلان يتناول الدخان. فالقرآن الكريم يستخدم من اللفظ ما يلزم دون زيادة أو نقصان بما لا يخل بمضمون الرسالة، فلو نزل القران الكريم في العربية بلفظة تناولوا لأخلّ بالرسالة الموجهة للبشر، ولو نزل بالعربية بلفظ فأكلوا واشربوا ودخنوا لأصبح هناك زيادة لا حاجة لها، ولكن لما كانت الرسالة بأكملها يمكن أن تفصل بمفردتين وهما الأكل والشرب فقط جاء القرآن مفصلاً على تلك الشاكلة.
النتيجة: مادام أنّ كل المفطرات في اللغة العربية تقع ضمن نطاق ما يؤكل وما يشرب لا يحتاج القرآن الذي نزل بالعربية لأكثر من هاتين اللفظتين لإيصال الرسالة المطلوبة.
وللحديث بقية


د. رشيد الجراح 28-9-2011