هل هي معجزات أم آيات بينات؟




الطريقة العلمية في الوصول إلى الحقيقة

المنهج العلمي الجديد
نستنتج من السرد الذي قدمناه في مقالتنا السابقة تحت عنوان النظرية العلمية العالمية الإسلامية لكشف أسرار الكون في فصليها الأول و الثاني أنّ هناك ثلاث طرق متاحة لتحقيق المراد، وبالتالي معرفة سر الكون بأسره أو حتى مكنونات الأشياء بجزئياتها:
1- استخدام السلطان "المادة" دون الإيمان بحكمتها- كحالة فرعون.
2- استخدام الفطرة أو السلطان مع الإيمان بوجود الحكمة فيها – كحالة موسى عليه السلام، فأن تعذرت.
3- معرفة "الحكمة" التي بها نسترشد إلى العلاقة الحقيقية بين الكلمة "الاسم" و "المسمى" كحالة آدم قبل الخروج من الجنة وحالة عيسى عليه السلام.


ونستطيع اختصار هذه الطرق الثلاث إلى طريقتين رئيستين:
1- الطريقة المادية: وهي التوصل إلى المعرفة باستخدام السلطان "أي الوسيلة"، كاستخدام الحيوانات في التنقل إلى عصر المركبات إلى ما قد يفضي إليه الفكر البشري في المستقبل.
2- الطريقة الإيمانية: وهي التوصل إلى المعرفة "معرفة سر الأشياء ومكنوناتها ومن ثم تسخيرها لخدمة الإنسان" باستخدام "الحكمة" أو"الفطرة" أو السلطان إنْ تأتى ذلك لنا.
فإذا كان العالم المادي لا يؤمن إلا بالطريقة الأولى في التوصل إلى المعرفة، فأنّنا نحن المسلمين مدعوون أنْ نتخذ منهجاً جديداً في البحث العلمي مستوحى من قرآننا الذي نؤمن إيماناً مطلقا بصدق كل صوت فيه، وأنْ نرفض تلك الأكذوبة الكبيرة التي جرّنا إليها الفكر المادي الإلحادي الغربي منبهرين ببعض النجاحات التي حققها. ولكنّا نؤمن إيماننا بصدق قرآننا أنّنا إنْ اتبعنا الطريقة الإيمانية في التوصل إلى المعرفة فإنّنا سنحقق أضعاف أضعاف ما حققه الفكر المادي في الكم والنوع، مستندين إلى الطريقة الثانية التي ستكون بلا شك أنجع وأقوى، وعندها سنكون متبوعين لا تابعين، وعندها فقط نستطيع أنْ نجاري العالم الغربي المادي لا بل والتفوق عليه حتى وإنْ كان ذلك بعد حين، فنحن ندرك التفوق المادي الغربي الذي لا نستطيع اللحاق به إنْ سلكنا مسلكه، فنحن لا نزال لا نملك حتى البنية التحتية لذاك المنهج وتلك الطريقة (أي "لعلمهم" إن صح القول)، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد اختصنا بفكر أرقى من الفكر الغربي، فلماذا لا نسلكه ونكون إذاً أصحاب منهج وطريقة جديدة في البحث العلمي؟ ولعلي أجزم أنّ استخدامنا لهذا المنهج سيكون سبباً في تحقيق قوله تعالى:
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ الأنفال 59
إنّ ورود هذه الآية الكريمة في سورة الأنفال على وجه التحديد، ثم ورود قوله تعالى الأمر بالعدة بعدها على نحو:
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَاتُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60)
له دلالاته التي قد لا تخفى على الكثيرين.
ولتسليط الضوء على بعض تلك الدلالات، نقول أولاً أنّ الله سبحانه أمرنا بقوله "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ"، فالسؤال المشروع الذي ربما يحق لنا طرحه هنا هو: أليس رباط الخيل جزءً من القوة؟ فلِمِ إذاً تذكر القوة ومن بعدها رباط الخيل؟ أليس في ذلك تكرار غير مرغوب؟ رأينا: كلا وألف كلا، إنّنا نزعم أن هناك فرقاً شاسعاً بين القوة من جهة ورباط الخيل من جهة أخرى، ظانين من عند أنفسنا أنّ رباط الخيل ليس جزءا من القوة التي تتحدث عنها الآية الكريمة، ولكن كيف؟
لو تدبرنا الآية الكريمة جيداً لوجدنا أن الله سبحانه قد أمرنا بإعداد شيئين اثنين:
1. القوة وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ
2. رباط الخيل وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ
فما الفرق بين القوة ورباط الخيل إذاً؟
جواب: نحن نظن أنّ رباط الخيل هي القوة المادية التي قد يعدها المؤمن والكافر على حد سواء في ساحة المعركة (فهي نتاج العلم المادي)، ولكن ما هي القوة المطلوب من المؤمن إعدادها (وحتى قبل) إعداد رباط الخيل بدليل أنّها ذكرت في البداية وقبل رباط الخيل في الآية نفسها؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن القوة المطلوب منا إعدادها لها علاقة بما في الكتاب. ولكن كيف؟
جواب: لنتدبر آيات أخرى في كتاب الله لتساعدنا في فهم الآيات السابقة، قال تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة 63
فما الذي آتنا إياه ربنا وطلب منا أنّ نأخذه؟ وكيف سنأخذه بقوة (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ)؟ فهل يحتاج ذلك إلى قوة مادية؟ وكيف سنذكر ما فيه (وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ
جواب: إنه الذي جاءنا من ربنا، أليس كذلك؟ قال تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ البقرة 93
تعيد هذه الآية الكريمة الفكرة نفسها بأنْ نأخذ ما جاءنا من ربنا بقوة (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) وتضيف الآية نفسها أنّنا بحاجة أنْ نسمع ذلك (وَاسْمَعُواْ)، فما هو الذي سنأخذه بقوة إذن؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نظن أنه قول (كلام) ولا شك، وربما يثبت ظننا هذا ما جاء في قوله تعالى:
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ الأعراف 145
فهذا يعني بما لا يدع مجالاً للتأويل – عندنا- أنّ الله قد طلب من موسى أنْ يأخذ شيئاً مكتوباً (ما في الألواح) بقوة ويأمر قومه بالأخذ بها (لا بل بِأَحْسَنِهَا).
