جدلية الحقيقة والمجاز في القران الكريم


جدلية الحقيقة والمجاز في القران الكريم
لقد كانت قضية المجاز من أهم المؤثرات في التفسيرات القرآنية، وكانت من أبرز نقاط الخلاف بين الفرق والمدارس الفكرية القرآنية، فانقسم المشتغلون بالتفسير القرآني بين من يؤيد القراءة الحرفية للنص القرآني ومن يحلق في سماء الاستعارات والمجازات، فاختلفت التفسيرات ومن ثم التأويلات للنص القرآني. ومحرك البحث لنا هنا سؤال واحد رئيس وهو: هل يمكن قراءة النص القرآني على المجاز؟ إن الجواب الذي نحاول الدفاع عنه في هذا البحث هو النفي قطعا، فنحن نزعم أن ليس في القران الكريم مجاز واحد.

لقد انشغل الناس بالمجاز-حسب ظننا- لسببين اثنين هما:
  1. الاعتقاد بجمال المجاز اللغوي
  2. الاعتقاد بصعوبة التفسير الحرفي لبعض النصوص القرآنية

وسنحاول في هذا البحث إثبات أن الحقيقة هي عكس ادعاءاتهم هذه.

لعل الغالبية الساحقة من المشتغلين بعلوم اللغة يعتقدون جازمين أن المجاز عنصر جمال في اللغة ومكمن قوة فيها، لا بل لقد كان عنصر تحدي للابتكار و التميز اللغوي والأدبي، فكلما كان الشخص أكثر قدرة على استخدام المجازات (لا بل) وابتكارها كان أكثر تميزاً وأنجح في قدرته اللغوية من ثم في توصيل مراده، وقد أبدع الشعراء والأدباء حتى أصبحت حرفتهم كلها مبنية على مثل هذا التصور. ونحن إذ لا ننكر عليهم صنيعهم هذا لنعتقد في الوقت ذاته أنّ هذا ما يميز لغتهم، ولا يجب تطبيق ذلك على النص القرآني، فالنص القرآني ما هو بقول شاعر، لا بل لقد ذم النص القرآني صنعة الشعراء، قال تعالى:
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) الشعراء
نعم الشعراء يهيمون في كل واد ويقولون ما لا يفعلون، ولكن هل النص القرآني يشبه كلام الشعراء في أي شيء؟ الجواب هو النفي قطعاً، فكم مرة يدافع النص القرآني عن نفسه أنه ليس من قول الشعراء؟!
ولكن لحب الناس -وحتى أهل العلم – للشعر وتعلقهم به، زينوا لأنفسهم مثل هذه الصنعة حتى أصبحوا هم من الممتهنين لها، ولعل بعض الخطباء على المنابر يستشهدوا بقول الشعراء كما يستشهدوا بكتاب الله أو بسنة نبيه، ولكننا نظن أن الشعر- كباقي ما يسمى بالفنون الأدبية- هو أساس المفسدة، فما كان الغناء والطرب والرقص لتزدهر دون صنعة الشعر، وما كان أهل الهواء سيأخذون مجدهم وسيعيثون في الأرض فساداً لولا أشعار المتنبي وشوقي وأبو النوّاس وغيرهم من أساطين الشعر وشياطينه، وقد يرد البعض علينا بامتعاض شديد ويقولوا أن هذا محض هراء فالشعراء هم من هم، ولا يجوز إنكار صنيعهم بمثل هذا الافتراء الذي لا أساس له، فنرد عليهم بالقول: دعنا نحتكم إلى كلام الله، دعنا نلتزم بما جاء في كلام الله عن الشعراء، وسنعرض جميع الآيات القرآنية التي ورد فيها حديث عن الشعر والشعراء، ومن ثم نقر بالحقائق القرآنية كما هي دون زيادة ولا نقصان. قال تعالى:
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ الأنبياء (5)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) الصافات
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ الطور (30)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) الحاقة
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ يس (69)
وبعد هذا السرد، ما الذي يمكن أن نخلص إليه؟ ألا يعني ذلك أن التوجه العام في القران الكريم هو ذم الشعر والشعراء؟ فما كان الاستثناء إلا لفئة قليلة جداً من الشعراء، وعند استعراض واقع الشعر والشعراء، كم نجد من مثل هؤلاء الشعراء الذي يمكن أن ينطبق عليهم الاستثناء القرآني؟ أليست الغالبية العظمى من الشعراء هم من الفئة المذمومة؟ ألم يعلو صوت أم كلثوم وفيروز ونانسي عجرم (على الأقل فيما شاهدنا) بشعر المتنبي و شوقي ونزار قباني؟ وهل كان أهل الغناء والفجور ستروج تجارتهم وتزدهر دون استعارات ومجازات ونظم الشعراء؟ إن احد الكوارث في الفكر الديني أنه اتخذ من الاستثناء الذي ذكره ربنا الكريم لفئة قليلة من الشعراء ذات مواصفات ومقاييس محددة (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) هي القاعدة، فجوّزوا كثيرة بحجة قليلة، ولكن هل هذا هو الحق؟ فإن كان الأمر كذلك، فلا باس إذاً بالخمر ما دام أن فيها بعض المنافع! كلا وألف كلا، فما افسد قليله يبطل كثيرة، أليس كذلك؟ فما بالكم إذاً بما افسد كثيرة؟ أليس من باب أولى سد هذا الباب بتلك الذريعة التي استخدمت في غير مكانها؟
لقد كان القصد من النقاش السابق تبيان أن المجاز هو من صنع البشر وخصوصاً أهل الشعر وفنونه، وكلام الله ليس بقول بشر ولا بقول شاعر، ويجب التمييز بين كلام البشر وكلام رب البشر، ونحن نزعم الفهم أن من أهم الفروقات بين كلام الله الواحد الأحد وكلام البشر أجمعين هو الفرق بين الحقيقة المجاز، ففي حين أن كلام البشر مليء بالمجازات والاستعارات فإن كلام الله هو كلام حقيقي يخلو من المجاز والاستعارة مصداقاً لقوله تعالى:
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) الصافات
ويأتي السؤال المشرع هنا: لماذا؟ لماذا لا يوجد في كلام الله مجاز؟ إن الجواب على هذا السؤال يحمل في ثناياه أموراً عقائدية لا تبين إلا بفهم السؤال التالي: ما هو المجاز؟

ما هو المجاز؟
لن أخوض بتفاصيل السؤال لانّ هذا ليس مكانه، ولكني سأقف عند أبسط الأمور التي لا جدال ولا منازعة فيها.
لعل الجميع يدرك أن من أهم ميزات المجاز هو حمل الكلام على غير حقيقته، ويتمثل ذلك بإيجاد رابط بين الموضوع المطروق والحقيقة التي ارتبط بها ذلك الموضوع، فعندما نقول مثلاً أن فلاناً أسد، فالحقيقة التي لا يمكن المجادلة فيها هي أنه ليس أسد، فهو إنسان والأسد حيوان، (فالإنسان إنسان والأسد أسد)، تلك هي الحقيقة، أليس كذلك؟ إن إيجاد رابط بين الإنسان والأسد هو تحريف للحقيقة مهما كانت المسوغات، ونحن نزعم أن ذلك ما كان ليتم لولا أمرين اثنين وهما:

  1. عجز المتكلم عن الإتيان بالمفردة الحقيقية التي تعبر عن المعنى الحقيقي المراد إيصاله،
  2. وإن لم يكن كذلك، فيعزى استخدام المجاز إلى ضعف اللغة نفسها عن توفير تلك المفردة