السؤال: هل يحتاج أخذ شيء مكتوب إلى قوة جسدية؟
رأينا: لا أظن ذلك، فما هي القوة الجسدية التي يمكن أن يتمتع بها الطفل أو الصبي حتى يأمره الله أنْ يأخذ بها الكتاب كما في حالة يحيى مثلاً؟ قال تعالى:
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا مريم 12
فهل يملك طفل مثل يحيى قوة بدنية حتى يأخذ بها ما آتاه ربه إياه (أي الكتاب)؟ وهل يحتاج أخذ الكتاب (أو ما فيه) إلى قوة بدنية أصلاً؟
جواب: كلا، إنما المطلوب – حسب ظننا- هو التمسك بقوة بما في الكتاب، ولا أظن أنّ الكتاب يحتوي أكثر من قول ربه (أي كلام)، لنخلص من خلال هذا النقاش إلى تقديم الافتراء التالي الذي هو بلا شك من عند أنفسنا: إن القوة التي طلب الله منا أنْ نعدّها موجودة في الكتاب، وهذا قد يفسر قوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ البقرة 165
فالناس (وخصوصاً غير المؤمنين) وإنْ امتلكوا رباط الخيل قد لا يمتلكوا القوة (أي ما في الكتاب)، لأنّ القوة لا تأتي إلاّ من الله وحده (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً)، ولا أخال أنّ الله يحتاج لينفّذ أمره إلى أكثر من "كن فيكون" (أي الكلام)، وما أذن الله لنا به من القوة موجودة – برأينا- في كتاب.
افتراء من عند أنفسنا: نحن نفتري الظن أن ما هو مطلوب منّا أنْ نبحث عنه من "قوة" التي أمرنا الله بإعدادها موجود في كتاب الله، كما أننا نؤمن أن القوة هي تحصيل الأمور "بكن فيكون" مادام أنها مشتقة من قوة الله نفسه (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً).
ولعل في هذا تأكيد أنّ جليس سليمان مثلاً كان يملك شيئاً من القوة (أي كن فيكون) لأنّه كان يملك "علماً من الكتاب"، فاستطاع بذلك تحصيل عرش بلقيس قبل أنْ يرتد لسليمان طرفه:
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ النمل (40)
وطلب الله من يحيى أنّ يأخذ الكتاب بقوة، فكانت النتيجة "وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّافنتيجة الأخذ بكتاب الله بقوة حصول الحكم، فهذا يعني – بمنطقنا المفترى- أننا إنْ أخذنا كتاب الله "بقوة" تحصل لنا "الحكم"، وهنا لا بد أنْ نفهم المقصود "بالحكم" الذي تكرر ذكره في كتاب الله. فما هو الحكم؟
نحن نعلم أن الله سبحانه يدعو يحيى عليه السلام أنْ يأخذ الكتاب بقوة:
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا مريم 12
وربما نعلم في الوقت نفسه أنّ يحيى لم ينزَّل عليه كتاباً خاصاً به من ربه، فما هو إذاً الكتاب الذي طلب الله من يحيى أنْ يأخذه بقوة؟
جواب: لا شك أنَ كتاب عيسى بن مريم لم يكن بعد قد اكتمل، فولادة يحيى بن زكريا تزامنت مع ولادة عيسى بن مريم[1]، ولم يكن أهل الكتاب في ذلك الوقت (وخصوصاً الأحبار منهم) يتدارسون - في ظننا- سوى كتاب الله الذي أنزل على موسى:
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ المائدة 44
فيحيى بن زكريا تحصل له الحكم صبياً، وقد كان مأموراً منذ ولادته أن يأخذ الكتاب بقوة، وآتاه الله الحكم صبيا، فكيف حصل له ذلك؟
رأينا: لقد وجد يحيى كتاب موسى حاضرا، فما كان طلب الله منه – في ظننا- سوى الأخذ بذلك الكتاب بقوة (أي الالتزام بما فيه)، والحالة كذلك أصبح ذلك الغلام من النبيين الذين يحكمون به لما فيه من الهدى والنور "إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ"، وبالتالي لم يكن متبعاً للهوى والظن:
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ المائدة 49
نتيجة: من تمسك بالكتاب بقوة (كما فعل يحيى بن زكريا) كان أبعد ما يكون عن الهوى الذي يطلبه من لا يرضى بحكم الله.
وأظن أن المفيد التذكير أنّ لفظ "القوة" تطلق في لغتنا الدارجة على الكبير والصغير والذكر والأنثى، فنقول هذا الطفل قوي وتلك الفتاة قوية حتى وإنْ كانوا ضعيفي البنية الجسدية، فالإنسان يمتلك شيئاً من القوة إنْ هو أظهر التزامه وتمسكه بكلامه وبمبدئه، وكذلك كان يحيى بن زكريا، فقط أظهر القوة صغيرا فتحدى طاغية زمانه وإنْ كان ذلك ربما كلفه حياته الدنيوية (كما تشير قصص بني إسرائيل عن نهاية هذا النبي الكريم)[2].
وربما ندرك جميعاً أنّ مجرد نزول كتاب الله أدى بالناس إلى الفرقة فاختلفوا فيه، ولكن القلة القليلة استطاعوا – بهدي من الله وتوفيقه- تبيان الاختلاف وهم الذين أُتوا الحكم:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ البقرة 213
ولعل هذا يفسر لنا ترادف ألفاظ الكتاب والحكم والنبوة مجتمعة أو متفرقة في آيات عديدة في القرآن الكريم:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ آل عمران 79
السؤال: فما الفرق بين الكتاب والحكم والنبوة؟
افتراء من عند أنفسنا: نحن نظن أن الكتاب هو النص المكتوب من الله، والحكم هو الالتزام فيه لفهم ما اُختلف فيه، والنبوة هي توكيل مهمة تبليغه للناس. ولهذا جاءت دعوة إبراهيم في البداية:
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ الشعراء 83
وقال في حالة لوط:
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ الأنبياء 74
وقال في حالة يوسف:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يوسف 22
وقال في حالة موسى قبل التكليف بالنبوة:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ القصص 14
وقال في حالة داوود وسليمان:
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ الأنبياء 79
والمراقب لهذه الآيات الكريمات يجد أنّ حصول الحكم تبعه الابتلاء من الله، فإبراهيم دعا ربه أنْ يؤتيه الحكم، فتحصل له ذلك ولكن الله ابتلاه، قال تعالى:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) الصافات 102-106
وحصل الحكم لداوود، ولكن تبعته الفتنه:
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) ص 21-26
وحصل الحكم لسليمان كذلك، فكانت الفتنة:
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) ص 30-34
وكانت الفتنة من نصيب يوسف كذلك مباشرة بعد الحكم:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف 22-24
ووقع موسى في الفتنة بسبب الشيطان فدعا ربه مباشرة فغفر له ربه ذنبه:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) القصص 14-16
وكاد لوطاً أن يقع في الفتنة، فكانت منّة الله عليه بالنجاة:
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) الأنبياء 74-75
ولعلي أجزم أنّ لوطاً كاد أنْ يقع في فتنة أخرى بعد النجاة لولا أنْ تداركته رحمة ربه وذلك بدليل قوله تعالى بعد آية النجاة "وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ"[3]. فعندما يوشك الإنسان الصالح على الوقوع في المعصية تتدخل إرادة الله له بالنجاة وتتدخل إرادة الشيطان له بالوقوع في المعصية، والقرآن يصور هذا المعنى بدقة متناهية، فعندما وقع موسى في الفتنة قال مباشرة "قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ" ولكن عندما نفذت إرادة الله ليوسف بالنجاة، جاء في كتاب الله "كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ"، والقارئ مدعو لمقارنة ما تحصل لهؤلاء الأنبياء بعد الحكم:
لوط: وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
يوسف: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
داوود: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
سليمان: وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
موسى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
ولعل هذا يذكرنا كذلك بأيوب عليه السلام، فما أصاب أيوب كان (كما في حالة موسى) من الشيطان:
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ص 41
ولكنه عندما توجه إلى ربه بالنجاة قائلاً:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ص 83
فوجد ربه قريبا سميع الدعاء:
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ص 84
وهكذا كانت سيرة الأنبياء جميعاً، فعندما يذكر في القرآن دخول الإنسان (وحتى الأنبياء) في رحمة الله، فهذا يعني بالضرورة منازعة الشيطان والتغلب على إرادته، ولنقرأ الآيات التالية من سورة الأنبياء:
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) الأنبياء 85-90
إنً النتيجة التي نخلص إليها من النقاش السابق أنّ لفظة "حكماً" التي وردت في كتاب الله ربما تعنى "الحالة أو الموقف الذي يتطلب معه أنْ يحسم الإنسان أمره إلى أي الفريقين ينتمي، فلقد حسم يحيى أمره وهو صبيا، وحسم يوسف وموسى أمرهم عندما بلغوا أشدهم، ودعا إبراهيم ربه أن يؤتيه الحكم فحسم أمره وتلّ ابنه للجبين، وحسم لوطاً أمره فنجاه الله من القرية التي كانت تعمل الخبائث (وربما أدخله الله في رحمته بعد بلاء أكبر من ذلك)، ومن السرد السابق تتضح الصور التالية:
1. أنْ يحسم الإنسان أمره دونما تردد ولا تلكؤ (كحالة يحيى عليه السلام)
2. أنْ يحسم الإنسان أمره بشيء من الخوف وقليل من التردد (كحالة إبراهيم ويوسف عليهم السلام)
3. أنْ يوشك الإنسان أنْ يقع في الفتنة دون علم ولا دراية فيعود فورا (كحالة داود عليه السلام)
4. أنْ يقع الإنسان في الفتنة دون قصد أو دراية فيعود فوراً (كحالة سليمان وموسى عليهم السلام)
5. أنْ يحسم الإنسان أمره بعد الوقوع في الفتنة حتى وإنْ كان على دراية (كحالة آدم عليه السلام)
ولكننا نجد أنَ رحمة الله شملتهم جميعاً بمجرد العودة والاستغفار وعدم الإصرار على الذنب، فمن لم تأخذه العزة بالإثم ورجع إلى ربه صادقاً، وجد الله تواباً رحيما.
دعاء: اللهم إننا نستغفرك مهما كان ذنبنا

ولكن يبقى السؤال قائماً: كيف يتأتى "الحكم" للناس أجمعين؟ لقد أفردنا سابقاً الحديث عن هذا السؤال وتبين لنا أنّ هناك طريقتين اثنتين وهما:
1- الطريقة المادية: وهي التوصل إلى المعرفة باستخدام السلطان "أي الوسيلة"، كاستخدام الحيوانات في التنقل إلى عصر المركبات إلى ما قد يفضي إليه الفكر البشري في المستقبل.
2- الطريقة الإيمانية: وهي التوصل إلى المعرفة "معرفة سر الأشياء ومكنوناتها ومن ثم تسخيرها لخدمة الإنسان" باستخدام "الحكمة" أو"الفطرة" أو السلطان إنْ تأتى ذلك لنا.