فعندما قلنا أن فلاناً أسد كان المقصود هو مدح الشخص بصفة ما، ولكن عندما لم يستطع المتكلم تحديد المفردة التي يجب استخدامها لتوصيل الفكرة التي ينوي التعبير عنها بذاتها، لجأ إلى المجاز معتمدا على قدرة السامع على تحديدها، فقد كان غرض المتكلم إيصال فكرة أن للشخص من القوة والشجاعة والجرأة والسيادة (ولربما كل ما للأسد من صفات باستثناء صفاته الحيوانية كالغباء والتهور والسذاجة) من الصفات مجتمعة لم يجد في مخزونه اللغوي المفردة التي بها يتم إيصال هذه المعاني مجتمعة في مفردة واحدة، والمفارقة الجميلة أنه حتى لو بحث في قاموس اللغة بأكملها عن تلك المفردة ما كان ليجدها، فهو إذا قصور في قدرة المتكلم أو و قصور في مخزون اللغة نفسها أو كليهما، وإن صح هذا الزعم فهل تقصر قدرة الإله منزل القرآن أن يجد المفردة الحقيقية التي يعبر فيها عن ما يريد قوله؟ الجواب كلا وألف كلا، فالله يستطيع تحديد المفردة الحقيقية التي تؤدي غرض القول دون زيادة ولا نقصان، فالقدرة اللغوية للبشر تبقى محدودة مهما عظمت، فهم تارةً يقولوا ما لا يعنون، وتارة يعنون ما لا يقولون، ولكن المقدرة اللغوية للإله فهي كاملة لا يشوبها نقص لأنّ الإله ببساطة يقول ما يعني ويعني ما يقول.
ولكن ماذا عن قصور اللغة نفسها؟ ألم ينزل القرآن باللغة العربية؟ هل اللغة العربية قاصرة، عاجزة عن توصيل بعض الأفكار؟ الجواب نعم بكل تأكيد، تقصر اللغة العربية عن توصيل بعض الأفكار.
وهنا سينبري الكثيرون للرد بالقول أن هذا الكلام يناقض بعضه بعضا؟ كيف بالله الذي لا يعجز عن التعبير عن مراده يعبر عن ذلك باللغة التي تقصر أحيانا عن التعبير عن بعض تلك المعاني؟ أليس ذلك تناقض؟ ألا يمكن أن يوجد في القرآن قصور في توصيل الأفكار بسبب اللغة نفسها؟
فنرد بالقول أن القصور الذي ينبع من اللغة نفسها واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم، ولو دققنا في كتاب الله لوجدنا عشرات الأمثلة التي تدل على ذلك القصور اللغوي؟
أين ذلك؟ ما الذي تقوله يا رجل؟ اتق الله! هل في القرآن قصور عن التعبير عن المعنى المراد؟
نقول نعم هناك قصور، لكن هذا القصور هو بسبب اللغة نفسها وليس بسبب قدرة المتكلم وهو الله الواحد الأحد، وكل ما نحن بحاجة إليه هو إمعان التفكير بمثل هذه الآيات الكريمات التي نجد العشرات مثلها في كتاب الله، وسنورد عدة أمثلة للتدليل على هذا الزعم.

مثال (1): خلو اللغة من المفردات التي تعبر عن المعنى المطلوب فترد بلفظين مختلفين كما في حالة الأكل من الشجرة في قصة آدم وزوجه وقصة تفجر الماء بعصا موسى، قال تعالى:

"فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ..."
" فَأَكَلَا مِنْهَا...."
لاحظ عزيزي القاري كيف ترد القصة نفسها بلفظين مختلفين، تارة بلفظة "ذاقا" وتارة أخرى بلفظة "أكلا"، والسؤال المشروع هو: لماذا؟ إننا نزعم الفهم أنّ هذا بسبب عجز اللغة العربية في احتواء كلام الله، "فما حصل لآدم وزوجه هو أنهم ذاقا الشجرة ولم يكتفيا بذلك بل أصروا على المضي قدماً في فعلتهم، فبدءوا مترددين فكان الفعل على نحو "فذاقا" وانتهى بعملية "الأكل"، ولكن لما عجزت العربية عن إيجاد فعل واحد يجمع الحدثين "ذاقا" وأكلا" في مفردة واحدة، قدمت الصورة كما حصلت فعلاً: فهما لم يأكلا مباشرة ولكنهم لم يتوقفوا عند المذاق فقط، ويظهر سيناريو مشابه في الآيتين الكريمتين التاليتين:

"... وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ ..." (160)
"وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ ..." (60)
لاحظ - عزيزي القارئ- كيف تم التعبير عن الموقف ذاته بلفظتين مختلفتين "فَانْبَجَسَتْ"، و "فَانْفَجَرَتْ"، وحتى لا نختلف كثيراً، فالانفجار لا شك أقوى من الانبجاس، فعين الماء انبجست أولا ثم انفجرت بعد ذلك، ولكن ما هي المفردة العربية التي يمكن أن تعبر عن المعنيين معاً؟
مثال (2) ورود المعنى المراد مفصلاً بأكثر من مفردة واحدة، كما في حالة الطلب الإلهي من النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم، قال تعالى:
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ الأنبياء (69)
فهل فعلا قال الله للنار يا نار كوني (برداً وسلاماً) مفردتين منفصلتين؟ لو كان الأمر كذلك لما تحمل إبراهيم برد النار قبل أن تكون سلاماً، فما يكون للنار أن تتخلف عن أمر ربها في أن تكون برداً قبل أن تكون سلاماً، إننا نظن أن الله قد استخدم مفردة واحدة تحمل المعنيين معاً، ولكن لما عجزت اللغة العربية أن تحوي في قاموسها مثل هذه المفردة فصّلت تلك المفردة قرأناً عربياً على نحو (بَرْدًا وَسَلَامًا).
مثال (3) استخدام التشبيه في القرآن الكريم، كما في قصة تحول عصا موسى أو شق البحر بالعصا