ففي حين أنّ الرسل جميعاً قد اتبعوا الطريقة الإيمانية حتى تحقق لهم مرادهم، ذهب معظم الناس إلى الثقة بالطريقة المادية، وتجلى الفكر البشري في نجاحات محدودة في هذا المجال، وأصبح من قبيل المسلمات أنها الوسيلة الوحيدة لتحصيل المعرفة، وغفل الكثيرون عن الطريقة الأخرى حتى ذهب أكثرهم ثقة بها أنّ تلك لا تعدو أكثر من معجزات ذهب زمنها وولى، وقبل الخوض في إثبات فاعلية الطريقة الإيمانية ربما ينبري البعض ليتساءل: وهل لهاتين الطريقتين دليل في الفكر الإسلامي المتمثل في مصادر التشريع الإسلامي: القرآن الكريم والسنة المطهرة؟ وهل الطريقتان توصلان إلى الحقيقة؟ وهل يجب أنْ نسلك إحداهما على حساب الأخرى؟
نقول أولاً أنّ الطريقتين – برأينا- مثبتتان في القرآن الكريم، ويمكن للطريقتين – في ظننا- أنْ توصلا إلى الهدف المرجو "وهو التوصل إلى الحقيقة" مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ القرآن الكريم يثبت بما لا يدع مجالاً للشك – عندنا- أنّ الطريقة الثانية (طريقة أصحاب الفكر الإيماني) أكثر فاعلية وأقوى من الأولى، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أنْ نترك نحن المسلمين الطريقة الأولى في البحث عن الحقيقة شريطة أنْ نضعها في قالب إيماني، فنستفيد حينئذ من الطريقتين، نبحث عن "السلطان"، ولكن لا نترك الإيمان "بالحكمة" و الفطرة اللتين لا يتقبلهما الفكر المادي الغربي. ولتوضيح هاتين الطريقتين نورد أولاً الدليل عليهما من القرآن الكريم، قال تعالى في معرض الحديث عن سليمان وبلقيس:
قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) النمل 38-40
تثبت هذه الآيات بما لا يدعو مجالاً للشك توافر طريقتان لسليمان عليه السلام للحصول على عرش بلقيس، أولهما إحضار العرش باستخدام السلطان (العفريت) وهي طريقة سريعة جداً (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ) حتى العلم الحديث بأدواته المختلفة لم يصل إلى هذه المرحلة بعد، وهو في سعيه قد لا يحلم بالوصول إلى السرعة الأقصى الممكنة في خياله العلمي وهي سرعة الضوء، ولكن الآيات الكريمات تثبت أنّ هناك طريقة أسرع وأنجح من الطريقة الأولى ألا وهي "أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ". والجميل في التعبير القرآني – كما نفهمه- أنّ هذه الطريقة الثانية (أي الإيمانية) لا يملكها إلا من "عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ"، ولا شك أن الذي عنده علم الكتاب لا يستخدم إلا الكلمة (فما في الكتاب –كما نعلم- إلاّ اللغة) وهي "كن فيكون". وجاءت الآيات القرآنية في غاية الروعة في تلازم الحكمة بمن عنده علم الكتاب، وهو بالضبط ما ذكر عند الحديث عن عيسى عليه السلام أو عند الحديث عن داوود عليه السلام، قال تعالى عن عيسى عليه السلام:
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ آل عمران 48
"... وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ..." المائدة 110
فهو إذن يبرئ الأكمة والأبرص والأعمى ويحيى الموتى لامتلاكه علماً من الكتاب والحكمة الملازمة لذلك العلم، وقال تعالى في معرض الحديث عن داوود عليه السلام:
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ص 20
وهو بذلك يستطيع التعامل مع الجبال والطير:
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19) ص 18-19
وخلاصة القول أنّه لو لم يحصل عيسى على الحكمة من ذلك الكتاب ولو لم يحصل داوود على الحكمة من ذلك الكتاب لما استطاعوا – برأينا- الحصول على ما يريدوا بالكلمة "كن فيكون"، ولما استطاعوا في البدء التعامل مع هذه المخلوقات وتسخيرها لخدمتهم، فبالحكمة عرف عيسى عليه السلام كيف يتعامل مع الأمراض وحتى الموت، وبالحكمة عرف داوود كيف يتعامل مع الجبال والطير، وبالحكمة استطاع سليمان أنْ يخاطب الطير والنمل، فكان يعرف "منطق" تلك المخلوقات وبالتالي الاستفادة القصوى منه:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ النمل 16
والمدلول التربوي الذي نسعى للتأطير له هنا هو إذا كان الخيال العلمي الغربي يسعى للوصول إلى الحصول على المراد بــ " قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ"، فلِمَ لا يكون خيالنا العلمي يسعى للوصول إليه بـ "قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ"؟ وهنا ملحوظ نظن أنه غاية في الدقة تصوره الآيات التي تتحدث عن داوود عليه السلام، فلقد ذكرنا سابقاً أنْ عكس الحكمة هو "الهوى"، فعندما اتبع الناس الهوى أضاعوا الحكمة، وبالتالي لم يعودوا قادرين على التعامل مع هذه المخلوقات، فلو لم يخسر آدم عليه السلام تلك الحكمة، لعاش الإنسان على الأرض كما كانت حياته في الجنة عيشة رغداً يحصل على كل ما يريد بـ "كن فيكون"، قال تعالى:
"... وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا..." البقرة 35
ولكن بعد أنْ أُدخل "الهوى" على تلك الحكمة، لم يعد آدم يصلح للعيش في الجنة، وذلك لأنّ الجنة هي مكان الحكمة الخالصة التي يتأتي كل ما فيها بـ "كن فيكون"، ولذا نجد مثلاً أنّ الآيات الكريمات التي تتحدث عن داوود كانت غاية في الروعة والدقة حيث جاء فيها:
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ص 26
فالحكمة هي طريق الله سبحانه وتعالى، والهوى هي طريق النفس الإنسانية الأمّارة بالسوء وطريق الشيطان الدال على السوء.

ونعود مع القارئ إلى السؤال الأكبر والأهم: وهل نستطيع نحن البشر أنْ نحصل على تلك الحكمة ليتحقق لنا ما نريد بالكلمة "كن فيكون"؟ أليست تلك "معجزات" أجراها الله سبحانه على أيدي الأنبياء؟ وهل نستطيع نحن البشر أنْ نرقى إلى درجة الحصول على العلم المكنوز في ذلك الكتاب؟ فهل يصح أنْ يتأتي ذلك للناس العاديين؟
جواب: نعم. قد نستطيع الحصول ولو على الجزء المسير لحياتنا الدنيا، فيجب أنْ ندرك أنّنا لن نستطيع الحصول على كل المعرفة المكنوزة في ذلك الكتاب وإلا لكنّا إذاً آلهة، ولكنّا قد نحصل على بعض تلك المعرفة ويكفي أنْ نحصل على المعرفة التي نحتاجها في حياتنا الدنيا، فالقرآن الكريم يثبت في أكثر من موضع أنّ الله خلق كل ما في الأرض وسخرها لخدمة الإنسان:
" هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ..." البقرة 29
ولكن المعرفة المكنوزة في ذلك الكتاب هي أكبر من كل ما يمكن للإنسان أنْ يتخيله، فهي علم الله وحده. فنحن لا يمكن أنْ نملك علم الكتاب كله ولكننا نستطيع أن نملك جزءاً منه. وقد يستغرب القارئ من القول أنّنا قد نستطيع نحن بنو البشر الحصول ولو على جزء يسير من تلك المعرفة، وقد ينعت البعض هذا الكلام بالتحريف أو الزندقة، ولكنّا نقول بإيمان راسخ أنّ ذلك ممكن لما قد ثبت منه في القرآن الكريم. ولنقرأ بعض الآيات القرآنية لنثبت أمرين اثنين:
1. أننا مؤهلون للحصول على الحكمة
2. وأننا لن نحصل على علم الكتاب كله

الناس مؤهلون للحصول على الحكمة
ربما لا نجد كثير عناء أن نجد أمثلة وافرة في كتاب الله كيف اختص الله سبحانه وتعالى بعض عباده بشيء من تلك الحكمة التي استطاعوا بها تجاوز حتى ما كان للأنبياء أنفسهم، كلم خطير، أليس كذلك؟ نعم إننا نقول أنّ الإنسان العادي قد يتحصل له من العلم ما لم يكن للأنبياء أنفسهم، ونستعرض من القرآن الكريم ثلاثة أمثلة على ذلك:
أ‌- لقمان: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ... لقمان 12
ب- صاحب موسى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا الكهف 65
ج- جليس سليمان: قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ النمل 40
فإذا كان القرآن الكريم يثبت الحكمة لبعض أولياء الله الصالحين، فإن ذلك – بمنطقنا المفترى- قد يحصل للآخرين من البشر، فلا يمكن أنْ يكون ذلك حكراً على أولئك الأشخاص بالذات دون غيرهم، بل نقول ما دام أنه حصل أنْ أصبح شخص مؤهل لتلك الحكمة، فلا ضير إذاً أنْ يتأهل أشخاص آخرون كذلك لحكمة يودعوها الله إياهم، وقد ذكر الله سبحانه في كتابه أنّ ذلك العلم هو نور الله، وإليه يهدي من يشاء من خلقه إذا ما أصبح ذلك الشخص مؤهلاً لأنْ يودع تلك الحكمة، والقرآن الكريم يسرد الشرط اللازم توافره في منْ قد يودع تلك الحكمة ويهتدي بالتالي إلى نور الله تعالى:
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيات مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46). النور 35-46
فالآيات الكريمات تثبت عدة أمور لها علاقة مباشرة بفحوى الموضوع:
أولا:ً أنّ ذلك العلم لا يتأتي إلا لفئة محدودة من الناس، وهم الملازمون لبيوت الله، الذين لا تأخذهم الدنيا بزينتها من الأموال والتجارة، الخ. أي هم أصحاب الفكر الإيماني وذلك مصداقاً لقوله تعالى:
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ الأعراف (146)
ثانياً: أنّ ذلك العلم لا يتأتي إلا لأصحاب الفكر الذي يؤمن بتلازم العلم المادي والعلم الإيماني الاعتقادي ورفض الفصل بينهما، فالآيات الكريمات تسرد عدة أمثلة على العلوم التي تشغل عقول العلماء كظاهرة المطر وخلق الإنسان وكذلك لغة الطير وحركة السموات والأرض.
ثالثاً: والملحوظ الجميل الآخر الذي تثبته هذه الآيات والذي نحاول إتيانه منذ بداية هذا البحث هو إمكانية توافر العلم "بالحكمة" أي بطريقة يصعب على الدليل المادي "طريقة البحث المادي" تفسيرها، وذلك في قوله تعالى "يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ"، فالسؤال هو كيف يمكن للعقل المسير بالدليل المادي أنْ يقتنع بأنّ الضوء قد يتأتى دون الوقود المشغل له؟ ولكن العقل الإيماني الاعتقادي يستطيع أنْ يدرك ذلك بيسر وسهوله، فهو يؤمن بأنّ الخالق الذي وضع بالنار خاصية الإضاءة يستطيع أنْ يضع تلك الخاصية في أي شيء.
وجل ما نود الوصول إليه هو إذا كان العلم المادي الغربي قد توصل إلى الإضاءة (الكهرباء مثلاً) باستخدام النار "الوقود" المشغل لها بعد طول عناء وجهد، فلِمَ لا نسعى نحن أصحاب الفكر الإيماني الاعتقادي إلى البحث عن الإضاءة دون استخدام الوقود المشغل لها؟ ويتسرع القارئ بالقول وهل هذا ممكن؟ والجواب الذي نورده هو: ولِمَ لا؟ إننا نفترض أننا قد نحصل عليه غداً أو قد لا نزال عشرات السنوات الضوئية بعدين عن ذلك، ولكن من حيث المبدأ لِمَ لا نؤمن بدايةً أنّ ذلك ممكن؟ أليس ذلك ما تثبته الآية القرآنية؟ إننا كمؤمنين يجب أنْ لا ننفى إمكانية ذلك ما دام أنه مثبت في عقيدتنا المستمدة من كتابنا (أي قرآننا) وعندها نعطل عقولنا وعقول الناس جميعاً حتى عن فرصة التفكير فيه، ونكون بذلك مثل الإنسان الذي كان يعيش في الكهوف قبل آلاف السنين ثم تحدثه عن اختراعات القرن الحادي والعشرين، كأن تقول له مثلاً أنك سوف تستطيع أنْ ترى ما يجري في الصين أو أنْ تخاطب من في الصين وأنت في هذا الكهف، فهل كان ذلك الرجل سيصدق أنّ ذلك ممكن على الإطلاق؟ وهل كان سيصدق أنّه سيكون هناك اختراعاً اسمه "التلفزيون" أو "التلفون الخلوي" مثلاً؟ فنحن في يومنا هذا من العلم الجديد الذي نسعى إليه كذلك الرجل الذي كان يعيش قبل آلاف السنين بالنسبة لاختراعات القرن العشرين، إنْ لم نكن أبعد من ذلك. ولكن ما نود أنْ نؤكده أنّه يجب أنْ نكون نحن المبادرين والسبّاقين إلى هذا العلم قبل أنْ يسبقنا إليه غيرنا ثم ننبري لنقول عندئذ أنّ ذلك مثبت في قرآننا.