ففي قصة عصا موسى مع السحرة جاء في كتاب الله أن عصا موسى تحولت تارةً حَيَّةٌ تَسْعَىٰ  وتارة ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ولكن كَأَنَّهَا جَانٌّ تارة ثالثة:
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ طه (20)    
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الأعراف (107)
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الشعراء (32)
وَأَلْقِ عَصَاكَ ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ النمل (10)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ القصص (31)
وسؤالنا هو لماذا تغيّر اللفظ في هذه الآيات: حية وثعبان وكأنها جان؟
لا شك أن العصا لم تتحول إلى جان ولكنها كانت كأنها جان، فالكاف للتشبيه، فعصا موسى إذاً لم تكن جان ولكن كأنها جان، ولكن لا ننسى كذلك أنها لم تكن تشبه الجان على الكليّة (أي في كل شيء)، وإنما هي تشبه الجان في شيء واحد فقط وهو الاهتزاز، مصداقاً لقوله تعالى:
فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ
ولكن- مما لا شك فيه- أن عصا موسى كانت حية وكانت ثعبان على الحقيقة والكليّة، ولنرقب الدقة المتناهية في اللفظ القرآني:
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ طه (20)
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ الأعراف (107)
فسؤالنا هو: لماذا لم يقل الله عن عصا موسى أنها جان كما قال عنها أنها حية أو أنها ثعبان؟ إننا نظن أن ذلك بسبب عجز اللغة عن توفير مفردة خاصة باهتزاز الحية أو الثعبان، فجاء تشبيه اهتزاز تلك الحية بحركة اهتزاز الجان.
نحن نظن أن التشبيه في القرآن يحصل دائماً بسبب عجز لغوي لتقريب الصورة إلى الأذهان عندما لا توفر اللغة نفسها المفردة الحقيقية، فها هو موسى يضرب البحر بعصاه، فينفلق البحر نصفين فكان كل فرق كالطود العظيم:
فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ الشعراء (63)
لا شك أنّ كل فرق لم يكن طودا ولكن شيئاً آخر، ما هو؟ لم لم يخبرنا الله ما هو؟ إننا نظن أن ليس في العربية مفردة خاصة بذلك الشيء الذي انفلق البحر إليه،  فلما عجزت اللغة العربية عن توفير تلك المفردة، كان استخدام التشبيه أمراً مبررا، وأقرب مفردة له في العربية هي الطود فيحصل التشبيه باستخدام أدوات التشبيه
لاحظ عزيزي القارئ كيف تستخدم أداة التشبيه تارة ولا تستخدم تارة أخرى، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى:
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
ونطرح هنا الأسئلة لامعان التفكير في صيغتين اثنتين وهما
(1) الله نور السموات الأرض
(2) مثل نوره كمشكاة،  و     الزجاجة كأنها كوكب دري
السؤال الأول: لماذا جاءت الصيغة الأولى على نحو "الله نور السموات والأرض" دون وجود أداة تشبيه؟ هل هي إذاً مجاز؟ هل هي من باب المجاز أن الله نور السموات الأرض؟ لماذا يتقبل الفكر الإسلامي قراءة هذه الصيغة من باب الحقيقة أن الله هو فعلاً نور السموات الأرض؟ لماذا لا تقرأ على المجاز ما دام التركيب يحتمل المجاز كقولنا في مثالنا السابق فلان أسد؟ إننا نتحدى من يؤمن باستخدام المجازات أن يجد لنا تركيباً واحداً في كتاب الله مثل "الله نور السموات" لا يقرأ على الحقيقة. إننا نزعم أن مثل هذا التركيب يجب أن يقرأ على الحقيقة، لسبب بسيط هو لأنها كذلك، فالله هو نور السموات والأرض دون زيادة  ولا نقصان،
ولكن كيف يعبر القرآن الكريم عن مثل هذه الفكرة إن كان المشبه والمشبه به غير متطابقين؟ الجواب موجود في مثل قوله تعالى:
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
نعم، إن نور الله ليس مشكاة ولكن كمشكاة، والزجاجة ليست كوكب دري ولكن كأنها كوكب دري، فلو كانت الزجاجة فعلاً كوكبا دري لجاء قول الحق على نحو الزجاجة كوكب دري ولانتفت بذلك الحاجة لوجود  "كـ" و "كأنها". ولكن لماذا جاء قول الحق على نحو "كأنها"؟ لماذا لم يخبرنا الله ما هي الزجاجة فعلاً؟ ألا يعلم الله ما هي الزجاجة في الحقيقة؟ فلم إذاً يشبها بالكوكب وهي في الحقيقة ليست كوكباً؟ الجواب هو قصور اللغة نفسها، فلا يوجد في اللغة العربية المفردة التي تدل على المشكاة بنفس التطابق الذي يوجد في قوله تعالى الله نور السموات والأرض.
ونحن نعلم علم اليقين أن الله صادق فيما يقول، فكيف بالله إذاً يقول "الزجاجة كوكب دري" وهي في الحقيقة ليست كذلك؟ فلو حصل ذلك لكان من باب المبالغة كما في قولنا "فلان أسد" ولكان أيضاً من باب الافتراء والكذب، وحاشا لله أن يبالغ فيما يقول أو يفتري غير الحق.
وتتجلى الدقة القرآنية عندما نعت الله بعض الظالمين من بني إسرائيل بصفات الحيوانات، جاء قول الحق على نحو:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
أو الذين اتبعوا هواهم:
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
فهم في الحقيقة ليسوا حميراً وليسوا كلاباً، ولكنهم كمثل الحمار الذي يستفيد مما يحمل فوق ظهره، وكمثل الكلب الذي لا ينفك عن اللهاث سواء حملت على ظهره أم لم تحمل.
ولكن عندما مسخهم الله قردة وخنازير جاء قول الحق:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ البقرة (65)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ المائدة (60)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ الأعراف (166)
والسؤال الذي لا يجانب الحقيقة في شيء هو: لماذا حصل التشبيه في حالة الحمار والكلب، ولم يحصل في حالة القردة والخنازير؟ نعم لم يكونوا أولئك حميراً ولا كلاباً ولكنهم كانوا قردة وخنازير، لا مجاز ولا تبديل لكلام الله.
إننا نصل إلى القول أن القرآن يخلو من الاستعارات، ولكنه مليء بالتشبيهات، فمادام كلام الله حقيقي صادق دون زيادة ولا نقصان فلا يحتمل المجاز، ولكن لما كانت اللغة تخلو أحياناً من المفردة الحقيقية يكون استخدام التشبيه وارد لتقريب الصورة إلى الأذهان بصدق دون زيادة ولا نقصان.
إننا نزعم أن المجاز يحمل معنى المبالغة والتحريف والزيادة والنقصان، فعلى سبيل المثال، لم نأخذ من قولنا "فلان أسد" المعنى الايجابي فقط ونترك ما يحتمل الكلام من المعاني الأخرى؟ فلو جاء مثل هذا التركيب (فلان أسد) في كتاب الله فما الذي يمنع أن نأخذ التشبيه على الكلية لتشمل الصفات الايجابية والسلبية؟ فما الذي يضمن أن نختار فقط المعاني الايجابية ونضمن في الوقت ذاته أن جزء من المعاني غير مشمولة؟ إن ذلك يفتح المجال أمام كل الخيارات، وهذا ما يفعله أصحاب المجاز، إنهم يأخذوا ما يريدوا أخذه ويتركوا ما يرغبوا تركه، فتصبح الأمور تبعاً للأهواء، وهذا أبعد ما يكون عن كلام الله، فكلام الله لا يؤخذ تبعاً للهوى بل هو كلام يحمل كل المعاني الذي  تحتمله مفرداته وتراكيبه، وهذا لا يمكن أن يتم إن كان الأمر يُحمل على المجاز ولكنه ممكن مادام الكلام حقيقي