والأمر الآخر أنّنا درجنا (وأقصد الغالبية العظمى من المسلمين) الحديث عن هذه الأمور على أنّها "معجزات" أي أمور خارقة للعادة، فذهب الخاصة من علماء المسلمين – علماء الشريعة وعلماء المادة – إلى اتخاذ موقف من هذه الأمور مفاده كما لخصه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أنّها أمور لا يمكن القياس عليها. وهنا نستميح ابن خلدون ومن ظن ظنه العذر أنْ نخالفه الرأي، فنقول:
أولاً: لم يرد في أي موضع في القرآن الكريم أنْ هذه الأمور تسمى معجزات، فلا ندري من أين جاءت هذه التسمية. ونحن نتحدى أي شخص أن يقدم الدليل من كتاب الله على أنها معجزات لا يمكن القياس عليها، فليس هناك –على ما نظن ونؤمن- سوى معجزة واحدة ورد ذكرها في كتاب الله، إلا وهي ما جاء في قوله تعالى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا الإسراء (88)
نعم، ذلك هو الشيء الذي نؤمن باستحالة تحقيقه، ولكننا ندعو كل مؤمن إلى التفكير بسؤال واحد وهو: لماذا تحدى الله الإنس والجن على حد سواء الإتيان بمثل هذا الكتاب؟ هل فعلاً لأنّ ذلك كلام فصيح لا يستطيع الناس العاديين مجاراة فصاحته العربية؟ فنقول لمن ظن ذلك، أين الفصاحة في ألم أو في حم أو في كهيعص، الخ؟ ألا أستطيع أنا أو أنت أن نحبك بعض الحروف مع بعضها كأن نقول صكهيض (صاد كاف هاء يا ضاد) ثم نتحدى الجن والإنس على الإتيان بمثله؟ ثم أين الفصاحة في آيات من مثل "وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (الشعراء 19)، ألا نستطيع أن نقول مثلاً "ورميت رميتك التي رميت وأنت من الغافلين" أو "وضربت ضربتك التي ضربت وأنت من اللاعبين" فهل يجعل ذلك قرآنناً؟
رأينا: نقول لهؤلاء كم شكك أعداء هذا الدين بفصاحة مفردات وآيات هذا الكتاب؟ ألم يذهب بعضهم إلى القول أنّ بعض عباراته كانت دارجة حتى على لسان العامة وفي أشعار بعضهم؟ وهل يمكن أنْ يحسم الجدل في هذا الحديث ما دام أنّ الذي لا يقبل فصاحته ينكر في الأساس المصدر الذي جاء منه؟ فهم يؤمنون أنّ هذا الحديث هو كلام محمد وليس كلام رب محمد، وذهب بعضهم حتى إلى القول أنّ هذا ليس بكلام محمد نفسه بل كلام من يعلم محمد من البشر، لا بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك إلى تحديد هوية الشخص الذي يتلقى منه محمد هذا الكلام، ولكن جاء الرد الإلهي الذي كذّب افتراءهم هذا بدليل بسيط على نحو ما جاء في قوله تعالى:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ النحل (103)
وللخروج من هذا الجدل نقول أنّ معجزة القرآن الكريم ليس في فصاحة ألفاظه ولغته العربية، لا بل ونزعم القول أن القرآن الكريم ليس كتاباً موجهاً للعرب خاصة أصلاً وإنما هو - كما يعلم الكثيرون - موجهاً للناس كافة وللجن كذلك، فالتحدي قائم للإنس والجن:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا الإسراء (88)
وسؤالنا الذي سنتعرض له لاحقاً بشيء من التفصيل هو: كيف يتحدى الله الناس كافة على الإتيان بمثل هذا الكتاب العربي في لغته وهم لا يعرفون أصلاً حرفاً واحداً من العربية؟ وحتى نستوضح الفكرة نقول هل يمكن أن تأتي بكتاب (أي كتاب) مكتوب بالفارسية أو الهندية أو الصينية وأنت لا تعرف حتى حرفاً واحداً من تلك الألسن؟ والسؤال الأكبر هو: كيف يتحدى الله أقواماً لا يعرفون العربية على الإتيان بمثل هذا القرآن وفي الوقت نفسه يدافع عن هذا الكتاب ويكذب إدعاء من يقول أنّ هذا الكتاب ليس من عند محمد بأن الذي يعلمه لسانه أعجمي؟
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ النحل (103)
ففي هذه الآية دليل أن من كان لسانه غير عربي لا يستطيع الإتيان بمثله، أليس كذلك؟ فلم إذاً يتحدى الله الإنس والجن (بغض النظر عن اختلاف ألسنتهم) على الإتيان بمثله؟
افتراء من عند أنفسنا: إننا نزعم الظن أنّ إعجاز هذا الكتاب ليس في لغته العربية وإنما في العلم الذي يحتويه هذا الكتاب، فالتحدي للبشر كافة ليس في النظم باللسان العربي وإنما في العلم الذي يكتنزه هذا الكتاب، وهو الحكمة:
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
والحكمة هي – في ظننا- ذلك العلم اللغوي الذي تتحصل به الأمور بكن فيكون- وسنترك النقاش في هذا الموضوع هنا على أن نكمله في مواطن أخرى من البحث حتى لا تضيع الفكرة التي بدأنا النقاش فيها ألا وهي عدم وجود سوى معجزة واحدة وهي كتاب الله.
ثانياً: إنّ كل ما ورد في كتاب الله عن ما يرغب كثير من أهل الدراية تسميته بالمعجزات جاء تحت مسميات آيات وبيّنات، فوردت أكثر من ثلاثمئة مرة بهذه التسميات (انظر مثلاً سورة الروم (19-27). ولا شك أن هناك فرق بين أن نقول هذه آيات بينات أو أن نقول هذه معجزات.
ثالثاً: لا شك أنّ هناك تبعات جمة لهذه التسميات أعظمها أنك عندما تسميها معجزات فإنك تحرم العقل البشري من فرصة التفكير فيها، لأنها إذاً خارج نطاق قدرته على التفكر، فكيف سنستطيع أن نتفكر بشيء هو في الأساس غير قابل للتفكر فيه؟ هذا مع العلم أنّه حيثما ورد ذكر للآيات والبينات في القرآن الكريم صاحبتها الدعوة إلى التفكر والتدبر وإعمال العقل. والتساؤل الذي نثيره هو إذا كانت هذه كما يسميها البعض معجزات خارقة لقدراتنا العقلية، فلماذا يطلب منّا الله أنْ نعمل العقل فيها؟
رابعاً: يورد القرآن الكريم في أكثر من موضع أنْ الفكر الإلحادي ينظر إلى هذه الآيات والبينات بعين التشكيك وحتى التكذيب وينعتها بالدجل والشعوذة:
" فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل 13-14
" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) القمر 1-5
خامساً: يورد القرآن الكريم مثلاً أنّ إحياء المغدور من بني إسرائيل بضربه ببعض من البقرة التي أمرهم الله بذبحها هي آية من آيات الله:
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ البقرة 73
ويتحدث القرآن أنّ ما أرسل به موسى إلى فرعون وملئه هي آيات و بينات:
"فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) طه 20-23
وورد في الوقت ذاته أنّ تسبيح الطير آية من آيات الله، والسحاب المسخر بين السماء والأرض آية من آيات الله، وتكوير الليل على النهار آية من آيات الله، وتكون الجنين في رحم المرأة آية من آيات الله، والقائمة لا تنتهي، قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46). النور 41-46
فهل إذا استطاع العلم المادي الحديث مثلاً استكشاف كيفية تكوّن الجنين في بطن أمه تصبح تلك الآية إذاً غير معجزة؟! وهل إذا لم يتمكن العلم المادي أنْ يكتشف لغة الطير تبقى مخاطبة سليمان للطير معجزة؟! وهل كانت معرفة جنس المولود معجزة في الماضي ثم لم تعد كذلك في أواخر القرن العشرين؟! والتساؤل المشروع هو: ما الذي يمكن اعتباره معجزة وما الذي لا يمكن اعتباره معجزة؟
رأينا: إن الجواب الذي نود طرحه هو أنّ هذا السؤال برمته غير مقبول، ويجب استبداله بالافتراض التالي: إنّ كل ما في السماء والأرض هو آية من آيات الله حتى وإن تفاوتت درجة فهم العقل البشري المادي له أو تقبله وذلك لأنّ العقل الإيماني لا يجد صعوبة في تقبله، وما هي إلا مسألة وقت حتى ينكشف خبره للعقل المادي، قال تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) ص 88
سادساً: إن هذه الآيات والبينات كانت سبباً رئيساً في اختلاف بني البشر، فهي فيصلاً بين الفئة المؤمنة والفئة الكافرة، قال تعالى:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ البقرة 213
وجل ما نودّ الوصول إليه هو (أنّنا كمسلمين) يجب السير باتجاه هدم الفجوة بين العقل المادي والعقل الإيماني، حتى تصبح الأمور العقائدية (مهما بلغت درجة غرابتها) محفزة للعقل المادي على التفكير، فتتحقق بذلك دعوة الله للإنسان لإعمال العقل بالتفكير بجميع آياته في الكون، قال تعالى:
"...إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ" الزمر 21
"... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون" النور 61
سابعاً: أننا باستخدام هذه الطريقة الجديدة في البحث عن الحقيقة (بناء الفكر المادي على الفكر الإيماني) نكون قد بنينا العلم على القرآن الكريم وليس العكس، فنحن المسلمين نستمد علومنا من القرآن الكريم ونخضعها له وليس العكس، فلا نبني القرآن الكريم على العلم لنثبت صحته بالطريقة العلمية التي سارع الكثيرون إليها هذه الأيام، بل نقول وإيماننا راسخ أنّ القرآن الكريم هو الأصل والعلوم المادية هي الفروع، فلا يمكن أنْ يستند الأصل على الفرع أو أنْ يبني الأصل على الفرع، بل يجب أنْ تبني جميع الفروع على الأصل الثابت المتين وهو كتاب الله عز وجل الذي فيه خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا:
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ص 88
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ النمل 93
ولتوضيح هذه الفكرة نورد قصة موسى عليه السلام مع ما يسميه أهل الدراية بـ "الخضر"[4]، قال تعالى:
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) " الكهف 66-77
وغاية ما نودّ قوله أنّ الفكر الغربي الذي يربط الأسباب بمسبباتها يبحث مثلاً عن المجرم بعد ارتكاب الجريمة، فلِمَ لا نحاول نحن أصحاب الفكر الإيماني (وبالطريقة العلمية الإيمانية) التعرف على المجرم قبل أنْ يرتكب الجريمة؟ أليس هذا ما تذكره الآية السابقة؟ أَلَمْ يتعرف هذا "الخضر" على المجرم قبل أنْ يقع في الجريمة فقتله؟ وبكلمات أخرى لماذا لا نحاول البحث في كيفية استباق الأحداث؟ أَلَمْ يتعرف هذا "الخضر" مسبقاً أنْ موسى لن يستطيع أنْ يصبر على صحبته؟ ألم يتعرف أنّ الملك سيصادر السفن السليمة، فأنقذ سفينة المساكين بتخريب جزء منها؟ ألم يتعرف على مكان الكنز الدفين فحاول حفظه لأصحابه الغلامين اليتيمين؟ وقد يرد البعض قائلاً وهل هذا ممكن؟ أليست تلك "معجزة أو كرامة" منحها الله لذاك العبد الصالح؟ وإنْ كان كذلك فما لنا نحن بذلك؟ نقول كلا، فالله سبحانه وإنْ كان قد اختص ذلك الرجل الصالح بذلك العلم لم يذكر أنه منعه عن غيره (أي أنّ غيره لا يمكنه أنْ يفعل ما فعل ذلك الرجل)، ودليلنا على ذلك يمكن تلخيصه على النحو التالي: إنّ الله سبحانه قد أعطى ذلك الرجل رحمة من عنده وعلمه من لدنه علماً، فقال تعالى:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا الكهف 65
وما دام الله قد منّ على أحد عباده بالرحمة فهو قد منّ بها كذلك على سائر عباده:
"... فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا الكهف 10
لا بل لقد وجهنا إلى طلبها منه:
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ آل عمران 8
ولكن كيف يملكها من لا يبحث عنها ولا يريدها أصلاً؟
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ هود 28
(دعاء: اللهم إني أسألك رحمة من عندك، فاكشفها لي فإني بها راغب، إنك أنت اللطيف الخبير)
وما دام أن الله سبحانه قد منّ على ذلك الرجل الصالح (بالإضافة إلى الرحمة) بالعلم، فهو قد منّ به - كما أسلفنا- على سائر عباده:
"... فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ البقرة 239
"... قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ..." البقرة 247
"... ولا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء..." البقرة 254
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ الشعراء 132
"وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..." القصص 80
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ العنكبوت 49
"وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..." الشورى 14
خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الرحمن 3-4
"... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" المجادلة 11
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) العلق 4-5
لا بل فقد وجّهنا الله لطلب العلم منه:
"... وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا" طه 114
(دعاء: رب زدني علماً إنك أنت العليم الحكيم)

نستنج إذاً أنّ ما كان يملكه ذلك الرجل هو علم، وإذا كان جل ما يسعى الفكر الغربي إليه هو شرح الظواهر الكونية وتفسيرها على حالها، وهو ما يسمى بالقدرة التوصيفية للنظرية العلمية (theory descriptive power)، فلِمَ لا نحاول نحن أصحاب الفكر الإسلامي أنْ نذهب إلى أبعد من ذلك لنبحث عما يسمى بالقدرة التفسيرية أو التنبؤية للنظرية العلميةpower) theory explanatory، وهي القدرة التي كان يملكها عيسى وموسى وداوود وحتى لقمان والخضر عليهم السلام، صحيح أنّنا قد لا نحصل عليها كلّها ولكنّا يجب أنْ لا نعدم المحاولة للبحث عنها، فهي مثبتة وموجودة في فكرنا الإسلامي ممثلاً بأهم مصادر تشريعه وهو كتاب الله، وإلاّ لما تعدى إيماننا وبالتالي علمنا أكثر من نفاق خالص، فنحن في الصلاة نؤمن بما جرى على أيدي عيسى وموسى وداوود وسليمان ولقمان والخضر، وفي المختبر الجامعي لا نؤمن بأكثر مما جاء به اينشتاين، ودارون، وباستور، وفرويد، وتشومسكي، الخ.