من أين جاءت قصة المجازات؟ من الذي أدخل المجاز على اللغة؟
إننا نزعم الفهم أن أول من أدخل المجاز على اللغة هو الشيطان، وقد كان تقبل الإنسان للمجاز هو سبب البلاء والشقاء الذي أوقع فيه نفسه، ولا شك أن الجمال الذي يراه البعض في المجازات هو من باب تزيين الشيطان للأمر، ولنبدأ القصة من أولها.
لقد خلق الله آدم وعلمه الأسماء كلها، وعاش آدم وزوجه في الجنة حياة رغدا، ونحن نظن أن حياة آدم وزوجه في الجنة كانت رغدا لأن آدم كان يعلم المسميات الحقيقية للأشياء فكانت الأشياء ترتبط بمسمياتها الحقيقية، وقد علمه الله حقيقة وعاقبة إن هو خالف الأمر الإلهي، فقال
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ البقرة (35)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
الأعراف (19)
نعم، تلك هي الحقيقة التي لا مجاز فيها، إن النتيجة الحتمية للأكل من الشجرة تعني أن تكونا من الظالمين، ولا يمكن وجود تفسير الكلام على غير ذلك، ولا يجوز تجويزه ما لا يجوز، ولكن ما الذي فعله الشيطان؟ إنه تحريف الحقيقة وتزين الأمر لآدم وزوجه ليحملا كلام الله على غير حقيقته، ولننظر كيف أبدع الشيطان في ذلك:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ الأعراف (20)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ طه (120)
أليست حجج الشيطان تلك مسوغة للعقل البشر؟ ألا يحتمل المنع عن الأكل من الشجرة ذلك المعنى؟ لم ينهاهم الله عن الأكل من الشجرة دون ثمار الجنة كلها؟ ألا يثير ذلك حفيظة الإنسان وحبه في المعرفة والمغامرة؟ ألا يوجد تفسير آخر للأمر؟
لقد فسر الشيطان لآدم وزوجه الأمر على غير حقيقته، فأوقعهم في شركه، وهذا بالضبط ما يحصل في عالم المجازات، إنه الكذب، ككذب الشيطان عندما أوقع آدم وزوجه في شركه، إنها تفسير الأمور حسب الهوى. لا شك أن في الحقيقة الصدق وفي المجاز الكذب، وكلام الله هو الصدق بعينه وهو أبعد شيء عن الكذب.

المجاز ضعف في اللغة
إننا نؤمن أن المجاز من أهم الإشارات الدالة على ضعف اللغة، وليس عنصر قوة فيها كما ظن الكثيرون وزعموا، فكلما كثر استخدام المجاز كلما ضعفت اللغة وتبدلت وانهارت، ولو سألنا أنفسنا سؤالاً بسيط كهذا: لماذا تتغير اللغة وتتبدل؟ ولماذا ظهرت اللغات المختلفة؟ لماذا لا يوجد في الكون لغة واحدة لا تتغير على مر الزمان يتحدث بها البشر كلهم؟ الجواب إنها المجازات، فاللغة تتبع هوى الإنسان وتفسيراته، لذا لما كانت أهواء الناس متباينة اختلفت ألسنتهم، وكانت النتيجة قوله تعالى:
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ الأعراف (71)
وللنظر كيف يتحدث يوسف عليه السلام، العارف بالتأويل الحقيقي للأسماء:
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يوسف (40)
وللنظر كيف ينعت الله من لا يصف الأشياء بمسمياتها الحقيقية:
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ (23)
فالذين لا يقفون عند المسميات الحقيقية للأشياء إنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، فلو كانت اللغة (كل اللغة) تقرأ على الحقيقة لما كان هناك اختلاف في التفسيرات والفهم، ولما كان هناك إتباعا للظن والهوى، ولأصبح كلام الناس لا كذب فيه، ولأصبحت الحياة رغداً كما كانت حياة ادم الأولى في الجنة.


كيف نقرأ كتاب الله؟
يجب أن نقرأ كلام الله على الحقيقة كما يجب ولا ندخل فيه المجاز حتى لا يكون تبعاً للهوى، ونذهب بعيداً كما فعل أهل الكتاب من قبلنا، وهذا يعني بالضرورة فهم مفردات القران وتراكيبه اللغوية كما أرادها الله في كتابه وليس كما نريدها ونتصورها نحن البشر، لأننا نصيب أحياناً ونخطئ كثيراً، وما علينا إلا أن نترك فهمنا إن هو تعارض مع ما في كتاب الله، فنؤيد الفهم على الوجه الذي يقره كتاب الله فقط، ولنقدم المثال البسيط التالي على التباين في فهم الكلام.
مثال: نستخدم نحن أهل الشام مفردة "حليب" ومفردة "لبن" لتدل الأولى على المادة الأصلية التي نحلبها من ضرع الأنعام (أو حتى من ثدي المرأة) بينما نستخدم الأخرى "لبن" لتدل على ما يتم معالجته من تلك المادة بعد الحصول عليه، ولكن إخواننا في أرض الكنانة (مصر التاريخية) يستخدموا المفردتين بالمعنى المعكوس، فما نسميه نحن حليب في الأرض التي باركنا حولها وأرض الحشد والرباط يسميه إخواننا في ارض الكنانة لبن؟ فأين يا ترى تكمن الحقيقة؟ فما هو اللبن وما هو الحليب؟ لا شك أن أحدنا مخطئ، فأيهما أصوب في استخدامه للمفردة، أهل الشام أم أهل النيل؟
الجواب: أهل النيل بكل تأكيد، فما نسميه نحن حليب هو في الأساس لبن كما يسميه أهل النيل، والدليل على ذلك ما جاء في كتاب الله:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ النحل (66)
فما يخرج من بطون الأنعام هو –حسب مفردات القران الكريم- لبن وليس حليب، لذا فالقول الصحيح عند العربي هو "حلبت الناقة لبناً" ولا نقول "حلبت الناقة حليباً". لذا فقد حصل التحريف للحقيقة عند أهل الشام، فاتبعوا أهواءهم وغيروا الاسم على غير مسماه الحقيقي، وهذا من البلاء الذي يصيب الأمم، وقد ذم الله مثل هذا الصنيع عندما قال:
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ البقرة (75)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ البقرة (59)

يلجأ الناس إلى المجاز عندما يقصر فهمهم للأمر
وبهذا القول يجب الوقوف على المعاني الحقيقية للآيات القرآنية، ولا يجوز أن تحمل على غير ذلك، وقد كان إدخال المجاز من باب العجز عن إدراك تلك المعاني الحقيقية، فكلما عجز البشر عن إدراك المعنى المراد لقصور في فهمهم لجاءوا إلى المجازات والتأويلات المبنية على الهوى، وكلما استطاعوا تجلية المعنى الحقيقي كلما ابتعدوا عن المجاز أو حتى الحاجة إلى المجاز.
فعندما قرءوا قصة ذي القرنين مثلاً في كتاب الله وعجزوا عن تبيين المعاني على حقيقتها حلقوا وطاروا في سماء الاستعارات والمجازات، فكيف يصل ذي القرنين إلى مغرب الشمس أو مطلعها؟ وكيف بالشمس تغرب في عين حمئة؟ وأين هم يأجوج ومأجوج؟ ونتيجة لذلك ظهرت عشرات الأفهام التي غالباً ما ناقضت بعضها بعضا، والقارئ مدعو إلى البحث في الأدب الديني المتوافر حول الموضوع
إننا نظن أن فهم الخطاب القرآني على حقيقته يقفل الباب أمام المجازات والاستعارات، فتتجلى الحقائق كما هي بلا تباين نابع عن أهواء الناس الذي لا يقيده ضابط واضح، وهنا قد يرد البعض بالقول: من هذا رشيد الجراح الذي سيحل إشكالية عجز عنها أساطين الأمة لأكثر من خمسة عشر قرنا؟
فنرد على ذلك بالقول بأننا لن نحل الإشكالية برمتها ولكننا سنقدم الدليل على إمكانية حلها شريطة قراءة كلام الله على حقيقته وفهم مفرداته وتراكيبه كما يبينها الله في كتابه وليس حسب أهواءنا وميولنا البشرية التي قلما تصيب وغالباً ما تخطي. ولو أمعنا التفكير في مفردات النص القرآني لوجدنا الكثير الكثير الذي ربما غفلنا عنه لوقت طويل.
أولاً، كيف يثبت النص القرآني أن ذي القرنين قد بلغ مغرب الشمس، ونحن نعرف يقيناً أن الشمس لا تغيب في مكان واحد؟ فمغيب الشمس يختلف باختلاف المكان، فهل مغيب الشمس بالنسبة لأهل المشرق هو نفس المغيب لأهل المغرب، والمنطق نفسه ينطبق على مطلع الشمس، فلا شك أن للشمس مطلع يختلف باختلاف المكان الذي يتواجد فيه الإنسان، وهنا جاء دور المفسرين في إدخال الاستعارة والمجاز في التفسير، ولكن تبقى الحقيقة صارخة: إذا كان المغرب أو المشرق يختلف باختلاف المكان، فأي مشرق وأي مغرب بلغه ذو القرنين؟ فلو ظن أهل الشرق الأوسط مثلاً أنه مغربهم أو مطلعهم، لنبرى أهل الصين أو أهل أوروبا ليقولوا أن القرآن لا يخصنا، وإن صح هذا القول فلم يثبت القرآن أن للشمس مغرب ومطلع واحد في هذه الآية في حين أنه يثبت في مكان آخر أن هناك مشارق ومغارب؟
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ الصافات (5)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ المعارج (40)
لا بل ويثبت القرآن الكريم أن للمكان الواحد عدة مشارق (باختلاف أوقات السنة)، فلا شك أن الشمس تشرق من مكان في فصل الصيف يختلف عن مشرقها في الربيع أو الخريف أو الشتاء، لا بل فإن الشمس تشرق في كل يوم في مشرق يختلف عن اليوم الذي يليه أو الذي سبقه كما يراه أهل المكان الواحد، قال تعالى:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
الأعراف (137)
إن الجواب يكمن في فهم الآيات على حقيقتها، نعم للشمس مشارق ومغارب ولكن ذي القرنين بلغ مشرق الشمس وبلغ مغربها، ولكن كيف؟ إن الجواب يكمن في فهم الآيات القرآنية التي تتحدث عن قصة ذي القرنين نفسها، والتي أظن أن الفكر الديني السائد أخفق في فهمها فهماً حقيقاً، وأخص هنا على وجه التحديد عبارة "أتبع سببا" في قوله تعالى:
فَأَتْبَعَ سَبَبًا الكهف (85)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا الكهف (89)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا الكهف (92)
لقد وردت هذه العبارة ثلاث مرات في قصة ذي القرنين، ومما لا شك فيه أنها كانت ترد في بداية انتقاله من مكان إلى آخر، فجاءت في المرة الأولى وكانت النتيجة بلوغه مغرب الشمس، ووردت مرة أخرى فكانت النتيجة وصوله مطلع الشمس، ثم وردت مرة ثالثة فكانت النتيجة أن بلغ بين السدين (والقارىء مدعو للتفكير في التباين بين الألفاظ في كل حاله وسنتعرض لها جميعاً عندما نفرد فصلاً كاملاً لقصة يأجوج ومأجوج)
أما ما يهمنا هنا هو إثبات إمكانية فهم النص على حقيقته، فلقد وردت تلك العبارة لتدل على حركة ذي القرنين من مكان إلى آخر، ولب القول هو كلما كان ذو القرنين بحاجة إلى الانتقال إلى مكان آخر كان عليه أن يتبع سبباً، أليس كذلك؟ فما معنى أن يتبع ذو القرنين سببا؟
لقد وردت هذه المفردة في مواطن أخرى من كناب الله لتدل على طريقة الحركة، فها هو فرعون يطلب من هامان أن يمكنه ليبلغ الأسباب:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) غافر
لا شك أن فرعون طلب من هامان أن يبني له صرحاً أفقيا ليصعد إلى الأعلى لظنه – كما يقول موسى- أن الإله في السموات، إي في الأعلى، فمن كان بحاجة إلى الحركة إلى السماء لا شك هو بحاجة إلى الأسباب، ومن هنا جاء قول الحق:
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ص (10)
فالأسباب (ومفردها سبب) هي الطريق الفضائية بين السماء والأرض، وقد يرد البعض بالقول: هل وردت مفردة "سبب" بصيغة المفرد في القرآن الكريم لتدل على الطريق الفضائية؟ الجواب، نعم، ولنتدبر قوله تعالى:
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ الحج (15)
وبعد هذا، هل هناك قول أوضح من هذا، لذا فإن مراد القول هو أن الحركة بالأسباب (ومفردها سبب) هي حركة خارج نطاق الحركة الأرضية (بين السماء والأرض)، وبذلك فعندما كان ذو القرنين يتبع سببا كان يتنقل بالطرق الفضائية، لذا كانت حركته –كما يبينها القرآن الكريم- غاية في السرعة، فبلغ مغرب الشمس وبلغ مطلع الشمس وبلغ بين السدين وكأن ذلك يحصل بين ليلة وضحاها، ولو لم يكن يتبع سببا لما استطاع القيام بذلك بتلك السرعة والقوة، لذا عندما جاء طلب القوم منه على نحو:
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا الكهف (94)
جاء رده على نحو:
... أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا الكهف (95)
فلماذا لم يجعل ذو القرنين بينهم سداً كما طلبوا؟ لقد جاء الجواب من ذي القرنين واضح:
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ... الكهف (95)
نعم لقد مكن الله ذي القرنين بشيء خير من طلبهم ذلك، فجاءت تكملة الآية الكريمة على نحو:
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
نعم، أن ما فعله ذو القرنين هو الردم، لكن ردم ماذا؟ ردم السبب، أي الطريق الفضائية التي يستطيع من خلالها أن تصل يأجوج ومأجوج إلى الأرض لتفسد فيها، لقد أغلق ذو القرنين بما مكّنه الله فيه الطريق التي بدونها لن تستطيع يأجوج ومأجوج الوصول إلى الأرض، ومن ذلك الوقت ويأجوج ومأجوج يموج بعضهم ببعض لعدم قدرتهم إلى الوصول إلى الأرض (وسنتعرض لتفاصيل القصة في باب يأجوج ومأجوج)
ما يهمنا هنا هو إنّ الفهم أن ذي القرنين كان يتبع سببا (أي يسلك طريقاً فضائية) يمكننا من الفهم الحقيقي للآيات الكريمات وتنتفي بذلك الحاجة إلى دخول عالم المجازات، فالحركة بطريقة " أَتْبَعَ سَبَبًا" يخرجه من نطاق الكرة الأرضية وبالتالي يخرجه من نطاق اختلاف مغارب الشمس ومطالعها، وبالتالي فهو سيصل إلى مغرب واحد للشمس ومطلع واحد للشمس كما ووردت بصريح اللفظ القرآني.

إننا ندعو إلى البحث عن المعاني الحقيقية للمفردات والتراكيب اللغوية كما ترد في كتاب الله بدلاً من التحليق في سماء المجازات والاستعارات حسب الهوى والميل، لذا يجب أن نقرأ المفرد على أنه مفرد، والجمع على انه جمع، والمذكر على أنه مذكر، والمؤنث على أنه مؤنث، ولا يجوز الخلط ، ونحن نفهم أن في حمل الأشياء على بعضها البعض مضيعة للمعاني الحقيقية ليحل محلها أفهام مغلوطة لا تسمن ولا تغني من جوع، وسنقدم الأمثلة على صحة هذا الزعم
المفرد مفرد والجمع جمع
إن تعدية الاسم المفرد ليشمل الجمع أو العكس يحدث الفوضى في معاني كتاب الله، لا بل ويحصل التناقض الذي لا يمكن لأي شخص أن يزعم وجوده في كتاب الله، ولنقدم بعض الأمثلة التي تدعم زعمنا هذا.