*** *** ***
إنّ الافتراض المطروح هو أنّ المعرفة الإنسانية مهما عظمت أو صغرت هي آية من آيات الله سبحانه، فلقد بدأت الرحلة البشرية على هذا الكوكب بالجهل المطبق، فكانت البينة الأولى للإنسان (والتي نأخذها اليوم على أنها من المسلمات) سر من أسرار الكون عجز الإنسان عن الوصول إليه بنفسه حتى هداه الله إليه:
فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ المائدة 31
وبعدها بدأت المعرفة تتكشف شيئاً فشيئا. فلقد اكتسب ابن آدم المعرفة من ما أوجد الله من نواميس الكون، وكذلك هي رحلة المعرفة الإنسانية، فمن المسلمات أنّ المعرفة لا تعني بأي حال من الأحوال إيجاد شيء من العدم بل هي تفهم بشري لنواميس الكون, فالعلم كل العلم من عند الله:
"قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ..." الأحقاف 23
" فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ النحل 74
ولكن الله قد تفضل علينا بالقليل:
"... وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" الإسراء 85
فالله سبحانه قد أوجد في هذا الكون من النواميس ما يكفي للحياة البشرية، وما دام كذلك، فليس هناك معرفة بشرية يمكن اكتشافها ومعرفة بشرية لا يمكن اكتشافها.

*** *** ***
والسؤال الذي يطرحه كل قارئ لهذه الصفحات هنا هو: لنفترض أنّ ما تقوله فيه شيء من الحقيقة، ولكن ما يهمنا هو كيف يمكن تطبيق ذلك؟ أي هل تستطيع أنْ تبرهن لنا بالدليل الملموس على صحة ما تدعي؟
جواب: ما دام أنّ بحثنا لغوي، فإننا سنحاول تبيان كيفية ربط هذا الاعتقاد الإيماني- إنْ صح - بالنظرية اللغوية المنشودة وسنوضح كذلك كيف تختلف في ذلك عن النظريات اللغوية المادية السائدة في الفكر الغربي محاولين بحول الله تقديم الدليل على فاعلية ما نؤمن به. ولكن يكفي البوح هنا بأن ذلك كله مرتبط بفهم الحكمة التي أنزلها الله مع الكتاب:
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
وكانت تكمن مهمة الرسول الذي بعثه الله لنا من أنفسنا بأن يعلمنا الكتاب والحكمة:
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ البقرة (129)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ البقرة (151)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ آل عمران (164)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ الجمعة (2)
فالله قد أنزل علينا تلك الحكمة إنزالا مصاحبة على الدوام للكتاب:
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة (231)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
ولم يكن ذلك خاصاً بأمة محمد فقط وإنما جاءت لمن كان قبلنا:
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا النساء (54)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ البقرة (251)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
ولكن يبقى السؤال الأخير هنا هو كيف يتم تبان تلك الحكمة؟
جواب: نحن نظن أن ذلك يكمن في الذكر:
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
لاحظ - عزيزي القارئ- أن الله قد نزل علينا الكتاب والحكمة كما تنص الآية الكريمة التالية:
يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ البقرة (231)
وهو بالضبط ما أنزل الله على نبيه كما في الآية الكريمة التالية:
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
افتراء من عند أنفسنا: لما كان الذكر الذي أنزله الله على محمد هو لتبان ما نزل إليهم من ربهم (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، ولما كان ما أنزل الله علينا هو الكتاب والحكمة (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، فإن الذكر في ظننا هو ربط ما في الكتاب بالحكمة المنزلة معه. وهذا ما سنتحدث عنه بحول الله في مقالات لاحقة بعد التعرض لقضية الذكر الذي جاء في قوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر (9)
لذا نطلب من القارئ الكريم التعرض بعد هذه المقالة (إن هو أراد إضاعة قسطاً آخر من وقته) إلى سلسلة مقالاتنا تحت عنوان: ماذا كتب في الزبور؟

بقلم د. رشيد الجراح
مركز اللغات
جامعة اليرموك
الأردن




[1] وسنتحدث في مقالاتنا الخاصة بخلق عيسى بن مريم عن هذه الجزئية بحول الله وتوفيقه، لذا فالله أسأل أن يأذن لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو السميع العليم.
[2] سنتحدث عن هذه الجزئية في مقالاتنا الخاصة بخلق عيسى بن مريم بحول الله عندما نطرح التساؤل التالي: لماذا سمي هذا النبي بيحيى إن كان أصلاً قد قتل وهو في شبابه؟ فكيف به يكون يحيى إذاً؟ فالله أسأل أن ينفذ مشيئته وإرادته لي الإحاطة بشيء من علمه لا ينبغي لغيري إنه هو السميع البصير.
[3] نحن نظن أن القارئ ربما يجد بعض التفصيل حول هذه القضية في سلسة مقالاتنا تحت عنوان: لماذا قدّم نبي الله لوط بناته بدلاً من ضيوفه؟
[4] سنتحدث لاحقاً (بحول الله وتوفيقه) عن شخصية هذا الرجل عند التعرض لقصة موسى بالتفصيل، فالله أسأل أن يعلمني من لدنه علماً إنه هو العليم الحكيم.