الدليل الأول: صيغة المفرد والجمع في الخطاب الرباني
يأتي الخطاب الرباني في كتابه الكريم عن نفسه مرة بصيغة المفرد "أنا" ومشتقاتها، ومرة أخرى بصيغة الجمع "نحن" ومشتقاتها، وسؤالنا الذي نطرحه هنا هو: لماذا؟ أي لماذا يتحدث الله سبحانه جل وعلا عن نفسه بصيغة المفرد تارة وبصيغة الجمع تارة أخرى؟
لقد حمل جل الفكر الإسلامي السائد الخطاب باستخدام صيغة الجمع عند الحديث عن المفرد أنه من باب التعظيم والتقدير، وكأنهم بهذا الفهم يقولون أنه عندما يقول الله عن نفسه "نحن" فيكون ذلك تعظيماً لشأنه، ولكننا نرد عليهم بنفس منطقهم بالسؤال التالي: هل تنتفي عظمة الله عندما يتحدث عن نفسه بصيغة المفرد؟ فهل يعظم الله نفسه تارة ولا يعظمها تارة أخرى؟
إن البلاء في هذا الفهم هو أنهم أخذوا صنيع البشر وطبقوه على خالق البشر، فلقد درج البشر (وخاصة العرب وإن كان يشاركهم في ذلك أمم كثيرة) على أن العظيم منهم كالملك مثلاً يتحدث عن نفسه ويخاطبه الناس بصيغة الجمع، وكان ظنهم أن هذا النوع من الخطاب يمكن أن يطبق على الإله. فنرد عليهم بالقول أن الله عظيم بغض النظر عن صيغة الخطاب، لا بل فإن عظمة الإله تتجلى أكثر بمخاطبته بصيغة المفرد على عكس ما تظنون، وهذا ما سنحاول الدفاع عنه وتبيانه في هذه العجالة.
لعلنا بحاجة إلى التمييز أولا وقبل كل شيء بين أمرين اثنين وهما:
  • خطاب الإله عن نفسه
  • خطاب البشر عن الإله
والحقيقة الصارخة في القرآن الكريم هي أنه عندما يتحدث الإله عن نفسه فإنه يستخدم صيغتي المفرد والجمع كما في المثالين التاليين:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى طه (12)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر (9)
أما عندما يخاطب الإنسان ربه فلا ترد في كتاب الله إلاّ بصيغة المفرد:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ الأنبياء (89)
وهنا يجب أن لا نخلط هذه الصيغة مع صيغة أخرى لا دخل لها بالخطاب كما في قوله تعالى:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
فصيغة الجمع هنا تعود على المتكلم (وهم إبراهيم وإسماعيل في هذه الحالة) وليس على المخاطب وهو رب إبراهيم وإسماعيل.
فلو استعرضنا جميع الآيات القرآنية لوجدنا أن الناس جميعاً يخاطبون الإله بصيغة المفرد، لا بل إنه من باب الشرك بالله أن ترجع الكلام عن الله بصيغة الجمع لأن ذلك يحمل في ثناياه معنى الإشراك، فمن باب أولى مخاطبة الإله بصيغة المفرد، فالإله ليس ملكاً أرضياً ليعظم بصيغة المخاطب الجمع، فهل يتقبل الفكر الإسلامي فكرة مخاطبة الإله على النحو التالي:
ربنا وسعتم كل شيء علما
أو ربنا إنكم
أو انتم وليي
بدلاً من صيغة المفرد كما في قوله تعالى:
... رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ غافر (7)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ آل عمران (9)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يوسف (101)
كما نفعل مع ملوك وعظماء الأرض؟! الجواب: قطعاً لا يمكن أن نقبل ذلك.
ولكن السؤال المشروع الذي نطرحه هنا هو: إذا كان الله لا يقبل منا أن نخاطبه بصيغة الجمع (مثل وسعتم بدل وسعت أو انتم بدل أنت أو إنكم بدل إنك) فلماذا يتحدث هو عن نفسه بصيغة المفرد تارة وبصيغة الجمع تارة أخرى كما في الآيات التالية والتي ذكرناها سابقاً ونعيدها مرة أخرى لتبين الفكرة؟
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى طه (12)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر (9)
إن الجواب الذي نقدمه هنا يتمثل بالتوقف عن استخدام المجاز، وحمل الكلام على معناه الحقيقي فقط، فالإله يعي ما يقول، فعندما يستخدم صيغة المفرد لا شك يقصد غاية تختلف عن تلك التي يعنيها في استخدامه صيغة الجمع، والعكس صحيح، فالمفرد مفرد والجمع جمع، لا أكثر ولا أقل.
فلو أمعنا التفكير في الآيات التي يتحدث الله عن نفسه بصيغة الجمع لوجدناه تختلف اختلافاً جذرياً عن الآيات التي يتحدث الله عن نفسه بصيغة الجمع وسنقدم المثال التالي لتوضيح الفكرة:
فعندما خاطب الله نبيه موسى، جاء الخطاب في كل السياقات القرآنية التي تتحدث عن تلك الواقعة بصيغة المفرد، قال تعالي:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) طه
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ القصص (30)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) الأعراف

فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) النمل

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) النازعات
فلماذا جاء الخطاب من الله عن نفسه بصيغة المفرد؟ إننا إذا حملنا الكلام على معناه الحقيقي دون زيادة ولا نقصان يتبين لنا أن الجواب يتمثل بأن الله نفسه هو من خاطب موسى دونما واسطة، فلم يشترك مع الإله في ذلك الحدث أحد آخر.
ولكن - في المقابل- لندقق النظر بتلك الحادثة التي حصلت مع نبي الله إبراهيم عليه السلام:
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104)
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
دقق – عزيزي القارئ- بضمائر الخطاب التي يستخدمها الله في هذه الحادثة للحديث عن نفسه، أليست هي ضمائر الجمع (وَنَادَيْنَاهُ، نَجْزِي، وَفَدَيْنَاهُ)؟ لماذا؟
الجواب: هل الله نفسه هو من نادى إبراهيم كما نادى موسى؟ هل الله نفسه من جازى إبراهيم لصنيعه ذلك؟ هل الله نفسه من قدم الفداء لإبراهيم؟ الجواب كلا، وألف كلا، لقد أرسل الله لإبراهيم من يناديه، وأرسله بذلك الجزاء ومعه ذلك الفداء.
إننا نرغب القول أن الله إذا تحدث عن فعل فعله بنفسه دونما تدخل أو وساطة من ملائكته فلا يأتي الخطاب إلا بصيغة المفرد، أما إذا كان الفعل قد نفذه الله بأمر منه ولكن بواسطة ملائكته فيأتي الخطاب بصيغة الجمع، وذلك لأن الله صادق فيما يقول ويفعل، فلا يمكن أن يفعل الله شيء بواسطة خلقه ثم ينسبه لنفسه بالكلية، ولا يمكن أن يعمل شيء بمفرده ثم يشرك به الآخرين.
وبهذا الفهم دعنا ندقق النظر في تباين ضمائر المفرد والجمع في الآيات القرآنية التالية، ذلك التباين الذي قلما التفت له الكثيرون، قال تعالى:
وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قَالَ كَلَّا ۖ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ۖ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
ولندقق النظر في التباين الذي حصل في استخدام الضمائر في الآية 15 في قوله تعالىً إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ، فلماذا بعد استخدام ضمير المفرد للحديث جاء الحديث الرباني عن نفسه هنا بصيغة الجمع؟
الجواب: لم يكن الله وحده من يستمع إلى خطاب موسى وهارون مع فرعون.

أو تباين الضمائر في قوله تعالى:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
ودقق –عزيزي القارئ- كيف اختلف الضمير في قوله " وَكَتَبْنَا" إلى صيغة الجمع بعد أن كان الخطاب على صيغة المفرد في قوله اصْطَفَيْتُكَ و آتَيْتُكَ، لماذا؟
الجواب: نعم الله هو نفسه من اصطفى موسى وهو نفسه من آتاه، ولكنه ليس هو نفسه من كتب له في الألواح بدليل قوله "وكتبنا"، فلو كان الله هو نفسه من كتب لموسى في الألواح لجاء الخطاب على صيغة "وكتبت"، ولكن الله قد أوكل المهمة بأمر منه لملائكته، فقاموا هم بكتابة ما في الألواح التي أخذها موسى وقفل عائداً إلى قومه.


الدليل الثاني: الفرق في استخدام كلمة الناس وكلمة الإنسان في النص القرآني
يعلم الجميع أن مفردة الإنسان تدل على المفرد أما مفردة الناس فتدل على الجمع، أليس كذلك؟ ففي ضوء هذه الحقيقة دعنا نقرأ الآيات التالية:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحجر (26)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ المؤمنون (12)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ
(8) السجدة
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ الرحمن (14)
إن الحقيقة الصارخة في كتاب الله هي أنه عندما يأتي الحديث عن الخلق من طين ترد مفردة الإنسان فقط، أما عندما يأتي الحديث عن الخلق عن نسل الإنسان (الناس جميعاً) فترد مفردة الإنسان والناس، لماذا؟
نعم، إن القول أن الإنسان خلق من طين هي عودة على إنسان واحد وهو أدم، أما سلالة آدم من بعدة (الناس جميعاً) فهل خلقوا من طين؟ كلا وألف كلا، وإنما من سلالة من ماء مهين.
فلو كانت مفردة الإنسان تتعدى لتشمل الناس جميعاً، لكان المعنى يحتمل أن الناس جميعاً قد خلقوا من طين، أليس كذلك؟ وإن كان هذا الفهم السائد صحيحاً (على عكس ما نظن ونزعم)، فكيف يمكن التوفيق بين هذا الكلام والحقيقة الصارخة في الفكر الديني الإسلامي أن حواء قد خلقت من نفس آدم؟ فهل خلقت حواء (وجنس النساء) من طين أصلاً؟
وهل حواء (وجنس النساء كلهم) من الناس أصلاً؟ إن هذا السؤال ينقلنا إلى الموضوع التالي وهو فهم المؤنث على أنه مؤنث والمذكر على أنه مذكر وعدم حمل أحدهم مجازاً على الآخر.

المذكر مذكر والمؤنث مؤنث
نحن نعرف أن مفردة الناس تدل على المذكر، ولكن تمت تعدية كلمة الناس لتشمل المذكر والمؤنث (أي الرجال والنساء) في كلامنا، فهل هذه التعدية صحيحة من منظور القرآن الكريم؟
أليست النساء من الناس؟ كلا، النساء حسب النص القرآني ليسوا من الناس، إننا نملك الدليل (كما نظن) من كتاب الله نفسه أنّ مفردة الناس لا تشمل الإناث، بل هي خاصة بالذكور (لا بل بـ فئة خاصة من الذكور). قال تعالى:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ آل عمران (14)
تدبر –عزيزي القارئ – مفردات الآية الكريمة جيداً، فالله سبحانه يقول "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ"، أليس كذلك؟ فمن هم الناس الذين زين لهم حب الشهوات؟ هل هم الذكور والإناث معاً؟ أم هل هم الذكور فقط؟
إن تتمة الآية الكريمة تبين لنا بما لا يدع مجالاً للشك أو التأويل أن المقصود هم الذكور فقط؟ فالله سبحانه يقول:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ...
فكيف إذاً يستقيم المعنى أن تكون المرأة شهوة للمرأة؟ فإذا كانت المرأة من الناس، فهناك مجال من التأويل أن تكون المرأة شهوة للمرأة، (كأن يصبح معنى الآية الكريمة "زين للنساء حب الشهوات من النساء") وهو ما لا يمكن أن يتقبله الفكر الإسلامي، وللخروج من هذا المأزق، نقول أن مفردة الناس لا تشمل الإناث، وعندها لا تكون النساء شهوة للنساء، وإنما النساء شهوة للناس (إي الذكور)، ولكن ذلك لا يشمل-بلا شك- الذكور جميعاً، وإنما الذكور الذين أصبحت النساء شهوة لهم، وهم بالتأكيد من بلغ الحلم، لذا نجد الدقة المتناهية في الآية الكريمة لتبين أن الشهوات للناس تشمل النساء وكذلك البنين، فالأطفال ليسوا كذلك من الناس، فالذكر يصبح من الناس متى بلغ الحلم، لذا نفهم أنّ خطاب التكليف من الله جاء موجهاً دائماً للناس، ونحن نعلم أن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم غير مكلفين وغير معنيين بالخطاب الرباني عندما يأتي موجهاً على صيغة "يا أيها الناس":
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة (21)

المجاز سبب في الفرقة
لقد كان المجاز-كما نظن- سبباً رئيسياً في تفرق الأمة (كل الأمة) وانقسامها إلى فرق وممل متناحرة متصارعة يكفّر بعضها بعضا، وتظن كل فرقة منها أنها هي على الحق المبين، وأما غيرها فليس سوى جزء من حزب الشيطان الذي يجب محاربته في كل وقت وحين، ولا يعتقد أحد أني أتهم بكلامي هذا فرقة بعينها، بل هذا هو ديدن الفرق جميعاً دون استثناء، ولعلي أقدم في عجالة ما حصل من أمر الفرقتين الأكبر في الفكر الإسلامي وهما: أهل السنة والجماعة من جهة وأهل التشيع من جهة أخرى.
لقد كان الانقسام التاريخي بين المسلمين إلى سنة وشيعة مغذىً بالمعاني والتصورات المجازية للنصوص القرآنية والأحاديث الشريفة، ولنقدم المثال التالي لتبسيط الفكرة:
لقد كانت حجة أهل السنة والجماعة في إنكار الإمامة (أحقيّة أهل البيت في الإمامة) تتمثل بعدم وجود دليل صريح في النص القرآني يثبت إلزامية الإيمان بها، فما كان  من علماء الشيعة إلا أن أخذوا مجدهم في قراءة بعض النصوص القرآنية على المجاز ظانين أنها تثبت صدق دعواهم بالإيمان بالإمامة كالإيمان بالوحدانية والرسالة والملائكة والكتب واليوم الآخر، ولكن لم يثن ذلك أهل السنة عن رد دعواهم بالدليل الدامغ لديهم الذي مفاده أن الإيمان بمثل هذا الأمر لا يجوز فيه تأويل مجازي، بل لا بد من وجود دليل صريح من كتاب الله لا لبس فيه حتى يكون حجة لا جدال ولا تأويل فيها، فهم يطالبون بدليل كذاك الذي يرد في قوله تعالى واصفاً أركان الإيمان:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ۚ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)

فهم إذاً يطالبون بنص قرآني يذكر الإمامة بصريح اللفظ القرآني حتى يكون حجة توجب التصديق وعدم فتح الباب على مصراعيه للتأويلات المجازية التي ربما لا تصل بأي حال من الأحوال إلى درجة اليقين، فمراد القول إذاً هو أن أهل السنة والجماعة يرفضون التأويل المجازي في مثل هذا المقام.
نقول الحق ما قال أهل السنة والجماعة، فأنا كذلك أؤمن إيماناً مطلقاً بعدم جواز التأويل المجازي للنص القرآني، ولكن المفارقة العجيبة عند أهل السنة والجماعة أنهم ما أن يفرغوا هم من إقامة تلك الحجة على مناظريهم حتى يكونوا هم أول من ينتهك ذاك المبدأ، ويقوموا هم بالتأويل المجازي الذي كانوا يعتقدوا أنه نقيصة في حجة خصومهم، ولنقدم المثال تلو المثال على هذا الزعم.
لقد كان الحديث عن عذاب القبر مثلاَ من الأمور التي أعيت الفكر الديني الإسلامي، وقد كان إيمان الغالبية العظمى من أهل السنة والجماعة شبه مطلق بوجود عذاب في القبر، ولكن عندما تبادرهم بالسؤال عن الدليل من كتاب الله على وجود عذاب في القبر، تبدأ رحلتهم في قصة تأويل النصوص القرآنية، فلقد لوى الكثيرون منهم أعناق النصوص ليثبتوا حجتهم، ولكن ما إن تبادرهم بالمنطق نفسه قائلاً أنك تريد نصاً يذكر بصريح اللفظ وجود عذاب القبر في كتاب الله كالدليل الذي يطالبون هم فيه في حالة الإمامة، ما يكون من حالهم إلا أن يؤكدوا ضرورة المجاز في فهم النص القرآني، ومراد قولهم أن مثل الآيات التالية هي آيات تثبت وجود عذاب القبر:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ غافر (46)
وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ الأنفال (50)
ولكن السؤال الذي نود طرحه عليهم هو على النحو التالي: لنقر معكم أن هذه آيات تتحدث عن عذاب ولكن أين القبر فيها؟ لم لم يذكر القرآن الكريم بصريح اللفظ أن ذلك يحدث في القبر؟ فما يكون ردهم إلا القول أن ذلك مفهوم ضمنياً، ولا ضير في تأويلها على هذه الشاكلة؟

ولكن عندما تبادرهم بالقول أن ذلك لا يعدو أكثر من تأويل مجازي للنص القرآني، ما يكون منهم إلا أن يغيروا إستراتيجيتهم في أقامة الحجة بالقول: إذا لم تقتنع أن هذه الآيات القرآنية (آية عذاب آل فرعون مثلاً) هي آية تثبت عذاب القبر حسب تأويلهم للنص فإن هناك عشرات بل مئات الأحاديث التي تصدّق دعواهم، وكم نقلوا من أحاديث تبين أن الناس يعذبوا في قبورهم، ولعل الحوار الذي نقل عما جرى بين النبي (صلى الله عليه وعلى آل بيته وصحابته أجمعين أفضل الصلاة وأتم التسليم) وعمر بن الخطاب بعد النصر في بدر، يصور لنا النبي يتحدث مع القتلى من الكفار، ولكن عندما تسأل من ينقل ومن يؤمن بمثل تلك الأحاديث عن آيات في كتاب الله مثل:
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ النمل (80)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ الروم (52)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
فاطر (22)
ما يكون منهم إلا أن ينهالوا عليك بعشرات التفسيرات المجازية لمثل هذه النصوص القرآنية.
وهذا بالضبط ما يفعله علماء الشيعة في إثبات دعواهم بوجوب الإيمان بالإمامة، فهم يقدموا لمن لا يصدق تأويلاتهم المجازية للنصوص القرآنية الدليل على وجوب الإيمان بالإمامة في الأحاديث الشريفة الموجودة في أرشيفهم الذي لا يمكن أن ينضب عن أهل البيت عليهم وعلى صحابة رسول الله جميعاً أفضل الصلاة وأتم السلام.
ولكن عندما نزعم ثانية أن تلك الأحاديث تخلو من صريح اللفظ بوجوب الإيمان بالإمامة يعودوا إلى سيرتهم في رحلة المجاز التي ركبوها قروناً طويلة من الزمن، والتي أصبحت جزءاً من تفكيرهم وعقيدتهم، وعندما تبادرهم بالسؤال التالي: إذا كان لأهل البيت الحق في الإمامة كما يصوره فهمهم للآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، فكيف يرضى علي (وهو الأحق بها) بمبدأ الاحتكام؟ فهل يجوز لعلي أن يرضى بحكم الناس في شيء قضى الله ورسوله فيه الأمر؟ ألم يقرأ علي إذا قول الله تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا الأحزاب (36)
ألم يقضى الله ورسوله –حسب زعمهم- أمر الإمامة؟ أليست هي حق من حقوق أهل البيت حسب فهمهم المجازي لبعض النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة؟ وهنا ينهالوا عليك بعشرات التفسيرات والتأويلات المجازية لموقف علي في قبول تحكيم الناس بالخلاف الذي وقع مع بني أمية.  
وهذا بالضبط ما يفعله أهل السنة والجماعة، فعندما تقدم لهم الحجة أن ليس بين مئات الأحاديث المرويّة عن عذاب القبر حديثاً واحداً صحيحاً، وأن جميعها أحاديث آحاد لا يمكن أن يبنى عليها عقيدة، فما يكون منهم إلا أن يتهموك بأنك قرآنيا منكراً للأحاديث خارجاً عن أهل السنة والجماعة، لكننا نرد عليهم بالقول البسيط: لا تتلاعبوا بعقولنا، عليكم الالتزام بمنهجيتكم، فلا يجوز أن تُحِلوا لأنفسكم ما تحرموه على غيركم، لقد كان الأولى بالجميع أن يبين منهجيته، وأن لا يكون هو أول من ينتهكها، فكم يا ترى قرأ السلفيون على مسمعنا "أن كل بدعة ضلالة"، ولكن هل توقف أحد (حتى وإن كان على درجة من الغباء مثلي) ليسأل مثلاً: هل اصطف أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام خلفه في أي رمضان في صلاة التراويح في المدينة المنورة أو في مكة المكرمة وختم لهم القرآن في اليوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين؟ أم أن هذه من باب بدعتهم الحسنة؟ ربما لأن بدعة غيرهم كلها شر أما بدعتهم هم ففيها وجهة نظر.
أقسم بالله الواحد الأحد أني لا أقول هذا الكلام لكي أسيء لأحد أو لأنتصر لأحد، ولكن الهدف الذي لا أخلط فيه شيئاً آخر هو أن يكون المسلم على بينة من أمره، وأن لا يُرمى في سيل من المتناقضات التي تترك الحليم حيران. فليس الصراخ ولا ارتفاع الصوت هو ما يحق الحق، وإنما يقع الحق بالحجة والبرهان وتقبل الأمر الصحيح سواء كان لجانبك أو أنه جانبك في أي وقت وحين.
فلو أغلق أهل السنة والجماعة مثلاً باب التأويل من أساسه وحرموه على أنفسهم لكانت حجتهم على غيرهم دامغة، ولكن لما جوزوه لأنفسهم، لم (ولن) يستطيعوا أن يغلقوا بابه الذي فتحه غيرهم على مصراعيه وأصبح من المتعذر صد ولو جزء بسيط من الخرافات التي تدخل منه.


وللحديث بقية